التّفسير:
مصدر النفاق وعلامات المنافقين:
نذكر مقدّمة قبل الدخول في تفسير هذه الآيات، وهي أنّ الإسلام طرح مسألة النفاق والمنافقين مع هجرة الرّسول (ص) وأصحابه إلى المدينة، وبداية استحكام اُسس الإسلام وظهور عزّه.
فلم تبرز ظاهرة النفاق في مكّة، لأنّ الأعداء كانوا لا يخشون الإسلام ويستطيعون التعبير عن كلّ شيء بدون حذر.
ولا حاجة إلى التخفّي أو اللجوء إلى النفاق في وقوفهم بوجه الإسلام.
لكن عندما استحكم الإسلام واتّسع في المدينة، وأصبح أعداؤه من الضعف بحيث يصعب عليهم التجاهر في عدائهم، بل قد يتعذّر ذلك عليهم في بعض الأحيان، لهذا اختار أعداء الإسلام المهزومون أن يواصلوا خططهم التخريبية من خلال إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وانخرطوا ظاهراً في صفوف المسلمين، بينما ظلّوا محافظين على كفرهم في باطنهم.
وهكذا تكون غالباً طبيعة أعداء كلّ ثورة ودعوة بعد إشتداد عودها وقوّة ساعدها، إذ تواجه الكثير من الأعداء وكأنّهم أصدقاء.
ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا نزلت كلّ تلك الآيات التي تصف المنافقين وتشرح حالهم، في المدينة ولم تنزل في مكّة.
وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ هذه المسألة - أي مسألة النفاق - غير محصورة بعصر الرّسول، بل إنّ جميع المجتمعات - وخاصّة الثورية منها - تكون عرضة للإصابة بهذه الظاهرة الخطيرة، ولذلك يجب أن يدرس القرآن الكريم وما جاء فيه من تجارب وإرشادات من خلال هذه النظرة الحيوية، لا من خلال إعتبارها مسألة تاريخية لا علاقة لها بالواقع.
وبهذا يمكن إستلهام الدروس والحكم لمكافحة النفاق وخطوط المنافقين في المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر.
كذلك لابدّ من معرفة صفاتهم التي ذكرها القرآن بشكل تفصيلي، ليتمّ التعرّف عليهم من خلالها استكناه خطوطهم ومؤامراتهم.
وممّا تجدر الإشارة إليه أيضاً أنّ خطر المنافقين يفوق خطر باقي الأعداء، لخفائهم وعدم القدرة على تشخيصهم بسهولة من جهة، ولكونهم أعداء يعيشون في داخل الجسم الإسلامي وربّما ينفذون إلى قلبه نفوذاً يصعب معه فرزهم وتحديدهم من جهة اُخرى.
ويأتي خطرهم ثالثاً من إرتباطاتهم مع سائر عناصر المجتمع بعلاقات بحيث تصعب مكافحتهم.
ولهذا نرى أنّ أكثر الضربات التي تلقّاها الإسلام على مدى التاريخ جاءته من هذا المعسكر - أي معسكر النفاق.
ولهذا - أيضاً - نلاحظ أنّ الإسلام شنّ حملات شديدة جدّاً عليهم، ووجّه إليهم ضربات عنيفة لم يوجّهها إلى غيرهم.
وبعد هذه المقدّمة نرجع إلى تفسير الآيات.
إنّ أوّل صفة يذكرها القرآن للمنافقين هي: إظهار الإيمان الكاذب الذي يشكّل الظاهرة العامّة للنفاق، حيث يقول تعالى: (إذا جاءك المنافقون وقالوا نشهد إنّك لرسول الله)(50) ويضيف (والله يعلم أنّ المنافقين لكاذبون).
وهذه أوّل علامة من علامات المنافقين، حيث إختلاف الظاهر مع الباطن، ففي الوقت الذي يظهر المنافقون الإيمان ويدعونه بألسنتهم، نرى قلوبهم قد خلت من الإيمان تماماً.
وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ الصدق والكذب على نوعين: "صدق وكذب خبري" و "صدق وكذب مخبري"، يكون المعيار والمقياس في القسم الأوّل هو موافقته وعدم موافقته للواقع، بينما يكون المقياس في القسم الثاني هو موافقته وعدم موافقته للإعتقاد، فإذا جاء الإنسان بخبر مطابق للواقع ولكنّه غير مطابق لإعتقاده، فهذا من الكذب المخبري، وفي حالة مطابقته لعقيدته فهو صادق.
وبناءً على هذا فإنّ شهادة المنافقين على رسالة الرّسول ليست من قبيل الكذب الخبري لأنّها مطابقة للواقع، ولكنّها من نوع الكذب المخبري إذ تخالف إعتقاد المنافقين.
لذلك جاء التعبير القرآني: (والله يعلم إنّك لرسوله والله يشهد إنّ المنافقين لكاذبون).
بعبارة اُخرى: إنّ المنافقين لم يريدوا الإخبار عن واقعية رسالة رسول الله وإنّما أرادوا الإخبار عن إعتقادهم برسالته، وهذا من الكذب المحض.
ومن الملاحظ أنّ المنافقين استخدموا كلّ الطرق لتأكيد شهادتهم، غير أنّ الله كذّبهم بشدّة وبنفس اللهجة التي أكّدوا فيها شهادتهم.
وهذه إشارة إلى أنّ المنافقين يجب أن يواجهوا بنفس الشدّة التي يؤكّدون فيها على صدقهم.
ونشير هنا إلى أنّ "المنافق" في الأصل من مادّة (نفق) على وزن "نفخ" بمعنى النفوذ والتسرّب و "نفق" "على وزن شفق" أي القنوات والتجاويف التي تحدث في الأرض، وتستغل للتخفّي والتهرّب والإستتار والفرار.
وأشار بعض المفسّرين إلى أنّ بعض الحيوانات كالذئاب والحرباء والفأر الصحراوي، تتّخذ لها غارين: الأوّل واضح تدخل وتخرج منه بصورة مستمرّة، والآخر غير واضح ومخفي تهرع إليه في ساعات الخطر ويسمّى "النفقاء"(51).
والمنافق هو الذي إختار طريقاً مشبوهاً ومخفيّاً لينفذ من خلاله إلى المجتمع، ويهرب عند الخطر من طريق آخر.
وتذكر الآية اللاحقة العلامة الثانية: (اتّخذوا أيمانهم جنّة فصدّوا عن سبيل الله إنّهم ساء ما كانوا يعملون).
ذلك لأنّهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ويضعون الموانع والعراقيل في طريق هداية الناس، وليس هناك أقبح من أن يمنع الإنسان غيره من الإهتداء.
"جنّة" من مادّة (جنّ) (على وزن فنّ) وهي في الأصل بمعنى إخفاء شيء من الحسّ، ويطلق هذا الإسم على (الجنّ) لأنّه مخلوق غير واضح، ويقال للدرع الذي يستر الإنسان من ضربات العدو في لغة العرب (جُنّة) ويقال أيضاً للبساتين المكتّظة بالشجر بسبب إستتار أراضيها فتسمّى (جَنّة).
على كلّ حال فإنّ من علامات المنافقين التستر باسم الله المقدّس، وإيقاع الأيمان المغلّظة لإخفاء وجوههم الحقيقيّة، وإلفات أنظار الناس نحوهم.
وبذلك يصدّونهم عن الرشد (الصدّ عن سبيل الله).
وبهذا يتّضح أنّ المنافقين في حالة حرب دائمة ضدّ المؤمنين، وأنّ الظواهر التي يتخفّون وراءها لا ينبغي أن تخدع أحداً.
وقد يضطرّ الإنسان أحياناً إلى اليمين، أو أنّ هذا اليمين سيساعده على إظهار أهميّة الموضوع، بيد أنّه لا ينبغي أن يكون يميناً كاذباً أو بدون ضرورة ولا موجب.
جاء في الآية (74) من سورة التوبة: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر).
ذكر المفسّرون مفهومين لمعنى التعبير بـ (صدّوا عن سبيل الله) الأوّل: الإعراض عن طريق الله، والآخر: منع الآخرين عن سلوك هذا الطريق.
وقد لا يتعذّر الجمع بين المعنيين في إطار الآية (مورد البحث) غير أنّ لجوءهم إلى الحلف بالله كذباً يجعل المعنى الثاني أكثر مناسبة، لأنّ الهدف من القسم هو صدّ الآخرين وتضليلهم.
فمرّة يقيمون مسجد (ضرار)، وعندما يسألون ما هو هدفكم من ذلك؟ يحلفون أن لا هدف لهم سوى الخير كما في الآية (107) من سورة التوبة.
ومرّة اُخرى يعلنون إستعدادهم للمشاركة في الحروب القريبة السهلة التي يحتمل الحصول على غنائم فيها، ولكن حينما يدعون إلى المشاركة في معركة تبوك الصعبة والشاقّة تجدهم يختلقون الحجج ويلفّقون الأعذار، ويحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم (يهلكون أنفسهم والله يعلم إنّهم لكاذبون)(52).
وفي يوم الحشر يلجأ المنافقون لنفس الاُسلوب في الحلف، كما جاء في الآية 18 من سورة المجادلة.
وبذلك يتّضح أنّ هذا السلوك صار جزءاً من كيانهم، فهم لا يمتنعون عنه حتّى في مشهد الحشر بين يدي الله تعالى.
وتتطرّق الآية اللاحقة إلى ذكر السبب الذي يقف وراء هذه الأعمال السيّئة، حيث يقول تعالى: (ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون).
والمقصود بالإيمان - كما يعتقد بعض المفسّرين - هو الإيمان الظاهري الذي يخفي وراءه الكفر.
ولكن يبدو أنّ الآية تريد أن تقول: إنّهم كانوا مؤمنين حقّاً وذاقوا طعم الإيمان ولمسوا حقّانية الإسلام والقرآن، ثمّ انتهجوا منهج الكفر مع إحتفاظهم بظاهر الإيمان أو الإيمان الظاهري.
وقد سلب الله منهم حسّ التشخيص وحرمهم إدراك الحقائق، لأنّهم أعرضوا عن الحقّ، وأداروا له ظهورهم بعد أن شخّصوه وعرفوه حقّاً.
والواقع أنّ المنافقين مجموعتان:
المجموعة الاُولى: كان إيمانها منذ البداية ظاهرياً وصورياً.
والثانية: كان إيمانها حقيقيّاً في البداية ثمّ ارتدّوا ولزموا طريق النفاق.
والظاهر أنّ الآية - مورد البحث - تتعرّض للمجموعة الثانية.
وتشبه هذه الآية (74) من سورة التوبة التي تقول: (وكفروا بعد إسلامهم).
على كلّ حال فإنّ عدم قدرتهم على إدراك الحقائق الواضحة تعتبر علامة ثالثة من علامات نفاقهم.
ومن الواضح أنّهم غير مجبرين على ذلك، لأنّهم قد هيّأوا مقدّماته بأنفسهم.
وتوضّح الآية اللاحقة علامات المنافقين بشكل أكثر وضوحاً، إذ يقول تعالى: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم) فهم يتمتّعون بظواهر جميلة وأجسام لطيفة.
(وإن يقولوا تسمع لقولهم) لأنّه ينطوي على شيء من التحسين والعذوبة.
وفي الوقت الذي يتأثّر الرّسول بحديث بعضهم - كما يبدو من ظاهر التعبير - فكيف بالآخرين؟!
هذا فيما يخصّ ظاهرهم، أمّا باطنهم فـ (كأنّهم خشب مسنّدة).
فأجسامهم خالية من الروح، ووجوههم كالحة، وكيانهم خاو منخور من الداخل، ليس لهم أيّة إرادة ولا يتمتّعون بأيّة إستقلالية (كالأخشاب المسنّدة) المكدّسة.
روى بعض المفسّرين في صفة رئيس المنافقين (عبدالله بن أُبي) "كان عبدالله بن اُبي رجلا جسيماً صبيحاً فصيحاً ذلق اللسان، وقوم من المنافقين في مثل صفته، وهم رؤساء المدينة، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله (ص)فيستندون فيه، ولهم جهارة المناظرة وفصاحة الألسن، فكان النبي ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم"(53).
وكان هؤلاء يتميّزون بالضعف والخواء في داخلهم، لا يعرفون التوكّل والإعتماد على الله ولا على أنفسهم، فهم كما يصفهم القرآن الكريم في آية اُخرى: (يحسبون كلّ صيحة عليهم).
يسيطر عليهم الخوف والرعب وسوء الظنّ، وتغمر أرواحهم النظرة السوداء السيّئة... تجدهم في خوف دائم من ظلمهم وخيانتهم حتّى اعتبر ذلك علامة مميّزة لهم (الخائن خائف).
وقد نبّه القرآن الكريم في نهاية الآية قائلا: (هم العدو فاحذرهم) أي هم الأعداء الواقعيون.
ويضيف (قاتلهم الله أنّى يؤفكون) أي كيف ينحرفون عن الحقّ.
ولا يريد القرآن بهذا التعبير الإخبار، وإنّما يريد لعنهم وذمّهم بشدّة، وهو أشبه بالتعابير التي يستخدمها الناس في ذمّ بعضهم البعض.
المكتبة المقروءة » تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل » المنافقون
النفاق العقائدي والنفاق العملي
للنفاق معنى واسع يشمل كلّ أنواع إختلاف الظاهر عن الباطن، ومصداقه البارز هو النفاق العقائدي الذي تتحدّث عنه سورة المنافقون.
أمّا النفاق العملي فهو وصف لحالة بعض الناس المؤمنين بالإسلام حقّاً، ولكنّهم يرتكبون أعمالا تناقض إعتقادهم، كالكذب ونقض العهد وخيانة الأمانة.
جاء في رواية عن الرّسول (ص) "ثلاث من كنّ فيه كان منافقاً، وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم: من إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف"(63).
وفي حديث آخر عن الرّسول (ص) "ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق"(64).
وفي حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين (ع) "إنّ المنافق ينهى ولا ينتهى، ويأمر بما لا يأتي"(65).
اللهمّ، إنّ دائرة النفاق واسعة، ولا نجاة لنا منه دون لطفك ورحمتك فأعنّا على ذلك.
ربّنا، اجعلنا من الذين لا تأكلهم الحسرة عند توديعهم لهذه الدنيا.
اللهمّ، إنّ العزّة لك ولأوليائك، وخزائن السموات والأرض لك لا لغيرك.
أخي الغالي الأستاذ حسن العلي
جزاك الله خير الجزاء على هذا الموضوع الرائع
وجعله في ميزان حسناتك (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)
وأضيف :
هنالك صنف من المنافقين لم يكن يعرفهم النبي (ص) وهم الصنف الذي مرد على النفاق ، وقد ذكرهم الله تعالى في سورة التوبة .
يقول الله تعالى (وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن اهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون الى عذاب عظيم) التوبة 101
تحياتي العطرة
أخي الغالي الأستاذ حسن العلي
جزاك الله خير الجزاء على هذا الموضوع الرائع
وجعله في ميزان حسناتك (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)
وأضيف :
هنالك صنف من المنافقين لم يكن يعرفهم النبي (ص) وهم الصنف الذي مرد على النفاق ، وقد ذكرهم الله تعالى في سورة التوبة .
يقول الله تعالى (وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن اهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون الى عذاب عظيم) التوبة 101
تحياتي العطرة