إجراء التشبيه .. من "الطراز لأسرار البلاغة و حقائق علوم الإعجاز" ليحيى بن حمزة العلوي اليمني
نحن الآن نذكر كل صورة من صور التشبيه المضمر الأداة، ونردفها بمثالها من المفرد و المركب، ونطبق أحدهما على الآخر، فيحصل الأمران جميعا فى كل صورة من صوره المذكورة بمعونة الله تعالى.
الصورة الأولى: ما يقع موقع المبتدأ والخبر المفردين
كقولك: زيد الأسد، والأسد زيد، وزيد أسد. وقد يأتى على جهة الفاعل كقولك: جاءنى الأسد، وكلمنى الأسد. وقد يأتى على جهة المفعول كقولك: رأيت الأسد، و لقيت البحر. فما هذا حاله من الاستعارة التى لا تظهر فيها أداة التشبيه يعرف ببديهة النظر على قرب من غير حاجة إلى تأمل ونظر، ولهذا تقول فيه: زيد كالأسد، وكالأسد زيد. ولا تحتاج إلى تكلف و إضمار.
الصورة الثانية: أن يقع المبتدأ ويكون الخبر مضافا إليه
مثاله قوله عليه السلام «الكمأة جدرى الأرض» وكقولك: إقدامه إقدام الأسد، وفيضه بجوده فيض البحر. والكمأة ضرب من النبات إذا أخرج فى الأرض أفسدها، ونقص زرعها. وهذا هو مراد الرسول بقوله: «جدرى الأرض»، أراد أنها مفسدة للأرض كما يفسد الجدرى البدن. وهى نبت يؤكل، وهو بارد مولّد للبلغم. و يقال: أكمأت الأرض إذا أنبتت الكمأة، وتكمأت إذا أكلت الكمأة.
ملاحظة: الحديث ورد عند الترمذي وابن ماجه وأحمد، ومنها نتبين أن هذه الجملة من قول الصحابة وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
ونصه عند الترمذي الذي حسنه الترمذي وصححه الألباني لغيره هو [حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: الْكَمْأَةُ جُدَرِيُّ الْأَرْضِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ. وَالْعَجْوَةُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَهِيَ شِفَاءٌ مِنْ السُّمِّ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ].
وقد شاهدت برنامجا عن الكمأة في قناة "ناشيونال جغرافك أبو ظبي" أبان قيمتها المادية عند الأوروبيين حاليا.
الصورة الثالثة: أن يقع موقع المبتدأ والخبر من جهة تركيبهما جميعا
فتركب المبتدأ بالإضافة وتركب الخبر مثل ذلك، فتركيب الإضافة حاصل فيهما جميعا، بخلاف الصورة الثانية فإن التركيب إنما وقع بالإضافة فى الخبر لا غير.
ومثال هذا الحديث الوارد عن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم كما رواه ابن عمر رضى الله عنه حين قال له معاذ بن جبل «أنؤاخذ بما نتكلم، فقال: وهل يكب الناس على مناخرهم فى النار إلا حصائد ألسنتهم». فالتقدير على هذا يكون: كلام الألسنة كحصائد المناجل، وحصد المنجل جزه، والمنجل حديدة حادة يقلم بها البيطار حافر الفرس، فعلى هذا حصيدة اللسان طرفه.
الصورة الرابعة: ما يرد على جهة الفعل و الفاعل
ومثاله قوله تعالى: "وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ" [الحشر: 9]، والتقدير على هذا فى ظهور التشبيه أن يقال: إنهم فى الحقيقة لما تمكنوا فى الإيمان واطمأنوا أفئدة به كأنهم فى التقدير اتخذوه مباءة ومسكنا، كما يتخذ الإنسان داره وبيته الذى يسكن فيه، ويكاد فى هذا الاستعارة يضعف تقدير أداة التشبيه كما سنقرر مراتب التشبيه فى الظهور و الإخفاء بمعونة الله تعالى.
الصورة الخامسة: أن يكون واقعا موقع المثل المضروب
وهذا كقول الفرزدق يهجو جريرا:
ما ضرّ تغلب وائل أهجوتها * أم بلت حيث تناطح البحران
فشبه هجاء جرير تغلب وائل ببوله فى مجتمع البحرين، فما عسى أن يؤثر فيهما شيء، فهكذا هجاؤك هؤلاء القوم لا يؤثر أصلا. فيكاد التشبيه فيما هذا حاله لا يظهر إلا بتقدير وتلطف واحتيال فى إبرازه.