الفصل بين المتضايفين .. من "النحو الوافي" للشيخ عباس حسن
السابع: عدم الفصل بين المضاف والمضاف إليه باسم ظاهر، أو بضمير بارز، أو بغيرهما؛ لأن المتضايفين بمنزلة الكلمة الواحدة ذات الجزأين، لا يصح أن يتوسط بينهما فاصل. غير أن هناك مواضع يجوز فيها الفصل في السعة؛ فإباحتها في الشعر، وملحقاته، أقوى. ومواضع أخرى يجوز فيها الفصل للضرورة.
أ- فأما مواضع الفصل في السعة فمنها:
1- أن يكونا المضاف مصدرًا والمضاف إليه هو فاعله في الأصل قبل الإضافة، والفاصل بينهما إما مفعول به للمصدر؛ كقول الشاعر:
حملت إليه من ثنائي حديقة ... سقاها الحجا سقي الرياضَ السحائبِ
والأصل: سقي السحائب الرياض.
وقول الآخر:
عَتَوْا إذ أجبناهم إلى السلم رأفةً ... فسقناهم سوق -البغاثَ- الأجادلِ
يريد: سوق الأجادلِ البغاثَ.
فوقع الفصل في المثالين بين المصدر وفاعله بمفعوله المنصوب.
وإما ظرف للمصدر؛ كقولهم: تَرْكُ يومًا نفسك وهواها، سعيٌ لها في رداها فقد فصل الظرف "يومًا" بين المصدر وفاعله، وهما ترك نفسك ....
2- أن يكون المضاف اسم فاعل للحال أو الاستقبال والمضاف إليه هو مفعوله، والفاصل بينهما إما مفعوله الثاني وإما الظرف وإما الجار والمجرور المتعلقان بهذا المضاف، فمثال الفصل بالمفعول الثاني قول الشاعر:
ما زال يوقِنُ من يؤمُّك بالغنى ... وسواك مانع -فَضْلَهُ- المُحْتَاجِ
أي: مانع المحتاج فضله.
والأصل قبل الإضافة مانع المحتاج فضله؛ فاسم الفاعل هنا ناصب مفعولين، ثم أضيف إلى أولهما، وبقي الثاني منصوبًا، ولكنه تقدم وفصل بين المتضايفين.
ومثال الظرف قول الشاعر:
وداعٍ إلى الهيجا وليس كِفَاءَهَا ... كجالبِ -يومًا- حتفِهِ بسلاحِه
والأصل: كجالب حتفه يومًا...
ومثال الجار والمجرور المتعلقين به قوله عليه السلام: "هل أنتم تاركو - لي - صاحبي" . والأصل: تاركو صاحبي لي.
3- الفصل بالقسم، أو: بإما، أو: بالجملة الشرطية؛ سواء أكان المضاف شبه فعل أم غيره؛ فمثال القسم: شرُّ -والله- البلادِ بلاد لا عدل فيها ولا أمن. ومثال "إما" قول الشاعر:
هما خُطَّتَا إما إسار ومنة ... وإما دَمٌ، والقتل بالحرِّ أجدرُ
أي: هما خطتا إسار ... وقد حذفت نون المثنى المضاف وفصلت بينه وبين المضاف إليه كلمة "إما".
ومثال الشرط ما نقل من نحو: هذا غلام -إن شاء الله- أخيك". والأصل: هذا غلام أخيك إن شاء الله.
4- الفصل بـ"ما" الزائدة حيث يكون المضاف منادى، وحرف النداء هو: "يا"؛ كقول الشاعر:
يا شاةَ -ما- قُنُصٍ لمن حلت له ... حرمت عليَّ وليتَهَا لم تحرم
5- الفصل بالتوكيد اللفظي بشرط أن يكون المضاف منادى قد تكرر لفظه للتوكيد اللفظي، من غير أن يضاف اللفظ الذي جاء للتوكيد، نحو "يا صلاح، صلاح، الدين الأيوبي، ما أطيب سيرتك"؛ على اعتبار أن كلمة "صلاح"، الأولى منادى، منصوب، مضاف، وكلمة "الدين" مضاف إليه، وكلمة "صلاح" الثانية هي التوكيد اللفظي للأولى، وقد فصلت بين المتضايفين.
ب- وأما مواضع الفصل المباح في الضرورة فمنها:
1- وقوع المضاف اسما -مشبها الفعل في العمل، رافعًا بعده فاعله الذي يفصل بينه وبين المضاف إليه؛ كقول الشاعر:
نرى أسهما للموت تصمي ولا تنمي ... ولا نرعوي عن نقض -أهواؤنا- العزم
فقد فصل بين المضاف والمضاف إليه بكلمة "أهواؤنا" وهي فاعل المصدر المضاف، والأصل: عن نقض العزم أهواؤنا. أي: عن أن تنقض أهواؤنا العزم.
2- أن يكون الفاصل بين المضاف والمضاف إليه أجنبيا من المضاف، "أي: أن يكون الفاصل معمولًا لعامل آخر غير هذا المضاف"؛ كالفصل بالفاعل الأجنبي في قول الشاعر:
أنجب أيامَ والداه به ... إذ نجلاه؛ فنعم ما نجلا
والأصل: أنجب والده به أيام إذ نجلاه... فقد فصل الفاعل وهو "والداه" بين المضاف: أيام، وبين المضاف إليه وهو: "إذ نجلاه"، والفاصل هنا ليس معمولًا للمضاف.
3- الفصل بالمفعول الأجنبي؛ كالذي في قول الشاعر يصف فتاة:
تسقي امتياحا ندى -المسواكَ- ريقتِهَا ... كما تضمن ماءَ المزنة الرصفُ
يريد: أنها تسقي المسواك ندى ريقتها. فقد توسط المفعول به الأجنبي، "وهو: المسواك" بين المضاف والمضاف إليه، وفصل بينهما، مع أنه معمول للفعل: "تسقى" وليس معمولًا للمضاف.
4- الفصل بالظرف الأجنبي: كالذي في قول الشاعر يصف رسوم الدار بأنها:
كما خطَّ الكتاب بكفِّ -يومًا- ... يهوديٍّ يقارب أو يزيلُ
والأصل: كما خط الكتاب يومًا بكف يهودي؛ فوقع الظرف الأجنبي فاصلًا بين المضاف وهو: "كف"، والمضاف إليه، وهو: "يهودي".
5- الفصل بالجار مع مجروره الأجنبيين، كما في قول الشاعر:
هما أخوا -في الحرب- من لا أخا له ... إذا خاف يومًا نبوة، ودعاهما
تريد: هما أخوا من لا أخا له في الحرب.
وقول الآخر:
كأن أصوات -من إشغالهن، بنا- ... أواخر الميس أصوات الفراريج
يريد: كأن أصوات أواخر الميس...
6- الفصل بنعت المضاف؛ مثل:
ولئن حلفت على يديك لأحلفن ... بيمين أصدق من يمينك مقسم
أي: بيمين مقسم، أصدق من يمينك.
7- الفصل بالنداء، كالذي في قول الشاعر:
وفاق -كعب- يجير منقذ لك من ... تعجيل تهلكة، والخلد في سقرا
أي: وفاق بجير يا كعب...
تلك أشهر مواضع: "الفصل" -بنوعيه- بين المضاف والمضاف إليه كما رآها كثرة النحاة.
لكن فريقًا من نحاة البصرة لا يبيحون الفصل في السعة، ويقتصرونه على الضرورات. والأخذ برأيهم أفضل؛ حرصًا على وضوح المعاني، وجريًا على مراعاة النسق الأصيل في تركيب الأساليب. فمما لا شك فيه أن الفصل بين المتضايفين لا يخلو من إسدال ستارٍ ما على المعنى لا يرتفع ولا يزول إلا بعد عناء فكري يقصر أو يطول، وأن الأسلوب المشتمل على: "الفصل" غريب على اللسان والآذان، ولا سيما اليوم.
سواء أخذنا بهذا الرأي الأفضل أم بذاك -وكلاهما جائز- فلا مناص لمن يبيح الفصل أن يبيحه حيث تقوم القرينة عليه، ويتضح المعنى معه، في غير إبهام ولا غموض.