بشار بن برد
714-784 م
ولدتُ في البصرة وفيها نشأت .. والبصرة في ذاك الوقت موئل العلماء والفقهاء وأهل الإجتهاد وأصحاب الكلام .. فأنا شاعر من أصل فارسي ولدتُ مكفوفاً وعشتُ بين العصرين الأموي والعباسي وأعتبر من أشهر شعراء هذين العصرين وأجذلهم شعراً بإجماع الرواة إلا أن شعري غلب عليه المجون الفاضح والكلمات البذئية وكان لي أعداء كثيرون بسبب هجائي لهم حتى أنني أتهمت بالزندقة قبل قتلي .. كنتُ أتابع كتب الأدب والتاريخ القديمة .. وكانتُ أحد البلغاء المكفوفين وإمام الشعراء المولدين .. وكنت مرهوب الجانب ، وقد لاقيت الأذى والاضطهاد بسبب تعرضي لأعراض الناس وعدم تعففي في مهاجمتهم ..
وقد قال عني الجاحظ :المطبوعون على الشعر : بشار بن برد والسيد الحميرى وأبو العتاهية وأبن أبى عيينه ولكن بشار أطبعهم ..
حياتي
تنقلت بين المدن العراقية أبحث عن العلم ثم عدت إلى البصرة ورحت أختلف على مجالس المتكلمين وكنت أمدح ولاة العراق ومنهم عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز حيث كنت أحضر مجالسه وأستمع إلى محاوراته مع من كانوا يعتنقون ديانات ومذاهب منحرفة مثل الثنوية المجوسية والدهرية الهندية ..
ومضيت أعلن زندقتي مصرحاً بأنني لا أؤمن إلا بالعيان وما شهده الحس ، فأنا لا أؤمن بجنة أو نار ولا ببعث ولا حساب ، وحاولت إثارة الغبار في وجه واصل بن عطاء وغيره من المعتزلة ، فأعلن أنني أعارض ما يذهبون إليه من أن الإنسان يخلق أفعاله مما أثار غضب عمر بن عبيد خليفة واصل .. وكان مما زاد هذه الثورة في نفسه أن رآني أكثر من الغزل الحسي مما عدّهُ خطراً على شباب البصرة وبناتها .. فهتف في بعض خطبه الواعظة داعياً إلى قتلي.
وهكذا كان الخوف قد أخذ مني مأخذه ورحت أختفي عن أعين الناس .. وفجأة ظهرت بعد وفاة عمر بن عبيد .. فقصدت حران وامتدحت هناك سليمان بن هشام بن عبدالملك ثم اتجهت إلى واسط حيث يزيد بن عمر بن هبيرة والي العراق فاستقبلني إستقبالاً حافلاً ورحت أكيل له المدائح وأفخر بقيس القبيلة العربية .. ثم عدت إلى البصرة وأخذت أمدح إبراهيم بن عبدالله وهو آنذاك زعيم ثورة العلويين ..
وكنت ضخماً عظيم الخلق ومجور الوجه جاحظ المقلتين تغشاهما لحم أحمر ، فكنت أقبح الناس عمى وأفظعهم منظراً .. حتى أنني قلت في وصف نفسي:
والله إني لطويل القامة عظيم الهامة ، تام الألواح ، أسجع الخدين .
عرفت الشعر وأنا في الصغر منذ العاشرة من عمري وأنا أهجو الناس وكانوا يخشون من سلاطة لساني وإفحاشي في الهجاء ..
وعندما قيل لي إنك لكثير الهجاء؟ قلت :
إني وجدتُ الهجاء المؤلم أقوى للشاعر من المديح الرائع ، ومن أراد من الشعراء أن يكرم في دهر اللئام على المديح فليستعد للفقر ، وإلا فليبالغ في الهجاء ليخافَ فيعطى ..
وعرف عني الغزل والتشبب بالنساء والمجون، وسئلت مرة عن نهجي في الحياة فقيل لي: أي متاع الدنيا آثر لديك .. فقلت: طعام مزّ ،، وشراب مر ،، وبنت عشرين بكر . . وكنت كثير الجرأة في غزل النساء حتى وصلت شكوى أهالي البصرة إلى الخليفة العباسي المهدي فاضطر الخليفة إلى حبسي مدة قصيرة أدباً لي ..
كنت أدين بمذهب الخوارج وبقيت الزندقة وأنا دون رأي قاطع وأنا أتلون بشعري مع القولين ،فأنا القائل :
كيف يبكى لمحبس في طلول = من سيبكى لحبس يوم طويل؟
إن في البعث والحساب لشغلاً = عن وقوف برسم دار محيل
وأنا القائل :
الأرض كظلمة والنار مشرقة = والنار معبودة مذ كانت النار
وأنا القائل أيضاً:
ربابة ربة البيتِ=تصب الخلّ في الزيتِ
لها عشر دجاجاتٍ=وديكٌ حسن الصوتِ
بعض ما أثر عني من قصص :
1. كنت دائم الهجاء للشاعر أبي الشمقمق ،وفي أحد الأيام أعطى أبو الشمقمق أولاد حارتي قصيدة هجاء فيّ وصاروا يرددونها وهم يمشون خلفي وأنا متوجه إلى الوراق راكباً حماري ،حيث كانوا يقولون :
هلّلينا هلّلينا = طعنَ قثّاءٍ لتينة
إن بشارَ بنَ بردٍ=تيسُ أعمى في سفينة
2.بعد أن مات حماري وكان عزيزاً علي ،رأيته في المنام ،فعاتبته قائلاً :لم تركتني وقد كنت أحرم نفسي من الزاد لأشتري لك العلف ،فرد علي بقصيدة علمت منها أنه مات من شدة حبه لحمارة جاري الأصبهاني ،تقول أبيات القصيدة :
سيدي خذ بي أتاناً=عند باب الأصبهاني
تيمتني ببنانِ=وبدلٍّ قد شجاني
تيمتني يوم رحنا=بثناياها الحسانِ
ولها خدّلٌ أسيلٌ =مثل خد الشيفرانِ
فلذا متُّ ولو عش=تُ إذن طال هواني
وحين سئلتُ عن الشيفران قلت :هذا من لغة الحمير والله لا أعرفه
3. من أجمل قصائدي في الغزل القصائد التالية :
وجارية خلقت وحدها = كأن النساء لديها خدم
دوار العذارى إذا زرنها = أظفن بحوراء مثل الصنم
يظللن يمسحن أركانها = كما يمسح الحجر المستلم
وبيضاء يضحك ماء الشباب = في وجهها لك أو تبتسم
ظمئت إليها فلم تسقني = برى ولم تشفني من سقم
**********
درة بحرية مكنونة = مازها التاجر من بين الدرر
عجبت فطمة من نعتي لها= هل يجيد النعت مكفوف البصر
أمتا بدد هذا لاعبي = ووشاحي حلة حتى انتشر
فدعيني معه يا أمتا =علنا في خلوة نقضي وطر
أقبلت مغضبة تضربها=واعتراها كجنون مستعر
بأبي والله ما أحسنه = دمع عين يغسل الكحل قصر
أيها النوام هبوا ويحكم = واسألوني اليوم ما طعم السهر
**********
أبيتُ أرمدَ ما لم أكتحل بكمُ = وفي اكتحالي بكم شاف من الرمد
رقت لكم كبدي حتى لو انكمُ = تهوون ألا أريد العيش لم أرد
كأن قلبي إذا ذكراكمُ عرضت=من سحر هاروت أو ماروت في عقد
ما هبت الريح من تلقاء أرضكم= إلا وجدت لها بردا على كبدي
**********
وذات دل كأن البدر صورتها = باتت تغني عميد القلب سكرانا
إن العيون التي في طرفها حور = قتلنا ثم لم يحيين قتلانا
فقلت أحسنت يا سؤلي ويا أملي= فأسمعيني جزاك الله إحسانا
يا حبذا جبل الريان من جبل = وحبذا ساكن الريان من كانا
قالت فهلا فدتك النفس أحسن من = هذا لمن كان صب القلب حيرانا
يا قوم أدنى لبعض الحي عاشقة = والأذن تعشق قبل العين أحيانا
فقلت أحسنت أنت الشمس طالعة=أضرمت في القلب والأحشاء نيرانا
وقد كان السبب الرئيس لقتلي هو هجائي للخليفة المهدي بقصيدة كان مطلعها :
خــليفة يزنى بعماته =يلعب بالدبوق والصولجان
وقلتُ فيه أيضاً:
بني أميةَ هبّوا طال نومُكُمُ=إن الخليفةَ يعقوبَ بنَ داوودِ
ضاعت خلافتكم يا قومُ فالتمسوا =خليفةَ اللهِ بين الزقِّ والعودِ
علماً بأن يعقوب بن داوود كان وزير الخليفة المهدي وكان بيننا كره متبادل
وعندما سمعها الوزير دخل على الخليفة وحرضه علي لأنه سبق وأن كتبت فيه كلاماً بذيئاً ويحمل عليّ غيظاً فظيعاً ..
وعندما سمع الخليفة هذه القصيدة ذهب بنفسه إلى حيث أسكن فسمع شخصاً يؤذن للصلاة في غير وقتها .. وعندما سأل الخليفة ما هذا الأذان ؟! فقالوا له :- هذا بشار بن برد حين يسكر يقوم ويؤذن .. فاشتد غضب الخليفة أكثر وأمر بإحضاري وشتمني بعبارة (يازنديق) أتلهو بالآذان في غير وقت الصلاة وأنت سكران؟؟ ثم أمر بضربي بالسياط حتى مت على أثرها ..