ههنا نموذجان:
-نموذج منفتح تماما، تفعل فيه المرأة ما شاءت، مع من شاءت، تعاشر من تريد من الخلان، وتتخذ ما تحب من الأخدان، لا يضبطها ضابط، ولا يزعها وازع.
ولا يمتنع في هذا النموذج أن تتعرف المرأة إلى رجل، وتعاشره سنوات، وتنجب منه، ثم تتزوجه بعد ذلك إن هي رأت أنه يناسبها، وإلا افترقا، أو استمرا هكذا.
ولا قيمة لمعرفة أهلها هنا، فضلا عن رأيهم!
ثم لا حاجة بنا إلى ذكر حال تلك المرأة بعد الزواج، من حيث الحقوق والنفقات وغير ذلك، فليس مقصودنا هذا.
وللمرأة في هذا النموذج أن تطلق، أو أن تفارق صاحبها قبل الزواج، وتتعرف إلى غيره.
والمجتمع عموما منسجم مع هذا النموذج، ومتصالح مع نفسه فيه؛ تنظيرا، وتطبيقا.
-ونموذج آخر ينظم هذه العلاقة، ويحكمها، ويضبطها، ويؤطرها، تُمنع المرأة فيه من اتخاذ أخدان، ويحرم عليها العلاقة الجنسية إلا في إطار الزواج الشرعي.
هذا النموذج الثاني، وهو الإسلام -ولن نفصل في حقوق المرأة فيه بعد الزواج، لأنه ليس المقصود أيضا-: وإن اشترط الولي لصحة نكاح المرأة على الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور؛ فهو يوجب على الولي تزويج مَوْلِيّتِه من الكفء الذي رضيته، ويفسق الولي وتسقط ولايته إن عضلها، وتنتقل الولاية إلى من بعده، وهكذا دواليك حتى تصل للقاضي أو نائبه.
ويعطي المرأة الحق في اختيار زوجها، ويمنع من إجبارها في الجملة.
ويطلب فيه تخفيف مؤنة النكاح، وتيسير أموره.
ويوجِب على الزوج قبل الزواج المهرَ لها، وبعد الزواج النفقةَ عليها، وإسكانَها، وكفايتَها ولو بخادمة إن احتاجت ذلك، وعشرتَها بالمعروف.
ويعطي المرأة حق الخلع إن أبت العيش مع زوجها، لخلل في دينه أو عشرته، لا تقدر معه على القيام بحقه.
ويعطيها حق طلب الطلاق لذلك أيضا.
وفي السنة وقائع عدة من ذلك.
ولا تجبر فيه المرأة على عشرة من لا تحبه، ولا على الصبر على ظلم الزوج وسوء عشرته.
فإذا اختلعت المرأة، أو طُلقت، أو مات عنها زوجها، وانتهت العدة في كلٍّ= فلها الزواج، ومهما تكرر ذلك؛ فلها الزواج.
فهذا النموذج: متكامل، بقيوده وتوسعته، لا يؤتي أكله كما أراده الشارع الحكيم إن اجتزئ في تطبيقه!
في التطبيق الأول للدين القيم، زمنَ الصحابة والتابعين، ثم ما بعده؛ كان الأمر سهلا: تنتهي عدة إحداهن= فتتروج ثاني يوم،،
ويطلقها هذا= فيتزوجها صاحبه،،
ويموت عنها زوجها= فينكحها آخر، وربما كان صديقا للأول.
لم يكن يُنظر إلى المطلقة أنها أجرمت، ولا إلى المختلعة بحق أنها ظلمت وافترت، ولا إلى الناكحة بعد موت زوجها أنها خانت وجحدت العشرة!
وفي السنة والسير من ذلك الشيء الكثير.
بل في حديث مغيث وبريرة من هذا الشأن= عجب، حيث كان مغيث يجهر بحبه لبريرة، ويمشي خلفها في الأسواق يبكي والناس يعجبون، وهي تبغضه لا تريده!
حتى لقد شفع النبي ﷺ عندها فيه، فلم تقبل شفاعته، واختارت نفسها، فما لِيمَت ولا ازدريت!
-ثمة نموذج مشوه:
اختلط فيه العرف الفاسد بالشرع، ولم تنضبط الأمور فيه بضابط مطرد، فقد تجبر المرأة على زواج من لا تحب، أو يُرد الكفء الذي تختاره إن رفضه وليها، ويمارس الولي استبدادا، بدل القيام بالأمانة والرفق بموليته والنصح لها، وقد يجعلها كالسلعة تُبذل لمن يدفع فيها أكثر، وقد يمنعها في بعض الأعراف من الرؤية الشرعية حتى بعد العقد!
ثم بعد الزواج= يمتنع الطلاق والخلع، ولو استحالت العشرة بالمعروف، ولو تحول السكن إلى سجن وعذاب، ولو عاشا في انفصال روحي وجسدي!
-هذا النموذج:
لا هو الإسلام الشارع للطلاق والخلع بانضباط، ولا هو المسيحية المانعتهما، ولا هو الانحلال الذي لا قيد فيه!
هو نموذج أخذ من الإسلام ما فيه من قيود، وترك ما فيه من سعة، وما كان الإسلام قيودا بلا سعة ولا رحمة ولا حكمة!
وأخذ من المسيحية أسوأ ما فيها في أمر الزواج!
وترك من نموذج الانحلال ما فيه من سعة للمرأة في حرية الاختيار، وحرية الفراق، واستقلالية وخصوصية، مع ما في ذلك من بعض حق، كما لا يخفى.
فاجتمعت فيه القيود؛ حقها وباطلها، وانتفت فيه السعة؛ خيرها وشرها!
فالمرأة فيه؛ في عنت، باسم الدين، وفي استبداد، باسم الأعراف واحترامها، وفي كبت باسم الفضيلة والوفاء والسلامة من نظرات الناس.
قبل الزواج هي ممنوعة من معرفة الرجال، وحرية اختيار شريكها.
وفي أثنائه لا خصوصية لها، ولا استقلالية، ولا كرامة في كثير من الأحيان.
وبعده هي ممنوعة من الطلاق والخلع، ولو ظلمها زوجها.
وإن طُلقت أو اختلعت= لم تسلم من نظرة المجتمع السيئة، وأحكامه الباغية، وقيوده الظالمة، وتحسُّسه بلا عقل ولا روية ولا ذوق!
وحال وفاة زوجها= قد حُكم عليها أن تظل أرملة، وتقتصر على تربية أولادها إن كانوا، وتئد أنوثتها، وتقتل فطرتها.
-نتائج هذا النموذج ماثلة للعيان:
من كثرة الإخفاق الأسري، والخلل في تربية الأولاد، والتعاسة في الحياة الزوجية، وارتفاع نسب الطلاق والعنوسة، وشيوع الأمراض النفسية، والفواحش، والانحرافات الجنسية، والخيانات الزوجية، والحسد، والسحر، وقطع الأواصر والأرحام والأصهار، وغير ذلك مما تراه وتسمع به.
-والحل:
أن نأخذ الإسلام جملة وتفصيلا، وندخل فيه كافة، ونطبق التشريع الحكيم خالصا، ونضع الأعراف في موضعها، ونجتهد في ضبط الأمور بضوابط الشرع، قبل الزواج، وفي أثنائه وبعده، ونوَعِّي الآباء والأمهات والبنات والنساء والمجتمع بأسره بذلك، فكم من مسكينة تجهل ما لها في دين الله من حقوق، وتعيش مقهورة باسم الشرع وامتثال أمر الله، فمنهن من تصبر على الظلم، ومنهن من تتعقد نفسيا وتعقد أولادها ومن إليها، ومنهن من تنحرف، ومنهن من تلحد، أو ترتد وتدع الدين!
ولو شاع العلم والعدل، وطبق الدين كما أراده الله= لكان الخير والسكن، وتحقق مراد الله من شرع الزواج، وتكوين الأسر. والله الموفق لا رب سواه.
--------------------------------------------------
مقالة راقتني من صفحة لشيخنا العلامة محمد بن عبد الواحد الازهري الحنبلي حفظه الله