عاجَ امرؤ القيس – قبل أن يمضيَ في رحلته التي لا يعلمُ أيعودُ منها مظفَّرًا ، أم تحولُ الغوائلُ دون نيله مراده - على أطلال الحبيبة بعد أعوام من طلب ثأر أبيه ، باكيًا بقايا آثارها ، مناجيًا دمنتها ، مستعبرًا عند الرسوم الدارسة التي أقفرتْ من حياة اللهو ، الصيد ، الوصل ، اللقاء ، غناء القيان ، وكأنه يعلم أن هذه آخر وقفة له عليها ، فأناخ ناقته بشجى ، ليسبل عبرات الوجد والحنين على مرابع الحبيبة المقفرة منها ، واستوقف صاحبيه على ظهور المطي –اللذين يستحثانه على المضي- فأبى ، وطلب منهما المكوث ، وكأن قدميه سمرتا بالأرض ، فلا يستطيع براحًا !
استعبر عندما رأى رجيع الظبا التي يراها من بعيد كأنها حبَّاتُ فلفلٍ ، والآرام -المها- التي استوطنتْ مضارب أحبابه بعدهم ، ومر بخاطره تلك الغداة التي كان يرقبُ فيها ظعن الحبيبة من خلف أشجار السمر وهو يتهادى بها ، تهادي أمواج الحتوف المحيطة به ، ويتبعها بصره ، بعينين لا تكف دموعهما ، وقلبٍ لا تهدأُ بلابله ، وكأنه ناقف حنظل ، وهنا تشبيه بليغ ، فمن المعروف أن الحنظل شديد المرارة ، ونقفه واستخراج لبه ، يسبب ذرف الدموع ، وانظروا إلى بلاغة وفطنة الملك الضليل ، حين اختار الحنظل ، ولم يختر سواه ، وربما أنه بهذا يطابق بين مرارة الوداع ، وذرف الدموع الغزيرة فيه ، وبين مرارة الحنظل وإسالته الدموع !
يستحثه صحبه للمضي ، فلا يستجيب ، يعذلونه فلا يصيخُ لعذلهم ، فهو في موطنٍ لا ضير ، ولا عيب في ذرف الدموع ، وإظهار شجى القلب ، وما يعتوره من حنين مرمض ، وما يراه أمام ناظره من آثار الأحبة حريٌّ بأن يبعث كوامن قلبه ، ويستدر شجاه ، فجاش الحنين بقلبه ، والتطمت أمواجه ، ولم يعد يستطيع الصبر أكثر ، فانهمرت دموعه على نحره ، وما زالت تنهمر حتى اخضلَّ محمل سيفه (كناية عذبة بليغة ، عن كثرة الدموع ، وشدة الحزن الذي ألمَّ بالقلب ، والحنين لأيام اللهو والصيد والتشبيب ، والعاطفتين اللتين تتنازعانه - الحنين لحياته السابقة ، والعزم على استعادة ملك أبيه- (عندما جعل الدموع تسيل على محمل السيف حتى اخضلَّ) !
يا الله ! ما أروع وقوفه ، وأجمل تدرجه في حزنه ، وأبدع شجاه !
إنه أبو الحارث ، ذو القروح ، الملكُ الضِّلِّيْلُ وكفى !
دراسات كثيرة، وقراءات وفيرة، خاضت خضم هذه الخالدة أبد الدهر، والفارهة سماء الشعر!
وكلما تناولتها قراءة جديدة، أثبتت جداراتها صدارة ديوان العرب مطلقا دون منازع...
وكفاها تقريظاً، وكفى صاحبها تشريفاً، شهادة سيد البلغاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، عندما سئل عن أشعر العرب فقال: الملك الضِّليل!
شكرا لكم القراءة الجميلة شاعرنا المقتدر
دمتم بخير