القصيدة العلمية بين قوة السرد وذكاء التعامل مع التاريخ
دراسة تحليلية في قصيدة
(هيكل سليمان.. وَهْمٌ لا وجود له)
للشاعر الكبير / عبد المجيد فرغلي
بقلم الشاعرة / شريفة السيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اخترت هذا الشاعر كما اختارت شكسبير أمته.. بل ونضعه في أحداق عيون الأمة على أرض الإبداع العربي؛ لأنه يستحق التكريم...
ما قبل:
إن كتابة مقالة نقدية حول قصائد الشاعر الكبير عبد المجيد فرغلي أصابتني بالحيرة؛ بسبب غزارة إنتاجه وملحميته التي تـُربكُ أي كاتب أو قارئ حديث.. لأنه يحتاج إلى كتيبة من النقاد، ولن يفلحوا في سـدّ تلك الثغرة.. فكل قصيدة تحتاج لدراسة خاصة، وكذلك الدواوين والملاحم والمسرحيات والقضايا التي تناولها.. فما بالكم وأنا أمام كم هائل من الإنتاج الأدبي المتميز.. لا يمكن لفرد واحد الإلمام به؛ وإن استطاع أبناؤه جمعه وحصره وتدوينه ونشره؛ فإنهم يحتاجون إلى عُمر إضافيٍّ لأعمارهم...
ودخلت المأزق بنفسي؛ فوجدته مأزقا يصعب التملص منه؛ إلا بكتابة مقدمة لكتاب يضم سيرته العطرة.. فرأيتها أيضا أقل مما يستحق الرجل، فهداني الله لعمل دراسة عن إحدى قصائده لعلها تفي الغرض، وتعطيه جزءًا من حقه على الأدب والنقد، وعليَّ أنا تحديدا... حيث استضافني الشيخ عبد المجيد فرغلي في النخيلة وفي صدفا بأسيوط؛ فكان هو بعينه الكرم يمشي على قدمين، والأدب والأخلاق يتوزّع نهرا سلسبيلا لا مثيل له، والفصاحة التي تفحم كل الفصحاء، وتـُخجل كل صاحب قلم.
من هنا توجَّبَ عليَّ ردًا لبعض دَينهِ، وحفاظـًا لجميل صنعهِ مع الأدباء الذين عاصروه وتنعّموا بكرمه الزائد وعلمه المتين، أن أقدم شيئا وإن كان يسيرا، مع وعد بعمل الأكثر من أجل تكريمه.
لذا.. وقع اختياري على قصيدته (هيكل سليمان.. وَهْمٌ لا وجود له) لتكون محط َّدراستي المتواضعة؛ التي أعتبرها مجرد انطباعات لا تعتمد على المناهج البلاغية الحديثة؛ لأن النص يُعد من الكلاسيكيات التي تتخذ من قواعد البلاغة القديمة أساسا لها..
من هنا نبدأ:
أولا: عنوان النص:
اختار الشاعر عبد المجيد فرغلي لهذا النص عنوانا جامعا مانعا يقرر فيه أن (هيكل سليمان هذا.. وَهْمٌ لا وجود له) وأنه أسطورة مزعومة فكانت أكبر الأكاذيب البشرية بل أكبر جريمة تزوير للتاريخ.. قال تعالى في وصف كـَتـَبـَةِ التوراة: "فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، ليشتروا به ثمناً قليلاً، فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم، وويلٌ لهم مما يكسِبون" سورة البقرة آية 79.
فكان العنوان أبلغ تعبير عن هدف النص، وإفحام الآخر بالأدلة والبراهين على كذبه وادعاءاته الكثيرة، ومنها أكذوبة هيكل سليمان.. تقرير واضح لا يحتاج إلى تفسير. ونفي يؤكد العكس، ويقف حجر عثرة أمام العدو المكابر... وفي توازٍ ملحوظٍ جاء العنوان لخدمة النص، والنص يبرر العنوان تبريرًا قاطعا.. دون أن يعطي فرصة للاهتزاز أو عدم اليقين.
ثانيا: البناء الشعري الرصين
إن ما يلفت النظر في هذا النص ذلك التناغم النصي، وعدم التنافر بين الجُمل الشعرية، وإعطاء كل فكرة حقها في العرض والتناول، دونما بتر يضعف بالمعنى أو يهدد النص بأي نوع من الخلل..... حيث يبدأ النص بقسَمٍ صادمٍ، ضميرُه اليقين بوهمية ما يقولون:
أقسمت بالمسجد الأقصى فداه دمي ..
وقبة الصـــــخرة اجتاز الهيام فمي
أن العـــــــدو الذي طال الغـرور به..
ويحسب الحلم ضعفا من ذوي الكرم
قد مدّه الصــــمت منا أن رأى هدفا..
يـــروم تنفيذه في ذلك الحـــرم
فهو يستعرض تلك النية المبيتة لهدم المسجد/ مكان إسراء رسول الله سيد الخلق قاطبة، ويسرد حقيقة هذا الهيكل المزعوم؛ مؤكدا أن الحَفر تحت المسجد الأقصى للتوصل للهيكل سيبوء بالفشل، ونتيجته هدم المسجد؛ إذ لا يوجد هيكل من الأصل..
ويتعرض الشاعر لعلاقة نبي الله سليمان – عليه السلام - بهذا الهيكل وعلاقته باليهود وقصة بناء الهيكل، وأين يوجد المسجد الأقصى والصخرة المقدسة بالضبط؛ حيث أ ُسْرِيَ برسول الله (صلى الله عليه وسلم) منهما؟ يقول الشيخ في قصيدته:
أيبتغي الهدم شــــــارون لقبته....
والبحث في صخرة المعراج عن وهم
أظن هيكلا اندسَّتْ معالمــــــه ....
تحـــت البنــاء سـليمان بنى ولـم
الظن منه أتى في غير موقعـــــه ....
من فعـل شــارون أو باراك من قـدم
ليؤكد أن اليهود يدّعون أن نبي الله سليمان بنَى هيكلا لليهود كمكان لحفظ تابوت العهد، وأن هذا الهيكل يزخر بالرموز الوثنية والأساطير الخاصة بعبادة الآلهة الكنعانية، وأن نبي الله سليمان بنى الهيكل لإله اليهود "يهوه" أو "ياهو" لحفظ تابوت العهد، فإذا أثبتنا أن تابوت العهد لا وجود له في عهد النبي سليمان، إذن فلا حاجة لبناء الهيكل أصلا..! وهنا يبدأ في وضع الدلائل على مصداقية النفي يقول:
الهيكل انهـدّ مُذ عيسى المسيح أتى..
يقضي على الشرك حيث الوهــم لم يرم
وقـد طلـوه بقـار كبرتـوه لظـى ..
وأ ُحـرق القصر بالرومان لم يقم
.................................................. ..................
فإن يكـن هدمـه صحت روايتـه....
سـفر الملوك رواه من فم الكلم
" لكم خرابـا " سيغدو ولا وجـود له....
أبعد هـذا دليـل بالــغ الحكــم؟
قد دمرتـه يد الرومان ناقمـة.....
على يهــود وهم جرثومــــة الأمـم
ثم يحكي لنا كيف يدّعي اليهود ومنهم باراك وشارون ونتنياهو– زورًا – بذلك الهيكل مبررين ادعاءَهم بأن نبي الله سليمان كان يعبد إلهًا غير الذي كان يعبده باقي الأنبياء؛ هو إله بني إسرائيل، وأنه كان من عبدة الأوثان؛ لأنه بنَي معبدا يزخر بالرموز الوثنية. فإذا أثبتنا لهم أن نبي الله سليمان لم يكن كذلك، وأنه كان يعبد الله رب العالمين الواحد القهار كسائر الأنبياء؛ فهذا يعني أنه لا حاجة لبناء هيكل ضخم كما وصفه اليهود لإله اليهود ياهوه .
وقد اعتمد الشاعر في قراراته هذه على كتاب الله تعالى في قصة سيدنا سليمان عليه السلام ومُلكه العظيم.. وكذلك على كتب التاريخ المحققة والتي جاء فيها أن مُلكَ نبي الله سليمان ليس من بينه هيكلٌ وثنيٌ مطلقا، بل كان له قصرٌ عظيمٌ من الزجاج الصافي شاهدته بلقيس ملكة سبأ، وعندما تأكدت أنه نبي الله أتاه المُلك والعِلم والنبوّة آمنت وأسلمت لله رب العالمين، ولم تؤمن بإله بني إسرائيل الذي يدَّعي اليهود أن نبي الله سليمان كان يعبده، فإذا كان نبي الله سليمان يعبد الله الواحد كسائر الأنبياء؛ فلماذا يبني هيكلا وثنيًا لإله بني إسرائيل (ياهو) كما يدّعون؟
إذن فلا وجود لتابوت العهد بعد ذلك التاريخ، والاحتمال الأكبر أنه فـُقد منهم في أحد الحروب، لأنهم لم يحافظوا على ما جاء في لـَوحَي الشهادة، وبالتالي فلا وجود لتابوت العهد في عهد نبي الله سليمان عليه السلام.. لذلك يقول الشيخ:
أنتم بنو فريةٍ بالإفـك روَّجهـا ...
وثمّ صدق وهمـــًا غيـــر معتلم
ما هيكل من سليمان بناه لكم ...
وصُنتمـــــوه ولكن زال من قـدم
الهيكل المدعَّى مسـّـته قارعة...
ألقت حجــــارته من كـــف منتقم
فقد جاء في كتب التاريخ أن: "تابوت العهد" هو صندوق مصنوع من خشب السّـنط أودع به لوحَا الشهادة اللذان نـُقشتْ عليهما الشريعة، وتلقاها نبي الله موسى عليه السلام بسيناء، وكان بنو إسرائيل يحملونه معهم أينما ذهبوا، فضاع منهم حيث لم يحافظوا عليه.
وتاريخ كتابة هذه القصيدة 10/11/2000 يؤكد ثقافة المؤلف، واطلاعه على التاريخ العربي والعبري بلغتيه، أو بترجمة عن العبرية، حيث كان يعمل مُدرسًا لمادة التاريخ والجغرافيا معظم سنوات عمره.. ويبدو أنه اطلع على ما نـُشر بصحيفة معاريف الإسرائيلية في عدد 7 فبراير 1997: وأنَّ "منليك" بن سيدنا سليمان من "بلقيس" ملكة سبأ سرق تابوت العهد من أبيه أثناء بناء الهيكل، وهرب به إلى الحبشة، وأن الهيكل لا يعني أيَّ شيءٍ بدون تابوت العهد. وأن الحفر تحت المسجد الأقصى للتوصل للهيكل مجهود لا طائلَ من ورائه ولا هدف منه سوى هدم المسجد الأقصى.. وهذه هي الحقيقة برُمتها.. حيث شهد شاهد من أهلها... فيقول:
في دير مارٍ له قد كان موضعه..
في أرض سورية قد شـيدَ من رَضم
ولم تكن أرض قـدس تحت قبتها...
من مسـجد كان مسرى صاحب العلم
نعم بناه ســـليمان وشــــيّده ..
دارا لسـكناه أو محراب ذي رنم
إذن ما بناه سيدنا سليمان لم يكن أصلا تحت القبة، وإنما في (دير مار أو هار باللغة العبرية) بسورية، وكان دارًا لسكناه ومحرابا يتعبَّد فيه.. فما بالهم يدّعون غير ذلك.. ويضيف:
فقل لشـارون أو باراك قد ذهبتْ ...
أســـطورة الهيكل انسلتْ إلى العدم
وبحثكم عنه ســـعيٌ ليس يبعثه ...
من رقـدة الموت للثـاوي لدى أطم
وحقنا في تراب القـدس من زمن ...
زالـت هياكلـه في غمرة الظلــم
ما أرض كنعان قد كانت لكم وطنا...
في أي يـوم وعصـر بادَ لم يدم
بعدها يدلل على أن هذا لم يكن أول ادِّعاء كاذب، فقد مرَّ ذلك المكان بحملات غزو الفرنجة، حين قيل أن جسد المسيح ثاوٍ به.. ساردًا قصة الحوت وعصيان اليهود لنبي الله حين كانوا يصيدون في يوم السبت الذي حرَّمه الله... وحكى كذلك قصة العجل المصنوع من ذهب. وأهل إرم وعاد وثمود... الخ من القصص التي عصى فيها بني البشر الرسالات السماوية.... وأن القدس كانت لهم من قبل اليهود في منطقة أورشليم.. يقول:
القدس كانت لهم من قبل تسمية .. "بأورشليم" ودار للســلام نسم
كانوا أحق بها من قبل مرسلهم ..داوود.. وابن له قد كان في الحكم
حتى يصل إلى قوله بأن هناك من تنبأ بهدم الهيكل داود صاحب الحرث حتى حدث ما تنبأ به.. بالفعل..
ويوم أن كان داوود بمحكمـة..
في صاحب الحرث والمنفوش من غنم
وإن يكُ الهيكل البانيه صاحبه..
للذكــر في مشـرق الإصباح والظلم
وحينما مات من شــيد البناء له ..
وخربوه بفعل الســــوء والجــــرم
تنبأ المرســـل الداعي بشرعته ..
بهدم هيكلهم رأسـا على قدم
وكان ما كان من مســرى نبوءته ..
أبعـد قـــول فيه من كلم.؟
عودوا فما تلك من أرض المعاد لكم
بل أرض شعب ثوىمن سالف القدم
ثم يبدأ في سرد قصة الإسراء والمعراج.... إلى أن يقول متسائلا:
فهل مكان براق عند صـــخرته.. يُعطي إلى أحد من بعد مقتسم؟
لا فوق أو تحت أرض للبراق غدا.. من هيكل أو سواه ملك مختصم
ليعود لنفس القضية مرة أخرى، وأنه لا يوجد فوق القبة ولا تحتها إلا وهم من أوهامهم.. فهُمْ بأنفسهم الذين دمَّروا ما أشاروا إليه.. وأنهم بتدميرهم لتاريخهم قد شرَّدهم الله على الأرض فلم تقم لهم قائمة.. ليختتم النص بقوله:
طفل الحجارة من ماضين أو قدم .. من حقهم أرضهم ليست لمُجترم
ثالثا: نص فضفاض لشاعر محلق
من المدهش في هذا النص أن عدد أبياته يقترب من مائة بيت.. يحلق فيها الشاعر صعودا وهبوطا، وبيده عصا الأستاذ والمعلم والخبير، يشير بها على خريطة معلقة أمامه، يشرح جغرافيا المكان، ويعود بالكاميرا على طريقة (البلاي باك) مذكـِّرا إيانا بالتاريخ الذي نسيه اليهود.. بداية من عهد الكنعانيين الأول والآشوريين الأول ومن هم قبل ذلك.. فقد تغلبت مهنة الأستاذية عنده.. نظرًا لعلمه الغزير بشأن تواريخ البلاد؛ فسخـّر كل معلوماته لخدمة النص. يترك الموضوع الأصلي ليستطرد بما له علاقة به ليعود للموضوع الأصلي بانسيابية وحنكة وحكمة في التناول والعرض، ودون أن تشعر بأي نوع من الترهّل.. لأن كل جملة وكل معلومة وكل استطراد جاء في مكانه تماما. لنجد أنفسنا أمام نص محكم..
رابعا: ظاهرة التدفق الفكري في النص
يلاحظ أيضا ازدحام النص بالرؤى والأفكار، مع المحافظة على روح الفكرة الأساسية، وهي نفي القول بوجود هيكل سليمان تحت قبة الصخرة أو تحت المسجد الأقصى.. وفي المقابل إثبات أغراضهم الدنيئة وهي هدم المسجد الأقصى ....
فيتنقل الشاعر بمنتهى الرشاقة بين الأفكار الفرعية، التي فرضت نفسها بقوة على النص ومنها :
- غرور العدو بسبب الصمت العربي الطويل ما يجعلهم يحسبوننا ضعفاء.
- المرور بالضرورة على مكان المسجد الأقصى، والهدف من وجوده منذ البداية؛ كحكمة إلهية كبرى وهو الإسراء والمعراج.
- الهدف الحقيقي وراء حفر اليهود تحت قبة الصخرة وهو هدمها، وليس البحث عن الهيكل، وما هي إلا حجة ووهم يغلف أفكارهم الهدامة.
- إثبات صحة أهدافهم الخفية بالدليل القاطع التاريخي، بأن الهيكل انهدَّ منذ جاء عيسى ومنذ تدمير الروم للقدس كلها، وحرق الرومان للقصر.
- تحقـُق النبوءة التي قالت بخراب المكان كله من قبْل عيسى تحقـُقـًا فعليا..
- النتيجة الحتمية لكل هذا: وهي أنه لا معنى إذن لادعاءات شارون أو نتنياهو أو باراك بوجود الهيكل تحت القبة أو تحت المسجد الأقصى.
- تحديد المكان الحقيقي للهيكل السليماني، وهو دير (مار) أو (هار) (باللغة العبرية) في أرض سورية إن كانوا لا يعلمون.. وأن القدس لم تكن في سورية أصلا.. حيث بنى سيدنا سليمان هناك محرابًا له؛ لكن اليهود هم الذين أزالوه بأيديهم.. وبهذا ضاعت أسطورة الهيكل من الأساس.
- بيان أحقيتنا في القدس، وأن أرض كنعان لم تكن لهم وطنا في العصور البائدة..
- إظهار محاولات غزو متعددة على أرض القدس منذ الفرنجة وكلها باءت بالفشل. حيث ادعوا أنهم أحق بعيسى ولا هم أحق بعيسى ولا بموسى.
- التذكير بالفلسطينيين الذين هم أولَى بالقدس منذ أيام أورشليم، بل إنهم أحق بها من قبل داوود وابن له في الحكم.
- التذكير بصاحب الحرث والغنم المنفوش والمحكمة التي أقيمت وقتئذ، والهيكل الذي تم بناؤه للذكر.. وموت من شيَّده وتخريب المكان بفعل السُوء والجُرم. وتحقـُق النبوءة في ذلك أيضا.
- وجود قبة الصخرة كحلقة ربط بين الماضي والحاضر.
- التعرُض لرحلة الإسراء والمعراج وما حدث فيها بالضبط.. حتى العودة في نفس الليلة.
- استنكار أن يعطي الله مكان البُراق لأحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالله يُقسم الأشياء بحكمة.
- تقرير أخير بأن كل تلك الأقاويل ما هي إلا ادعاءات وافتراءات، لا أساس لها من الصحة.. وأن أصحاب الأرض أولى بها.. لأنها أرض العروبة ولها شعب يمثلها.. وبيانها درة جاءت من بين البانِ والعَلَمِ..
- سيظل طفل الحجارة سيد تلك الأرض وصاحبها.
ورغم تعدد الأفكار وازدحامها لم تهرُبْ الفكرة الأساسية من الشاعر، ولم يترهل النص.. بل ظلَّ مُحكما متينا، يتميز بقوة البيان في كل بيت فيه. واحدٌ وتسعون بيتا لم تتضارب فيها الأفكار ولا الرؤى ولا المعاني.. بل كانت في كل فكرة تدق مسمارًا في نعش ادعاءاتهم.. وترد عليهم رد الواثق باليقين القاطع بحقه.
خامسا: تعدد أساليب التعبير
تعددت أساليب الكتابة في هذا النص برشاقة؛ لتثبت جدارة الشاعر في التعبير بشتى الطرق. وأدلتنا من الربع الأول للنص على سبيل المثال (نظرا لطول القصيدة) هي :
- أسلوب القسم الدال على اليقين والثقة في مفتتح النص (أقسمت بالمسجد الأقصى فداه دمي)..
- وأسلوب النفي والإثبات كما في قوله: (فما له أثر يوحى بموقعه) (ما هيكل من سليمان بناه لكم) (ولا وجود له في أي مزدحم) وتعدد أدوات النفي بين ما ولا ولن.
- والإتيان بالأدلة والبراهين والمعلومات الثابتة من كتب التاريخ في قوله: (وقد طلـَوْهُ بقار كَبْرتـُوهُ لظى)، (وأ ُحرق القصر بالرومان لم يقم) (فرام قائد رومان كمنتقم) (حرقا لهيكلكم واجتاس بالقدم).
- والأسلوب التقريري والخبري في قوله: (الهيكل المدعَى مسَّته قارعة)، (ألقت حجارته من كف منتقم)، (مكان إسراء خلق الله قاطبة)، (وبدء معراجه سعيا على قدم)، (الهيكل انهدَّ مذ عيسى المسيح أتى)،( قد دمَّرته يد الرومان ناقمة، على يهود وهٌم جرثومة الأمم )، (باراك شارون نيتنياهو زعمُهمُ، محض افتراءٍ وقولٌ غير ملتئم ) ..
- وأسلوب التساؤل الاستنكاري.. في قوله: (أيبتغي ـ أظنَّ ـ أبَعدَ هذا دليل بالغ الحكم؟ )، (فأي معنى ادعاءٍ منه باقية، يجيزها مدَّعٍٍ في وهم محتكم؟)، (أو فعلٌ لمُجترم.؟).
- وأسلوب الاستنتاج (الظن منه أتى في غير موقعه)..
- وأسلوب الشرط بفعله وخبره كنتيجة مؤكده لصدق كلامه، ونفي ادعائهم في قوله: (فإن يكن هدمُه صحَّت روايته سفر الملوك رواه من فم الكلم) ..
- وأسلوب الاستدراك بـ لكن بعد النفي بـ ما في قوله: (ما هيكل من سليمان بناه لكم، وصنتموه ولكن زال من قدم ) (لكن يهودا أزالوا عنه حرمته).
- كثرة استخدام مشتقات الأفعال أو الأسماء مثل قوله: (مٌجترم- مُؤتمم- مُختتم- مُقتدم – مُختصم... الخ) وهي للدلالة على قوة المعنى وعدم سطحيته.
- وأسلوب الالتفات والانتقال من الحديث بضمير المتكلم في البيت رقم 1، إلى الحديث بضمير الغائب في البيت رقم6 و 7، إلى المخاطب في الأبيات رقم 9 إلى 19، ثم توجيه الخطاب لله تعالى بقوله: (يا رب فرية قوم عشـَّشتْ زمنا ) في البيت رقم 20، ثم إلى اليهود بقوله: (أنتم بنو فرية بالإفكِ روّجها ) في البيت رقم22، ثم إلى المخاطب مرة أخرى بقوله: (فقل لشارون أو باراك قد ذهبت) في البيت رقم 34،
كل ذلك قد أتى برشاقة بالغة وفي أبيات متتالية ومتتابعة، تفيد الانتباه واليقظة الدائمة، وتطرد الرتابة أو الملل من طول الأبيات، فلا يشعر المتلقي بشيء كهذا، من خلال قص وسرد متنوع الدلالات ومختلف في أساليب البيان..
- استخدام فعل الأمر للتنبيه والتحذير.. حيث تميزت القصيدة بالتنبيه الدائم باستخدام فعل الأمر كناقوس يدق فوق رءوسهم كقوله: ( فقل لشارون أو باراك قد ذهبت – فلترحلوا من ديارٍ كم بكم غصبت - فقل لعُبـَّاد عِجل صيغ من ذهبٍ- فلتتركوا أرض شعب ظل صاحبها - عودوا فما تلك من أرض المعاد لكم- فاخسأ أخا البغي شارون الذي عميت) ......إلخ
سادسا: نصٌ علميٌ تاريخي
وقد تميز هذا النص بكثرة المعلومات المحققة، سواء من القصص القرآني الكريم، أو من كتب التاريخ وكتب الجغرافيا... أو من قراءاته الحرة، والتي أثبتت تبحُّره في العلم، لدرجة تتدفق معها المعلومات خلال الكتابة، فلا يستطيع منعها في أماكنها لأهميتها وضرورتها وقوة الدحض بها..
فهو شاعر موسوعي.. نضحتْ على قصيدته كل المعلومات التي جمعها وعرفها عن موضوع النص.. فذكر:
- 19 اسمًا من أسماء الأماكن ( المسجد الأقصى – قبة الصخرة – القدس – دير مار – سورية – شرق سورية – محراب سليمان – أرض كنعان – أرض عاد – أرض إرم – أورشليم القديمة – دار السلام – أرض المعاد – البان والعلم – أرض الشعب الفلسطيني.
- 13 اسمًا لشخصيات تاريخية عظيمة: (ليس على رأسها اسم الله تعالى جل جلاله حيث تنزه عن كل اسم)، ثم جبريل عليه السلام.
- ومن الأنبياء: النبي سليمان – عيسى المسيح عليه السلام – موسى عليه السلام – داوود عليه السلام – ابن داوود عليه السلام – ورسول من عند داوود.
- ثم شخصيات يهودية مثل: شارون وباراك ونتنياهو – كما ذكر أيضا طفل الحجارة.. وأخيرًا البراق.
- ثم ذكر عدد 6 أمم ٍ وبدأها بخلق الله قاطبة: وهي الروم ومرة أخرى قالها الرومان – اليهود – الفرنجة – العرب – الفلسطينيين ضمنا..
- وذكر اثنين من الكتب السماوية: سفر الملوك.. وكتاب الله تعالى ضمنا.
- وعدد 6 قصص من القصص القرآني هي: قصة الإسراء والمعراج – قصة الحوت والبحر وصيد يوم السبت والأيام الحرم – قصة العجل الذهبي والسامري – قصة محكمة داوود وصاحب الحرث والغنم المنفوش – قصة بناء محراب سيدنا سليمان – قصة ملك سليمان العظيم.
- مما يدل على أنه شخصية موسوعية لديها من العلم والاطلاع والمعرفة ما يجعله في مصاف الشعراء الموسوعيين.. ويجعل من النص مرجعا تاريخيا تتعلم منه الأجيال.
سابعا: قلة الصور الفنية
لذلك... تقلُ في النص التشبيهات والصور الفنية، لأنه لم يستخدم لغة الخيال.. وإنما استخدم لغة الحقائق التي من شأنها التنوير والوصول إلى الحقيقة.. وكأنه يقدم مرافعة في قضية أمام المحكمة الدولية، ولكن بطريقة الإغراء الشعري بالوزن العروضي والقافية المتوحدة مع النص.. ذلك لأنه قارئ في القانون بل دارس له.. وله باع طويل فيه.. فكان العقل الباطن القانوني هو لسان حال الشعر.. وليس الخيال البحت.
فلم نجد سوى قليل من الصور ــ على طول القصيدة ــ منها على سبيل المثال: وصفه لليهود بأنهم/ ذوو فكرٍ نزق في البيت رقم 21.. وأنهم/ شُذاذ فكر في البيت رقم 26.. وأنهم/ الظالم الباني على وهْم ٍفي البيت رقم 77.. وأنهم/ جرثومة الأمم في البيت رقم 17.. وأنهم/ بنو فرية في البيت رقم 22.. وأنهم/ يحلمون بها، ويقصد الأرض في البيت رقم 26.. ووصف شارون بأنه/ أخو البغي شارون في البيت رقم 88.. ووصف سيدنا محمد بأنه/ صاحب الصخرة المرسى البراق له في البيت رقم 61. ووصف الأنوار بأنها/ مسبحة باسم الله في البيت رقم 67.. وأنه/ صلى على بساط هو وسام فخر في البيت رقم 72..
ثامنا: ميمية تتفق مع الغرض
وأخيرًا .. لقد وفق الشاعر في اختيار الوزن الشعري والقافية، لما فيهما من انزياحات دلالية ومعنوية ترمي إلى ميمية نهج البردة للإمام البوصيري، التي قيلت في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وما كان غيرُهما ليؤدي الغرض.. لكن ذكاء الشاعر في اختيار البحر والقافية جنح بنا إلى حب النص على المستوى النفسي، كمدخل مبدئي نميل إليهما طربا.. فاستطاع أن ينسينا بذكاء مفرط طول النص، وندرة الصور والخيال، كعامل لا يـُستهان به في الشعر بعامة.
لكنها في النهاية - بطريقته وأسلوبه المميز - قصيدة تمثل إضافة لشعره، الذي هو بالتالي إضافة للشعر العربي.
رد: دموع علي باب القدس شعر:عبد المجيد فرغلي -رحمه الله
المطولات الشعرية عند :عبدالمجيد فرغلي
ديوان "عبير الذكريات" أنموذجاً
دراسة بقلم : د . على حوم
شاعت كلمة المطولة فى الدراسات الأدبية والنقدية فى العصر الحديث بعد ظهور المطولات الشعرية ، كمطولات البارودي ، وأحمد شوقي ، ومحمد عبدالمطلب ، وعمر أبي ريشة وخليل مطران وغيرهم .
فمعظم الدارسين والنقاد الذين عالجوا تلك المطولات بالنقد والتحليل اكتفوا بذكر كلمة "مطوَله"(1) دون أن تنال منهم تعريفاً يذكر ، ولم نجد – على الرغم من كثرتهم – إلا عدداً قليلاً منهم اقترب إلى تحديد مفهوم المطولة – كمصطلح شعري – دون أن يبسطوا القول فى سماتها الفنية التى تميزها عن القصيدة العادية التى تعارف عليها دارسو الشعر العربي فى عصوره المختلفة .
ولعل التعريف الذي أورده الدكتور / أنس داود للمطوَلة(2) يتكئ على المادة التى اشتقت منها كلمة "مطوَلة" وقد سبق غيره من الدارسين والنقاد وأصحاب المعاجم الحديثة إلى توضيح المعنى اللغوي والاصطلاحي للمطوَلة ، بادئاً من النظرة إلى جذور المصطلح متابعاً تطور النظرة النقدية القديمة إلى خاصية الطول والقصر فيما يتعلق بالقصيدة الشعرية القديمة ، فقد ذكر أن بعض القصائد قد بلغت من الطول "بضع مئات" كمقصورة ابن دريد ، وتائية ابن الفارض ، وهي قصائد قليلة فى الشعر العربي القديم وأكثر منها عدداً ما شارف المائة أو نيف عليها ، كالمعلقات العشر ومطولات ابن الرومي ، وبعض قصائد أبي تمام والبحتري وأضرابهم .. وظل للقصيدة التى دون المائة بيت أغلبية فى العدد ، وقد سمي العرب كل ما ينيف على سبعة أبيات أو عشرة قصيدة دون تفريق بين قصيدة المنخل اليشكري : ((إن كنت عاذلتي فسيري)) وبين معلقة طرفة أو حتي مقصورة ابن دريد ، فلكل منهم قصيدة ، قال ابن رشيق : ((إذا بلغت الأبيات سبعة فهي قصيدة .. ومن الناس من لا يعد القصيدة إلا ما بلغ العشرة وجاوزها ولو ببيت ، وما دون ذلك كانوا يسمونه "قطعة")) ، ويختلفون فى تفضيل المطيل أو صاحب القطع ، ويشتم من كلام ابن رشيق أن العرب ميزت الشاعر المطيل ، فقالوا عن الفرزدق إنه – بالنسبة إلى جرير " أقدرهما على التطويل" وقالوا : "لا شك أن المطول إن شاء جرد من قصيدته قطعة أبيات جيدة" ، هكذا دارت المادة على ألسنتهم : تطويل ومطول .
ولا شك أن المطولة تختلف عن الملحمة ، ولا يمكن أن نطلق على المطولة اسم " الملحمة " فثمة نقاد اتفقوا على إطلاق لفظ "المطولة" على تلك الأعمال الشعرية التى يسميها أصحابها "ملاحم" ، من هولاء الدكتور / حلمي القاعود ، إذ يقول : ((المصطلح الغربي لكلمة ملحمة يخرج هذه الأعمال عن مفهوم "الملحمة" ومن هنا فإننا نطلق عليها ملاحم تجاوزاً ، وإن كانت مناقشة المصطلح قد تعطينا دلالة ملحمية ما ، ولعلنا لو أطلقنا على هذه الأعمال اسم "المطوَلات" الشعرية لكان فى هذه التسمية قدر أكبر من الدقة)) (3)
ومن ثم فإننا سوف نمضي فى دراستنا هذه على ضوء هذه التسمية (مطولات لا ملاحم) ، حيث بلغ شاعرنا الراحل / عبدالمجيد فرغلي – شأواً عظيماً فى كتابة المطولات الشعرية(4) وحسبنا أن ندرك حجم المطولات الشعرية فى ديوان واحد له بعنوان "عبير الذكريات" الذي طبع منه عدد محدود من النسخ ، تحت رقم إيداع بدار الكتب المصرية 5646/2008م .
ففي هذا الديوان – إذا نحن استبعدنا القصائد القصار – عشر مطولات ، أقلها تبلغ مائة وثلاثة أبيات ، وأكبرها يبلغ عدد أبياتها مائتين وثمانية وأربعين بيتاً ، وكلها يتخذ من وحدة الوزن والقافية أسلوباً بنائياً فى تشكيلها الموسيقي .
ونبدأ هذه المطولات الشعرية لدى عبدالمجيد فرغلي بمطولته "أخت القمر" وموضوعها اجتماعي ، وقد قالها بمناسبة زفاف ابنه ، ويبلغ عدد أبياتها 163 بيتاً ، وهي موزونة على بحر الوافر ، ومطلعها :
عروس ابني تهادت فى حلاها كبدر الأفق فيه نرى أخاها
وهي تجمع بين الغنائية والقصصية معاً ، حيث يعرب الشاعر عن أحاسيسه نحو عروس ابنه فى كثير من الأبيات ، ويتخلل ذلك سرد قصصي ، يبدأ بيوم الجمعة الذي بدأ فيه عقد القران ، ثم يأخذ فى وصف الدار التى ضمت هذا الجمع من الآهلين : أهل العروسة وأهل العريس :
وقد صفت أرائك فى فناء وقد بثت (زرابيَُُُ) إزاها
فأحبب باللقاء لدي قرانِ يد الرحمن تمنحه رضاها
وأقبل من بني الأهلين رهط يشارك فرحةً رُبطت عراها
والشاعر يستقي من الموروث الديني ما يعدَُ تناصاً مع الحديث النبوي الشريف : ((تنكح المرأة لأربع لمالها وجمالها وحسبها ونسبها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك)) ، حيث ورد هذا التناص فى قول الشاعر :
ومن يظفر بذات الدين زوجاً فقد بلغ المدى شرفاً وجاهاً
كما يتناص أيضاً مع الحديث النبوي الشريف حيث روي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال : "الدنيا متاع وخير متاعها زوجة صالحة إذا نظر إليها أسرته ، وإذا غاب عنها حفظته فى ماله وعرضه" فقد جاء هذا التناص فى قول شاعرنا :
إذا يرنو لها سرته حسناً وتحفظ بعلها ديناً وقاها
بل إن الشاعر يمتاح من التراث الشعبي ، ومن الأقوال الشعبية المأثورة التى تجري مجرى الأمثال ، ومن ذلك القول الشائع : ((أكفي القدرة على فمها تطلع البنت لأمها)) حيث تم التعبير عن هذا المعني فى البيت الآتي :-
وتحكي أمها كرماً وأصلاً وخلقاً فى فضيلته نماها
وليس بخاف عنا طريقة تشكيل الصورة الفنية لدى الشاعر وتفردها حيث تعتمد الصورة على الاستعارة التصريحية التى يخلع عليها القرآن الكريم ثوباً ناصعاً ، وذلك من خلال نصائحه لابنه أن يحفظ زوجته حتي تكون له بمثابة الظل الظليل ، بل حتى تؤتي أكلها – لاحظ جمال الأسلوب المستمد من القرآن الكريم – فى قول الشاعر :
وكن روضاً تكن لك فيه ظلاً ودوحاً مثمراً يهدي شذاها
وتؤتي أكلهـا فى كل حين بإذن إلهها الحـابي جناها
فالتناقض مع القرآن الكريم ومدى توافقه مع سياق القصيدة يعد "وحدة حية لا يقتصر دورها على الجانب الدلالي فحسب ، بل تساهم مساهمة فاعلة فى التشكيل الجمالي" (5) .
******
ثمة مطولة آخرى تنتمي إلى الاتجاه الاجتماعي ، ونعني بها مطولة "الجمال الباكي" ويبلغ عدد أبياتها 128 بيتاً موزونة على بحر الوافر ومطلعها :
• آثار جمالك الباكي خيالي وأشعل فى بركان انفعالي
وقد صدَرها الشاعر بكلام نثري ، هذا نصه : ((قصة واقعية بطلتها فتاة عذراء عاشت زوجة فى الخيال ، تقيدها الفضيلة ، ويطلقها سحر الجمال ، وقد حصلت على وثيقة حريتها بالطلاق)) .
ولما كانت القصيدة الطويلة – أو المطوَلة – كما يقول ديفيد بشبندر ((تميل للحركة باتجاه السرد ، ومن ثم ينشأ تحوَل فى القراءة وفى التوجه النظري فإن هذه المطولة تتميز بالقص والحكي والسرد كما تتميز بهيمنة الغنائية عليها فى نفس الآن ، أضف إلى ذلك ، المطولات التى تعد تعبيراً عن عواطف الشاعر الجياشة تجاه فكرة ما، أو حدث ما ، أو إحساس ما ، تبعاً لبعض المضامين التى تحتاج إلى تدفق الطاقة الشعرية)) (6) وكلها سمات فنية تتجلي فى هذه المطولة حيث يتحدث الشاعر عبدالمجيد فرغلي عن تلك الفتاة :
وقفت أسيرة بشباك شيخِ بلا حولِ لديك ولا احتمال
ثم يصف حال تلك الفتاة من خلال تصوير فني أخاذ
فتاة فى ربيع العمر تحيا معذبة الجمال بلا مجالِ
وشمعة عمرها تنسال دمعاً يفوق كنوز تبر أولآلي
ثم يمضي السرد القصصي ، فيصف مقابلته لها على شط البحيرة ، ثم يقارن بينها وبين شخصه ، حيث تزوج منذ سبع سنوات ، وله من العيال سبع ، بينما هي زوجة على الورق فحسب ، ثم يصف زوجها ومدى القهر الذي يواجهها به :
وصاحب قيدها شيخ عتل يعاقبها على همس النمــال
كسجان بلا قلبِ رمـاها على حر الظهيرة فى الرمال
ثم يصف جمالها ، لتبرز من خلال ذلك المأساة التى تعاني منها :
وكانت ذات سحر عبقري بحسن سال منساب الجمال
طبيعي بلا زيف جلــيب سوى العناب فى شفتي ثمال
جري خمر الجمال بوجنتيها وقوسي حاجب مثل الهلال
قد انسابا على مهل ولطف بريشة رب مكة ذى الجلال
إن تأثر الشاعر بمأساة تلك الفتاة جعله يقدم المحتوى النفسي لشخصيته ومدى إحساسه الأليم بما تعانيه ، بدلاً من تركها تتحدث عن نفسها ومأساتها ، وذلك من خلال المونولوج الداخلي أو الحوار الذاتي الذي يعرفه بعض النقاد بأنه ((التكنيك المستخدم فى القصص بغية تقديم المحتوى النفسي للشخصية ، والعمليات النفسية لديها – دون التكلم بذلك على نحو كلي أو جزئي – وذلك فى اللحظة التى توجد فيها هذه المستويات المختلفة للانضباط الواعي قبل أن تتشكل للتعبير عنها بالكلام على نحو مقصود)) (7)
نقول : من خلال هذا المونولوج الداخلي يعبر الشاعر عما يعتمل فى صدره هو من مرارة والتياع :
يقيدني الآسي بقيود عمر مضى هدراًوأمعن فىمطالي
على أيام عمر قد قضينا وجرعنا بها كأس العُضـال
لذلك لم أزل أبكي عليها كباكــية الجمال وراء آل
يخب على الرمال كبحر ماء ولكن بين أودية خوالــي
ومالي لم أزل أبكي عليها وأندب سوء حظي من منال
أليس أمامها دنيا براح ومالي فى البراح من انتقال
ومن هنا يبدأ الصراع عند الشاعر بين أحاسيسه الغريزية وبين جمال تلك الفتاة ، حيث يشده خيطان هما : تمسكه بالفضيلة من ناحية والجمال الذي يستثير كوامن المتعة الحسية من ناحية آخري :
أحس شعورها وتحس مني كما فى عمق نظرتها بدا لي
فباكية الجمال بكت شباباً وإني قد بكيت أسي كلالـي
وإن يكُ بيننا أدني رباط هو الحب المسافر فى الجبال
وحيداً ليس بين يديه حام سوى التقوى خلالك اوخلالي
كلانا حافظ لكريم ود دعته به الفضـيلة للكمــال
ثم يختتم الشاعر مطولته بالدعاء لها ، بأن تنعم مع قرين يعوضها سنوات الحرمان :
ويالجمال باكية كفاني وصالك فى الكرى عبر الليالي
فقد تجد القرين شباب قلب تركتها بخـير : فـى وصال
يلاحظ فى مثل هذه المطولات التعامل ((مع ما يسمي بالقوس الإسلامي فى المعمار ، بمعني الاهتمام بأول الشئ وآخره)) ( فكما كان هناك اهتمام أشد بالأبيات الأولى فى المطولة ، وبخاصة مطلع المطولة : (أثار جمالك الباكي خيالي ........) فإن بداية المطولة تربق فى العادة برقاً ، كما هى تبرق الآن فى نهاية أبيات المطولة ، حين اختتمها الشاعر بالدعاء لتلك الفتاة بحياة سعيدة مع زوج آخر .
*******
من اللافت للنظر فى المطولات الشعرية التى احتوى عليها ديوان "عبير الذكريات" وشائج القربى التى تربط بين أربع مطولات تنتمي إلى مضمون واحد هو ((الخلاص من قيود الوظيفة بالإحالة إلى التقاعد ونهاية الخدمة)) ، حيث يلاحظ أن هذا المضمون يعد قاسماً مشتركاً بين أربع مطولات هي : مطولة "وداعاً يا مكتب الذكريات" وعدد أبياتها 152 بيتاً – موزونة على بحر المتقارب ، ومطلعها :
نفضت اليدين عن المكتب وكم كان من ذكرياتي وحبي
ومطولة "رحلة القيد فى ظلال الوظيفة" وعدد أبياتها 137 بيتاً ، وقد جاءت موسيقاها على بحر الخفيف ، ومطلعها :
رحلة القيد بين أمن وخيفة رحلة العمر فى ظلال الوظيفة
والمطولة الثالثة بعنوان " فى يوم تكريم شاعر" وقد كتبت فى 163 بيتاً ، وهي موزونة على بحر الخفيف أيضاً ، ومطلعها :
إخوة الروح يا هواة القوافي فى احتفال يضم فكراً ثقافي
ولأن هذا التكريم تم تنظيمه بمناسبة بلوغ سن الإحالة للتقاعد وترك الوظيفة ، فإن الشاعر بعد أن يشكر القائمين على هذا التكريم ، يدلف إلى التعبير عن حالته بعد أن توقف صرف راتبه الشهري :
وقف الصرف للمرتب فيـه ولوى العطف مرفق الصَراف
لم يقل : آسفٌ ولا رد سؤلي إنما قال لم تصـبك صـحافي
فارجع اليوم وانتظر فى مقر قد سـيأتيك راتب باسـتلاف
أما المطولة الرابعة فهي بعنوان "الهزيع الأخير" وقد جاءت فى 248 بيتاً على بحر الخفيف أيضاً ، ولا شك أن التشكيل الموسيقي لهذه المطولات الثلاث يلقي بظلاله على توحد المضمون الشعري وتناغمه – بشكل عفوي – فى التعبير عن إحساس واحد مشترك ، مما يشي بأن المضمون الشعري يستطيع أن يختار موسيقاه طواعية ، ودون تصنع وتكلف من الشاعر ، متى كان هذا الشاعر موهوباً وذا قدرة على امتلاك أدواته الفنية بشكل تلقائي ، يحس به قارئ الشعر ومتذوقه .
*********
تتسم المطولات الشعرية – بشكل عام – بتدفق الطاقة الشعرية لأنها تعتمد على الجزئيات والتفصيلات ، والجمل المتوهجة ، والزحام الموسيقي ، حيث يلاحظ أن أغلب المطولات فى العصر الحديث كتبت على البحور المركبة كالخفيف والبسيط – على سبيل المثال-(9) لأنها تدور أساساً حول محور فكري لا محور موسيقي ، وإن كانت الفكرة قد تتوحد – فى عدد من القصائد أو المطولات – مع الموسيقى، كما أوضحنا آنفاً ، ولكن ثمة مطولات كتبت على البحور الصافية ، كبحر الكامل أو بحر الوافر أو غيرهما ، من هذا النوع نجد مطولة "أماكن لها تاريخ" للشاعر عبدالمجيد فرغلي ، وعدد أبياتها 154 بيتاً، فقد جاءت موزونة على بحر الوافر ، ومطلعها :
أماكن ابتغي منها الوداعا وقد حان الوداع لها زماعا
وقد كتب الشاعر مطولته هذه تعبيراً عن حبه لأرض الذكريات الجميلة " صدفا "، ولا غرابة فى ذلك ، فقد عاش الشاعر فيها فترة طويلة ، حيث تداعت الذكريات الجميلة التى ربطت الشاعر بكثير من الأصدقاء ، والأحباب ، باعتبار أن المكان الذي يعينه الشاعر هو "ذلك الجزء من الواقع الذي مارس فيه الشاعر تجربته الحياتية والذي انزرع فى وجدان الشاعر وأعماقه وتجلى بالتالي في نشاطه الإبداعي، فهو مكان له حضور وخصائص مرئية ملموسة" (10) تتمثل فى هذا المكان (صدفا بأسيوط ) وما ينشأ عن ذلك من وعي الشاعر بهذا المكان ، وبخاصتة إذا كان يمثل " البيت" الذي يعد "بيت الأحلام والألفة" كما يقول غاستون باشلار (11) ، لاحظ وصف الشاعر لأشياء هذا البيت فى قوله :
أملي الطرف والنظرات حيرى بأي أبتدي هذا الوداعــا
أبا الحجرات من أرض وطوب تهشم باكياً وهوى إنصداعا
أم الآثـار من بـاقي أثــاث تنـاثر فى نواحيه تباعـا
أم الأبواب أم ســقف تداعت وقد بقي الحنين لها التياعا
أم الأنقـاض قد ثقفت يبــاباً عليها العنكوت شرى وباعا
أم الأسوار قـد أكلت جـذوراً وخـرَ أساسها يشكو الصداعا؟!
أم الـدورات من مـاء تراهـا على سفر وما تنوي ارتجاعا
هكذا يخلع الشاعر أحاسيسه الملتاعة وحنينه الممتزج بالشجن على أشياء البيت (الحجرات – الأبواب – السقف – الأسوار – دورات المياه) ، مما يعمق المعنى بالشعور تجاه هذه الذكريات ، وما يصاحبها من أسى ، فالبيت الأليف الذي "يركز الوجود داخل حدود تمنح الحماية" (12) - كما يقول غاستون باشلار – أصبح مجرد ذكريات مما يشي بانقطاع الشاعر عن المكان ، وأحالته – أى هذا المكان (الدار) – إلى نوع من الحنين الذي يعاوده بين الحين والآخر:
أأبقي بينها لا الدار داري ولا الأهلون إذ رمت ازدماعا
سآتي كلما سنحت ظروف أقـبل أرض ذاكراك انتجاعا
ثم يسرد الشاعر الأماكن والمنشآت والموافق العامة بصدفا كمركز الشرطة ، والمستشفى ، والإدارة التعليمية ، والمجلس المحلي الشعبي، ومجلس المدينة ورئيسها ، وإدارة الإسكان والتموين ، وكالنافورة التى يشبه تدفق مياها بالإنسان الكريم الجواد ، مما يؤكد على أن الشاعر – شأن شعراء المطولات فى العصر الحديث – يركز على الجزئيات ، ويقترب من الوصف والسرد والروح القصصي بصفة عامة .
****
بقيت جملة من الظواهر الفنية والمعنوية تتعلق بهذه المطولات ، منها أن هذه المطولات بالرغم من كثرة عدد أبيات كل مطولة فإنها تميزت بالتماسك العضوي ، وتوحد المشاعر ونمو العاطفة ، كما جاءت موسيقاها متناغمة مع مضامينها ، لا خلل فيها ولا اضطراب، سواء فيما يتعلق بالموسيقى الداخلية أو الموسيقى الخارجية ، بحيث إننا لم نعثر على كلمة مجتلبة للقافية أو فى غير موضعها ، مما يدل على موهبة الشاعر الفذة وثراء لغته ومخزونه الضخم من الألفاظ والتعبيرات ، تلك التى تميل - فى أغلبها – إلى اشتقاقات لغوية قلما نجد مثيلتها فى قصائد الشعراء المحدثين .
أما أنماط هذه المطولات ، فقد تنوعت بين الغنائية ، والقصصية ، والغنائية والقصصية معاً (13) ، وإن كانت الغنائية قاسماً مشتركاً بينها جميعاً ، لأن "الشعر يبدأ غنائياً مطلقاً ، ثم غنائياً مقيداً بحدث ثم يميل إلى الحكاية والحبكة والسرد والروح القصصي والملحمي"(14) ، وإن كانت النزعة القصصية تغلب على الغنائية فى تلك القصائد التى تنحو منحىً قصصياً .
أما موضوعات هذه المطولات ، فقد تنوعت بين الذاتية تارة ، وبين الاجتماعية والوطنية والإخوانية تارة أخرى ، هذا فضلاً عن أن ثمة مطولات تنتمي إلى أدب الخيال العلمي كمطولة "رحلة عبر الكواكب"، وهي من المطولات التى لم نقف أمامها بالدرس والتحليل، حيث يتعذر أن تنهض هذه الدراسة المحدودة بكل المطولات التى ضمها ديوان "عبير الذكريات" ولكن حسب هذه الدراسة أن تفتح الباب أمام الدارسين والنقاد لإعداد أكثر من دراسة حول المطولات الشعرية عند عبدالمجيد فرغلي ، تدرسها من عدة زوايا كالصورة الشعرية والتراكيب اللغوية والنزعة الدرامية ، هذا بالإضافة إلى أن بعض المطولات تنتمي إلى شعر الفكرة باعتباره – أي شعر الفكرة – نوعاً من الشعر لم يعرف من قبل ، حيث لم يعد مفهوم الشعر أنه مجرد مشاعر بل أصبح – كما يقول الشاعر الكبير "رلكة" – خبرات إنسانية وتجارب عميقة"(15) وهذا ما حدا بناقد كبير مثل الدكتور / عز الدين إسماعيل أن يقول : ((والحق أن القصيدة الطويلة – المطولة – هي الكشف الحقيقي فى ميدان الشعر العربي الحديث بعامة ، والإضافة الجديدة الجديرة بمزيد من الاهتمام فى وقتنا الحاضر ، وأقول : فى ميدان الشعر العربي الحديث بعامة))(16) أو كما يقول ناقد آخر : ((المطولة تعد خطوة متقدمة نحو تحرير القصيدة العربية من هيمنة الغنائية كموقف ولغة وتطور أسلوبي وموضوعي وإيقاعي وتركيبي)) (17)
ومن ثم ندرك أهمية الإنجاز الشعري العظيم الذي أضافه شاعرنا الراحل عبدالمجيد فرغلي إلى شعر المطولات العربية ، مما يجدر بنا أن نناشد الهيئات الثقافية ودور النشر فى مصر والوطن العربي الكبير أن تطبع هذا التراث الشعري الضخم الذي خلفه لنا الراحل عبدالمجيد فرغلي حتي يكون فى متناول القراء والدارسين والنقاد .
الهوامش والإحالات :
(1) انظر : د. جابر قميحة : صوت الإسلام فى شعر شوقي ، دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة 1987م (حيث تعرض بالنقد والتحليل للمطولة العمرية لحافظ إبراهيم ، وذكر أنها مطولة دون أن يعرفها كمصطلح شعري) .
(2) د. أنس داود : الأسطورة فى الشعر العربي الحديث ، مكتبة عين شمس – القاهرة 1975م ، صـ483 ، 484 .
(3) د. حلمي القاعود : محمد صلي الله عليه وسلم فى الشعر الحديث – دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع – المنصورة – ط . الأولي 1978م ، صـ452 .
(4) انظر : السيرة الذاتية التى أعدها ابن الشاعر : عماد عبدالمجيد فرغلي – ضمن كتاب "رحالة الشعر العربي عبدالمجيد فرغلي – دراسات نقدية - إقليم وسط وجنوب الصعيد الثقافي – أسيوط 2011م" .
(5) أحمد مجاهد : أشكال التناص الشعري دراسة فى توظيف الشخصيات التراثية – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1998م – صـ8
(6) ديفيد بشبندر : نظرية الأدب المعاصر وقراءة الشعر – ترجمة عبدالمقصود عبدالكريم – الهيئة المصرية العامة للكتاب ، سلسلة الألف كتاب الثاني 206 القاهرة 1966م ص 8 .
(7) على حوم : أدوات جديدة فى التعبير الشعري المعاصر الشعر المصري نموذجاً دراسة نقدية – دولة الإمارات العربية المتحدة – حكومة الشارقة – دائرة الثقافة والإعلام 2000م – صـ28 .
( د. عبده بدوي : فن المطولات عند شوقي وحافظ – مجلة الشعر (القاهرية) عدد أكتوبر 1983م ، صـ44
(9) انظر : د. عبده بدوي : المرجع السابق صـ44
(10) اعتدال عثمان : إضاءة النص – دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت – ط . الأولي 1988م ، صـ68
(11) انظر : غاستون باشلار : جماليات المكان – ترجمة غالب هلسا – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – بيروت – ط . الثانية 1984م ، صـ58
(12) انظر : غاستون باشلار : المرجع السابق ، صـ59
(13) انظر : دراستنا : المطولة الشعرية مفهومها وسماتها الفنية – مجلة العرب – دار اليمامة للبحث والنشر والتوزيع – الرياض – المملكة العربية السعودية عدد أكتوبر / نوفمبر 2010م ، صـ291
(14) د. جلال الخياط : الأصول الدرامية فى الشعر العربي – دار الرشيد للنشر – بغداد 1982م ، صـ57
(15) د. عز الدين إسماعيل : الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية – دار الفكر العربي – القاهرة – ط. الثالثة 1978م ، صـ250
(16) د. عز الدين إسماعيل : المرجع السابق ، صـ267
(17) حاتم الصكر : مرايا نرسيس الأنماط النوعية والتشكيلات البنائية لقصيدة السرد الحديثة – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – بيروت – ط. الأولي 1999م ، صـ180 ، 181
آخر تعديل عماد الدين رفاعي يوم 07-12-2011 في 11:32 AM.
رد: انهضي يا عروبتي وأفيقي..شعر:عبد المجيد فرغلي..نسأل الله له الرحمة والمغفرة
صورة الأدب المقاوم فى شعر "عبد المجيد فرغلى"
بقلم / عبد الحافظ بخيت متولى
يقول المتنبى
أكلـما رمت جيشا فانثنى هربا *** تصرفت بك في آثاره الهمـمُ
عليك هزمهم في كل معتـرك *** و ما عليك بهم عارإذا انهزموا أما ترى ظفرا حلوا سوى ظفر*** تصافحت فيه بيض الهند واللممُ
مدخل
حفلت المكتبة العربية بالعديد من الكتب والدراسات والأبحاث في النقد الأدبي ، وتناول جلـّها تجارب شعراء وقصاصين وروائيين وحقب شعرية ومدارس فنية في الشعر والنثر شرقية وغربية لكنها وللأسف ما تزال شحيحة في الموضوعات التي تتعلق بأدب المقاومة العربية ، وما صدر لحد الآن لا يشكل إلا ّعددا ً قليلاً جدا ً من الكتب لكتّاب يدركون أن الكتابة في هذا الموضوع مسؤولية أخلاقية ووفاء لموقف من أختار أن يعبئ ماسورة بندقيته برصاص الكلام النافذ إلى قلب العدو الغازي والمعتدي الحاقد .
ومن الكتب التي تناولت أدب وثقافة المقاومة العربية :
إن النقد الأدبي يستطيع أن يقدم خدمات جليلة لأدب المقاومة ، ويساهم في ترويجه وتشذيبه وتعزيز مكانته بين الأجيال المتعاقبة من القراء ، وهو قادر على تحفيز الشعراء الشباب المقاومين ممن يستحقون لقب (شاعر مقاومة ) ويقدمهم للقارئ العربي بامتياز مما يدفع بهم قدما ً إلى أمام ، كما أن عمليتي الرصد والتوثيق للأدب المقاوم مهمة تاريخية في غاية السمو ولا يقدر على إجادة التقديم فيها إلا من اتسم بالفكر النير والعلمية والموضوعية من نقادنا العرب.
يقول الأديب والمفكر العربي الراحل أدوارد سعيد « لم أستطع أن أعيش حياة ً ساكنة أو غير ملتزمة ، ولم أتردد في إعلان انتمائي والتزامي بواحدة من أقل القضايا شعبية على الإطلاق « أجل فقضية مناهضة الإستعمار والاحتلال ، والمقاومة بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة ليست قضية مربحة لأن المستفيد الوحيد منها هم أبناء الشعب الفلسطيني وليس تجار الحروب أو سماسرة السلاح ، كما أن المقاومة (تضحية من أجل الآخر الذي لا نراه ) كما يقول الشاعر ناظم حكمت ، لكن الربح الحقيقي فيها هو أن يربح الإنسان المقاوم نفسه ، ثم شرف كتابة اسمه بماء الشمس على لوحة السماء ليتألق كنجمة في مساء الصيف تراه الدنيا بكل بهاء وجلاء
وتؤكد أدبيات التاريخ الإنساني وتجاربه أن الأدب والفنون رافقا الإنسان طوال تاريخه الحربى ويمكن أن يقسم دور الأدب المقاوم في الدعم والمساندة إلى ثلاثة أقسام: ما قبل المعارك، أثناء المعارك، ما بعد المعارك، ولكل منها ملامحها وخصائصها الفكرية والفنية والتى يمكن إجمالها (غالبا) فى تلك العناصر "الدعوة إلى استرداد الحقوق المغتصبة" الدعوة للجهاد، الحنين إلى الديار والوطن، الدعوة إلى قيم العدل والإصلاح، التغني بالبطل والانتصار كما أن (البكائيات) تعد ضمن عناصر تناولت أدب المقاومة وإبداعاته وهو ما نلاحظه فى الإنتاج الأدبي خلال فترة انهيار الدولة الإسلامية فى الأندلس مع الدعوة للثأر والبحث عن البطل والبطولة وطلب النجدة.
ولمواجهة ثقافة الفتنة والاستسلام التي تنتشر اليوم في بلادنا العربية لابد من تبني ثقافة وأدب المقاومة قبل الحروب العسكرية فلقد أصبحت ثقافة وأدب المقاومة ذات دور وقائي أي يمكنه أن يعمل قبل بدء المعارك ويعتبر أدب المقاومة الآن أكثر أهمية من أى وقت مضى حيث أنه هو الكلمة الحرة المؤثرة التى تبحث عن الأسباب ولا تبرر الخطأ بل تدعو إلى تحضير الذات فى مواجهة الآخر العدوانى فتكثر الأمثلة وتتعدد الآراء ووجهات النظر ويبقى أدب المقاومة دوما خير معبر عن محاولة الإنسان منذ قديم الزمان وحتى الآن ليبقى صوت الحق فى مواجهة الباطل بكافة الوسائل المتاحة ليس بتعزيز القدرة على مواجهة الآخر فقط ولكن بتعزيز الذات (الجمعية) وتعظيم عناصر قوتها في مواجهة هذا الآخر المعتدي.
وإذا ما ترجمنا هذه المعاني علي واقعنا العربي والإسلامي اليوم، نجد أن دعاة الفتنة المذهبية والسياسية هم أنفسهم دعاة الاستسلام والتحالف الضمني مع مشروع الهيمنة الأمريكي الصهيوني، وإن تخفوا تحت عباءات مضللة أو احتموا بلافتات كاذبة مثل حماية ورعاية المقدسات، إننا أمام مشروع واحد في الواقع، مشروع للفتنة والقبول بالهيمنة في الوقت ذاته، ومثل هذا المشروع لا يمكن مواجهته دونما امتلاك مشروع مضاد، ونحسب أن مشروع المقاومة بثقافاتها وآدابها وإعلامها هو وحده القادر علي ذلك، وهو الأكثر تماساً مع هوية الأمة وتاريخها ومصالحها، ومن الواجب الشرعي قبل السياسي علي دعاة المقاومة وحماتها من النخبة السياسية والثقافية في بلادنا أن يتبنوا هذا المشروع ويدعوا إليه إذا كانوا بالفعل جادين في مواجهة كارثة المشروع الأمريكي/ الصهيوني وتابعيه من دعاة الفتنة في أمتنا
تعدّدت الأنماط الشعرية في الأدب المعاصر، وبرزت أنماط جديدة غير تلك التي كانت معهودة عند الشعراء في العصور السالفة، 1 ـ أدب المقاومة في فلسطين المحتلة/للأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني 2 ـ الثقافة والمقاومة / للأديب والمفكر الفلسطيني أدوارد سعيد . 3 ـ الموت والحياة في شعر المقاومة / للناقد د . قصي الحسين . 4 ـ الأدب والمقاومة / د . خالد علي مصطفى . 5 ـ ملامح في الأدب المقاوم / د.حسين جمعة . وإن أبرز تلك الأنماط الشعرية في الأدب المعاصر هو ما يُسمّى الأدب المقاوم.
والشعر الذي هو أحد مفردات الأدب المعاصر، يعتبر بطبيعته ثورياًَ إذا ما قيس بمفردات الأدب الأخرى كالقصة والرواية والمسرح، وغيرها من المفردات الأدبية الأخرى، إذ القافية عادة ما تلتهب عند الشاعر عصريةّ كانت هذه القافية أو كلاسيكية، فالأسلوب لا يحدّ من الانفجار الهائل في الأبيات الشعرية المعاصرة، حيث يتحكّم الشاعر فيها بأسلوب فنيّ وبلاغي مُطَعّمٍ بثقافته المتنوّعة ليصوغ من حروف وحيه الشعريّ الممزوج بالوعي الفكريّ أو السياسيّ أو الاجتماعيّ أو حتى العلميّ ما نسمّيه بعد ذلك بالقصيدة مختلفة في الشكل والمضمون وتختلف القصيدة المقاومة كنمط برز في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي على أيدي بعض الشعراء الفلسطينين من أمثال محمود درويش ، وسميح القاسم، وفدوى طوقان وغيرهم من الشعراء الذين أسسوا مثل هذا النوع من القصيد، تختلف عن بقيّة أخواتها من القصائد الأخرى بأنّ ركيزتها الأولى هو عنصر المقاومة، حيث يستشرف الشاعر من خلالها مستقبل القضية من دون الوقوع في مستنقع ( الأيدلوجية ) لتُبقى القصيدة على عنصر التشويق والتدفّق الشعريّ والجمال الأدبي الراقي والعفويّ والفطريّ والوحدة العضوية التي يُنادي بها كثير من النقاد اليوم، إلا أنها تُهرّب عبر حدودها المفتوحة وعياّ حقيقياً لمسارات القضية السياسية ليتلقّاها المتلقي عبر اللاوعي بسبب جماليات الأبيات واتساقها ونضارة مداركها، ولُطف معا
لذا يلجأ الشاعر في القصيدة المقاومة إلى إبراز ما يستشعره وما يؤمن به من أفكار وما يُحسّه هو من اضطهاد وظلم وألم متكئاً على عنصر المفاجأة أحياناً وعنصر المفارقة في أحايين كثيرة، مثله مثل الشاعر في القصيدة الأخرى، إلا أن العنصر الثوريّ الكامن في اللفظ النّاري، والحرف الانفجاريّ، والمعنى الحسيّ، والانفعال الذاتيّ، تبرز كلها أمام المتلقي وكأنها أسلحة يريد أن يستخدمها في وجه عدوّه، لكنْ بابتعاد كبير وحذرٍ ومدروس عن المباشرة ، فيصنع من الحرف قُنبلةً، ومن القافية قذيفة، في جوٍّ مقبولٍ ومستساغ من لدن المتلقي الذي يصفّق وبحرارة متقبّلاً لما يتلقّاه ومستزيداً الشاعر للإعادة أو الاستئناف أثناء الإلقاء، أو يعيد قراءة القصيدة عدّة مرات في حال نُشرت القصيدة مكتوبةً.
هذه الحالة المتبادلة بين الشاعر والمتلقّي تدل دلالة واضحة على أن القصيدة المقاومة لا تزال تحتفظ بالوجاهة في الشعر المعاصر، فهي وكما يبدو في تعريفها أنها تختزن في طيّاتها أنموذجاً لموروثٍ حضاريٍّ إذا ما خرجت بعمق وأصالة من ذات الشاعر الواعية لهويته الثقافية، تماماً كما يقول احد الباحثين في تعريف للشعر المقاوم : (ويمكننا تعريف شعر المقاومة بأنه تلك الحالة التي يعبر فيها الشاعر و بعمق و أصالة عن ذاته الواعية لهويتها الثقافية و المتطلعة إلى حريتها الحقيقية في مواجهة المعتدي في أي صورة من صوره, منطلقا من موروثه الحضاري و قيمه المجتمعية العليا التي يود الحياة في ظلها والعيش من أجلها) ، لذا ومن هذا المنطلق فإن القصيدة المقاومة تعبّر عن نشوة حقيقية وشعور طافح بالقيم الاجتماعية.
والقصيدة المقاومة تُبنى عادة على الرفض للظالم والمحتلّ في سياق متّزنٍ مليء بالتفاؤل والوعي لما يقال أو يُكتب، وعادة ما تصبُّ في قالبٍ معيّنٍ خليليٍّ أو حديث لا ضير في ذلك إن كانت مضامين هذه القصيدة أو تلك تطفح بمعاني الحريّة، وطلب النصرة، والبحث عن الحق والحقيقة، ومن ثم رفض الظلم بكل صوره، كل هذا يكون في صورة من الموروث القِيمي والأخلاقي المتّسم بالصدق في العاطفة، المتأجّجة المشاعر المتنوّعة الأفكار المتّحدة في السياق الشعري، وبالتالي البعيدة عن التصنّع والتلفيق.
هذه هي القصيدة المقاومة التي ننشدها في ظلّ وجود الانحراف الفكري والعقدي لدى الكثير من الشعراء اليوم الذي يفضّلون التطبيل والتزمير ويُحسنون النفاق البلاغيّ اللامسؤول، زارعين بأيدهم أشواك الندامة ما بين زهور جماليات الحرف، متوغلين في الإسفاف الشعري المقيت الذي لن ينبت يوماً بزيتون الوعي ونخيل الولاء على بستان مستقبل أمّتهم ومجتمعهم.
وفي مبادئها تكمن السِّمات
إن ما يميز الشعر المقاوم أنه يصطف إلى جانب أخوته من أنماط الأدب المقاوم الأخرى، ليرسم لوحة النصر الآتي المشحون بالأمل الذي يُنبئ عن وعْدٍ قادمٍ ينشر مفاهيم الرسالة والانتماء لهذه الأرض المقدسة، وفي ظل يوم القدس العالمي الذي أطلقه الإمام الراحل رصاصةً في قلب العدوّ المحتلّ يمكننا أن نعيد بالقصيدة روح المقاومة ونضمّد ببلسم حروفها الجراح العربية النازفة، وذلك لأن "الشعر المقاوم" هو الذي يستنهض الأمة من سباتها و يوقظها من نومها العميق, و يعمل على تحريك المشاعر و الأحاسيس وهي مخرجات لا تتأتى إلا بوجود عوامل تحفيز كالاحتلال و الغزو و الاضطهاد الذي تتعرض له الدول و الشعوب
ولئن كانت القصيدة المقاومة في الشعر العربي تتسم بالأصالة والفكر معاً، والتوهّج الثوري، جامعةً في أسلوبها الثرّ كل الميزات الإنسانية، إلا أننا نجد أنه وبعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية وبزوغ نجم الإمام الراحل فإن القصيدة المقاوِمة أخذت أبعاداً أخرى في هذا الشأن وضمّت إلى تلك السمات الراقية سمة التضحية والبحث عن الكرامة المفقودة في سنوات الضياع، إضافة إلى الوعي السياسي المفضي لفتح باب الأمل وكسر طوق الخنوع الذي وضعه الغرب على عاتق الأمة من جرّاء الخوف من أسطورة الجيش الذي لا يُقهر
وهذا ما أعطى للشعر المقاوم الأبعاد الإنسانية التي تجمع أصحاب كل الديانات من العرب تحت مظلة واحدة هي الانتصار الجماعي ومعرفة الأخر من خلال ما يُحسه من اضطهاد وقهر، سواء ما يعود على الفرد أو المجتمع، وهو بذلك يَسُنُّ لنا وللأجيال القادمة طريق العزة والكرامة والإباء.
ويبدو ان كل هذه المفاهيم تجمعت فى شعر الشاعر عبد المجيد فرغلى , ذلك الشاعر الذى وجه خطابه الشعرى وجهة قضايا الوطن واثبت فى هذا الخطاب للقصيدة الثورية مكانتها داخل هذه الخطاب واستطاع بوعيه السياسى والجمالى ان يشكل من القضايا الملحة أيقونات شعرية ضاربة فى عمق الخطاب فيرصد قضية الانتفاضة الفلسطينية فى قصيدة "الحجر الغاضب" رصدا شعريا يبتعد عن الخطابة الشعرية ويمتد داخل إطار شعرى كاشف عن الوعى السياسى لدى الشاعر ومختزل المسافة بين الوعى السياسى والوعى الشعر فهو يقول فى هذه القصيدة
أقوي من النار هذا الثائر الضجر … لا مدفعا ثار:لاصاروخ:بل حجر
في صرخة من أوار النفس فجرها … شعب به ثورة الاحقاد تنفجر
هي النذير لسحق الظلم عن وطن … في قلبة غضبة الأجيال تستعر
تفجر الغضب المكبوت في دمة …. ففي انتفاضة هذا الغاضب الظفر
ثمة قدر من العلامات اللغوية فى هذه الأبيات ينبئ بركيزة يتحرك وفقها الشاعر فى وعيه الباطنى ثم تتبلور فى اتجاهين متفاعلين ومتكاملين الأول هو الصياغة الخارجية والتى تمثلت فى خطاب صارخ للشعر يعتمد على ايقاع موسيقى متفجر ينتهى بقافية الراء المضمومة مما يحول القافية إلى شحنة من خضب فى ايقاعها الحاد وكأن كل راء مضمومة هى ضرخة بروح الانفاضة والآخر هو المساحة الدلالية لهذه اللقطة الشاعرة التى تمجد الحجر بوصفة علامة بارزة فى تاريخ المقاومة الفلسطينية وتعلى من قيمة الحجر على البندقية وتجعلها نذير انفجار أكبر فى رسالة يبعث بها الشاعر إلى العدو
ونحن حين نسعى للربط بين وعى الشاعر واختيارات اللغوية انما نريد ان نقدم مفاتيح البؤرة الدلالية الكبرى فى النص والتى استدعت طبيعة هذه االبؤرة فى النص كله إحياء بعض المفردات من خلال تكرارها والتركيز عليها مثل مفردة " الغضب" ومفردة الحجر التى احتلت كل منهما مساحة كبيرة فى النص بأشكال وسياقات لغوية مختلفة مما يؤكد حضور الوعى السياسى الدافع إلى المقاومة ويدفع إلى اتساع الرؤيا السياسية عند الشاعر
ولذلك لاتمل هذه القصيدة تذكر بقضية فلسطين وتنذر العالم كله بما يحمل وعى الشاعر من ثورة وغضب حيث يقول الشاعر فى ذات القصيدة
نقول للعالم المعصوب أعينة…أتنظرون:أم أستغشي لكم بصر؟
جرائم الغاصب الباغي تطالعكم … من أرضنا وبوقر مسكم خدر
تلك الحقيقة يرويها لكم وطني … مما يعاني:ألم يبلغ بها خبر؟
قضيتي بين عين الكون ماثلة … وللفظائع يدمي القلب والنظر
أتنصفون كفاحي :أم أحملكم .. عواقب الصمت شعبي بات ينتحر؟
أتنصرون نضالي ضد مغتصبي … أم أشعل النار في الدنياولي عذر؟
ان تنصفوني تقم للسلم قائمة … أم تضرم الحرب لاتبقي ولا تذر
وهنا توقظ القصيدة الهاجس الحقيقى للثورة والغضب وهى اولى ان توجه انظار العالم اليها وبخاصة القوى المساندة للعدو الصهيونى بما فى ذلك المزج بين صوت الشاعر وصوت الآخرين من خلال التنويع فى توظيف ضميرى المتكلم المفرد والمتكلم الجمع فى اشارة الى ضرورة ان نحمل نحن نفس رسالة الشاعر فى المقاومة وهذ التوظيف استطاع ان يمزج الماضى بالحاضر ليصنع صوتا متفردا للمستقبل الذى يراهن على الثورة والغضب وهو الرهان الاخير والوحيد كما يرؤى الشاعر " أتنصرون نضالى ضد مغتصبى أم أشعل الناتر فى الدنيا ولى عذر"
ولا يصيب الياس نفس الشاعر ولا يهدأ صوته فى سبيل التحريض على المقاومة حيث يقول
أخى صار حقا علينا الفــدا.. وحق الجهاد: لقهر العـدى
فقد جاوزوا الحد فى جورهم.. وفى ظلمهم: قد تعدوا العدى
أتو بالذى فاق حد الخيــال ..مذابح قتل: وجرم إعتــدا
والشاعر فى خطاب الآخر القريب هنا يستنهض الهمة ويدفع الى فعل المقاومة فهو يقدم الخطاب ويعلى من مبرراته فى محاولة منه للاقناع بضرورة جهاد العدة وكسر شوكته ولذلك فهو يضخم صورة العدو للتحرض عليه حين يقول" أتوا بالذى فاق حد الخيال مذابح قتل وجرم اعتدى" ولذلك فهذه القصيدة التى عارض فيها ابا القاسم الشابى تمثل اشارات تنضح بالالم والتحدى وتدفع الى الثورة والتحريض اثر محنة احتلال الكيان الصهيونى الارض العربية وجراحات العرب المادية والفكرية
وفى قصيدة "ملحمة نداء من القدس" يتسع الخطاب ليشمل دوائر اخرى تستخدم مفردات الطبيعة المقرونة بالجمال لتتحول هذه المفردات فى السياق النصى للقصيدة الى مفردات اتخذت صور الخوف والفزع والقبح حيث يقول الشاعر
وَقَد قَطَعُوْا غُصْن طَيْر الْسَّلَام .. وَطَيْر الْرِّبِّي فَر أَو سُهْدَا
أَمَّا قَطَعُوْا الْلَّحْن مِن دَوْحِه .. فَمَن غُصْنُه الْطَّيْر مَا غَرِدَا ؟
أَحَس الْفَجِيْعَة تُدْمِي الْفُؤَاد .. وَتَعْتَصِر الْكَبِد الْأَمْرَدَا
فَجِيْعَة شَعْب عَلَي أَرْضِه.. بِه الْخَصْم نَكَل أَو شَرَدَا
وَلِلْقُدْس أَخْرَس طَيْر الْأَذَان .. فَمَا صَاح فِي الْفَجْر أَو غَرَّدَا
فالغصن والطير واللحن والدوح انزاحت من معطاها الجمالى فى الطبيعة الى معطى آخر قصده الشاعر قصدا لا من باب التسجيل والسرد وانما من باب تثوير النص والدفع الى المقاومة من خلال التاثير النفسى فى المتلقى وهذه الصور المجازية لمفردات الطبيعة ترتقى لتغدو لوحة رمزية متوهجة للموقف المعاصر من التخاذل تجاه القضية الفلسطينية واطراف الصراع حتى انه يقرن هذه القضية بالفجيعة والتنكيل والطير الاخرس وغير ذلك مما يختزل المسافة بين الرمزية والدلالة
ويبدو ان التفاعل بين الشاعر والشعر المقاوم يتسع الى حد يؤكد على حضور طاغ لمعنى المقاومة فى نصوص الشاعر وامتزاج هذا المعنى بروحه ووعيه ويمكن ان نستدل على ذلك من هذا المقطع الذى يقول فيه الشاعر
سَنْسْحَقَهُم بِيَد مَن فِدَاء .. تُدَمِّر أَطْمَاعَهُم مَقْصِدَا
سَنَمْضِي الَي الْنَّصْر مُسْتَبْسِلِين .. وَلَن نَّتْرُك الْجَمْر أَن يَبْرُدَا
سنَّرْدي الْقِلَاع وَنُغَشي الْتِّلْاع .. وَنَطْوِي الْشِّرَاع ..وَأَن نْفَردّا
وَنَبْلُغ مِن زَحَفْنَا شَأْوُه .. نَشِق الْفَلَا فَدْفَدَا .. فَدْفَدَا
بِبَحْر الْصِّرَاع نَخُوْض الْغِمَار .. وَلَن نُقْبِل الْعَار مُسْتَعْبَدَا
فحينما نقرأ هذا المقطع نشعر ان القيمة التعبيرية للنص تكمن فى هذا الصوت المرتفع الحاسم فى رسم دوائر المستقبل الممزوجة بالنصر من خلال قوة الدفع الانسانية والعسكرية التى ستسحق العدو لا محالة وتدمر اطماعة ساعية الى تحقيق نصر مؤكد يمحو عار احتلال الارض ولذلك جاء تكرار حرف " السين" ليعطى اشارة واضحة على مسقبل محدد لا بديل عنه وهو النصر وهزيمة العدو و هذا التكرار ايضا تاصل هذا المعنى فى وعى الشاعر ورغبته الشديدة فى اعلاء قيمة المقاومة عند كل فرد من افراد الامه وهذا ما دفعه الى استخدام ضمير الجمع فى دعم قيمة التكرار وحركته على المستوى الشعرى الجمالى والمستوى الدلالى
وفى قصيدة " لا مستوطنات"
أَرْضِنَا الْعَرَض الَّذِي نُفْنِي .. وَإِن مُتْنَا ظِلّا
نَحْن مَازِلْنَا أَوَّل بَأْس .. وَعَزَم لَن يَقْلِا
أَرْضِنَا لَيْسَت مَجَالَا .. فِيْه نُرْضِي الْيَوْم قَوْلَا
حَبَّة الْرَّمْل بِرُوْح .. وَهِي فِي الْتَّقْدِيْر أُغْلِي
أَيُّهَا الْزَّاعِم أَنَا .. مَلَلْنَا الْحَرْب كَلَّا
نَحْن فِيْهَا قَد وُلِدْنَا .. مُنْذ مَاضِيْنَا اسْتَهِلّا
نَحْن جُنْد الْعَرَب دَوْمَا .. نُقْهَر الْخَصْم المُدَلا
مَا فِلَسْطِيْن لِبَاغ .. سَام بَاغِي الْسَّلَم قَتْلَا
أَيُّهَا الْقَاتِل عَمْدا .. إِخْوَتِي شَيْخا وَطِفْلَا
وَفَتَاة الْخِدْر أُخْتِي .. وَمَذِيق الْأُم ثُكْلَا
هنا يدخل الشاعر دوائر أخرى فى الادب المقاوم حيث يساوى بين الارض والعرض فى القيمة الانسانية والرمزية وبناء على هذا الخطاب يؤسس النص على الثورة والتفجر فى وعى المتلقى فكل حبة رمل بروح بل هى أغلى وهنا يزواج الشاعر بين خطابين خطاب الخر القريب الذى يحرص على دفعه الى المقاومة من خلال استدعاء الذاكرة الجمعية للمورورث الذى يجعل الارض مثل العرض متكئا ايضا على ضمير الجمع فى الخطاب وفى هذا المستوى يبدو الايقاع الشعرى هادئا متوازنا والمستوى الثانى خطاب الأخر الغاصب الذى يروم الشاعر الى تخويفه وتهديده مخاطبا إياه بيأها الزاعم ويعلو الخطاب الشعرى هنا بقدر ما تحمل الذات الشاعرة من غضب مستدعيا أيضا تاريخ الامجاد العربية القديمة من الانتصارات والفتوحات التى استدعاها الموقف الفكرى والنفسى عند الشاعر " نحن جند العرب دوما نقهر الخصم المدلا" ولا شك ان التركيب الخبرى هنا اكدت هذا المعنى بما تحمل من خصائص تقريرية وتوكيدية وتعمل على تقاطع خطوط رحلة الازمنة والوجوه التاريخية والبقاع المتدة معها أنفاس القضايا العربية
ويستخدم الشاعر طاقة التاريخى فى تدعيم الخطاب الشعرى المقاوم حين يستدعى صلاح الدين ذلك الرمز التاريخى المقترن بالقدس فى أذهان الوعى الجمعى ولكن الاستدعاء هنا لم يكن استصراخا لصلاح الدين بقدر ما كان استصراخا لهذة الامة العاجزة عن ان تقاوم عدوها وذلك حيث يقول
تحرك صلاح فحطين أخرى.. تناديك والسابقين افتـدا
وقدسك بين شباك العــداه.. أسنوا الشفار لها والمدى
ولعل هذا الاستصراخ الضدى عند الشاعر ينبئ بتغيرات الايام واستشراف مستقبل تتحر فيه القدس بفعل المقاومة الصادقة وهذا ما يبرر استدعاء الاشفار والمدى والشباك للتاثير فى واعية المتلقى
وفى مقطع " وتبقى فلسطين" من ملحمة "نداء من القدس"يأتى السياق المشهدى الذى ينادى العرب بشكل مباشر ويدفعهم الى المقاومة ومساندة فلسطين وان كان يبدو سياق القصيدة فى ظاهره سياق مودة الا انها تضمر فى باطنها مفاتيح الثورة والغضب حيث يقول
فَيَا جِيْرَة مِن بَنِي يَعْرُب .. فِلَسْطِيْن مَدُّوْا الَيْهَا الْيَدَا
وَكُوْنُوْا حَمَاة لَأَرْض لَهَا … تَصُن أَرْضِهَا وَتَوَقِّي أَعْتَدَا
فَفِي ضَفَّة غَرْب أَرْدُنِها .. وَقَلْقِيلِيا وَجَنِيْن الْفِدْي
اذَا الْصَّوْت صَاح قَوِيّا فَدَيْت .. أَجَاب الْصَّدِي الْصَّوْت أَو رَدَّدَا
وهنا ياتى الشاعر بما يعرف بالتدرج فى الخطاب من المودة الى الثورة حتى يصل الى التجريد الثورى فى خطابه" فإذا الصوت صاح قويا فديت اجاب الصدى الصوت او رددا" وهنا تتحول الصورة الاليفة فى خطاب الاخوة العرب الى الغرابة فى تهيئة الاجواء الماسوية للخطاب الدال تحميل الوعى الباطن للشاعر بالمقاومة والسيطرة عليه
ثم ينتقل الشاعر الى القضايا السياسية حين يصف شارون وافعاله المستمدة من تاريخ اليهود القديم فى اشارة منه الى ان القوة هى الفاعلة مع اليهود على مر التاريخ وذلك حيث يقول
أشارون يا عجل ذا السامرى.. خسئت خوراً وخاب الصدى
وما كان شارون إلا كبـان.. لقـوم له القبـر والملحـدا
وحين يساوى الشاعر بين شارون وعجل السامرى فان هذا التوازى فضلا عن انه يختزل التاريخ يمتد فى السخريو والتهكم من افعال شارون الت لا تخرج عن كونها افعال حيوان لا يعقل ولا يعى وما مصيره هو وقومه الا القبور من خلا ما يبنون من مستوطنات سوف يدفنون فيها وهنا يراهن الشاعر على ان ينسرب هذا الموقف الى كل انسان يعى الواقع السياسى ويدرك ابعاده فيضعه اما خيار واحد هو خيار المقاومة الذى لابديل عنه
وفى قصيدة " رثاء عبد الناصر"
يستدعى سياق الرثاء من ذاكرة الشاعر هذه اللمحة التى تعرى الواقع وتكشف عن تردى العرب تجاه قضاياهم الوطنية والسياسية فى مشهد شعرى باك اعتمد على استفهام شجنى حيث يقول الشاعر
من للحياري التائهين؟ .. علي بديد مراقد؟
وقنابل "النابلم" .. تمطرهم بموت حاصد
والموقف العربي .. بين تخاذل وتقاعد
متأجج الجنبات .. بين تفكك وتباعد
من مستهين بالأمور .. وذي شعور بارد
وتبدو مرجعية الشاعر هنا عمقه السياسى وقراءته الثاقبة للواقع المهزوم اللاهى عن قنابل النابلم التى تمطر الحيارى التائهين العاجزين بفعل التخاذل العربى هنا يأتى الاستفهام الشجنى الذى تأسس عليه هذا المشهد محفزا على التعاطف والثورة والمقاومة ومبررا شرعية هذه المقاومة
من هنا نستطيع أن نحدد ملامح ادب المقاومة عند الشاعر عبد المجيد فرغلى من حيث التنويع بين التسجيل والتقرير والرصد والمزج بين التاريخى والواقعى والاعتمدا على الاسلوب المشهدى فى رسم ملامح العدو او ملامح ويؤسس لفاتحة دالة على الحزن العميق ووصف الحالة التي آلت إليها الأوضاع في فلسطين, وتمهد لانفتاح النص على خطاب ذاتي وتاريخي واجتماعي يصف الحالة ويؤكد على عمق المأساة, مستخدما مفردات المقاومة من مثل ´القتل / الارهاب/ الأرض / العرض وغير ذلك" بما يشير إلى أن الشاعر يؤكد شعرية الحالة ووجوديتها في آن، ويكشف عن علاقة القصيد بالواقع المنهار ومن خلال النصوص يكشف(العنصر الذاتي) بموضوعية في شكل منطقٍ شعري/ خصوصي/ يتجه نحو الإنسان ونحو الأفكار في آن واحد , وتكمن تأويليته في دنوها الواضح من المتلقي، بلا ترميز غامض، وكأن نصوصه بقدر ما تكشف، تحكي، وتؤكد، امتداداً وفضاءً مفتوحاً لفعل المقاومة، والدافعة في ذات الوقت نحو الحالات التي ترصدها النصوص.
فيجوس الشاعر في الذات، ثم يوصف المكان الهزوم من خلال انطباع ذاتي.. مأساوى, لذا يدخل منطقة الموضوعي شعراً، كضرورة، يعتقدها لازمة في إيضاح الفهم لصياغته الشعرية ، مستبعداً الاحتمالية أو التأويلية وإنما يضعنا مباشرة أمام التاريخ والجغرافيا حتى يدفعنا إلى المقاومة من خلال نصوصه الشعرية, حتى إن النصوص عنده تتحول إلى لوحات من(طبيعة): بشرية/ وحياتية، واختلاجات، تتراتب جملة، جملة، ومقطعاً مقطعاً، بقصيدة طويل تزيد على المائة بيت فى كثير من نصوصه التى تعرضت للمقاومة- كأنها كتلة لهب- ذات إيقاعات جمالية مساعدة، ورؤي، وقص..، قصيدة مديدة، وتلك هي تحكمية آلية الكتابة لدى الشاعر فشعره لا ينفلت عنه، بل يصاغ بوعي موضوعي حيث تجد تلك القرابة المتلازمة بين جملة وأخرى وبين مفردة وأخرى في تعالق نصي عجيب تفضى كل مفردة إلى أخرى في تشكيل حجم المأساة وهكذا يستمر الشاعر في كشف منطقة اشتغاله(الشعري/ النوعي/ الخصومي) عبر ثنائية العنصر الذاتي والموضوعى هو- دائماً- ظرف الخطاب ووجهة
والشاعر فى نصوصه، لا يسعى إلى"زيادة القول" بل يقربه إلى ذاكرة الحاضر مستبقاً الكمال، وتحريك الإرادة القوية على نصرة أهله، مرات في الشعور بالخيبة والأسى، ومرات بتساؤلية تدفع ميزات النص إلى الظهور الواضح، عبر مزدوجات ثنائية: (الموت أوالحياة) ليفتح بذلك وعيا جديدا في تلقى نصوص الحالة الشعرية الواقفة عند حد الوطن بما تحمل من ميزات جمالية وإيقاع موسيقى هادر يناسب طبيعة الفوران الشعري في الحالة المقاومة ,ولغة صاخبة معظم حروفها مفخمة كاشفة عن بركان الثورة في الذات الشاعرة , هنا يبدو الجرح جرحين جرح الشعر وجرح المتلقي في دائرة شعرية توصف بالجمال والثورة فى ظل ادب المقاومة
آخر تعديل عماد الدين رفاعي يوم 07-12-2011 في 11:51 AM.