تتسلق الظلال جدران الأزقة وسطوح المنازل ، تنتشر رائحة الغروب ، ويتلون قلبها بألوان السنوات التي مرّت خاطفة ؛ والتي تلمحها مع ركضات الأطفال ودراجات صبية الزقاق وهم يتسابقون العودة لمنازلهم قبيل مواعيد حظر التجوال ، بينما تحسب هي خطوات عودتها لغرفتها ؛ تجر أذيال أنوثتها المنكسرة من جديد ... وابتسامة حزينة أنها حتى الأمس ؛ قد آمنت بليلى ...!
كانت في كل تلك الأعوام الماضية تعود لمأواها مساء ً ، تسهر عند قدمي أمها التي أورثها الزمان أمراض شيخوخة البلاد ، ثم ّودعتها وحيدة وهي راضية مرضية عليها ..
أتقنت الانتظار عند أعتاب كل فجر علّ النّهار يأتي بخبر جديد عن ذاك الذي غاب وراء الحدود منذ أعوام خمس غاب بها من غاب عن البلاد وعاد من عاد ، وأحب من يكره ، وهجر من يحب ، وتبدلت مواسم ونظريات ، طفت هتافات وانطفأت أخرى ..شيدت دار هنا وهُدِمتْ عشر ٌ أمثالها هناك ، حتى جيء بالجرح شاهدا على نفسه بأنه قد غار في خاصرة الوطن أكثر مما تحتمل مجرة ..!
لكنها اليوم عادت لغرفتها ؛ والأربعون عاما غابة قاتمة من الوحدة ، وتشرد بين بياض شعر آت ٍ وهالتي حزن بني عند حدود جفنين لطالما انتظراه ؛ فلقد فرَّ نجاة من وطن ٍ قاتل سقيم ...!
قال لها : "سيعود" ،
وانتظرته .. متشرنقة بملامحه هو .. هو وحده ، لا رجل آخر . حاكت على أوراقها حكايات وقصائد مثلَّجة بالصمت ، تراءت أحلامها دوما بجب ٍّ وصبي وجناحي ملاك وصدى أسئلة تتردد في زوايا وثواني وحدتها :
يوسف أيّها البريء ؛
ما بال الأيام تتلو على قلبي أبجدية الجمر ؟
وما بال الكلمات اللاتي هاجرن لرسائل َ بعيدة ؟
تراها ستخلد لصمت ؛ أقسى من جدران البئر على صفحات جليد أيامي ؟
يوسف أيّها البريء ؛
أأخطأت ُ يوم آمنت ُ بليلى ؟
****
حين قالوا لها :
- " لقد التقطه حضن أشقر ؛ ناهد ، ووجه لم ترهق ْ ابتسامةُ حزن ٍ ملامحه يوما " ...
- " هاربون..! " .
هذا كل ما قالته يومها لرفيقتها باكية ، لكن عينيها أكملتا : "... إنّهم يتركون الجرح لنا والانتظار... والوطن ،ثم يلوذون في أقرب حضن – أشقر تناله أيديهم " !.
كانت موقنة بأنه لن يعود تماما كأمها التي لن تعود .
حدثت نفسها :
- " انتظرته طويلا ، هو وأمي والغياب ؛ ثلاثية أخذت ما أخذت من تفاصيل عمري ، منحت ُ أمي شبابي كأضحية ، وكتب َ اخوتي "الرّجال" مرسوم قدري كعمر ٍ ثان لها وهربوا ؛ كل لحضنه ، وحين ماتت ، منحوني وحدة بلا جدران تكتم أنّات ورغبات عمر ٍ ..لأنثى على مشارف الأربعين ؛ تعيش الانتظار .. "
*****
في جمرة الصّبح الأول بعد الأربعين ، أفاقت على رؤيا الجب والصبي وجناحي الملاك من جديد ، كانت الظلال تنحدر هذه المرة عن الجدران ويتعالى ضجيج الصباح .. وصخب الصبية وأحمال حقائبهم ، ووقع خطى فتيات تنم ّ ثيابهن وملامحهن عن تفاصيل أنوثة متقنة لأسرار لعبة الحياة ..كان كل ما حولها يمضي متسارعا حين ابتسمت بحزن ساخر ، لتعلن انتفاضة حبر في أوراقها ، فينهمر حزن الأربعين عاما مضمخا بأسئلة :
أتساءل إن كانت الأماني مباحة لي كامرأة .. في صبحها الأول بعد الأربعين ؟، كنت اكتب الحب وأهيم بتضحية ليلى ، كيف كانت مثالا لي ؟ لم َ صدّقت رؤيا قصيدة شوقي:
أهلا بليلى بالحجا والجمال والأدب
عشت وقيسا فقد نوهتما بالعرب ؟
لم َعشت عمرا مؤمنة بردّها على رسول الأمير؟ وأنها لا تريد للظنون أن تتسربل إلى حجابها ؟
أأ خطأت ؟ أأخطأت يوم آمنت ُ بليلى ؛ بأن التضحية اجمل أسرار الحياة ؟
ثم
ما شأني وقبيلة لم تدافع عني ؟ لم يحمني إخوتي ، لم يحملوا أوجاع أمي معي ؟ ألبسوني نقابا رغما عني واحتموا به من ..الدشاديش القصيرة ...!!
لماذا كنت ُسكة ً عبرت ْمن خلالها القوافل آمنة ... ولم تلتفت إلي من جديد ؟
أه يا يوسف أيها البريء ، أما زال هنالك بقية من شِعْر ومن عمر لأشهدك : بأني منذ اليوم لست ليلى ،وأني مثل ليلى ؛ لن أكون ؛ تلك التي تزوج رجال قبيلتها بألف مومس ، وشرّدوها في ظل الخيام ؛ وحيدة ...!
كوكب
التوقيع
ممن اعود ؟ وممن أشتري زمني ؟ = بحفنة من تراب الشعر ياورق؟
وأي جمر هذا ؟
جمر ورب الكعبة ليكوي قلوب الجاحدين لها
المتنكرين لها .... الظالمين لها ... أفٍ لهم وما يحملون
من أفكار في عقولهم
وما بها تلك التي أكملت الأربعين ؟
فلتكتب بحبر من دماء وأوراق من جلودهم المتعطبة والنتنة ؟
أتساءل إن كانت الأماني مباحة لي كامرأة .. في صبحها الأول بعد الأربعين ؟، كنت اكتب الحب وأهيم بتضحية ليلى ، كيف كانت مثالا لي ؟
ولمَ لم تبح الأماني بتضحية ليلى العامرية ومجنونها القيس
أستاذة كوكب البدري
استمتعت حقا بقص فريد من نوعه
دام لك ألق الحرف سيدتي
مودتي واحترامي
وأي جمر هذا ؟
جمر ورب الكعبة ليكوي قلوب الجاحدين لها
المتنكرين لها .... الظالمين لها ... أفٍ لهم وما يحملون
من أفكار في عقولهم
وما بها تلك التي أكملت الأربعين ؟
فلتكتب بحبر من دماء وأوراق من جلودهم المتعطبة والنتنة ؟
أتساءل إن كانت الأماني مباحة لي كامرأة .. في صبحها الأول بعد الأربعين ؟، كنت اكتب الحب وأهيم بتضحية ليلى ، كيف كانت مثالا لي ؟
ولمَ لم تبح الأماني بتضحية ليلى العامرية ومجنونها القيس
أستاذة كوكب البدري
استمتعت حقا بقص فريد من نوعه
دام لك ألق الحرف سيدتي
مودتي واحترامي
اهلا بك استاذ خالد
قرأت ردك المرة تلو الحسرة
وابتسمت بصمت حزين انك قرأت رسالتي بين سطور النّص هذا ، رسالتي عن سيدات يسكن غرف موصدة وجدران تستبيح خصوصية _ انثى - بعد الاربعين في عالمنا العربي
الف شكر لك تواجدك
ودمت
التوقيع
ممن اعود ؟ وممن أشتري زمني ؟ = بحفنة من تراب الشعر ياورق؟
في جمرة الصّبح الأول بعد الأربعين ، أفاقت على رؤيا الجب والصبي وجناحي الملاك من جديد ، كانت الظلال تنحدر هذه المرة عن الجدران ويتعالى ضجيج الصباح .. وصخب الصبية وأحمال حقائبهم ، ووقع خطى فتيات تنم ّ ثيابهن وملامحهن عن تفاصيل أنوثة متقنة لأسرار لعبة الحياة ..كان كل ما حولها يمضي متسارعا حين ابتسمت بحزن ساخر ، لتعلن انتفاضة حبر في أوراقها ، فينهمر حزن الأربعين عاما مضمخا بأسئلة
ااااالله أستاذتي الكريمة
جميل جداا ومبدع هذا القلم .. أعجبني الأسلوب والصدق الفني الخارج دون تكلف