اغتراب الذات..
قراءة في قصيدة الشاعرة إسراء السلطاني (يا فلكاً يدور)
وغريبةً أمسيتُ
أنسجُ من سواد الليل ِ
معطف غربتي
وأدور...
أبحث عن مثاليات أجدادي
وبؤس طفولتي
حتى أُري للعالمين هويتي
أمشي.. وتمشي بين أهدابي
مسافاتٌ بعيده ْ
وهناك في فكري مساحات
تتوه بها.. جميع معلقات الدهرِ
والأشعار .. والقصص الفريدهْ
وإذا مشيت بقية السنواتِ
ذلك ان قومي قد أرادوني
بأن أبقى طريدهْ
أمشي فيمسح جبهتي خجلي
وأترك لوعتي طللي
وتبدو بهجة الأيام في عينيَّ
أنفاسُ الربيعْ
أحلى رمال الزهر ِ
في بحرٍ صعوباتي تضيعْ
يلوي ذراعي كفُّ أغربَ غربةٍ
سنَّ الدجى قانونها
ومن الضياع يخاط ثوب جنونها
يهدونها صلصال روحي غربةً
فتظل تمرح باكتشاف فتونها
واصلت سيري في الطريق الوعرِ
حافية القدمْ
الصخر قبّل باطن القدم اشتياقاً
ثم سال الشوق دمْ
وعلى جراح أصابعي يمشي الألمْ
حتى انتبذت من المكان قصيهُ
فتقاسمت أرض المكانِ
الحزن والزفرات من صدري
فسال الدمع منها...كي يفجّر
منبعاً تحتي.. تناثرَ ماؤه الفضيَّ
حين شربتهُ
وبكى عليّ الجذع حين هززتهُ
وأتيت قومي بالقصيد حملتهُ
نطق القصيد بأنّ جلّ حقيقتي
هو إنني...
متغربٌ ما بين أحضان الوطنْ
هو إنني... أعدو ويسبقني الزمنْ
هو ان قلبي القفل
والمفتاح موجودٌ
ولكن..
لست أدري حلّه في كف منْ
بداية تحس وأنت تقرأ هذا النص ان الشاعرة -وقد اعتمدت بحر الكامل- تجد صعوبة في الخلاص
من الوزن الخليلي العمودي الذي بات واضحاً على مجمل قصيدتها منذ البداية إلى حد
الالتزام أدى ذلك إلى تحديدها وعدم السماح لها بحرية الحراك في هذا النص الذي كشفت فيه
كل ما يعتريها من غربة ذاتية طغت على كل مفردة فيه
وغريبةً أمسيتُ
أنسجُ من سواد الليلِ
معطف غربتي
أتت الواو هنا تتمةً لمسيرة طويلة قطعتها الشاعرة بروحها المغتربة لا شيء يسلو غربتها
إلا سواد الليل ذلك الحالك الحزين الذي نسجت منه معطف غربتها، وما دام معطفاً نعرف أنه
ليل بارد موحش، وهو الآخر غريب عنها تسير فيه وتحمل بين جنباتها هذه النفس المعذبة في
هذا السفر نحو المجهول
وأدور...
أبحث عن مثاليات أجدادي
وبؤس طفولتي
حتى أُري للعالمين هويتي
إذن هو ليس طريقاً مستقيماً وإنما دائرة مفرغة من الأفكار حالما تنتهي من التوغل في
أحراشها حتى تعود مرة أخرى إلى نقطة البداية في رحلة البحث عن الذات بين مثاليات
الأجداد والأعراف تلك التي بدأتها جداتها حين سلمْن من الوأد لتكون هي خطيئة إحدى
الناجيات لترى ان وأد الجسد وبراءة الطفولة شيء واحد، فتحاول إثبات إنسانيتها المضاعة
(للعالمين) بهذا المستوى الشمولي للمفردة
أمشي.. وتمشي بين أهدابي
مسافاتٌ بعيدهْ
وهناك في فكري مساحات
تتوه بها.. جميع معلقات الدهرِ
والأشعار .. والقصص الفريدهْ
تشتت نابع من الأعماق يطغي على مفردتها لتحاول فهم ما تمرُّ به من ضياع دونما جدوى،،
مساحاتٌ غير منتهية من التيه في الأفكار وانعدام الطموح والتساؤل الأبدي عن المصير
المعلق بين معيارية الأنسنة والانقياد لواقع مرْ، وكذلك استحضار لذلك التراث الكبير
بمعلقاته وقصصه والشعور بأنه جزء من تكوين ثقافتها والرغبة باستقلالها الوجودي
وإذا مشيت بقية السنوات
ذلك ان قومي قد أرادوني
بأن أبقى طريدهْ
أداة الشرط(إذا) هذه جاء استعمالها هنا لتكون بصيص أمل لرغبة مكبوتة في ان يترك القوم
سجينة أعرافهم كي تحيا بذاتها ولكن مع ذلك تعرف أنها ستكون قد صبأت عن قانون القبيلة
فيقرروا لها العيش طريدة وربما منبوذة لأنها حاولت المروق من هذه الشرنقة
أمشي فيمسح جبهتي خجلي
وأترك لوعتي طللي
وتبدو بهجة الأيام في عينيَّ
أنفاسُ الربيعْ
بعد تلك الحيرة وذلك الخوف والتردد والتساؤل يأتي هنا التغيير المفاجئ في السياق وهو
الانفلات من كل شيء ورغم كل شيء والسير في الطريق الذي خطته لنفسها متحديةً جميع
مخاوفها، سائرة بعفتها يمسح جبينها الخجل ولا تلتفت إلى طلل لوعتها، واضعةً البهجة نصب
عينها لتكلل أيامها تجاه غدٍ مشرقٍ
أحلى رمال الزهو ِ
في بحرٍ صعوباتي تضيعْ
وصف الزهو هنا بالرمال إشارة إلى كثرته والإحساس الغامر الذي يملئها غير عابئة بالأشواك
التي تجر ردائها في ذلك الطريق الموحش لتلقي صعوباتها في بحر اللامبالاة بزهوٍ وحرية
يلوي ذراعي كفُّ أغربَ غربةٍ
سنَّ الدجى قانونها
ومن الضياع يخاط ثوب جنونها
عودة إلى الواقع المرير بعنف بعد لحظات الحلم الجميل الذي غشيها لتستيقظ منه على كابوس
غربتها مرة أخرى حيث ان ثنائية الليل والغربة هي الثيمة التي تتمحور حولها القصيدة
وبدأت بها، وفي هذا المقطع تعيدها إلى هذه المتلازمة كأنها وضعت قلبها بين قوسي الغربة
والدجى
يهدونها صلصال روحي غربةً
فتظل تمرح باكتشاف فتونها
كم هي طيعةٌ روحها بكف الوجع كالصلصال ليشكلها إلى أي آنية تحمل ملامح الضياع، فقومها
أهدوا هذه الروح البريئة إلى نصال الغربة لتستكشف أماكن الفتنة لتعيد الشحوب إلى
نظارتها
واصلت سيري في الطريق الوعر
حافية القدمْ
الصخر قبّل باطن القدم اشتياقاً
ثم سال الشوق دمْ
وعلى جراح أصابعي يمشي الألمْ
مقطع مرتبك مباشر كأن الصورة هنا خانتها فاستعاضت بكلمات بسيطة لم تتجاوز لسانها لتصف
طريقاً لا تنتعل من مقوماته شيئاً ولا تحمل من زاده حتى الفتات حدا بالصخر ان يستقبل
باطن القدم البضّ ليحفرها كيفما اتفق ويترجم هذا التلاقي دماءا تحسس أصابعها الألم
وجاءت-ربما- هذه الصورة بعد تلاشي جذوة الانسياب
حتى انتبذت من المكان قصيهُ
فتقاسمت أرض المكان
الحزن والزفرات من صدري
فسال الدمع منها...كي يفجّر
منبعاً تحتي.. تناثرَ ماؤه الفضيَّ
حين شربتهُ
وبكى عليّ الجذع حين هززتهُ
إن كانت قد أخفقت في الدخول إلى هذه الصورة فإن بناء الوحدة الموضوعية لهذا المقطع جاءت
مقصودة حيث ارتبطت الصورة المريمية ارتباطا مباشراً بمطلع قصيدتها حينما سارت وحدها
تعاني غربتها، حيث النموذج المريمي هو الأقرب إلى ذاتها فنأت بنفسها عن هذا الواقع
المؤلم وحيدة لا تجد من يواسيها ولا من يسمع ندائها إلا الأرض التي جلست عليها فقاسمتها
أحزانها وزفراتها واختناقها بما تحمله من هم وحزن فينهمر دمعها ذي الماء الفضيّ الذي
تناثر حين شربته كأن لم يتفجر لشفاء غليلها لأنه ببساطة من دموعها فهل تروي دموع الغريب
ظمأ وحدته!
وأتيت قومي بالقصيد حملتهُ
نطق القصيد بأنّ جلّ حقيقتي
هو إنني...
متغربٌ ما بين أحضان الوطنْ
هو إنني... أعدو ويسبقني الزمنْ
فاستحضار الرمز الديني هنا أنتهى بأن جريرتها تجلت بحقيقتها الكبرى وهي(القصيدة) ذلك
الجرم الأبدي الذي لا ولن تتخلى عنه وأتت تحمله كواقع لا مفر منه فعليهم قبوله كما هو،
وحين حدثوه وقرأوا ما فيه وجدوا أنه مغترب رغم كونه في حضن الوطن، مغترب مثلها فهو منها
وإليها لكنه جهل المكان في هذا الجسد المترامي الأطراف زماناً ومكانا ليكون تساؤلها
وضياعها الأخير
هو ان قلبي القفل
والمفتاح موجودٌ
ولكن..
لست أدري حلّه في كف منْ
آخر تعديل عادل الفتلاوي يوم 10-01-2009 في 01:05 PM.
حقيقة لم أتعرف على اشتغالات الأستاذ الفتلاوي من قبل
ولكني الآن ، تعرفت على بعض ملامح أدبه
وأتمنى مصافحته ، والتوغل باشتغالاته الأُخر
كوني أعتقد جازماً بأني سأستمتع كثيراً.