أنت تجري والذعر وراءك يجري والرصاص يتبعكما...
وأكوام الجثث الملطخة بالدم والطين تعيق سيرك...
كل شيء حولك يتحرك في جنون...
وسط الشارع توقفت والذعر قد سكن جوانحك... لم تستطع أن تحدد وجهة لسيرك فالغبار المثار ودخان الحرائق ملآ عينيك ولم تعد ترى شيئا, وإلى أذنيك تصل أصوات الصراخ والنحيب من كل حدب وصوب...
لحظات مرت وأفقت على صراخ إمرأة لم تتبين غير بريق عينيها وبطنها البارز...
وهي تشدك -بكل ما أوتيت من قوة - من قميصك الملطخ بالدماء والأوحال...
( تحرك يا ... لماذا تقف كالأبله ؟ إنهم يذبحون الجميع! انج بنفسك).
بين الأنقاض غابت تلك المرأة لكن كلماتها أعادت الحركة إلى جسدك المنهار فرحت تركض وتركض...
وأنقاض المنازل وأكوام الجثث تشل حركتك وتعيق ركضك وبريق تلك المرأة يتبعك.. يملأ عينيك ويخالط أعصابك...
من تكون تلك المرأة ؟ قلت في نفسك...
لا وقت لديك للتفكير أكثر... فقد كان لزاما عليك أن تلحق بالجموع الهاربة...
وطفقت تجري بخطوات أسرع لكنك لم تعد ترى غير بريق أضاء لك طريقا ضيقا وسط أكوام الرماد...
دخلت شارعا آخر وولجت أول مقهى قابلتك...
هدأ روعك قليلا بعد أن انزويت في أحد أركان المقهى.
ورحت تحدق في التلفاز وتصيخ سمعك لمقدم نشرة الأخبار:
- هذه أبسط جرائم الضابط الرهيب, لقد خطب فينا قبل الخروج إلى المذبحة:
''اسمعوا يا فرقة الشيطان: إننا معشر اليهود كمعشر القردة التي تترك قلوبها في مخادعها كلما همت بالخروج كما تقول أساطير العرب وكتبهم المدرسية, فلا تدخلوا المخيم حتى تتركوا قلوبكم خارجه!
لا تتركوا الرحمة والشفقة تفسد عليكم يومكم...
أطلقوا النار على كل شيء يتحرك... سيقولون عنا مخربين, لا يهمنا ذلك ولا تهمنا الأعراف الدولية.. نحن نعمل بوصايا التلمود...
إن المخرب الجيد هو المخرب المميت...
نحن نحب السلام... نحن نحب الفلسطينين ولكنهم يكرهوننا...
إنني أشعر بالألم الشديد عندما أرى عربا أو أتحدث إليهم... ولا أعرف لماذا ولد هؤلاء ... إن هتلر الكلب كان عليه إن يحرق هؤلاء بدل جريمته بالآباء والأجداد!!''
- حدثنا عما قام به الضابط الرهيب عندما دخلتم المخيم ؟
- لقد قام بتحطيم رؤوس الرضع على الجدران واغتصاب الفتيات... وكانت خطاه جد متثاقلة وهو يتحرك – تحت عبء بطنه المتدلية- بين الجثث والأنقاض والأجساد النازفة, ودماء البشر تعلو نعله اللامع وهو يصيح كالحمار:
أنتم كلاب... ألم تموتوا بعد ؟!!
- هل يمكنك أن تصف لنا المخيم بعد المذبحة ؟
- نعم... لم يبق بعد المذبحة غير الدخان والعويل والدموع والدماء ورائحة الموتى وأكوام الجثث المنتشرة في كل مكان...
كل ما هنالك جثث.. قد تشابكت أطرافها.. أو محيت أعضاؤها والغريب في الأمر أن أسراب الذباب لم تكن تحوم فوق الجثث وإنما كانت تطاردنا نحن كأننا الجثث...
وعندما غادرنا المخيم اقتدنا بعض النساء وما كاد يراهن الضابط الرهيب حتى صاح فينا:
جئتم بالنساء! أريد الرجال!
قلنا: قتلناهم سيدي...
صاح: تهانينا... تهانينا... إنها مذبحة سيسجلها التاريخ... تهانينا...!
- أيها السادة... ننهي هذا الموضوع الخطير... لنعرج على موضوع آخر ... إنه موضوع الحواجز...
نترككم مع هذا النقل المباشر ثم نعود بعد ذلك.
- لماذا بطنك مرتفع هكذا ؟ ... إنك تحملين متفجرات!
- لا.. لا... إني حامل!
- حامل... مستحيل... وما دليلك ؟
- ها هي الأشعة!
- ها... ها.. أشعة... ارفعوا ملابسها لنتأكد من حملها!
عند هذا الحد... وقبل أن ينتهي النقل المباشر انتصب البريق بين عينيك مجددا وبصوت انحبس في حلقك صرخت:
زوجتي.. زوجتي... زوجتي يا صلاح... زوجتي يا مسلمين زوجتي يا عرب ولا أحد سيسمعك منهم!!!