هناك نِعم لا تُستشعر قيمتها في النفس - عند كثير من الناس - إلا بفقدها ، وإن استدعاءها بتذكرها بعد ذلك يثير فى النفس الشجن ، ويبعث الشوق من مكامنه ،
من ذلك: نعمة الوطن الذى درج فيه المرء صبيا حتى بلغ أشده ..ونشأ فيه بين اهل وعشيرة ، يخاف عليهم ويخافون عليه ، فإنه متى فارقه إلى غيره ، لا يفتأ يؤم جهته بقلبه شوقا وحنينا ، ذاكرا ما كان له فيه من ذكريات
طوته أيامه هناك ولياليه .. حتى وإن كان قد خرج منه راغما ، أو أُخرِج ه مضطرا؛ فإن شيئا من ذلك لا يثلم حبه لوطنه ، ولا ينقص من انتمائه لأهله وعشيرته .. كيف وقد قيل: "إن من علامة الرشد أن تكون النفس الى بلدها تواقة، وإلى مسقط رأسها مشتاقة ".
ان النفس السّويّة بطبعها تألف موطنها الذى فيه ولدت ، وعلى مهده نمت وشبت ،
حتى وإن كان هذا الموطن صحراء قاحلة ، أومحِلّة مجدبة :
ونستعذب الارض التى لا هوا بها .:. ولا ماؤها عذب ولكنها وطن
وإن النازلة من نوازل الدنيا إذا نزلت بالمرء قد تنقلب هيّنة سهلة متى كان ثاويا فى وطنه ،
مقيما فى أهله وعشيرته ... ولا يدرك ذلك إلا من اجتمع عليه حر المصاب وحر الاغتراب ،
وقديما قال الشاعر يشكو حضور الهم فى غياب الأهل والوطن- وهما مما يُتَعزّى به - يقول:
بمَ التّعلل لا أهل ولا وطن
ولولا مكانة الوطن فى النفس ما تغنّى به الشعراء , وما عُرف بحبه العقلاء .. بل إننا لا نبعد كثيراإذا قلنا أن حب الوطن والارتباط به ، والانتماء إليه فطرة معتدلة ، وجِبِلّة مركوزة في نفوس الأسوياء من البشر؛ بحيث لا يمكن لأحد من الناس - كائنا من كان - أن ينزع هذه الفطرة من نفس صاحبها ، أو يسلبها من قلبه ؛ وذلك لتمكنها منه ، ونفاذها فيه ، ومن ثم - وتفهما لهذه الغريزة - جاءت الشريعة السمحاء متوافقة مع هذا الخلق ،ومتناغمة مع دواعيه ؛ في غير مبالغة ممجوجة أو تساهل مستهتر
.
وإن خير ما يستدل به على حب الوطن والحنين إليه ، ماقاله النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو مفارق لقريته التى أخرجته : " إنك خير أرض الله ، واحب الارض إلى الله ، ولولا أن اهلك أخرجونى منك ما خرجت" قال ذلك رغم فساد أهلها ، ومعاداتهم له ، ومحاريتهم لدعوته ، وحصارهم لأتباعه وعشيرته
.
ولعل الحب الدافئ العميق ، والحنين الصادق الموصول للدار والأهل والولد هما اللذان ضاعفا من علة أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - حين قدموا المدينة ، ولم يزل جَوّها وخيما موبوءا ، فدعا لهم النبى - صلى الله عليه وسلم - :" اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ، وصححها ، وبارك فى صاعها ومدها ، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة"
والنبى - صلى الله عليه وسلم - نفسه قد اغرورقت عيناه يوما بالدمع حين ذكر بعض اصحابه مكة وهم بالمدينة ، حتى قال :" دع القلوب تقر ".
_______________________
(*) من بحث توعوي لي قديم مطبوع