مقدمة
لم تزل مسألة الفصل بين بحري (الخبب) و ( المتدارك) الشعريين , قائمة على محك الجدال العروضي, ومثارا للخلاف وتباين الآراء , ما بين مدارسٍ نقدية تذهب إلى اعتبارهما اسمين – أو وجهين -لعملة بحر واحد , وهو بحر المتدارك - الذي استدركه الأخفش الأوسط على أستاذه الخليل الفراهيدي -ومدارس أخرى ,تذهب إلى اعتبار كل منهما بحرا مستقلا بذاته , يتفرد بتفعيلاته وخواصه الشعرية , تماما ً كأي بحرٍ من بحور الشعر الفراهيدية التقليدية
**وهذا الرأي الأخير , يلقى الصدى الأكبر , من حيث المصداقية النظرية المبرهنة بوقائع ما اختزنته ذاكرة الشعر العربي عمليا , مع التسليم التام بوجود التقاطع العروض -موسيقي بين بحر الخبب عند تفعيلة ( فَعِلُنْ – بتحريك عين التفعيلة) وبحر المتدارك عند ذات التفعيلة (الناتجة عن خبن " حذف الساكن الثاني " من تفعيلة البحر الأصلية "فاعلن")
**وبالرغم من أن هذا الفصل العروضي بين البحرين يقدم أبسط الحلول , وأقصر الطرق لفض نزاع الكثير من الإشكاليات العروضية التي قامت , والتي مازالت قائمة بسبب هذا التقاطع العروض –موسيقي بين البحرين , إلا أن الكثير من العروضيين ما يزالون متشبثين بكونهما بحر واحد , مع تقديمهم نماذجا لحلول نظرية أكثر تعقيدا – مثل القطع أو التشعيث - لما يعتري بحر الخبب في كثير من أحواله و أجزائه , من خروجه الكامل عن طوق التشابه مع المتدارك – كما يتجلى تحديدا عند تفعيلته المضمرة ( فعْلن) بسكون عين التفعيلة
وذلك التشبث من قبلهم , يفسرونه بغرض الإبقاء على هوية المتدارك الخاصة , كآخر ما ألحق ببحور الشعر الفراهيدية المستخدمة في الشعر العربي الفصيح , بالرغم من أن السير الشعرية تقدم تبريرا مباشرا لإهمال الفراهيدي للمتدارك , وذلك لندرته وما ساور خصائصه الشعرية من اضطراب , وعلى صعيد آخر تقدم – وبطريقة مباشرة أيضاً – مخزوناً لا بأس به من الأبيات الشعرية الخببية غير مضطربة الخواص , تستحق أن تحظى بأولوية عروضية كبحر شعري مستقل بذاته
**وقد سبق الشاعر مصطفى جمال الدين في كتابه ( الإيقاع في الشعر العربي من البيت إلى التفعيلة ) وآخرون , بالدعوة إلى الفصل التام ما بين البحرين , غير أننا , ومن خلال هذا المقال , سنقدم أطروحة عروضية جديدة خاصة ببحر الخبب .... وهو ما سنسميها " مجزوء التفعيلة الخببية " والذي من خلالها سنقدم التأييد المادي والملموس للرأي الداعي إلى الفصل بين بحري المتدارك والخبب مع وضع يد العروض على الإشكاليات الخاصة ببحر الخبب – كمحاولة لتجريد بحر الخبب من الإضطراب – النظري – الوحيد , الذي يعتريه , ....كما سنوضح من خلال هذه الدراسة المقتضبة. مع تقديمنا للنموذج الجديد والأكثر قبولا عروضيا – لحل هذه الإشكالية , مبرهنين به - بالاستناد إلى ما هو متواجد في التراث الشعري العربي القديم والحديث -على تفرد بحر الخبب واستقلاله بتفعيلاته وخواصه الشعرية ,
***وقد كانت النقطة الأساسية , التي قادتنا إلى استنباط وجود هذا المجزوء في حشو وعروض وضروب بعض الأبيات الخببية , هي محاولتنا تفنيد و دحض المزاعم الرامية إلى تأصيل وجود تفعيلة شاذة مثل "فاعل" , بين ما تواجد في الشعر العربي – قديمه وحديثه – في حشو بعض الأبيات الخببية
ونستهل طرح هذه الإشكالية من خلال هذه النقطة :-
--------------------------------------------
تفعيلة " فاعل " التامة كدخيل عروضي
**من المعروف , أن تفعيلة " فاعل" هي الشكل المقبوض ( الناتج عن حذف الساكن الخامس ) من تفعيلة " فاعلن " , تلك التفعيلة التي درج استخدامها إما :-
1-تامة ومشبعة (بساكنها الأخير) في حشو كل من المتدارك والمديد والبسيط
2- أو استخدام الزحافات الدارجة والمعروفة لهذه التفعيلة في حشو المتدارك والبسيط وفي عروض وضروب بحر السريع
**إما عن استخدام تفعيلة " فاعل" -باعتبارها تفعيلة تامة ومستقلة -في حشو الأبيات الخببية .... فهو لا يطرح إلا نمطا شاذا و دخيلا على الشعر العربي فحسب , دون أن يقدم الأطروحة الفذة ,التي تصورها من حاولوا إلحاق هذه التفعيلة بتفعيلات الشعر المعروفة ...فهو إنما ناجم عن قراءات عروضية خاطئة بمنظور خاص -وخاطىء - للأبيات الخببية ليس إلا
**والحجة الأولى والرئيسية التي تسقط إمكانية وجود هذه التفعيلة في بحر الخبب هي :
فرضية تعاقب هذه التفعيلة " فاعلُ " و تفعيلة " فَعِلُن " ( المتحرك عين التفعيلة ) في أثناء بحر الخبب , وبالتالي تعاقب خمس متحركات ( عِ لُ فَ عِ لُ ) وهو ما يضرب بمسلمات العروض – التي لا تجيز تعاقب أكثر من ثلاث متحركات – عرض الحائط
**وقد كانت أشهر المحاولات الهادفة إلى إقحام تفعيلة " فاعل" الشاذة في الشعر العربي:-
1- محاولة استخراج أو استنباط التفعيلة من أبيات الشعراء السابقين , مثل أمير الشعراء أحمد شوقي
كما في قوله :-
نتخذ الشمس لها تاجا ....وضحاها عرشا وهاجا
وقوله :-
جارٍ ويُرى ليس بجارِ = لأناة فيه ووقارِ
وقوله :-
نبتدر الخير ونستبق = ما يرضى الخالق والخلق
وقوله :-
لا تقدر غير الله يدٌ = لا أذنَ الله تهدده
2- أما المحاولة الثانية , فقد تمثلت في ادعاء نازك الملائكة لأسبقيتها في ابتكار واستخدام تفعيلة " فاعل" في شعرها , كما في قولها :-
كان المغرب لون ذبيح = والأفق كآبة مجروح
**وكي ندحض هذا الادعاء , فعلينا أولا أن :
نبدأ بتقطيع الأبيات السالفة الذكر , مع مجاراتنا للنهج الشاذ الذي أقحم من خلاله تفعيلة "فاعل" في بحر الخبب
ففي قول شوقي :-
نتخذ الشمس لها تاجا ....وضحاها عرشا وهاجا
يكون التقطيع الشاذ على النحو التالي :-
نتخ/ ذ الشم/س لها / تاجا ....وضحا/ها عر/شا وهـْ/هَاجا
"فاعل" / فعْلن / فعِلن / فعْلن .... فعِلن / فعْلن / فعْلن / فعْلن
وفي قوله
جارٍ ويُرى ليس بجارِ ..... لأناة فيه ووقارِ
يكون التقطيع الشاذ على النحو التالي :-
جارٍ /ويُرى/ ليس ب/جارِ ..... لأنا/ ة في/ه وو/قارِ
فعْلن / فعِلن / "فاعل" / فعلن ....فعِلن / فعْلن / "فاعل" / فعلن
وفي قوله :-
نبتدر الخير ونستبق ..... ما يرضى الخالق والخلق
يكون التقطيع الشاذ على النحو التالي :-
نبتد / ر الخي/ر ونس/تبقُ ..... ما ير/ضى الخا/لق وال/خلق
"فاعل" / فعْلن / فعِلن / فعلن ...... فعْلن / فعِلن / فعِلن / فعْلن
وفي قوله :-
لا تقدر غير الله يدٌ ..... لا أذنَ الله تهدده
يكون التقطيع الشاذ على النحو التالي :-
لا تق/در غير/ ر الل/ه يدٌ ...... لا أذ /نَ الل/ـه تهدْ/دِده
فعْلن / فعِلن / فعْلن / فعِلن ....."فاعل"/ فعْلن / فعِلن / فعِلن
وفي قول نازك الملائكة :-
كان المغرب لون ذبيح ِ ...... والأفق كآبة مجروجِ
كان ال/مغرب/ لون ذ/ بيح ...... والأف/ق كآ/بة مج/روح
فعْلن/ فاعِلُ/فاعِلُ/فعْلن ......فعْلن/فَعِلُنْ/فَعِلُنْ/ فَعْلُنْ