قراءة في قصة "الحاجز"* لنبيل عودة بقلم :محمد توفيق الصواف
قراءة في قصة "الحاجز"* لنبيل عودة
بقلم: محمد توفيق الصواف /سوريا
يقود تحليل مضامين بعض القصص التي ألفت، داخل الوطن المحتل، عن الانتفاضة (القصد انتفاضة الحجارة) ، إلى امكانية الزعم بأن مؤلفيها، قد أدركوا عمق الصلة بين ممارسات السياسة الاضطهادية التي نهجها الاحتلال الاسرائيلي/ وما يزال، ضد العرب في الوطن المحتل، وبين حتمية انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية، وتحولها إلى ثورة شعبية شاملة، ضد نتائج تلك السياسة العدوانية، وضد الأساليب العنصرية الوحشية التي تنفذ بها... لقد أدركوا أن تلك الثورة العارمة كانت، بالدرجة الأولى، وليدة تراكم سلبيات تلك النتائج والأساليب، على مختلف صعد الحياة التي أكره الإنسان الفلسطيني على أن يحياها في ظل هيمنة استعمار استيطاني لا يرحم... "فالتراكم يولد الانفجار"، كما يقول القاص نبيل عودة، في قصته "الحاجز"
ففي هذه القصة القصيرة الرائعة التي تعدّ من بواكير النتاج الأدبي الذي استلهم أحداث الانتفاضة، حسبما يستدل من تاريخي كتابتها ونشرها(1) ، وأثناء جولان مؤلفها في العقل الباطن لبطلها -الطبيب الشاب أحمد، نلاحظ شروع الأديب الفلسطيني في تلك المحاولة التساؤلية الشاقة والمعقدة.. شروعه في رحلة البحث عن أسباب الثورة العارمة التي انتظر وشعبه ميلادها، منذ عشرين سنة..
ومن الخطوة الأولى، في مسيرة هذه الرحلة، يتجنب نبيل عودة تأكيد الايحاء بعفوية انطلاقة الانتفاضة، هذا الايحاء الذي يثيره في الوهم، حادث الإعتداء الاستفزازي الذي قام به جنود الاحتلال الإسرائيلي ضد مجموعة من تلاميذ المدارس في مخيم جباليا بقطاع غزة، صباح يوم التاسع من شهر كانون الأول عام 1987، خرجوا يرجمون السيارات الإسرائيلية بالحجارة، تعبيراً عن احتجاجهم على حادث الشاحنة الإسرائيلية التي دهست، قصداً، في اليوم السابق، عدداً من العمال العرب، على مفرق جباليا -بيت حانون، وأودت بحياة أربعة منهم على الفور، في حين جرحت سبعة آخرين، على مرأى من عشرات العمال والأهالي العرب الذين كانوا متجمعين عند المفرق نفسه.. فقد هاجم جنود الاحتلال التلاميذ العرب بوحشية، وحين لم تفلح هذه الوحشية في تفريقهم، أطلق قائد القوة العسكرية الإسرائيلية الرصاص على التلاميذ الذين طوقوا عساكره، فقتل شاباً صغيراً، وجرح ستة عشر آخرين، استشهد أحدهم، بعد نقله إلى المستشفى.. وحين هرع سكان المخيم جميعاً، غاضبين، ليحملوا جثمان الشهيدين من المستشفى، في موكب ضخم، ردت قوات الاحتلال باطلاق الرصاص المطاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع عليهم، ثم فرضت نظام حظر التجول.. وكان هذا إيذاناً بإنطلاق شرارة الانتفاضة التي امتد لهيبها من غزة إلى الضفة الغربية فالقدس....(2)
لقد أدرك نبيل عودة، وبعمق أن حادث الاعتداء على التلاميذ بكل ما فيه من وحشية وإثارة للاستفزاز، ما كان بقدرته أن يصنع، وحده، ثورة شاملة وعظيمة كالانتفاضة، لو لم يكن المناخ مهيأً لاستقبال شرارة انطلاقتها.. وإذاً فالذي صنعها ووفر لها امكانية الاستمرار، كان تراكم الحوادث المشابهة، على مدى عشرين سنة.. "والمؤكد أيضاً أن انفجار التلاميذ سببه ليس الاستفزاز الوقح الجديد.. إنما هي سلسلة متواصلة من الاهانات اليومية المتكررة..(3)
وكالباحث الموضوعي الذي يؤيد نتائج بحثه ويدعمها بالشواهد والوثائق، يقدم نبيل عودة نماذج من تلك الاهانات، ومن صور الممارسات القاسية الأخرى التي عاناها شعبه، في ظل الاحتلال الإسرائيلي، والتي تحولت إلى ضغوط أدى تراكمها، في النهاية، إلى انفجار الانتفاضة... "أن تعيش تحت طقطقة الأعقاب الوحشية، أن تعيش طفولتك وشبابك أمام حواجز الجند ونظراتهم الحاقدة.. أن تبلع كل يوم مرارة انتظار الفرج الذي لا يبدو أنه قريب.. أن تعيش حالماً بالفرج الإنساني، بينما واقعك مليء بالترقب المقيت لرصاصة من فوهة بندقية يحملها جندي ما، كل ذلك يتجمع لينفجر في لحظة ما بعنفوان لاضابط له..(4)
نعم، إن ديمومة الإرهاب، وكابوس التهديد الدائم، والاذلال العنصري المتواصل للكرامة، مع ما يصاحبه من نظرات استعلاء وحقد واحتقار، على المستويين الشخصي والقومي، والخوف من قدوم الموت المجاني برصاصة لامبالية، دون أي مسوغ جرمي معقول، واليأس من قدوم الفرج دون تضحيات؛ كل هذا، وكثير غيره مما يشبهه، يتجمع، في النهاية، ليشكل منظومة الأسباب والعوامل التي تجعل الانفجار على استمرارية هذا الجو الكابوسي، حتمياً، لا مناص من حدوثه، مهما كانت العوائق والعقبات كثيرة وقوية، ومهما كان حجم التضحيات المحتملة كبيراً.. وذلك، متى بلغت القدرة على الاحتمال زباها... متى طفح كيل الصبر وفاض...
وإذا أضفنا إلى ذلك كله، الرفض الفلسطيني القاطع لوجود الاحتلال الإسرائيلي منذ حدوثه، بأي صورة كان، وأياً كانت سياسته وممارساته، لأدركنا أن الثورة قد تفجرت، أصلاً، من كينونة هذا الرفض نفسه، وجاءت ممارسات الاحتلال القمعية لتغذي عوامل انفجارها...
******
ومن الرجوع إلى ما أمكن الحصول عليه من قصص الانتفاضة، يتبين أن عديدين من مؤلفيها قد أثار اهتمامهم موضوع تعرض الفلسطيني للقتل العنصري، على أيدي سلطات الاحتلال والمستوطنين... لكن أكثر من شغل هذا الموضوع المساحة الأكبر من اهتمامه، اثنان: نبيل عودة، في قصته "الحاجز"، ومحمد نفاع، في قصته"الجنرال"..
في قصته "الحاجز" (5) التي سبقت معالجة جوانب من مضمونها، في الفقرة الأولى من هذا الفصل، يطرح نبيل عودة هذا الموضوع، من زاوية رصده للحظة التحول التاريخية الحاسمة التي مرّ بها وعي الإنسان الفلسطيني، قبل أن ينطلق ثائراً، معلناً رفضه القاطع لاستمرارية العيش في كابوس الاحتلال العنصري... فبعد سنوات طويلة مرهقة من معاناة هذا الإنسان لشتى ضروب العسف والقمع والإرهاب، محتملاً ما يحل به من ويلات، على أمل أن يأتيه الفرج ذات يوم من خارج الحدود، يدرك، متأخراً، عبثية استمراره في موقف المنتظر لذلك الفرج... ثم يبدأ بمراجعة حصاد انتظاره خلال السنوات الطويلة الماضية، فإذا بالنتائج فادحة مرعبة... فانتظاره الطويل لم يمكنه، بعد عشرين سنة، إلا من قبض الريح،... والاستهانة بحياته وعذاباته ومستقبله، إلى درجة تكاد لاتصدق... فقد أضحى قتله، مجرد حادث عادي، لا يهز ضميراً ولا يثير عصباً، في كيان أحد... أما عذاباته وآلامه الكثيرة، فما أهونها على الناس، وكذلك مستقبله ومستقبل أجياله القادمة... وهنا، أدرك الفلسطيني، بوضوح فاجع، أن مايعنيه ويعانيه لا يهم أحداً غيره... وبالتالي، لن يغيّر أحد غيره، أيّ وضع من أوضاعه المأساوية، أو من واقعة المتخم بالخوف والقلق، جراء عيشه في مناخ احتمالات التعرض لشتى ممارسات الارهاب والقمع والإذلال، وبشكل خاص، احتمال التعرض للقتل، في أي لحظة، برصاصة حاقدة يطلقها أي عنصري إسرائيلي، جندياً كان أو مستوطناً عادياً...
بتعبير آخر محدد الدلالة أكثر، أدرك الفلسطيني، داخل الوطن المحتل، أن انتقاله من موقف المتوقع لاحتمال أن يقتل مجاناً، وسط إذلالات الترقب والخوف من غدر القاتل العنصري، إلى موقف الإقدام الإرادي على الموت، ليس انتقالاً ضرورياً، من أجل غد أفضل فحسب، وإنما هو ضروري أكثر للحيلولة دون استمرار هزلية القتل المجاني، بالنسبة للأجيال الفلسطينية القادمة... تلك الهزلية التي صار قتل الفلسطيني، حسب معاييرها، مجرد حادث عادي، لا يعبأ به أو يهتز له أحد... وهذا ما قصد إليه بطل قصة الحاجز، حين قال، في معرض تعليله لحتمية انطلاقة الانتفاضة، ولضرورة استمرارها: "يجب أن لا نسمح بتحويل قتلنا إلى عادة... إلى روتين يومي.."(6)
وبالطبع، ليس المقصود بانتقال الفلسطيني إلى موقف الإقدام الارادي على الموت، أن يمارس الانتحار، بل أن يضع حداً لمجانية موته... أي أن يتحول الموت، في وعيه، من كونه تلك النهاية المرعبة لحياته، إلى التصيّر بداية لحياة جديدة... وهذا يعني أن يصير موته وظيفياً، أي فعلاً إرادياً هادفاً إلى تحقيق غاية نبيلة، أي استشهاداً... ذلك أن حيوات الشهداء الذين يقضون على دروب الوصول إلى شمس الحرية، تتحول إلى رصيد ثمين، ينمو وينمو، في خزانة المستقبل الفلسطيني، ليبزغ، في النهاية، فجر خلاص تضيئه تلك الشمس، في سماء وطن جديد، تعيش فيه الأجيال الفلسطينية القادمة، بحرية وأمن واطمئنان...
وهكذا، وأدراكاً من ثوار الانتفاضة لوظيفية موتهم الاستشهادي نراهم "يواصلون التحدي في الشوارع رغم الجند المدججين بالسلاح.."(7) "، أي على الرغم من عدم التكافؤ المذهل، بين حجارة وطنهم المحتل، وأحدث آلات القتل والتدمير التي يقارعهم بها عدوهم العنصري... وهم، في خضم هذا التحدي الصعب، يرفضون أن يقبضوا ثمن صمودهم... بل يدفعون دمهم ثمناً..."(8) للغد المأمول... لخلاص الإنسان الفلطسيني القادم... لميلاد الوطن الحر..
****
من متابعة تطور أحداث القصة، وتحليل محتوى مضمونها، وحتى نماذج الشخصيات الرئيسة فيها، يتبين أن مؤلفها قد قصد قصداً، إلى محاولة نفي مقولة التعايش السلمي التي يروج لها البعض، من عرب ويهود... مؤكداً عبر النهاية التراجيدية التي ختم بها قصته، أن نفي هذه المقولة يمكن أن يُعد بين أبرز بنود رسالة الانتفاضة، لأنه المرادف الوحيد والمطلق لهدف هذه الثورة العظيمة، هدفها/الغاية المتمثل بالسعي إلى التحرير الكامل للأرض الفلسطينية وشعبها...
ولعل من المثير للإهتمام والإعجاب، في آن، محاولة نبيل عودة اقناع قارئه بموضوعية نفي تلك المقولة ومصداقيته، بأسلوب يعتمد الإيحاء بدل المباشرة، وذلك من خلال عرض الموقف الهاملتي المتردد لبطل قصته / الطبيب الشاب أحمد الذي وجد نفسه، فجأة، أسير حيرة قاسية، بين رغبته في تلبية نداء واجبه الإنساني، كطبيب، أمام حالة اسعافية يعانيها عدوه، وبين الاصغاء والإنصياع لصوت واجبه الوطني والقومي، كفلسطيني، في حالة حرب مع ذلك العدو المحتاج لنجدته الإسعافية... فقد عمد عودة إلى عرض هذا الموقف الصعب والحساس، في إطار حوارية، تدور بين بطل القصة ونفسه، في تلك اللحظة الحرجة.... لننصت إلى صوت هذا الحوار الصراعي الذي أداره المؤلف، على مسرح وعي بطله أحمد؛ بين نداءي واجبين، كلاهما جليل ومقدس...
"...التفت بشيء من الخوف نحو العساكر، فشاهد الكابوي* منبطحاً في منتصف الشارع ينزف دماً، ويكاد يكون بلا حراك... احتار بين أن ينطلق بسيارته مبتعداً أم يقدم مساعدة ما لهذا الملقى بلا حول ينزف دماً... واستمر أحمد في حيرته...
-هل أسعف ذلك الكابوي الثخين؟!
تردد مرة أخرى هذا السؤال. ورد على نفسه:
-إنه عدو حاقد..
-إنه مجرد إنسان ينزف.
-أنت ضعيف أمام منظر الدم البشري؟
-أكرهه كعدو... لا جدال في ذلك، ولكنه ينزف؟
-ليذهب إلى الجحيم.
-ليس ذنبه أنه وحش!!..مساعدة إنسانية قد تغيره.
-وهل يتحول الذئب إلى شاة؟
-لا تخلط..
-التلاميذ الجرحى بالشوارع... الدم المسفوك في المخيمات. أحذيتهم التي تدوس كرامتنا كل يوم... أطفالنا المقتولون بلا رحمة...
-الوقت لا يسمح بالجدال... أسعفه وبعد ذلك نرى..
-هل كانوا هم يسعفونني، لو كنت أنا المصاب؟
-أنت طبيب... والطب مهنة إنسانية!
-ولكنني فلسطيني، والحديث هنا عن عدو... وليس مجرد عدو... أربعون سنة ونحن نعاني مرارة الضياع والتشرد، وما زلنا!!
-كفى، كفى!!سنعالج قضية فلسطين فيما يعد. إنه ينزف ولا ننسَ أنه بشر مثلنا "إنسان!
-إنسان..؟ كم يضحكني هذا الوصف.
-الوقت لا يسمح للسخرية.. انقذ الإنسان الذي فيه..
-لوكان فيه بقية إنسان، لرفض الاحتلال. لرفض أن يمارس العنف ضد شعب مشرد أعزل.
-ليس ذنبه..
-وهل ذنبنا أننا نطالب بحقنا؟
-لا تفقد إنسانيتك. تذكر أن قوتنا في إنسانيتنا.
-أعرف... ولكني لا أستطيع أن أنسى أنه عدو شرس، لا يرحمنا... وما يحدث الان يثبت ما أقول..
-أنت طبيب، وهو مجرد جندي مأمور..
-بأي حق أساعد جندياً عدواً... ليقف مجدداً ويوجه سلاحه نحو شعبي؟!
-لو كان حل المأساة يتعلق بهذا الملقى ينزف دماً، لقلت لك ساعد على أن يموت، ولكن لا تنسَ الإنسان الذي فيه؟
-بأي وجه سألتقي زوجتي، بأي يدين سأرفع ابني... ماذا أقول لجيراني... ماذا أقول لمن ثكلوا عزيزاً عليهم..؟
-إنسانيتنا هي قوتنا، إذ فقدناها... فقدنا مبرر وجودنا، فقدنا مبرر دولتنا.
-وهل يصح لهم ما لا يصح لنا؟!
لا تأخذ القطيع بجريرة الراعي.
-الإنسانية الزائدة تتحول إلى هبل!
-نتجادل فيما بعد... أنت طبيب، وهو ملقى ينزف دماً. لدمه نفس اللون، لجراحه نفس الآلام.
-أعرف ذلك، وأعرف أكثر أنه عدو لا يرحم يضحكه لون دمي، جراحي تزيد شراسته، وعذابي يثيره هزأ، وفلسطينيتي تثير أدنى مشاعر السادية في نفسه.
-الجدال الآن عقيم... تبقى حقيقة واحدة كبيرة. لن نسمح لأحد بأن يسرق منا إنسانيتنا، وأثبت ذلك الآن... أسعفه!(9)
وينتصر نداء الواجب الإنساني، في القصة، فيسعف بطلها عدوه المصاب وينقذه من الموت... ولكن ماذا يكون جزاؤه على هذا الصنيع النبيل، هل حفظه له عدوه جميلاً، راح يتحين الفرص ليرده له بمثله أو بأحسن منه، أم كان جزاؤه، مماثلاً لما لقيه مجير أم عامر الضبع) في التراث العربي؟
قبل الإجابة عن جملة هذه التساؤلات، لا بد من الإشارة إلى أن ثمة مسوغين أباحا، في نظر الباحث، إيراد الحوارية السابقة، بنصها الكامل، على طوله... وأول هذين المسوغين: كون تلك الحوارية وحدة عضوية متماسكة، من الناحية الفنية، بمعنى أنها، بنيوياً، تبدو غير قابلة للتجزيء أو الحذف أو الاختصار. أما المسوغ الثاني، فيتمثل بكون مضمونها زاخراً بالعديد مما يمكن أن يضيء جانباً من فحوى رسالة الانتفاضة، على أكثر من مستوى... فهي إضافة إلى قدرتها الإيحائية الرائعة على إضاءة موقف الإنسان الفلسطيني من العدو الإسرائيلي العنصري، على المستويين الوطني والقومي، تمتلك، مضمونياً، قدرة مماثلة على إضاءة الموقف الإنساني لبطل الإنتفاضة... وهو الموقف الذي يعد واحداً من أبرز خصوصيات رسالة هذه الثورة، ومن أوضح السمات المميزة لفعالياتها كافة، على نحو ما سنلمسه، مفصلاً، في الفقرة التالية من هذا الفصل...
وعودة إلى وصل ما انقطع... إلى الإجابة المؤجلة عن التساؤلات الآنفة... عن الجزاء الذي ناله الطبيب الفلسطيني أحمد لقاء صنيعه الإنساني بعدوه..
في الواقع نجح نبيل عودة في بناء المفارقة الصارخة بين إنسانية الإنسان الفلسطيني، وبين عنصرية عدوه الإسرائيلي، وكان نجاحه في بنائها بطاقة عبور قناعته التي انطلق منها، كأديب، إلى قناعة قارئه وعقله... فعن طريق هذه المفارقة، ابتعد عن المباشرة في طرح قناعته باستحالة التعايش السلمي بين العنصري والإنساني، وبابتعاده هذا، ترك لقارئه حرية محاكمة الفكرة، وحرية الحكم عليها أيضاً... وذلك حين وضع أمام باصرته حدثاً مختاراً من صميم واقع الحياة التي يحياها الفلسطيني، في جو الاحتلال الإسرائيلي، وكابوسه العنصري المستمر...
فعلى الرغم من كل ما لاقاه الإنسان الفلسطيني، من عنت التمييز العنصري، على يد المحتل الإسرائيلي، بل في ذروة تعرض هذا الإنسان لممارسة القمع بحقه، ولاذلال كرامته، لم يملك، حين رأى مضطهده، ملقى على الأرض ينزف دماً، إلا أن يتخلى، ولو مؤقتاً، عن كراهيته لهذا العدو، والتعامل معه كإنسان، "لدمه نفس اللون، لجراحه نفس الآلام"(10) ومن هذه الزاوية الدقيقة، في الرؤية، مدّ من كان قبل دقائق عرضة للإذلال والإهانة، مدّ يده لينقذ الإنسان الكامن في كيان عدوه..." أنقذ الإنسان الذي فيه"(11)
وبانقاذه، أتم نبيل عودة الطرف الأول من معادلة المفارقة التي صمم بناءها باتقان...ثم جاء دور الطرف الثاني... دور رسم صورة ردّ الفعل الإسرائيلي، على نبالة الفعل افلسطيني وإنسانيته... كيما يضع القارئ أمام الحقيقة، وجهاً لوجه، دون أن يقولها له بصياغة مباشرة...
ففي نهاية القصة، يجمع واقع الاحتلال واستمرارية ممارساته العدوانية، بين الطبيب الفلسطيني وعدوه الذي أنقذه هذا الطبيب بالأمس القريب، في موقف مشابه.. أي أمام حاجز عسكري أقامه ذلك العدو للإيقاع بأبناء الأرض التي اغتصبها... ومن أعماقه الإنسانية الصافية، تهيأ للطبيب أحمد الذي كان يقود سيارته برفقة زوجته التي يحبها، أن الكابوي الإسرائيلي قد أمر جنوده بالسماح لسيارة الطبيب أن تعبر الحاجز دون تفتيش، كنوع من رد الجميل... وفي ذات الوقت الذي راح عقل الطبيب يحاكم هذا الرد على ضوء قناعاته الوطنية والقومية، ويرفضه ثمناً لصنيعه الإنساني السابق مع عدوه، "يرفض هذا الشكر والإعتراف بالجميل"،(12) لأنه يتنافى مع الدافع الإنساني الذي كان وراء انقاذه لحياة عدوه، عدوه الذي "لم ينقذه لأنه ضابط، بل لأنه إنسان"،(13) في ذات الوقت، ومن خلال الينبوع الإنساني الصافي المتدفق في أعماقه، لمح النقيض... عبر وجدانه كبرق خاطف مثير، أيقظه من سباحته في أوهام الطيبة والنقاء، ورده إلى قناعته التي كوّنها بتجربته المرة في معاناة الاحتلال، قناعته التي صاغها وعيه الوطني والقومي، في الحوارية السابقة سؤالاً حاداً، طرحه على ضميره الإنساني" وهل يتحول الذئب إلى شاه"؟(14)
للوهلة الأولى، رفض ما خطر له، رفض تصديق ملامح الذئب الذي يتهيأ للإنقضاض على منقذ حياته، والتي رآها في وجه الضابط الإسرائيلي... رفضها متسائلاً بدهشة: "هل يعقل أن يكون الإعتراف بالجميل بمثل هذا الشكل الحاقد؟ عقله يعجز أن يتصور ذلك."(15) لكن التصرف الوحشي الحاقد سرعان ما اضطر عقل الطبيب إلى التخلي عن عجزه، والصيرورة إلى القناعة بالبرهان الحسي، عما كان عاجزاً عن تصوره... كان ذلك، حين اخترقت سمعه " أصوات طلقات تخترق زجاج سيارته"(16) وفي لحظة رهيبة، تنتاب الإنسان الحائر بين التصديق والتكذيب لما يظنه، في تلك اللحظة التي تفصل بين التصور والحقيقة بإدراك الواقع الملموس، التفت الطبيب، لا إرادياً إلى الوراء، مستطلعاً مصدر النار، فإذا به يرى "الضابط إياه يقف أمام الحاجز، شاهراً مسدسه ومنظره يوحي بالوحشية "(17) ولكي يكمل نبيل عودة إحساس قارئه بالصدمة الفاجعة، وإثارته بها، يضع إحدى تلك الرصاصات العنصرية الحاقدة، في رأس الزوجة المسكينة... "أثار انتباهه عدم رد فعل زوجته لما حدث، توسعت حدقتي عينيه وصعق لمرأى الدم المتفجر من رأس زوجته.".(18)
وهنا، في هذه اللحظة، تداعت كل الأوهام دفعة واحدة، في رأس الزوج المفجوع، الزوج الإنسان الذي أنقذ بالأمس حياة قاتل زوجته اليوم.. ومع تداعي الأوهام التي هيأت له بالأمس إمكانية صيرورة الذئب شاة، عبر معالجة ذئبيته بصنيع إنساني، انطلق خياله في رحلة مرهقة من التصورات التراجيدية، "فرأى طفله يركض وراء النعش ينادي بأقوى صوته "ماما"..
لغم ينفجر بالصغير فيرتفع عمود دخان. وحين يأخذ صوت الانفجار والدخان بالتلاشي، يبحث عن طفله فلا يجد إلا بقية رجل بحذاء طفولي ممزق.".(19)
وهربا من هذا التصور وأمثاله، وإيماناً قوياً بضرورة منع صيرورته واقعاً، بأي ثمن، يقرر أن يدق بنفسه، أول المسامير في نعش ذلك الذئب العنصري، وأن يسدل بيديه اللتين أنقذتاه يوماً، الستار على استمرارية هزلية قتل الفلسطيني مجاناً ... ففي واقع تسوده شرعة الغاب وقوانينه، لا مجال للتسامح، أو الطيبة، أو الإنسانية الزائدة مع الذئاب... لأن "الإنسانية الزائدة تتحول إلى هبل"(20) أحياناً..
ومن منظر زوجته المغدورة، وحيلولة دون أن يلقى ابنهما نفس المصير يوماً، نراه "يشغل موتور السيارة، ويأخذ المقود إلى أقصى اليسار، وينطلق بالسيارة مبعثر الذهن، دمه يسح على وجهه، نحو الحاجز، والألم يكاد يمزقه من الداخل، والضابط الكابوي أمامه.."(21) وإلى أين، ولماذا؟ عقله مشلول، عاجز عن الإجابة... الإجابة تصوغها الآن مشاعره المهتاجة، وألمه الفاجع، وترسمها على صفحة مخيلته المضطربة صوراً مرعبة... "طفله يضحك، ومع ضحكه يتدفق الدم... تعابير عقيمة تتصارع في ذهنه، زوجته لا تزال تبتسم... وكأنما تقول له هذا ما جنيته علي..."(22) ومحاولة يائسة منه لنفي هذه الخطيئة عن نفسه، لنفي الإحساس الرهيب بأنه السبب في قتل زوجته، ولجعل القاتل العنصري يدفع ما لا يتوقع دفعه من ثمن لجريمته" يضغط بقدمه على دواسة الوقود حتى يجعلها تلامس أرضية السيارة... يديه تتسمران فوق المقود، ونظراته تتمغنط فوق صلعة الضابط .. الكابوي الذي يلوك سجائره ... النظرات التي تحمل الكراهية خلقة..."(23) ويحصل اللقاء الوحيد المعقول والمنطقي بين الضدين... بين الإنسان الفلسطيني وعدوه العنصري..
وبهذه النهاية التراجيدية، يكون نبيل قد وضع أمام بصيرة قارئه وعقله، الطرف الثاني من المفارقة... ودون أن يقول له ما حدث بعد انطلاق بطله بالسيارة تجاه الضابط القاتل، يتركه، وكأنما عجز عن متابعة القص، لشدة حزنه وتأثره وانفعاله، يتركه ليحكم بحرية على ما يتوهمه البعض من إمكانية تعايش الذئب الإسرائيلي العنصري مع الإنسان الفلسطيني، تعايشاً سلمياً، ليصل -أي القارئ- بنفسه إلى القناعة باستحالة تجسد هذا الوهم واقعاً.
بتعبير آخر، نجح نبيل عودة، من خلال عرض الموقف الإنساني لبطل قصته، ومن خلال عرض رد الفعل الإسرائيلي النقيض على هذا الموقف، ومن توظيف العرضين في سياق حدثي معقول ومتماسك، نجح في تفجير مقولة التعايش السلمي) كاحتمال ممكن، وفي دفعها إلى حدود المستحيل، مهما يكن الإطار السياسي المقترح لتطبيقها.
وعلى خلفية افتراض صحة القناعة باستحالتها، يمكن قراءة عنوان القصة، على مستويين: ظاهري ورمزي... على المستوى الظاهري، البسيط والمباشر، لا تتعدى دلالة العنوان الحاجز العسكري الإسرائيلي الموصوف، في القصة، شكلاً وأهدافاً... أما على المستوى الرمزي، فيصبح ذا دلالة أبعد وأعمق... إنه الحد الفاصل والثابت بين المعتدي والمعتدى عليه، بين العنصري والإنساني... وبالتالي فهو حاجز قوي بين ضدين... حاجز مادي ومعنوي في آن معاً..
وبالطبع، سيظل هذا الحاجز قائماً بينهما، ما دام وجود أحدهما يشكل عدواناً مادياً مستمراً على وجود الثاني، وهضماً لحقوقه المشروعة، ونكراناً ونفياً لحريته وإنسانيته... وبالتالي، فإن الحالة الوحيدة التي تسمح بزوال هذا الحاجز، هي زوال حالة العدوان أولاً... أي تحرير الأرض الفلسطينية من غاصبها... أما لقاء الضدين تحت مظلة استمرارية العدوان، فلا يمكن أن يتمظهر على شكل تعايش سلمي، وإنما على شكل صراع عنيف، وهو ما انتهى نبيل عودة إلى تأكيده في خاتمة قصته، ليؤكد من خلاله لا معقولية السلام بين الذئب العنصري والإنسان...
اعترض الطبيب أحمد لتفتيشه. والمؤلف يشبهه بـ كابوي أمريكي متغطرس، في اكثر من موضع عبر سياق القصة... وهو، ولا شك، تشبيه مقصود، من السهل فك الدلالة الرمزية لشيفرته...
، ثمة جانب آخر للشهادة، أشار إليه نبيل عودة في قصته (الحاجز) وهذا الجانب، يبرز القدرة الكبيرة لفعل الشهادة، في تغيير قيم الواقع.. كما يبرز لوناً معروفاً من ألوان إكرام الناس لذكرى شهدائهم، ومن ألوان تقديرهم لفعل أولئك الشهداء ونضالهم... يقول عودة على لسان بطل قصته الطبيب أحمد..
".. والشهداء يكرّمون بشتى الوسائل، فأسماؤهم تطلق على الخلق الجديد، والأزقة قد تسمى بأسمائهم، ومواقع تسمى بأسمائهم، عالم كامل ولد ويولد عبر الصمود. قيم جديدة تصارع العفونة المترسبة، تصارع الضياع، تصارع من يدفع ثمناً للقيم البشرية.".(24)
واضح أن الربط بين إطلاق أسماء الشهداء على المواليد الجدد وعلى شوراع ومواقع، وبين التغييرات الكثيرة الهامة التي أحدثها أبطال الانتفاضة بنضالهم، إنما هو ربط دلالي يشير إلى أن إطلاق الأسماء هو جزء من محاولة تغيير رموز واقع ما قبل الانتفاضة وثوابته، برموز جديدة، وليس محاولة إكرام الشهداء فقط... فأسماء هؤلاء الشهداء قد تحولت في وعي الشعب ووجدانه إلى رموز قوية الدلالة على فترة ناصعة من فترات صموده، وعلى منظومة جديدة من القيم والمفاهيم والأفكار هي نقيض منظومة (العفونة) السابقة.
أولاً البناء الفني/ الدرامي:
باستثناء بعض القصص، مثل (الزمن الجديد، الحاجز، نهاية الزمن العاقر ( لنبيل عودة ) والجنرال ( لمحمد نفاع ) وطبق حلوى ( لمصطفى مرار )، فإن البناء الدرامي للقصص التي نوقشت مضامينها، يبدو شاحباً ويعاني بعضها من اضطراب في الحبكة، ومن ضعف في القدرة على الايصال وصحيح أن حديث الباحث عن بعض هذا الضعيف، ربما أوهم القارئ بجودة القصة فنياً، كما هو الحال لدى قراءة ما كتبه عن دلالات خاتمة قصة (الرجل الصغير) لناجي ظاهر. إلا أن الحديث الذي كتب عن تلك الخاتمة، يظل قراءة لمضمونها وإيحاءاته، أكثر منه اعترافاً بفنية رفيعة المستوى لبناء القصة الدرامي.
وثمة ملاحظة أخرى حول البناء الدرامي، من ناحية نوعيته. وهذه الملاحظة تزعم أن غالبية القصص المدروسة ذات بناء درامي تقليدي.. لكن تقليديته ليست مطلقة، بمعنى أن القارئ يستطيع أن يلمس اقتراباً، في بعض القصص، من الحداثة ومحاولة لتطويع الأساليب الحداثية لادخالها في تقليدية المعنى الدرامي، كي يبدو في شكله النهائي، نسيجاً ممزوجاً من التقليد والحداثة. كما هوالحال، في قصة (الحاجز) لنبيل عودة، حيث نلمح في سياق السرد التقليدي للحدث القصصي، أساليب كالمنولوج الداخلي، والخطف خلفاً، وما شابه.. وتتميز قصة (نهاية الزمن العاقر)، لنفس المؤلف، ببنائها الدرامي الذي تمتزج فيه تنويعات كثيرة، تتضافر جميعاً، لترسيخ فكرة القصة، ولإضاءة الأبعاد الرمزية لشخصياتها وأحداثها، في نفس القارئ ووجدانه... وكذلك تخرج قصة (الزمن الجديد) لنبيل عودة أيضاً، عن إطار التقليدية، في كثير من مواضعها، حيث نلاحظ تحطم الحواجز المكانية والزمانية، في أكثر من موضع.. هذا فضلاً عما تتمتع به من قدرة على إيصال مضمونها أو معظمه، لقارئها...
ثانياً اللغة:
ما خلا بعض القصص، للمعروفين من كتاب القصة القصيرة في الوطن المحتل، فإن هناك ضعفاً في لغة الغالبية من القصص المدروسة، وضعفاً في تركيب العبارة أحياناً.. ثم هناك نزوع إلى استخدام العامية. في بعضها،. وثمة نزوع آخر، معاكس، إلى شاعرية العبارة، كما في قصة (نهاية الزمن العاقر – لنبيل عودة) وقصة (الجنرال – لمحمد نفاع ).
1) نشرت قصة الحاجز ( في صحيفة الاتحاد) اليومية التي تصدر، في حيفا العربية المحتلة.. وذلك في عددها ذي الرقم /206*44/ الصادر يوم الجمعة (15) كانون الثاني 1988، الصفحة /4/ ولكن حسب الإشارة التي ذيلها بها مؤلفها نبيل عودة يعود تاريخ انتهائه من كتابتها، في الناصرة، إلى يوم 12/12/1987.
(2) عن صحيفة الاتحاد ، العدد رقم 275/44 - 12 نيسان 1988
كل الاشارات من ( 3 – 24 ) تشير الى نفس المصدر قصة (الحاجز)