كلما تذكر وحيد ذاك الموقف ، انفجر ضاحكاً من نفسه ، مغامرة لم يكن يتوقع نجاحها ، أهي مصادفة أم شجاعة ، كان الوقت في آخر الليل ، و قد بدا السوق هادئاً ، إلا من موسيقا تائهة انطلقت من مسجلة أحد بائعي الفواكه ، تهف نسمات الصيف الهادئة في أجواء المدينة ، حين لاحت سيارات جيب عسكرية تسير بهدوء في شارع المدينة الرئيسي ، حتى وصلت ساحة الخضار ، فنزل منها مجموعة من الجنود ، و بيدهم أسلحتهم ، تغطي سحنتهم إمارات الغضب ، لم يلتفت إليهم أحد ، إنما راقبتهم أطراف العيون ، تجولوا بين أزقة الشوارع الضيقة التي تتصل بالساحة ، كأنهم يبحثون عن شيء ما ، ثم اتجهوا نحو عربات الخضار ، إيذاناً بأمسية كرنفالية من أماسي المدينة التي اعتادت على معايشتها معهم ، أمسك أحد الجنود بأول عربة صادفته و قلبها صائحاً : غو باك ، و أخذ زملاؤه يقلبون البقية يميناً يساراً ، توقف الجميع يتابعون ثورتهم ضد أرزاقهم بدون أي احتجاج ، صاح أحد الموجودين هازئاً :
_ إنهم تعيسون !
كانت هذه عادتهم ، كلما خسروا زميلاً لهم على أيدي الرجال الملثمين ، صبوا جام غضبهم على السوق ، لم يتركوا أي عربة سليمة خلال أقل من نصف ساعة ، حطموا زجاج المحلات المجاورة ، و كان وحيد يتابع المشهد ، و قد توقف أمام محله الكائن قبالة الساحة ، يراقبهم عن كثب ، يستفزه الصمت لينطق ، أدرك أن الهدف القادم محله ، ركض إلى جيرانه ، حاول أن يستثير همتهم ، لكنهم أبوا هذه المجازفة و اعتذروا قائلين :
_ ليس الآن .
فتركهم و هرول نحو محله ، فكر ملياً ، إما أن يتركه و يرحل ، و إما أن يغامر و يدافع عنه ، لقد طفح الكيل ، و هذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها هؤلاء الأوغاد لهم ، لكن من أين له القوة ليجابه ثيراناً هائجة عجز كل أصحاب السوق عن الوقوف في وجهها ، و هو شاب غر في أوائل العشرينيات من عمره ، ألقى نظرة سريعة على بضاعة المحل ، إخوته الصغار يتضورون جوعاً ، و والده مقعد ، لن يسمح هذه المرة رؤية هؤلاء المعتوهين يعيثون بها فساداً ، لم يبق أمامه سوى الدفاع عن رزقه ، تلثم بشماخ والده ، أخرج من تحت دكة كرسيه شيئاً أسوداً ، أمسكه بقوة ، و جلس ينتظر مجيئهم ، مخفياً ما بيده تحت الطاولة .
أدرك في طيات نفسه مخاطر و محاسن فعلته ، إن كانت موفقة فإنها ستقضي عليهم ، و إن أخفقت فستكون نهايته المحتومة ، و لن يكون بإمكانه الفرار ، كان يراقب اثنين من الجنود يقتربان منه ، لم تبق سوى أمتار معدودة و يصلان إليه ، انتفض قلبه بشدة ، عرف أنها القاضية ، بينما انشغل كل أصحاب السوق بلملمة شتات خضارهم و فاكهتهم الملقاة عل الأرض ، فجأة جمد الجميع في مكانه حين تناهت إلى أسماعهم أصوات الرصاص ، خيم الصمت للحظات ، ثم دار الهرج و تساءل الجميع :
_ ماذا يحدث ؟
رد آخر :
_ الصوت قادم من ذاك المحل .. و أشار بيده إلى محل وحيد .
بعد قليل شاع خبر مريع ، لقد قتل اثنين من أفراد الدورية ، و لاذ الفاعل بالفرار ، صدمة قاتلة في نفوس الجنود ، جعلت حالة من الجنون تمسهم ، ولعلعت أصوات الرصاص مجدداً في الساحة ، و شوهد الجنود يخلون اثنين من زملائهم ، بينما تحصن الباقي خلف سياراتهم يراقبون المكان بحذر و يطلقون النار على كل شيء يتحرك ، و تقاطرت إلى الساحة العربات المدرعة ، و احتدم الموقف ، ثمة أشخاص مجهولون كانوا يطلقون النار بين الفينة و الفينة على الجنود المتحصنين خلف آلياتهم ، فيسقط منهم قتيل هناك و جريح هنا ، اقترب جندي من أحد المواطنين حتى أمسى بجانبه ، أمسك رأسه بقوة و جذبه نحوه ، و صاح في وجهه بكلمات غريبة ، يريد الشخص الذي هاجمهم ، لحظات و خر الجندي صريعاً ، لم يصدق أصحاب السوق ما رأوه ، لكن شعوراً بالغبطة و الثقة خيم في قلوبهم ، حين انكفأت القوة تنسحب سريعاً من الساحة ، ترك الناس عرباتهم و محلاتهم ، و تجمهروا يتساءلون ، قال أحدهم :
_ بطل !
رد آخر :
_ لو أننا نفعل ذلك كل مرة لما تجرؤا علينا .
اقترح آخر :
_ لا تذكروا اسمه .
و عاشت المدينة من يومها آخر أمسية ، و الكثير من سكانها لا يعرف حتى اليوم من هو البطل الذي حرم على المحتلين أن تطأ أقدامهم أرضها .
آخر تعديل عواطف عبداللطيف يوم 06-19-2010 في 03:11 AM.