المرأة وقبعة الغربة
في مدن وحقائب سعدي المالح
(والغوص في لمحات انسانية غافلة عنا في بعض الاحيان لكنها مشتبكة بنا) رحاب حسين الصائغ
تمثل المرأة قوة فاعلة في قصص ( مدن وحقائب ) والتشابه الاجرائي في شرعية الانتساب، بالانتحال ذاكرة التكرار في مسارات محرابها مبخرته قبعة الغربة، سعدي المالح قاص يحمل الملامح الانسانية في داخله انسان مرهف المشاعر، لذا مركزاً على التضاد في مجموعته القصصية على طبائع الانسان، كأنه يقول: ما نحن سوى عادات متحركة، تلبسنا هواجس منهزمة أمام طبيعة المكان، أينما كان تواجدنا المفروض علينا، المعلب يتناحر هديره خارج من شرنقة الاحاسيس مساحاتها شاسعة، تحركها التماعات تنفجر براكينها دون استئذان " كالحب " والمشاعر وما لها من تاثيرات؛ نزولاً لأعمق نقطة في نفس الانسان المهاجر، والذكريات التي لا حدود ثابتة لها تعوم في مساءات الغربة، بدسائسها حين تحزم الحقائب بصواقع الصبر، من أجل طي البائس من الاوراق الميتة، معلنة مواجهة سفح عمر فتحت عليه ابواب جهنم، تاركة حمم غضب المغترب المتدفقة تمزق اعشاب الليالي الزائفة، القاص سعدي المالح يصاحب خطواته شعور ابيض، وحزم من عقد متراكمة أقفالها مبتورة، لم يجد معها غير اغصانه الطرية مؤثثة بكتل الألم.
(فتاة على كرة ) /ص 5 / اول قصص مجموعة مدن وحقائب، سعدي المالح، نماذج شخصياتها مستوحات من لوحات لمعرض زاره من اجلها، المكان روسيا، دور المرأة واضح الاستناد عليه، تتعرض سخصية انسان مغترب لشتى انواع العذاب وويلات التفكير في الخلاص، يقدم صور ساخرة وصور جادة في تضاد وتمازج لعوامل اللحظة المصيرية لهذا الانسان، متشبثا بالقيم الانسانية وما تر عليه من اخلاق، والمرأة الحاضر بامكانياته، وأما الماضي القاسم المشترك ( الأمْ) والمستقبل الفتاة الصغيرة على الكرة في اللوحة ذات الالوان النارية، والتراث الحصان الجامح ولا علامات واضحة لهدفه، وحين احس بالبحر حيث يقول محدثا نفسه في قصة الفتاة على الكرة: ( لكن هذه اللوحات التي تتراءى له كاللغز أحيانا، وتتبسط أمامه، أحياناً أخرى، كالسهل الفسيح، فتزيد طين حياته بلّة، وتشعشع روحه، فتح عينه على سعتهما: بحر مجنون هائج، عكر، مزبد تتلاطم فيه تلال الامواج الفترسة، وهي لا تكل من مهاجمة سفينة تائهة في عرضه، بينما تجثم فوقه غيوم لونها ضارب الى لون النار المدخنّة، تشتعل بالحقد والغضب، أحس بقلق غامض " لا احد قادر على تهدئة البحر أن لم يهدأ من نفسه... " التحامه باللوحة ليس حالة مبتكرة، انها حالة تعبر عن ما يعتلج داخله من قلق مع حبيبته لوبا الروسية، ورغبته بأن يمتلك الهدوء، وان لم يأتي من داخله، لا احد قادر على تهدأته، فهو منشطر بين لوبا ووطنه، الذي هرب من حر جحيمه الجاثمة الغيوم في سمائه لونها الموت، آملاً في العودة له، وصوت امه في اذنه " ارجع كي اراك قبل موتي، لا تتزوج يا بني، لا تقطع عنا الرسائل ولا تنسنا، انها اجمل قصص المجموعة لما تحمل من تحركات عالية في الدقة، باختيار العبارة والحدث وصياغة الهموم المواكبة لإنسان معذب، وسبب عذابه وطن والمرأة، والتي تعني المشاعر والجذر.
قصة ( الفأر) / ص 29 / تبدو للوهلة الاولى للقارئ، انها كتبت بيد انسان مترف غير مبالي لما في الحياة من اشكاليات أهم من الاهتمام بفأر، لكن القص سعدي المالح، لمح لجوانب مهمة في طبيعة الانسان، منها الاهمال والحنان وحب النفس، للقصة لمحات انسانية في هذا الكائن المتواجد على الارض، رغما عنه يتعاطف مع ما حوله من خلال ما يحس ويشعر، ويركز على درجة شفافية المرأة تجاه الحياة وتعاطفها للكائن اياً كان دون التمييز بين حجمه وشكله ونوعه، وتعاطف الفتاة مع الفار، تحمل صفة الحنان وتبلور الحنان لديها تجاه الفأر، بغض النظر عن كون حيوان مقرف مؤذي من وجهة نظر الآخر، أما البطل السارد، الفأر بالنسبة له دخيل ومحتل يعوث في ممتلكاته الخاصة، ومن وجهة مديرة القسم الداخلي وجود فأر مشكلة في غرفة بالقسم، ربما تحمل كارثة، وتأخرها في اتخاذ اجراء ضروري يعني الاهمال. الطالب المتضرر وحده من وجود الفأر، أستثمره في دعوة واحدة من زميلاته ليعرفها على الفأر، ، مؤملاً في كسب قربها، اكتشف في النهاية ان اهتمام الفتاة يتمحور على الفأر، لأنَّهُ من وجهة نظرها كائن ضعيف ويحتاج العطف الحماية، فكانت تأتي له بقطع السكر وتحاول الاطمئنان عليه، أما الطالب انعكس الامر عليه، الطالب بدأ يغار من الفأر، وهذا الدخيل لا بد من التخلص منه خاصة بعد ان نال اعجاب فتاته، حيث يتحدث عن همه الجديد: جاءت بعد أيام، وبدأت حال وصولها، تستفسر عن الفار: متى خرج؟ ماذا فعل؟ هل أكل؟ وكأن لم يعد لديها شيء في الدنيا غير هذا الفأر، لهذا قرر الخلاص منه بكل وسيلة، : يا لعين، واخيرا وقعت في الفخ! سانتقم منك اي أنتقام، لا بل منها، من التي تاتي يوميا لزيارتك دون أن تبدي أيّ اهتمام بي، سأقتلك وارمي جثتك في الزبالة. نشاهد هنا الفرق بين تفكير الرجل وتفكير المرأة تجاه الحياة، الرجل يحاول كسب ود المرأة بكل الطرق المتاحة أمامه، اما المرأة فانها توزع حنانها تجاه الاشياء، فهي تزوه بحجة الفأر وتقدم عطفها عليه ولم تفكر ان تحرمه من هذا الكائن الذي يشغل بعض وقته، مع انها تتواصل معه من خلال الفار، اما هو لم يفكر بغير الاستحواء على الفتاة.
قصة ( امل) / ص 57/ مجمل أحداثها تتزاحم فيها الاماني والاحلام، الحوار يلعب دور كبير وواضح في تناقل الافكار بين البطلين، أمل والسارد، وحلبة الحدث تسقط ضمن الغربة،وما ينعكس على الفرد من أفكار جديدة بالنسبة له مع الايام لتصبح صانعة لشخصية المغترب رغم عنه، وتشكل منه انسان مضاف له مع ما يملك من افكار، من مواقف وتناقضات في حياته.
وقصة ( ما اسم هذه الوردة؟ ) / ص 73/ قصة ايحائية في التشبيه والوصف والتصوير والسرد الخطابي، مثلاً الثياب البيض تمثل له الاكفان، وملاحظة العلامات المعروفة، ومحاولة معرفة ما يجهل مثل اسم وردة تشبه رائحتها زهوراً في قريته، ولم يعرف اسمها، وتصوير قطفه للوردة وكيف انه امتلكته رغبة يتقديمها لحبيبته الجالسة أمامه، لتكون شاهدة على لقائهما، وكيف هي كان جوابها، انه سيعاقب لقطفه الوردة ويدان، وتشبيهه ارتجاف الكشك المعدني للهاتف، بقوائمه الثلاثة، لثلاث اضواء المسرح، والحوار الجاري بين رجل وامرأة، وكيف ادخله ضمن الحدث بضبابية لها سقف زمني متقاطع مع الواقع ومتجانس مع المضمون، والشخصان من اصل مدن المهجر، نعلم ذلك من اسميهما، السيد مكدونالد، والسيدة تويوتا، والخطاب الذي يمرر من خلاله لغة تعبث بها رائحة السياسة، وايحائية السرد في الحوار وما يحدث في عالمي الشرق والغرب، مفرداته دالة على معنى ما، متداخل فيه قيم الدين والاخلاق والحب ونوع الحياة، والعلاقات العابرة، السيدة تويوتا تقول: بل سمعت، وعبر اسلاك تجري أحاديث اسوأ، تجري المؤامرات والخيانات وتفضح اسرار، وقد تشعل حروب، كلام السيد مكدونالد: كسالى، يجب ان يستثمروا هذا الوقت في كسب الدولارات، لا في أحاديث لا طعم لها، ويقصد ( الحب)، السيدة تويوتا: لكل شيء طعمه عند متذوقيهن البعض لا يرى في رنة الدولار موسيقى. محور القصة جله يحمل صفة العلاقات الانسانية والاجتماعية، وكيف تلعب السياسة والمصالح دورها في خلق وتفكك كل الادوار الاخرى، والفرد يكون تأثره حسب بيئته وافكارها والضغوط السياسية التي يعيشها.
أما قصة ( عطل مفاجئ في مطار ميراييل) / ص 83 / قصة واقعية لا تحمل اي جديد في احداثها، تصوير لعملية تتعلق بلغة الواقع والمكان وكيفية استخدام التوظيف في شروط القصة، والجوانب الفنية للنص القصصي/ موضوعها يناقش حدث لا هو غريب ولا هو وعادي، من واقع الشباب المهاجر، من اجل الوطن والاغتراب والرغبة بالعودة.
قصة ( الحظ) وهي الاخيرة في مجموعة ( مدن وحقائب) قابلة ان تكون حاملة للموروث والحلم والخيال، والحالة السايكولوجية عند الفرد الطموح، وهي هموم الانسان العادية بل في كثير من الاحيان تعتبر من الهموم اليومية لدى الانسان الشرقي، أو حتى عند اغلب البشر، والتطير والتخيل والاستمرار في الرغبة بامتلاك حالة من حالات الخوارق، والمجهول الذي كل انسان يكن لديه رغبة ان يعيشها حسب هواه، بغض النظر عن الصورة القائمة في كسب المعرفة، القاص سعدي المالح، كما عرفته من خلال مجموعته مدن وحقائب، وحبه الشديد للوطن وما عاناهُ في الغربة، لها واقع مختلف بكل صورها السردية والخطابية، عن هذه القصة، فيها انسان عادي يطمح ان لواقع افضل، ولم يعترف في حياته ابدا ان يكون الحظ هو مسار خطواته، ولم يفكر بهذه الوسائل البدائية في نصب أهدافه عليها، بل بالعمل والمثابرة، من عنوانها، ياخذنا القاص للتامل في لحظات الزمن المقبل، ويذكرني يحكاية سمعتها من ايام الطفولة وهي من التراث، عن شخص ذهب ليبحث عن حظه واعاد بدونه، لتصوره ان الحظ شيء ملموس، مع انه صادف في يجواله كثيراً من الامور التي لو تفكر بها لخدمت طوال حياته، عاد خاوي اليدين، لأنه لم يملك المعرفة بالحياة والوعي الفكري، وهنا تجد سعدي المالح، قد ادخل بطله كل التخيلات، وسحل قارئه سحلاً الى الحظ المرفوض من قِبَلِهِ، فنجد بطله يصحا من نومه على صوت رنة الهاتف النقال، وصوت زوجته تساله عن سبب تأخره، يذكر ذلك في الموقف التالي: فاخذتني سنة من النوم، عندئذ رأيت رجلاً يركض وحشد كبير من الناس يركض وراءه، سألت: من عشاه يكون؟ قالوا لى انه الحظ. وهؤلاء الناس يركضون للحاق به ).
مع انه لا يؤمن بالحظن ولم يفكر في يوم من الايام ان يتابع شيء اسمه الحظ، إلاَّ أنهُ في تلك اللحظة نسي كل شيء والحظ الذي لم يؤمن به طوال حياته، ربما تكون فرصة النجاح على يد هذا الرجل الذي سيحول مسار حياته، كما فهم من مديره الذي طلب منه الاهتمام بالموضوع، وفي هذا المقطع يقول: أنني طوال اليوم ابحث عنه وانتظرهُ، وهو يركض هنا بعيداًلا يأبه بي، وهذا الحشد من الناس يركض وراءه بهذا اللهاث المضني!التحقت بالحشد وركضت معه وللمرة الاولى اكتشفت انني اعدو بخفة سريعاً ولا اتعب،... ومددت يدي لأمسك به دون أن افلح.
ومع ذلك أصررت على الامساك به، واستعددت جيدا، أن استجمعت قواي، ولا أعرف من أين جاءتني تلك القوة فوثبت عليه كالنمر، فظفرت بطرف سترته، واذا بهاتف النقال يرن: صحوت من غفوتي، كانت زوجتي على الطرف الاخر من الخط تسألني عن سبب تأخري.
سعدي المالح القاص الروائي.
كاتب وصحفي ومترجم. دكتوراه في الادب العربي المعاصر. وما جستير في الابداع الادبي. له اربع مجاميع قصصية وثلاث روايات.
مجموعة ( مدن وحقائب ) استخدم فيها اللغة ضد لغة الحديث العادي، متعددة الابنية، والدلالات تدور حول حياة المغترب ، وعشقه الذي لا يهدأ لحب الوطن وما يحاصره من عذاب الغربة، للمرأة دور كبير في حياة القاص منه المختفي والداخل في خصوصية حياة المغترب، ومنه المعلن والمؤكد على ضرورة وجودها ككائن لها خصوصية انسانية متميزة بها كالحنان والعاطفة، في مجمل قصصه للمرأة مكان في حياة الرجل، مع وجود اللمسات الانسانية، ومعطيات خبراته المنطقية لنصوصه، واضحة من العناوين، تشكل الموضمون وقدرته على حث المشهد الخطابي والبصري، من حيث العمق الذي يؤثر في ديناميكية الحدث، تحمل لغته التحايل على الصور في خلق أكثر من تفسير مرتبط بتوظيف العملية التخيلية، وتحويل الخيال الى مرجعيات تأملية، واحساسات انسانية مساحاتها بيضاء، باختياراته للمشهد وتركيباته الصورية.