الجمال خلقة ربانية ، صنعها مصرف القلوب و أبدعها، وصيرها طريقاً إليه ومرقى ترقى به الأرواح لتعرف خالقها و بارئها ، فيكون لها صلة به بلغة الحس التي يدرك بها ما لا يدرك بلغة العقل والرياضة ،ويفقه ما لا يفقه بلغة الفكر والسفسطة.
ولهذا كان للجمال اقتران بالحس يغلب اقترانه بالعلم ، وكان لعهد النشأة الأولى في قلب كل منا مكان لا ينازعه فيه غيره ، ذلك العهد الذي كانت فيه النفس على فطرتها ، حديثة عهد بالدنيا وما فيها ،وما تزال بها بقية من الأيام التي قضتها محلقة في رحاب السموات، الأيام التي لم يكن قد نالها فيها شيء من تراب الأرض و أدرانها ،أو خالطها شيء من رسوم الكتابة والتعليم ونقوشهما.
ومن تلك الأيام أيام بعيدة ، كان والدي يأبى فيها إلا أن يجلسني وإياه في شرفة منزلنا ليالَيَ الشتاء ، مفترشين أرض الشرفة ولا شيء علينا يقينا البرد غير لباسنا، و مستقبلين السماء في لحظات تجرد مطلق نحو العلياء ، كأنما نبحث فيها عن سر الصلة الأزلية بين النفس والروح وبين السماء المجلِلة هذا الكون و المادة ظلها عليه.
كانت تلك ليالي شتائية ينال المرء فيها من القر ما يعيا به ، ولكن ما كان بين أرواحنا في ساعات صفائها المطلق تلك وبين السماء الرائقة ونجومها التي تتلألأ في بهجة و شاعرية لانهائيتين ، و القمرالذي كان يطل علينا بحنو و رأفة فأخاله مبتسماً لي بمحبة حقيقية ، وهامساً لي في بعض الأحايين، ما ينسينا كل ما عداه و يشغلنا عن سواه .
وليلة بعد ليلة كان شيء في داخلي يكبر ، شيء يرفعني نحو الأعلى السماوي مفارقاً فيَ أناي الأرضي ، وأثناءإذ تدور بيني وبين والدي أحاديث ما عدت
أذكر منها شيئاً مفصلاً سوى أنها كانت تدور في فلك السماء و نجومها وكواكبها ، وما كان يعتلج في نفسينا من حالات شعورية لم أحس مثلها من بعد على طول الأمد .
ومرت الليالي و سماء دمشق تملؤنا صفاء و شاعرية ليس لهما حدود ، إلى أن لمحت ليلة خلال لحظات فارقني بها أبي كوكباً يلتمع و يشع ثم يحترق ويختفي ،
فسعيت نحوه لأخبره بما رأيت فأنكر علي كلامي ، لكنني رأيت في عينيه شيئاً غامضاً لم أدرك كنهه حينها.
بعد بضعة أيام حلق ملك الموت فوق بيتنا ،وفرغ المنزل ممن كان يملؤه علماً و نوراً و إيمانا فيشع شرقاً وغرباً إلى حيث يُنطق بالعربية و يؤذن للصلاة ،وخلا من رجله جسداً و إن ظلت روحه تطيف به و ترفرف حوله.
وبت كل ليلة من حينها أفزع إلى الشرفة ذاتها ، وأقف على المكان الذي كنا نركن إليه ،وأرنو إلى القمر الذي كان يطالعني دوماً باسم الثغر ، فألمح فيه وجهاً ناعماً متألق القسمات ، وجه الرجل الذي فقدته بعدما كان يملأ علي دنياي كلها ، أراه باسماً لي إن كنت محسناً ومشفقاً علي إن مر بي ما يضير، متبرماً إن صنعت ما يسوء ، وحزيناً إن مر بي من الشر شيء، و أراه دوماً يلقي علي هالة من نور تضيء لي دربي و أسمع صوته هاتفاً بي :ولدي ....كلما ضاقت عليك الدنيا بما فيها ، وتطابقت عليك أمواج الظُلم من الهم والغم والحزن ،ارفع بصرك إلى السماء كما عودتك في ما مضى من أيامنا ، واطلب العون من خالقها ، تجده معك معيناً لك ، وتجد قلبك يدلك على الخير و يهديك نحو الرشاد ، وإن خلت أنك من الهم تحت سبع أراضيه .
التوقيع
الأديب هو من كان لأمته و للغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ
بعض من رسموا الجمال في حياتنا تحتفل بهم الذاكرة وبشعائرهم
فكيف إن كان من رسم الحياة أب أو أم ؟
نصك يحمل الكثير من الوفاء
رحم الله والدك وأسكنه فسيح جنانه وسائر أموات المسلمين
تحياتي وتقديري
بعض من رسموا الجمال في حياتنا تحتفل بهم الذاكرة وبشعائرهم
فكيف إن كان من رسم الحياة أب أو أم ؟
نصك يحمل الكثير من الوفاء
رحم الله والدك وأسكنه فسيح جنانه وسائر أموات المسلمين
تحياتي وتقديري
بارك الله بك أستاذتي الكبيرة .....
شرفني كثيراً مروركم الكريم ....
و الوفاء إنما نتعلمه منكم ....
لكم الشكر و التقدير
التوقيع
الأديب هو من كان لأمته و للغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ
هناك نصوص تشبه الذهب بما تحمله من قيمة انسانية رائعه ..
ليالي كانون البعيدة
لذا أهمس لك بكلمة حب (احيانا الجملة السردية الطويله تجعل الأيقاع العام للعمل بطئ ) ...
مودتي وتقديري