إلى جميع الحيوانات
الضالة، عسى أن ترعوي!
أنا خلد، ولا أرى داعيا لذكر اسمي لأنه لا يغير من الأمر شيئا، فنحن معشر الخِلَدَة نتشابه كثيرا في أعين الآخرين، ولكن المشكلة تكمن في أن الكثير منهم لا يعرف ما هو الخلد! فنحن لا نُرى لأننا نعيش في جحور، وحياتنا عبارة عن أنفاق لا نهاية لها، نعم، لا تعجبوا، فنحن نعيش تحت سطح الأرض، والآخرون لا يعرفون غير ما يرونه بأعينهم، ولذلك هم غير ملامين، ولكني آخذ على من يعرف بوجودنا، تصوره أننا بلا أعين أو آذان!!! صحيح أننا لا نرى عيوبنا، ولكننا مبصرون عندما يتعلق الأمر بعيوب الآخرين ومحاسن الإناث، فهل نحن بلا أعين؟! وكذلك نحن نتصرف عندما يُوجه إلينا نقدا، وكأننا لا نسمع، فنعطي انطباعا بأن لا آذان لنا، ولكننا نستخدم حاسة السمع بأقصى مداها عندما تكون هناك مغنية تغني أو محدث يتشدق في دواوين جحورنا الكثيرة، وهكذا تعرفون بأن لنا أعين وآذان، ولا أدري من أين جاء هؤلاء، بتصوراتهم الغريبة؟! ولكن، هذه ليست تصورات، بل هي حملة مغرضة ضدنا، الهدف منها التشكيك بفحولتنا التي هي أعز ما نمتلك على الإطلاق، وهذا ما يجعل الأمر تهديدا لأمننا الخلدي. ولكن رب سائل يتساءل، "و ما دخل العين والإذن بالفحولة؟!"، اسمحوا لي أن أقول لمن يخطر بباله مثل هذا السؤال، إنه من أشد الحيوانات سذاجة، لأن العلاقة بيّنة وواضحة، فمتى يشتهي الذكر، الأنثى؟. عندما يراها بالطبع، ويتعرف على محاسنها بالنظر، لتبدأ الطبيعة بعد ذلك بإيقاظ الأجزاء المسؤولة عن تلك التفاعلات الجهنمية التي تقلب كيان الحيوان وتفقده عقله الذي يخلو عندها من كل الأفكار ما عدا اثنتين فقط، هما اللذة والإشباع!!! وهكذا ترون أن العين هي المسؤولة عن الطاقة الجنسية في جميع الحيوانات. أما الأذن، فللحقيقة أقول أن دورها ثانوي، ولكنه مهم أيضا، فالحيوان منا لا يستطيع أن يرى كل الإناث في العالم ولذلك فإن حديث الآخرين عن تجاربهم العاطفية ومغامراتهم يجعله يتعرف على أنواع الإناث التي لم يعهدها من قبل، ويسهل أمامه مهمة البحث عن ضالته في الأماكن المناسبة، وبأسرع وقت ممكن، وبهذا يستطيع أن يحطم الأرقام القياسية في عدد الإناث اللواتي تعرف عليهن، بعمق! خلال حياته القصيرة. وهذا يوضح لكم حقيقة أن الحيوان الأصم هو حيوان ناقص الفحولة، حتى إذا كان مبصرا. وبهذا أيضا، تتوضّح أمامكم أبعاد المؤامرة الخبيثة التي نتعرض لها.
كما تعرفون. ولكن! ما الذي أردت قوله عندما دخلت هذا المدخل؟! يا لنعثل لقد نسيت!!! آه، لكم ننسى من أشياء عندما نتحدث ونحن منفعلون! وأنا لا أخفي عليكم منفعل الآن كثيرا، ولكن قبل أن أنسى مرة أخرى أريد أن أذكر لكم حقيقة يجب أن تعرفوها، فنحن نعيش تحت الأرض، ولكن لا تتصوروا أننا كنا كذلك طوال حياتنا، فقد سمعت أكثر من مرة بأن أجدادنا عندما كانوا يعيشون فوق الأرض، كانوا. ولكن، دعونا الآن من أجدادي، فحديثهم يطول، وأنا أريد أن أحدثكم عن أشياء أخرى ولكني فقط عاجز الآن عن تنسيق أفكاري المتزاحمة في رأسي وأحتاج إلى وقت للتمكن من ذلك، فهلا تحملتموني قليلا؟! ولكن لا بأس الآن ودعوني أقول إن لموطن الخلدة الذي أعيش فيه شأن عجيب! ولا أقصد بالعجب أن الأشجار في وطني تنمو بالمقلوب كما قد يتبادر إلى أذهانكم، كلا ليس هذا هو ما أقصده (وبالمناسبة فإن وطني لا أشجار فيه!) فهو شبيه ببقية الأوطان من ناحية الأبعاد والمقاييس، مع أخذ خصوصية الظروف والأحوال الجوية من طقس ومناخ، بعين الاعتبار، ولكن وطني عجيب بأحوال مواطنيه، وحتى أنا لا أسلم من عجب ولعلكم لاحظتم التناقض الذي أعبر عنه في أقوالي أحيانا، وهذا راجع إلى حقيقة أني أؤمن بأشياء كثيرة ولكني أشعر أن فيها الكثير من اللامعقول!!! ولذلك لا أعرف متى أكون مصيبا أو أكون على خطأ!!!. وطني عجيب وهو مليء بالغرائب التي لا يمكن أن يفهمها إلا الخلد الفطن، وأنا لا أريد أن أدعي بأني أفطن الخلدة، ولكني على الأقل أمتلك من الذكاء ما يجعلني أميّز الغثّ من السمين وأنسب المعلول إلى العلّة، وأعرف إن الخلدة أذكياء بطبعهم، ولكنهم يعبرون عن غباء كبير لعدم إدراكهم حقيقة الدرك الذي وصلوا إليه، سواء إذا كان ذلك بفعل فاعل غريب، ولغرض ما في نفسه، أو بسبب شذوذ تصرفاتهم وغرابتها!!!. إن موطننا غني جدا فهو يقع تحت الأرض وهذا يعني أننا نمتلك جذور النباتات، والجذور مثلما تعرفون تكون أحيانا أغنى أجزاء النبات، وهذا مصدر مهم من مصادر ثرواتنا المتعددة، وحتى جذور النباتات التي لا تكون أغنى أجزائها، يمكن الاستفادة منها بطرق متعددة، فمنها نستقطر أخطر أنواع الكحول التي تكفي لو وزعناها على حيوانات العالم، لاسكارها جميعا، ولكننا لا نفعل لأننا مفرطين في كل عادة سيئة ندمنها، ونخاف أن تنفد خمرتنا يوما، فنضطر للنوم( صاحين)، فتقض الكوابيس مضاجعنا عندما نتذكر مآسينا، ولذلك ترونا نجلب خمور الحيوانات الأخرى بأغلى الأثمان لنشربها لكي ننام سكارى ونحن مطمئنون على أمننا النفسي.
إن أمننا النفسي يرتبط بالأمن الخلدي ارتباطا وثيقا لأنه يجعلنا ننسى معاناتنا وهمومنا فلا نفرط في التفكير الذي يجعلنا نتعرف على الغد الذي يخطط الآخرون لفرضه علينا، الأمر الذي يفرض علينا أن ندفع مخططاتهم عنا، وهو ما قد يعني (إعلان الحرب) عندهم، فيتحالفون ضدنا ويبيدونا عن بكرة أبينا، ولذلك فكر العقلاء منا. آه لقد تذكرت الآن، فأنا عندما تحدثت عن الأعين والآذان كنت أريد أن أمرق من خلالهما إلى الحديث عن البصر والبصيرة، فكما تعرفون، أن البصيرة هي غير البصر، فإن كان الجميع يتمتعون بالثانية فإن الأولى غير متاحة للكثيرين، ومن الحكمة أن أقول إن المبصرين لا يستفيدون كثيرا من نعمة البصر التي يمتلكونها لأنهم يفقدون الاهتمام بالأشياء التي يرونها بمرور الوقت بسبب الاعتياد، فيضيعون درب الحقيقة، أما أصحاب البصيرة فأنهم هم الذين يحددون المسارات التي توصل إلى الحقيقة بالجهد الراقي الذي يمارسونه بعملية التفكير، وببصيرتهم التي تجعلهم يرون ما لا يراه الآخرون. على كل حال، لقد قلت أن العقلاء منا فكروا بأن يرصّنوا أمننا النفسي لكي يبعدوا شبح الحرب عنا، فاستخرجوا من الجذور أنواع لا تحصى من المخدرات، منها ما يدخن، ومنها ما يتناول عن طريق الفم، أو الطرق الأخرى، ولم ينسوا أن يجلبوا مخدرات الآخرين لكي لا يتأثر احتياطنا الإستراتيجي من المخدرات، ولذلك ترى من لا يثمل منا بالخمر، مسطولا يترنح في مشيته بفضل المخدرات، يعانق الجدران ظانّا أنها محبوبته!!! ولا فرق في ذلك بين غني وفقير إلا بثمن السموم التي تجعله كذلك. وبالمناسبة أرجو أن لا تتكون عندكم انطباعات بسبب حديثي هذا، أنا لم أقصدها، ثم تتهموني بالتناقض بسببها ( وأنا قد عانيت كثيرا من الافتراضات المسبقة حتى الآن)، فأنا قلت أن بلادي غنية، ولم أقل أن الخلدة أغنياء، وهناك فرق كبير بين القولين لو عرفتم مداه لقل حقدكم على الخلدة بسبب تصوركم أنهم أغنياء جميعا، وأنهم يمتلكون ما لا يستحقون!!! صدقوني أنا منفعل جدا اليوم ولذلك لم أجد في نفسي الرغبة في تناول الخمر أو المخدرات، وقررت أن أحتمل عبء التفكير بكل ما قد يذهب عن نفسي سكينتها لكي أستطيع أن أخاطبكم بكل صدق، وما ذكرته لتوي عن فقر الكثير منا، هو الصدق بعينه.
أنا لست بالخلد المصاب بجنون الطبقات أو ( الطبقة نويا ) كما يعجبكم أن تطلقوا على هذه الحالة، فأنا لست بالفقير لكي أحقد على الأغنياء، ولست بالغني لكي آخذ حذري من الفقراء وأتصور أن لا هم لهم غير مراقبتي بحسد، أو انتهاز الفرص التي يمكن أن تتاح لهم للانقضاض عليّ وسلبي ما هو حق لي، بل أنا واقف بأمان في منطقة الوسط بينهما، فلا أحسد ولا أخاف، ولكني أريد أن أقول بكل حيادية أن الأغنياء منا هم المسؤولون عن السمعة السيئة التي ترسّخت في أذهانكم عنا، نعم، هم المسؤولون، بسبب تصرفاتهم عندما يزورون بلدانكم، وهم غالبا ما يفعلون ذلك. ولكني لا أعجب لحال الذين يتصرفون تصرفات غير حضارية وهم هناك، فيهدرون سمعتنا في أحضان الغواني وصالات (الرو- ليت) ( وأنا لا أحبذ هذه اللعبة لأني لا أميل إلى التمني وإنما أعرف أن الدنيا تؤخذ غلابا)، لأنهم في هذه الحالة يعبرون عن حقيقتهم بكل صدق، بل أنا أدين الذين يتغيرون حالما يصلون إلى بلدانكم البعيدة، ويبدأون بالتصرف مثلما تتصرفون بالضبط عندما تريدون أن تظهروا مدى تقدمكم وتحضركم، بل لعلهم يبزونكم في ذلك. وحالما يعودون إلينا، يبدأون سيرتهم المشينة الأولى!!!.
ولكي أكون صادقا معكم إلى أقصى الحدود أقول، أني أعتبر هؤلاء وأولئك أحيانا، أبطالا قوميين، عندما أسمع أخبار غزواتهم الأنثوية في بلدانكم، نعم، فهم يحققون بذلك نصرا مزدوجا عليكم أنتم يا من تريدون هزيمتنا، فهم ينتقمون منكم بانتهاك حرمة إناثكم وهم بين ظهرانيكم، جزاءا لكل المؤامرات والدسائس التي تحيكونها ضدنا، كما أنهم يحافظون على سمعتنا الفحولية التي هي أساس عزتنا ومبعث فخرنا فيردون بذلك كيد تخرصاتكم إلى نحوركم. أواه لكم أشعر في مثل هذه الأحيان بالتشفي منكم، ولذلك أنصح الذي يهتم بالشرف منكم، أن يخفي أخته أو ابنته عندما يرى خلدا يتبختر في بلاده، وأوصي من غفل عن زوجته لبعض الوقت، أن يبادر إلى تعلم اللغة الخلدية لأنه سيحتاجها بكل تأكيد عندما تضع زوجته مولودها الذي حملت به أثناء غيابه!!!. وهكذا ترون أننا نتكاثر ببركة أرحام إناثكم في الوقت الذي ترومون فيه استئصال شأفتنا.
ولكن!!! ما هذا؟ ما هذا؟! أنظروا إلى المأزق الذي وضعت نفسي فيه بهذري هذا؟ لقد كنت أريد أن أحاوركم بطريقة حضارية! عذرا يا أصدقاء ولكني لم أتعود الكلام وأنا صاحٍ، ولو كنت قد أخضعت نفسي لسحر الخمر قبل أن أتكلم، لكان بإمكاني الآن، أن أنطق بما لم ينطق به (خلدوطاليس) في زمانه، ولخطبت فيكم كما لم يخطب ( خيخلون) من قبل. ولكن لا بأس فسأحاول أن أركز أكثر من الآن فصاعدا لكي أقول لكم ما أردت قوله.
هل تعرفون ما هو أسوأ مخاوف الخلد منا، وأكثرها رعبا؟ هو ملاقاة أفعى تسعى، خلال تجوالنا في ظلمات أنفاقنا، لأنه يعني الموت، إن لم يكن بسبب اللدغة المميتة، فبسبب الشلل الذي يحدثه الخوف لنا والذي يجعلنا لقمة سهلة لهذا الوحش الزاحف!. وقد كنت ذات يوم ليس بالبعيد، أضرب على غير هدى في الأنفاق التي لا تنتهي، لكي أذهب ملل الفراغ عن نفسي، ولأتناسى معاناتنا المستديمة من شظف العيش مكبلا بأغلال الخوف من غارات الأفاعي التي لا تنتهي، قررت أن أتجاهل وجودها، وأتصرف ولو لبعض الوقت، وكأن جشعها وحبها للظلم لا يلقيان بظلالهما الثقيلة على أنفاقنا التي تمنع ظلمتها رؤية تلك الظلال!!!. أنا عندما أتذكر ذلك اليوم الآن، أستغرب ما فعلت! ولا أتذكر ما الذي كنت أريد أن أبرهنه بغبائي ذاك!!! لأن من يلح في الخروج من جحره عندنا، لابد أن يلاقي حية حتفه ذات يوم!!! فنحن لا نستطيع أن نلتزم السير إلى جانب الجدران ،حذرا، لأن الجدران تفرض نفسها علينا ما دمنا في عرض الأنفاق الضيقة، ولذلك فإن حوادث الانحشار، والدهس على أصابع الأقدام واليدين، وحتى الرؤوس، طبيعية جدا عندنا. المهم أني قد فعلت ما فعلت، وللحقيقة أقول أني أتصرف بشجاعة أحيانا، ولكن بحدود، لأني عندما لامست شيئا طريا ولزجا، وأنا في أعماق الظلام! أدركت فورا أني قاب (لسان)، أو أدنى، من الموت الزؤام!!!.
أنا والله شجاع، ولكن بطريقتي الخاصة! لأني إن لم أكن كذلك، لكنت قد جمدت في مكاني مشلولا من الرعب، ولكني بدلا من ذلك، ركضت كما لم أركض في حياتي من قبل، ركضت ولم أستكن للقشعريرة التي تسربت إلى جسدي مع البلل!!!. وأنا أركض، شعرت بأن هناك نفق مستعرض أمامي، نعم شعرت، لأني لم يكن بامكاني أن أرى! ويبدو أن الخوف الذي شلّ عقلي، أعاد إلي حدسي (الذي يفتقده الحيوان كلما أمعن في الاعتماد على عقله) ، وليته لم يفعل!!! لأني ما أن ولجت ما تصورته نفقا آخرا، حتى اصطدم أنفي الذي يسبقني دائما، بجدار صلد بكل عنف، فسقطت على الأرض. كانت تلك الصدمة حرية بإفقادي وعيي في الحالات الاعتيادية، ولكن حالي آنذاك لم يكن عاديا، ولذلك لم أسمح لنفسي أن تفقد وعيها!!! ولكني فقدت مع ذلك حاسة الشم التي كانت تعينني في شم رائحة الخطر، لا رائحة الطعام، فقدتها في ذلك اليوم نهائيا!!!. كانت الحفرة الجانبية التي ولجتها، من الحفر التي تعودنا على حفرها في الجدران على مسافات متساوية لتنظيم أمور السير في أنفاقنا التي لا تتسع لأكثر من خلد واحد في كلا الاتجاهين، لا نفق آخر كما حدست!!! سقطت على ظهري، جسدي داخل الحفرة، ورأسي ملقي على أرض النفق! لم أكن فاقدا لوعيي، ولكن أطرافي تمردت على عقلي ورفضت الأوامر المتوسلة التي تلقتها عبر أعصاب شبكتي السلكية!!! فبقيت ممددا على حالي ذاك حتى لطمني اللسان على وجهي هذه المرة فأعمى اللعاب عيني لبعض الوقت، ولكن من الذي يهتم لأمر البصر في تلك الظلمة، في ساعة الموت؟!!! فقد كان عقلي مشغولا في تلك اللحظات الرهيبة بسؤال واحد فقط، هل ستذيقني هذه السعلاة الزاحفة زعاف سم أنيابها، ليكون الموت تشنجات واختناق؟! أم أنه سيكون احتراق وذوبان بالأحماض في غياهب معدتها، بعد أن تزدردني حيا؟!!!
ولكن رأسها المثلث، ولدهشتي، اجتازني وكأني غير موجود أمامه!!! غرزت بطنها الثقيلة رأسي في رمال الطريق، وكتمت بنعومتها المذهلة أنفاسي وهي تخنقني طوال رحلتها البطيئة عبر وجهي المغروز فيها!!! شعرت وكأن رئتي تكادان أن تنفجرا، وعندها فقط غار خوفي وحل محله غضب شديد. لم يعد يهمني أي لعبة كانت تلعبها معي، بتجاهلي؟! أو أي ميتة كانت تهيئها لي؟! كنت أريد فقط أن أصرخ بها، أن ألعنها! وأن أقول لها، أني لم أعد أخافها، ولتذهب إلى جحيم! ولكن هيهات! فأنا لم أكن أستطيع حتى التأوه، ووجهي مدفون في بطن هذه العاهرة السفاحة الذي كان يمنعني عن فتح فمي!!! وأقسم لكم أن ذلك لو كان بإمكاني، لعضضتها بدون تردد، انتقاما منها! ولكني لم أستطع عندها غير لعن أي حيوان يمكن أن تثير مثل هذه البطن(ورغم نعومتها الخيالية)، غرائزه!!! حتى إذا كان أفعوانا!!!، فبقى وجهي في لحده المتحرك حتى اجتازته البطن الثقيلة، وحالما خف الضغط عنه قليلا، فتحت فمي، وفجأة! اكتشفت أن هذا الوحش إنما هو أفعوان!!! وكان ذلك بعد فوات الأوان!!!.
عندما أنهى الذيل ما بدأته البطن، كان أول شيء فعلته، أن شهقت كما لم أفعل من قبل لأعبّ أقصى ما أستطيع من الهواء الذي ظننت أني لن أستنشقه مرة ثانية، وكنت قد استرددت قدرتي على الحركة، فقفزت من مكاني ورحت أبصق تقززا وأنا أعاني من غثيان!!! ثم رحت أسبّ وأشتم بأعلى صوتي، نعم كنت ألعن آكل الفئران الجبان هذا بدون وجل، لقد خاف أن يأكل خلدا لأنه أكبر من أن، ولكن ما هذا الذي أقوله؟! فقد أكل هذا اللئيم وأضرابه، من الخلدة، ما يفوق أعداد الخراف الضالة التي تأكلها الذئاب!!! فما الذي حدث له هذه المرة؟! أكان شبعانا عندما صادفني؟ ولكن متى شبع هذا المجرم الدموي من القتل؟! ألم يرني؟! ولكنه كان يسحق رأسي بلا رحمة، أفلم يشعر بوجودي تحته؟! من يدري؟ لعله لا يستمريء لحمي؟! ولكنه لو كان قد تذوقني من قبل، لما كنت موجودا الآن لأحدثكم!!!.
أنا لا أعرف إن كنت قد قلت لكم أني حيوان فضولي، وإن لم أكن قد فعلت فها أنذا أفعل، نعم أنا فضولي جدا، وإن كنتم في مكاني بموقفي ذاك ثم ووجهتم بموقف على هذا القدر من الغرابة والشذوذ، هل ستتصرفون وكأن الأمر لا يعنيكم لمجرد أنكم عانيتم قليلا من الخوف، أو بالأحرى، الكثير منه؟! إن كنتم ستفعلون فأنا لا أفعل، بل سأكون مطية لفضولي يسير بي في الدروب الخطرة التي يمكن أن يورطني بها!!! وهذا هو بالضبط ما حدث لي في ذلك اليوم، لأني سرعان ما رحت أتتبعه عن بعد حتى خرج من الأنفاق ليكمل زحفه فوق سطح الأرض، وكان هذا أشد غرابة لأن الطقس كان باردا والأفاعي لا تخرج في مثل هذا الطقس!!! سرت وراءه وأنا أحرص على أن لا يراني. انتظرت أن يبحث عن حيوان ليأكله، ولكنه لم يفعل!!! توقعت أن يتسلق شجرة ليسرق بعض بيض الطيور اللذيذ، ولكنه لم يتسلق أو يسرق!!! فهل تلوموني بعد هذا لأن الفضول تملكني في ذلك اليوم الغريب؟!.
استمر في زحفه البطيء حتى خرج من منطقة الأحراش التي كنا فيها، ليصبح مرئيا من قبل بقية الحيوانات التي يمكن أن يخافها، في المنطقة المكشوفة! ولكنه لم يبال أو يزيد من سرعته على الأقل، بل تهادى لبعض الوقت حتى وصل إلى الطريق الذي اختطته حوافر الفيلة الثقيلة في أرض الغابة وهي تسير في سعيها اليومي طوال قرون، إلى عيون الماء التي ترد ها للشرب، وهناك بالضبط توقف بلا حراك!!! وعندها بالضبط تذكرت حديثا لأحد معارفي عن انتحار الأفاعي، ولكني لم أصدقه في حينها لأني أعرف ميله إلى الكذب، ولكن، اللعنة على الكذب والكذابين لأنهم في النهاية لا يخدمون الحقيقة حتى إذا صدقوا يوما، لأنه لن يصدقهم إلا ساذج أو مجنون، فما أريد أن أتحدث عنه الآن هو االتصرف الذي تصرفته أنا عندما رأيته على ذلك الحال، فلو كان واحدا منكم مكاني لألتزم مكانه حتى تنتقم له الفيلة من هذا القاتل وتمزقه إربا ليعود بعد ذلك سعيدا إلى رفاقه ليبشرهم بنفوق من أذاقهم طعم الويل. أنا أعرف أن هذا سيكون تصرفا طبيعيا ومعقولا لأن العقل يفرضه، ولكني وبكل عواطفي الخلدية المفتقرة إلى العقل تقدمت بلا وعي إلى حيث كان يرقد!!! كنت خائفا ومترددا، ولكني اقتربت منه على مهل وقلت:
ـ يا، يا سيد.
ولكنه لم يجبني! فتصورت أنه لم يسمعني لأن صوتي كان إلى الهمس أقرب. تقدمت خطوة أخرى وقلت:
ـ يا أسـ، تاذ.
ومرة أخرى لم يجبني أو يلتفت إلي! وعندما أردت أن أتقدم منه مرة أخرى أوقفتني فكرة أنه لربما يتعمد تجاهلي لكي أقترب منه فيلتهمني!!! توقفت في مكاني وقلت:
ـ يا عم، أفـ، أفعوان، ما الذي، حدث؟! أنت ترقد في طريق الفيلة، الفيلة، أتدرك ما أعني؟ الفيلة، إنها تلك الحيوانات الضـ،
في تلك اللحظة أدار رأسه نحوي، فأجفلت، وتملكني رعب شديد، وكنت قد وقفت على قائمي الخلفيين أثناء حديثي لكي أصور له خطورة موقفه ذاك بالحركات، فكدت أن أسقط على ظهري لولا أني انتبهت إلى نظرته الكابية التي رماني بها! فتمالكت نفسي ولم أسقط، فتح فمه الكبير ولكن صوته لم يخرج إلا بعد حين، كنت خلاله في أقصى درجات استعدادي للقفز من أمامه مع أول حركة مفاجئة يبدو أنه سيقوم بها لأني أعرف جيدا مدى خطورة تلك الحركات لدى الأفاعي! ولكنه قال بصوت لا انفعالات فيه:
ـ هيا اذهب يا بني ودعني لشأني.
لاحظت عندها أن لسانه كان قد توقف عن الاستشعار، كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها أفعى لا يسبقها لسانها فزاد هذا من غرابة الوضع الذي كنت أراه أمامي، كان قد أرجع ذقنه المسطح ليستقر على التراب، فبدا لي محبطا وكئيبا جدا، ففاض حناني وشعرت بالتعاطف الشديد معه!!! قلت:
ـ ولكن!
ـ اذهب، أرجوك، فلا رغبة لي في الكلام، أو أي شيء آخر.
كانت الرهبة منه تتراجع أمام طفح المشاعر الرقيقة التي بدأت تكتسحني، فقلت بجرأة:
ـ لن أذهب قبل أن أعرف ما الذي جرى لك؟
فتأفف بضجر وقال من دون أن يلتفت إلي هذه المرة:
ـ اذهب، هيا اذهب.
ـ ولكنك تعترض طريق الفيلة بوقوفك هنا، أتدرك معنى هذا؟!
فقال بصوت بدا الغضب فيه واضحا:
ـ أتعتقد بأني لا أعرف ذلك؟ أتتصورني غبيا أيها الصعلوك الصغير؟!
أخذ العجب مني عندها كل مأخذ، فقلت ومن دون أن أعير غضبه أي اهتمام!:
ـ أيعني هذا أن ما سمعته عن انتحار الأفاعي صحيح؟!
لم يجبني، بل حول وجهه نحو الجهة البعيدة عني وكأنه ينبهني إلى أن وقت رحيلي قد حان، ولكن الفضول كان لحظتها آسرا ولم يكن لي أدنى أمل بالخلاص من أسره، فبقيت واقفا بصمت للحظات قبل أن أقول:
ـ ولكن!، يا عم أفعوان، لماذا؟! لماذا قد ينتحر حيوان؟! أنا، أنا لا أستطيع أن أتصور سببا يجعل عاقلا ينهي حياته بنفسه!!! فالحياة أغلى من أن نفرط بها بهذه السهولة، أنا أقول هذا وحياتي بسيطة وبها الكثير من التعقيدات والمخاوف، فكيف بحياتك أنت التي تعيشها بالطول والعرض من دون خوف أو وجل؟!!!. هيا بح لي بما تعانيه وأعدك بأني سأساعدك بقدر ما أستطيع.
عندما سمع كلماتي الأخيرة أدار رأسه نحوي ببطء، فلمحت انفراجة بسمة في زاوية شفتيه المزمومتين! أقسم لكم أنها كانت ابتسامة، ولكنها كانت من أشد الابتسامات التي رأيتها في حياتي، حزنا، فشعرت بألم في معدتي وكادت دموعي أن تتساقط حزنا، لحزنه! ولكنه لم يمهلني فقد قال لي برفق:
ـ أترى؟ هذه هي مأساتكم، عواطفكم غير المنطقية التي تسرق الحكمة من عقولكم!. أمثلك يحزن لمثلي؟! يا للسخرية!!! ولكن لم العجب وقد جبلتم هكذا، وفرة في المشاعر وسوء في التوجيه!!! فلو كنتم قد وجهتم مشاعركم نحو أنفسكم، لهانت عليكم الكثير من مآسيكم، ولكنكم يمكن أن تحزنوا لقرد صغير تاه عن أمه، أو أن تبكوا لحال خنزير تعرض لاعتداء من كلب، ولكنكم تشعرون بالسعادة عندما تعرفون أن صغار جاركم الذي تكرهون بسبب موقف سابق، قد ناموا جياعا!!!، هيا، هيا اذهب لتتهيأ لمأساتكم الجديدة التي ستعانون منها بموتي الذي سيجعلكم تفتقدون الشماعة الذي كنتم تعلقون عليه أخطاءكم.
ـ سأذهب، أعدك بأني سأتركك وشأنك، ولكن فقط وضح لي أمرك وقل لي ما الذي جرى لك؟
كانت البسمة قد اختفت من وجهه بعدما أسند ذقنه إلى التراب مرة أخرى ولكن بمواجهتي بالضبط هذه المرة. لم يجبني على الفور فتصورت أنه قرر أن يبقى صامتا الأمر الذي أصابني بالإحباط لأن جعبتي كانت قد فرغت من الحيل التي يمكن أن ألجأ إليها لحمله على الكلام. ولكنه قال فجأة:
ـ أتدري؟ هناك في الحياة خيارات إذا ارتضاها الحيوان لنفسه فإنه يجب أن يجتث الضمير من أعماقه نهائيا لأن أي قدر من هذا الإختراع الخطير الذي اسمه ضمير، ومهما ضؤل، يمكن أن يورده مهاوي الهلاك بعد أن يتجاوز مرحلة اللاعودة في الطريق الذي أنتهج.
فقلت وأنا أشعر بحيرة:
ـ لم أفهم!!!
ـ وهذا هو ما توقعته، لا أدري ما الذي جعلني أتكلم؟ هيا اذهب ودعني أمت بسلام.
ـ حسنا، حسنا، فقط قل لي لماذا يورد الضمير حيوانا، موارد الهلاك؟!
ـ عندما يكون طريقه معبدا بأجساد الحيوانات، وخاصة إذا كانت من أبناء جنسه.
ـ وهذا هو ما حدث لك؟!
هز برأسه، نعم، فقلت متعجبا:
ـ ولكن! مع أخذ الخلدة الذين التهمتهم طوال حياتك معنا بنظر الاعتبار، فإن تصور أنك قتلت الكثير من الأفاعي، يصبح أمرا شبه مستحيل!!!
ـ ومن قال لك أني أقصد الأفاعي؟ ألا تعرف أيها الساذج أن الأفاعي ليست صنف حيوانات قائم بذاته، بل هي حيوانات متحولة.
ـ ماذا! متحولة!!! ما الذي تقصده بمتحولة؟!.
ـ أقصد أنها حيوانات كغيرها ولكنها تتعلم الخضوع والركوع لغيرها حتى تفقد بمرور الوقت عادة السير وتتعود الزحف فتستحيل إلى زواحف حقيرة.
شعرت مع كلماته هذه برعب شديد وبدأت قوائمي بالارتجاف حتى كادت تعجز عن حملي، قلت بصعوبة بالغة:
ـ هلا وضحت لي أكثر، من فضلك!!!.
فقال بصبر:
ـ يا بني، لقد أبتلي كل صنف من الحيوانات بأفاعيه الخاصة، فمثلما ابتليتم أنتم بي، فقد أبتلي الفئران بأفاع تناسب حجومها وكذلك الفيلة.
ـ يا للهول!!! أهناك أفاعي بحجم الفيلة؟!.
ـ بل أكبر لأنها تأكلها.
مادت بي الأرض وعجز خيالي عن تصور حجم مثل هذه الوحوش الخرافية! ولكني تذكرت أنه كان قد قال قبل قليل " ابتليتم أنتم بي "!!! أفلا يعني هذا؟. قلت:
ـ أأفهم من كلامك أنك كنت يوما، كنت، كنت!
ـ خلدا؟
لم أستطع أن أقول نعم، فهززت برأسي، فقال:
ـ نعم.
ـ ولكن هذا مستحيل!!!
ـ ولم هو مستحيل؟!
ـ كيف يعقل أن يتغير الحيوان بهذا الشكل؟!
ـ بفضل الارتقاء الطبيعي وببركة سحر سراب.
ـ ولكن الارتقاء الطبيعي يحتاج إلى آلاف السنين ليفعل فعله!!!
ـ لا تصدق كل ما تسمعه يا بني.
ـ ومن سراب هذه؟
ـ حتى سراب لم تسمع بها!!! ألا تعرف شيئا عن هذا العالم وأخباره؟! لقد أتعبتني يا هذا، هيا اذهب ودعني أمت.
ـ أتموت يا عم وتتركني لجهلي؟! رحماك، علمني ما تعرف فأنا فضولي جدا، ثم ألا يجدر بك أن تنتقي لنفسك طريقة للموت أكثر ضمانا، فمن يضمن لك أن الفيلة ستدوس رأسك لتموت في الحال، فأنا سمعت أن الأفاعي لا تموت إلا إذا سحقت رأسها، فهلا أعدت النظر في وسيلة الانتحار، وخلال ذلك تعلمني بعض الأشياء علّي أستطيع أن أساعدك فيما بعد.
عندما سمع كلماتي هذه بانت على وجهه علامات التفكير لوهلة، ثم قال:
ـ يا لسوء حظي! ألاقي مثل هذا الساذج في اليوم الذي أقرر فيه أن أنهي حياتي، حتى في موتي لا أستطيع أن أرتاح!!! ولكن لا بأس، لا بأس، فأنا أستطيع أن أموت متى ما أشاء، أما الآن فلنعطي هذا الجاهل بعضا من علومنا.
ثم التفت إلي وقال:
ـ أنا الآن تعب جدا ولا أستطيع أن أفيدك بشيء، فاذهب ولتكن حاضرا في الغد مبكرا تحت تلك الشجرة لكي أطهّرك من جهلك. وسأبدأ معك من الصفر.
فانطلقت فرحا لا ألوي على شيء من دون أن أوجه له حتى كلمة شكر!.
ـ1ـ
في اليوم التالي أبكرت في الحضور، وبعدما أتى متأخرا حتى خشيت أن يكون قد نفذ ما كان قد قرره، قال لي الأفعوان بعد أن ارتاح قليلا:
(في البدء، لم يكن هناك إلا غابة على جزيرة في مجاهل المحيط الواسع، فيها حيوانات كثيرة، ولكن كان كل صنف منها يعيش لوحده بعيدا عن الأصناف الأخرى، حتى أن الكثير منها لا يعرف بوجود حيوانات أخرى تشاركه الغابة. ولكنها كانت جميعا وعلى اختلاف أصنافها لا تعرف الشمس، لأنها لم ترها يوما!، فقد كانت نباتات الغابة من الكثافة بحيث تمنعها من رؤية السماء، كما أن طيور الغابة لم يكن بامكانها الطيران لأنها ورغم وجود أجنحة لها، كانت تفتقد إلى الريش!!!.
ذات يوم حل بأرض النسور صقر يطير! فشعرت بالخوف منه لأنها لم تتعود على رؤية حيوان يطير!!! رغم أنها كانت تعرف بوجود حيوانات أخرى لأنها تأكل لحومها!.تجمعت حوله عندما حطّ على الأرض بينهم وقال له كبيرهم:
ـ من أنت؟ ومن أين أتيت؟!
ـ أنا صقر وأتيتكم من أرض الصقور.
ـ ولكنك نزلت علينا من فوق، فكيف تدّعي أنك أتيت من أرض أخرى؟!.
ـ هذا لأني تعلمت الطيران وهي طريقة أسرع للوصول إليكم.
ـ و ما الذي تريده منا؟
ـ جئت لأعلمكم الكثير مما لا تعرفون.
فقال كبير النسور الذي شعر بالتحدي على الفور وخاف على زعامته بين قومه:
ـ وهل نحن جهلة لكي تعلمنا أنت؟
وأردف قوله هذا بالهجوم على الصقر بغتة، فتبعته بقية النسور، ولكن الصقر طار قبل أن يصلوا إليه وقال وهو يطير فوقهم:
ـ ويحكم! أتتصورون أنكم تستطيعون هزيمتي؟! والله لو استخدمت كل ما أعرفه لقضيت عليكم جميعا، ولكني لم آت إلا لكي أعلمكم ما تعلمته في حياتي.
ارتعبت النسور لقوله وسرعان ما أسلمته قيادها صاغرة بعد مقاومة خفيفة واحتجاجات خجولة. راح الصقر يقودها قيادة المخلص الأمين ويحاول أن يعلمها كيف تعرف خيرها بنفسها، ولكنها كانت حيوانات شرسة وعدائية ولا تستجيب للتطوير بسهولة فقرر أن يعلم أبناءهم عسى أن يستطيعوا، فهم ما عجز آباءهم عن فهمه.
وذات يوم اقترب نسر عجوز من الصقر حال انتهائه من أحد الدروس التي كان يعطيها لصغار النسور وقال له:
ـ هل يسمح لي سيدي بسؤال؟
قال الصقر بأدب:
ـ تفضل يا أيها العجوز الطيب.
ـ هل أنت حيوان مثلنا، أم أنك شيء آخر؟!.
ـ بالطبع أنا مثلكم، وإن كنت أميل إلى تسمية نفسي بالطير لأنه يعبر عن الحقيقة أكثر.
ـ طير!!! وما معنى ذلك؟
ـ هو مأخوذ من الفعل طار، والطير هو الحيوان الذي يطير.
ـ ولكن! كيف تعرف كل هذه الأشياء وأنت لم تزل شابا؟!.
ـ هذا لأني لم أتعود على أخذها على علاتها، بل كنت أجهد نفسي دائما لكي أفهم جوهرها ولا أكتفي بمظاهرها أبدا.
كان نسر صغير قد تسلل حتى أصبح وراء شجرة قريبة، يدفعه فضوله إلى الاستماع إلى ما كان يدور بين معلمه الذي أحبه والنسر العجوز فيما كانا يتبادلان الحديث، لم ينتبها لوجوده فبقى هو في مكانه يسترق السمع. قال العجوز:
ـ لم أفهم؟!.
ـ لا بأس لأنني سأجعلك تفهم، فقد كان قومي يتصورون من قبل أنهم سكان هذه الغابة الوحيدين، ولكني لم أستسغ هذا عندما كبرت، إذ لا يعقل أن توجد هذه الغابة المترامية الأطراف من أجل جماعة واحدة فقط، فرحت أجول في أنحاء الغابة البعيدة وهناك تعرفت على أنواع عديدة من الحيوانات التي لم تكن تخطر لي ببال، وعرفت أسماءها، ولكن تلك الأسماء عندما تعددت اضطرتني إلى التفكير بطريقة تساعدني على حفظها، فابتدعت رموزا تعبر عنها و اخترعت القلم.
ـ القلم!!!
ـ هي قصبة تبرى فتستطيع بها أن ترسم تلك الرموز التي أحاول أن أعلم أبناءكم معناها.
ـ وبعد!!!
ـ أما بعد، فقد ضاقت بي أرض الغابة فرحت أحاول تسلق الأشجار العالية لكي أتجاوز حجب أجمّاتها، وأرى ما لم يره أحد قبلي.
عندها ضحك النسر العجوز وقال:
ـ عذرا يا بني لضحكي، ولكن حتى صغارنا يعرفون أنه لا توجد فوق قمم الأشجار إلا الظلمات.
ـ بل هناك سماء يا أيها الشيخ الطيب لا تعرفون مدى وسعها، ولا تتخيلون جمالها، وهناك شمس في شعاعها سر الحياة.
ـ ماذا؟! سماء وشمس!!! من أين تأتي بهذه الأسماء؟ أتريد أن يصيبني مسّ جرّاء هذا الكلام الغريب الذي تتفوه به؟
ـ ولكنك أنت الذي سألت، وأنا لا أخبرك إلا الصدق.
بان الذهول على النسر وراح يهز برأسه محتارا وهو لا يعرف ما يقول! فسأله الصقر قائلا:
ـ هل انتهت أسئلتك؟
هز النسر برأسه، نعم، ولكنه سرعان ما استدرك قائلا:
ـ ولكنك لم تخبرني كيف استطعت الطيران؟
ـ عندما وصلت إلى أعلى الشجرة بعد جهود مضنية. هل تستطيع أن تدرك مدى صعوبة تسلق شجرة بمنقار غير مدرب, ومخالب ضعيفة, وجناح عديم الجدوى؟ صدقني أنها كانت عملية شبه مستحيلة, ولكني في النهاية نجحت في الوصول إلى الأعلى لأزيح الأغصان وأرى السماء, وعندما فعلت، لبثت في مكاني مشدوها وأنا أكاد لا أصدق ما تراه عيني من جمال، وبقيت على حالي هذا لفترة من الزمن لم أعرف كم استغرقت لكني خرجت من ذهولي على وقع صوت يقول" أجميلة هي السماء؟"، ارتعبت من الصوت المفاجئ وكدت أن أسقط بعدما فقدت توازني لولا أن قوة غريبة أرجعتني إلى مستقري!!!. التفت إلى مصدر الصوت فرأيت مخلوقا طائرا لم أر مثله من قبل!!! كانت أنثى، وكان جمالها أخاذا، يسلب العقول!!! سألتها من تكون فقالت لي أنها "لباب" أستاذة سحر الألباب العظيم، وقالت لي أنها كانت تنتظرني منذ وقت طويل، ثم لامست كفي بيدها فغطى جسدي شيء غريب! سألتها "ما هذا؟" فقالت "هو الريش الذي سيساعدك على الطيران، ألا تريد أن تطير؟"، لم أجبها، ولكنها قالت "هيا طر، فبطيرانك ستسمو على الآخرين وبعلوك ستصل إلى آفاق لم يحلموا بها، هيا طر ولا تخف". ومن دون شعور قفزت من أعلى الشجرة فإذا بي أسبح في الفضاء، أواه يا أيها الشيخ أنا لا أستطيع أن أصف لك مشاعري حينها، ولكن صدقني لقد كانت أروع من أن توصف بكلمات.
كان النسر العجوز يتابع كلمات الصقر بذهول، فيما كان النسر الصغير الكامن وراء الشجرة يجاهد لكي يكتم صوت أنفاسه المتسارعة خوفا من أن يسمعاها!، قال العجوز بعد أن طال سكوت الصقر:
ـ وماذا حدث بعدها؟!
فأجاب الصقر وقد بدا كالحالم وهو يتحدث:
ـ لقد ارتفعت في السماء وارتفعت، وارتفعت حتى لفحتني أشعة الشمس وأنساني دفئها برد بعض الليالي التي نواجهها في أعماق الغابة، لامست السماء بروحي فشعرت بأني كائن آخر، كائن سعيد ومسكون بروح وثابة وسامية، فبقيت في تلك العلياء أطير بلا خوف ولا هموم و أدور في الفضاء حرا، وقد نسيت أمر الساحرة الطيبة، ولكني بعد حين تذكرتها فذهبت إليها وكانت قد حطت على قمـة شجرة، قلت لها " أنا لا أعرف ما أقول" فابتسمت لي وقــالت" لا تقل شيئا، بل اعمل . لقد وهبتك شيئا من سحري فأرجع إلى قومك وعلمهم العلم الذي صار طوع بنانك ثم امنحهم القدرة على الطيران"، وكان هذا ما فعلته بعد عودتي.
كان النسر الصغير يستمع إلى كلام الصقر مسحورا، ورغم أنه لم يفهم معنى الكثير من الكلمات التي سمعها إلا أنها استقرت في وجدانه إلى الأبد، ثم انتبه إلى صوت النسر العجوز وهو يتساءل:
ـ فما الذي جاء بك إلينا إذا؟.
ـ بعد أن علّمت قومي على الطيران، رأيت أن أحاول تعليم الأقوام الأخرى بعض ما أعرفه لأني أؤمن أن العلم يجب أن يكون في خدمة جميع المخلوقات.
ـ فهل ستمنحنا إذا المقدرة على الطيران؟!
ـ كلا فهذا ليس بمقدوري، لأن تحديد الأقوام التي يمكن أن تطير، رهن بلباب، أما أنا فأريد أن أعلمكم كيف يمكن أن تتسلقوا الأشجار لعلكم تلتقون في أعلاها بها. والآن هذا كاف يا عجوز، فأنا متعب وأريد أن أرتاح قليلا، فهل اكتفيت؟
أومأ النسر برأسه وسار مبتعدا وهو يمشي كالمسحور، فيما طار الصقر لينام في عشه لأنه لم يعد يفترش الأرض منذ أن تعلم الطيران. أما النسر الصغير فقد ركض إلى بيتهم ولجأ إلى فراشه من دون أن يأكل، وراح يفكر فيما سمعه من أعاجيب).
عندما سكت ولاحظ طريقة متابعتي لما كان يقول، سألني:
ـ ألم تسمع بما قلته للتو، من قبل؟
هززت برأسي نفيا، ثم قلت:
ـ كلا لم أسمع بهذه الأسطورة من قبل.
بان عليه الغضب فجأة وقال بحدة لم أتوقعها:
ـ أتتصور أيها السخيف أني أتعب نفسي لأحدثك عن أساطير لا معنى لها؟!
فقلت بلا تفكير وبكل صدق:
ـ طبعا لا، بل أنت تحدثني بهذا لأن للأساطير صلة بطريقة تفكير الحيوانات مما يفسر الكثير من تصرفاتها ويوضح حقيقة بواعثها.
ـ يا للذكاء!، وعلى كل حال، لماذا تتصور أن كل هذا هو مجرد أسطورة؟ وأنا كنت قد قلت لك بأني سأعطيك شيئا من علمي.
ـ بالطبع هو أسطورة، وإلا أليس الصقر طائر أسطوري؟
ـ بل هو حقيقي أكثر مني ومنك أيها الجاهل الغبي.
ـ ولكن،
لم يدعني أكمل كلامي بل قال بلهجة آمرة جعلتني أصمت مرغما:
ـ اسمعني جيدا، لقد أخبرتك للتو بجزء من حقيقة، وستسمع مثله الكثير، الكثير، أما الآن فأذهب ولتحضر في الغد كما فعلت اليوم.
استدرت لأبتعد عنه ولكنه سرعان ما قال بلهجة آمرة:
ـ انتظر لحظة، قل لي، هل صدقت أن الصقر قد ذهب إلى بلاد النسور لمجرد أن يعطيهم شيئا من علمه؟
لم أفهم غرضه من السؤال! ولكني قلت:
ـ بالطبع، ألم تقل أنت ذلك؟!
نظر عندها إلي بإمعان، ثم قال وهو يهز برأسه:
ـ لو كنت في مكانك لكان قولي أدعى للشك عندها، ولكن لا بأس فأنت مجرد خلد ساذج، والآن اسمعني جيدا، لا تقتنع بظاهر الأمور أبدا، بل حاول أن تنفذ إلى جوهرها. هل فهمت؟
ـ لم أفهم!!!
ـ حسنا، حسنا، لقد أردت القول أن الصقر قد ذهب إلى هناك في الحقيقة انصياعا منه إلى رغبته الطبيعية في التحكم بمصائر الحيوانات الأخرى كما قد يفعل أي حيوان متمكن.
شعرت لقوله بخيبة أمل فقلت:
ـ أهذا يعني أنه كان شريرا هو الآخر؟!
فقال بغضب مفاجيء:
ـ كلا، بل هو، ولكن لم أضايق نفسي بهذا، هيا اذهب الآن وسأحاول أن أجعلك تفهم فيما بعد.
في اليوم التالي لاحظت أنه لم يبد متعبا كما كان في اليوم السابق لكن عبوس وجهه كان لم يزل كما هو، حرصت على أن أبقى بعيدا عنه بمسافة كافية كما فعلت بالأمس، ويبدو أنه لاحظ ذلك ولكنه لم يعلق بشيء بل قال:
( لم يستطع النسر الصغير" رائد" أن يبعد حديث الصقر عن الساحرة وكيف منحته القدرة على الطيران عن باله، وأصبحت فكرة اللقاء بتلك الساحرة حلم حياته فقرر أن يتعلم من الصقر كل ما يمكن تعلمه، ولم يغب بعد ذلك عن الدروس اليومية التي كان الصقر يحرص على تلقينها لصغار النسور . وبعد أن بلغ أشده قال للصقر ذات يوم:
ـ أريد منك يا معلمي أن تعلمني كيف أتسلق الأشجار.
تمعن الصقر في وجهه لوهلة ثم قال:
ـ لقد كبرت إذا، وتريد أن تتسلق الأشجار.
ـ نعم يا أستاذي الكريم، فهل تعلمني؟
لم يجب الصقر على الفور بل فكر قليلا ثم قال:
ـ في الحقيقة، أنا أرى إمارات طموح كبير في وجهك، والطموح عندما يجمح يقترب من حدود الطمع!.
ظهر الحزن على وجه رائد وقال:
ـ أهذا يعني أنك لن تعلمني تسلق الأشجار؟!
ـ بل أعلمك، فلهذا قد نذرت نفسي، ولكني آمل أن لا أندم على هذا يوما!.
فقال رائد باندفاع:
ـ أعدك بأني لن أجعلك تشعر بندم.
ولكن الصقر أسكته وقال:
ـ لا تتسرع في إعطاء وعود ربما لن تستطيع الإيفاء بها.)
سكت بعدما بان عليه التعب، فبقيت في مكاني حائرا، لا أعرف ما يجدر بي فعله! أأستأذن في الذهاب! أم أنتظر إكماله لحديثه الذي استهواني إلى الحد الذي يجعلني أتمنى أن لا يتوقف عنه! ولكنه قال لي بعد حين:
ـ وأنت يا صغير، لا تثق بوعود من لا تعرفه جيدا، لا تنسى ذلك أبدا.
لم أفهم ما كان يقصده، ولكني أومأت برأسي موافقا تأدبا، ثم تأهبت للانصراف ولكنه قال متابعا بعد أن أسند ذقنه إلى التراب:
( وبالفعل فمنذ ذلك اليوم بدأ الصقر بتعليم النسر كيفية تسلق الأشجار، مستخدما بذلك كل خبرته المتراكمة التي اكتسبها من محاولاته الدؤوبة لتعلم ذلك لوحده. أظهر رائد براعة في التعلم ولكنه عانى كثيرا! سواء من الفشل الذي واجهه أحيانا، أو من تهكم بقية النسور عليه لأنهم لم يفقهوا ما كان يريد!!!. و بعد أسابيع من الجهد المضني والمحاولات المتكررة، أصاب اليأس رائدا فقرر أن يتوقف عن المحاولة!، ولكنه في اليوم التالي استيقظ باكرا وكان قد رأى حلما جميلا أثناء نومه اعتبره فألا حسنا!!! فذهب إلى شجرة عالية وبدأ بتسلقها بمعنويات عالية، ولم يمض وقت طويل حتى رأى أنه قد تجاوز نقطة العودة، فقرر عندها أن لا يعود حتى يصل إلى قمة الشجرة، وظل لساعات يكابد المشقة والتعب حتى وجد نفسه بين الأغصان التي هي سقف الغابة، مد يد مرتجفة ليزيح غصنا منها، فغشت عينيه أشعة الشمس القوية! شعر بخوف كبير فأغمض عينيه وأدرك أنه قد تجاوز حدوده كثيرا!!! في تلك اللحظة سمع صوتا رقيقا هو إلى الهمس أقرب يقول:
ـ لا تخف يا أيها النسر، فمن يصل إلى هذه الأعالي لا يسقط بسهولة.
فتح عينيه فرأى أمامه طيرا لم يتوقع وجود مثله حتى في أحلامه!!! عرف أنها الساحرة التي كان الصقر قد تحدث عنها منذ سنين، سحرته بجمالها ولكنه كان لم يزل خائفا فقال لها بصوت مرتجف:
ـ ولكني لا أعرف كيف أنزل.
ضحكت عندها لباب وقالت:
ـ لقد عانيت كثيرا في الصعود يا أيها المسكين، ولكنك لا تستطيع أن تتخيل سهولة النزول.
ـ ماذا تقصدين أيتها الساحرة الطيبة؟!
ـ لأنك ستنزل طائرا.
عقدت الدهشة لسان رائد لثوان قبل أن يقول متلعثما:
ـ هل، هل، هذا يعـ، يعني، أنك ستمنحيني بركة، سحرك؟
ابتسمت لباب وقالت:
ـ نعم، هذا ما يعنيه.
ـ ولكن! كيف وثقت بي وأنت لا تعرفيني؟!
ـ بل أنا أعرفك، كما أعرف كل الحيوانات، ولكن الأمر لا يتعلق بالثقة، فأنا مؤتمنة على أسرار هذا السحر العظيم، وواجبي أن أمنح كل من يصل إلى الحد الذي وصلت أنت إليه، جزءا منه لكي يوصله إلى قومه.
سكتت بعدها لكنها أكملت بعد حين قائلة:
ـ ولكن خذ حذرك لأن لهذا السحر قوى عظيمة يمكن أن تنزل أعظم الأذى بك وبالآخرين لو لم تحسن استخدامها، فإياك والشر.
ثم لا مست كفه برفق فنبت الريش في كل مكان من جسده! وقالت له:
ـ هيا طر وعد إلى قومك لتعلمهم الطيران.
ثم طارت مبتعدة عنه، وكانت آخر الكلمات التي وجهتها له وهي طائرة:
ـ تذكر أن تلتزم ناصية الخير وإلا ستندم.
رجع النسر رائد طائرا إلى قومه الذين لم يصدقوا أعينهم عندما رأوه فاجتمعوا حوله حال نزوله على الأرض وراحوا يسألونه عما جرى وهو لا يجيبهم بل كان يبحث بنظره عن الصقر حتى رآه واقفا يتطلع إليه من بعيد فطار إليه على الفور ليعانقه ويقول:
ـ شكرا لك يا أستاذي العزيز فإليك يعود الفضل كله.
ابتسم الصقر ابتسامة حزينة وقال:
ـ لقد نلت ما تريد بفضل جهودك الكبيرة أيضا، والآن ابدأ بمنح قومك المقدرة على الطيران.
ثم طار إلى بيته فوق الشجرة، ومنذ ذلك اليوم لم ينزل الصقر مرة أخرى إلى أرض النسور بل بقى يدبر شؤونهم وهو في بيته لأنهم أصبحوا يأتون إليه بعدما تعلموا الطيران.)
صمت الأفعوان بعد ذلك لبعض الوقت وبانت عليه علامات التفكير، ثم قال لي:
ـ وكان هذا بالطبع خطأ كبيرا.
فقلت متعجبا بصوت تحشرج من طول صمت:
ـ ماذا؟! أتعليم الآخرين شيئا يفيدهم، خطأ كبير.
ـ أوه، كلا أنا لا أقصد هذا، ولكن! ما هذا الذي أحاوله؟ أريد إفهام ساذج ما لا يمكن أن يعقله!!! هيا اذهب الآن ولا تنسى أن تحضر في الوقت المحدد غدا.
في تلك الليلة لم استطع النوم بسهولة لأنه كان قد آلمني بموقفه المتكبر مني، ولأني كنت لا أستطيع الخلاص من فضولي الذي كان يتزايد في كل يوم!!! ولكنه إذا كان يتصورني ساذجا، فلم يقص علي قصته تلك؟! قررت أن أطرح عليه هذا السؤال في الغد، ولكني خشيت من أن يطردني ويمتنع عن إكمال ما بدأه!!! لا أدري كيف نمت وأنا في خضم حيرتي تلك! لأستيقظ في اليوم التالي متأخرا، فهرعت بأقصى سرعتي إلى مكان اللقاء، لأجده واجما يفكر، ولكنه ما أن رآني، حتى صاح بغضب:
ـ ويحك أيها الصعلوك، كيف تجعلني أنتظر هكذا؟!
كنت قد وصلت حدود منطقة الأمان التي رسمتها لنفسي فبقيت جامدا عندها، لا أستطيع الحراك من شدة الرعب لأني لم أكن يوما بهذا القرب من أفعوان غاضب، وصدقوني لو قلت أنه مخيف جدا. بالنسبة لنا نحن معشر الخلدة على الأقل. وقفت، ولم أنبس ببنت شفة، فقال حين رآني على حالي ذاك:
ـ حسنا، فقط حاول أن لا تتأخر مرة أخرى.
ثم قال بعد قليل:
(بقى الصقر على شجرته لكن النسور، وبعد مرور وقت قصير بدأوا لا يستشيرون الصقر المنعزل، بل راحوا يقصدون النسر رائد الذي سطع نجمه بعد ما حققه لقومه، للتباحث في شؤونهم المختلفة! فأصاب الغرور رائدا وراح يفكر في أن يكون هو زعيم قومه الذين كانوا يزينون الأمر له!. فقد كان نسرا مثلهم فلم يخضعون للصقر الغريب؟ وكأن الأمر يختلف!!!. وفي ذات يوم جمع رائد النسور من حوله وحاصروا بيت الصقر الذي خرج لهم غير هياب وقال لرائد:
ـ حان الوقت إذا يا رائد، وما كنت أحسب له حسابا، قد وقع.
شعر رائد بالخجل فقال:
ـ ولكننا نسور ونريد أن نحكم أنفسنا بأنفسنا.
ـ وأنا لا مطمع عندي في الحكم.
ـ حسنا، فأرحل إ ذا وصدق بأننا لن ننسى فضلك علينا.
ـ بل ستنسون مثلما نسيتم وعودكم السابقة، ولكن ليس عن هذا أتكلم.
فقال رائد متعجبا:
ـ عم تتكلم إذا؟!
ـ يا رائد، أنتم نسور قوية وعددكم كبير وفوق هذا امتلكتم المقدرة على الطيران، فما الذي يضمن أنكم لن تستخدموا قواكم في الظلم والعدوان؟!
لم يحر رائد جوابا بل بقى صامتا، فقال الصقر:
ـ أرأيت؟! أنت حتى لا تستطيع أن تؤكد لي أنكم لن تفعلوا!!! على كل حال أنا عائد الآن إلى دياري، ولكن تذكر دائما أن فوق كل قادر قدير.
ثم طار مبتعدا، ومنذ ذلك اليوم لم تعد الصقور ترى في الغابة كثيرا.
وبعد أن مضت الأيام والسنون وأصبح ما حدث في بلاد النسور تأريخا قديما زوّرت الأحداث فيه فأصبح الصقر ظالما! والنسر، رائد العلم والمعرفة!!!. لأن النسور التي علمها الصقر، ومن تبعها من الحيوانات، كانت هي من كتب التأريخ بعد أن سيطرت على أجزاء شاسعة من الغابة!!!
كان كبير النسور في ذلك الزمان جالسا على عرشه وقد بدت عليه علامات الفخر والاعتزاز بالنفس لأنه كان قد صدق بأنه يختلف حتى عن بقية النسور لأن الدم الذي يجري في عروقه أزرق وليس أحمرا كما هو حالها!!! فهو حفيد رائد العظيم الذي غير مجرى تأريخ الغابة!!!، عندما دخل عليه ابنه الأمير، صفيه وولي عهده، وقد بدت عليه علامات الانزعاج الشديد! فقال الملك:
ـ ما بك يا أيها الأمير السعيد؟!
فقال الأمير على الفور:
ـ أولسنا نحن النسور من علم حيوانات الغابة كيف تعيش؟
ـ هذا صحيح!
ـ فلم تشاركنا بقية الحيوانات في حكمها إذا؟!
عندها ضحك الملك وقال:
ـ ولكن المساحات الخاضعة لنا منها بالفعل، شاسعة، ولا نكاد نكفي لإدارتها، فما حاجتنا إلى المزيد؟!
انتفض الأمير عندما سمع قول أبيه وقال:
ـ ماذا؟! ما حاجتنا إلى المزيد؟!!! أنا عندما أصبح ملكا بعد أن، بعد أن،
قطب الملك حاجبيه لقول ولده الذي أكمل قائلا بعد تردد قصير:
ـ بعد أن أصبح ملكا، لن تكفيني الغابة كلها ملكا لي، ولكن الذي يزعجني الآن هو، هذه الحيوانات التي تشاركنا حكم الغابة، وخاصة هذا الديك المختال، اللعين، الذي يحكم عالم الدواجن، أواه لكم أكرهه!، ولكني أعجب لحال بعض الحيوانات التي هي أكبر منه بكثير، كيف ترتضي بهوان الخضوع لسطوته الفارغة.
بدا الذعر على وجه الملك عندما سمع قول الأمير فصاح:
ـ صه، إياك أن تكرر ما قلت للتو، وإلا أمرت بقطع لسانك، أتريد أن تعلم الحيوانات كيف تتمرد علينا؟. أتتصور أننا نحكم الحيوانات لأننا أقوى منها؟! أو أننا نسيطر على الطيور لأننا أذكى منها؟ لا يا ولدي، إنما نحن نستطيع ذلك لأنها تجهل مدى ذكائها و قوتها، وإذا ما نبهت حيوانا غافلا لذلك، فإن بقية الحيوانات ستنتبه أيضا، وفي هذا القضاء المبرم على أحلامنا في السيطرة على كل الغابة.
ثم قال بعد أن استرد بعض هدوئه السابق:
ـ ثم أنك يجب أن تعرف أن الديك في النهاية هو نسر مثلنا.
عندها صاح الأمير باستغراب شديد:
ـ ماذا؟! الديك،نسر!!! هذا مستحيل!!!
ـ بل هو الحقيقة، فما الديك إلا نسر خاف من الطيران لأنه مصاب برهاب الأماكن العالية ففضل أن يبقى سائرا على الأرض مثلما تعود قبل أن يخترع رائد الطيران، ولأنه ورغم جبنه، مغرور، فإنه بدأ يبحث عن الريش الملون ووضع لنفسه عرفا يتباهى به، وبمرور الوقت تغير شكله وما عاد أحد يتذكر أنه كان نسرا يوما ما، ولكنه بقى يحمل في أعماقه أخلاق النسور وحبهم للسيطرة وقيادة الآخرين.
قال الأمير :
ـ هذا وحق أسد، كلام عجب ويصعب تصديقه!!!
ـ ولكنه الحقيقة، ولكن وفّر عجبك لما ستسمع بعد.
ـ وأي أعاجيب تريد أن تسمعني.
ضحك الملك وقال بلهجة العارف الحكيم:
ـ ما الذي ستقوله إذا ما قلت لك أن الثور حليفنا هو في الأصل نسر أيضا؟
عندها ضحك الأمير هو الآخر وقال:
ـ الآن فهمت، أنت تمازحني يا أبي أليس كذلك؟
فقال الملك بجدية:
ـ لا يا ولدي، بل أنا أخبرك الحقيقة التي لا يعرفها الكثيرون، وليكن في علمك أيضا أن الذئب كان نسرا هو الآخر.
ـ ولكن يا أبي!!! حسنا. حسنا، هلا أفهمتني كيف أصبحا ما هما عليه الآن؟!
ـ أما الثور فقد كان نسرا سمينا لأنه تعود منذ صغره على أكل النباتات التي كانت ولازالت متوفرة بكثرة في الغابة، على العكس من اللحوم التي تأكلها النسور والتي يجب أن تشقى للحصول عليها من صيد الطرائد، المهم أن رائدا عندما رأى بدانة الثور وهو لم يزل نسرا متخلفا لم يحاول حتى أن يجرب تحويله إلى طائر، هل تستطيع أن تتصور فيلا صغيرا وهو يحلق في الجو؟!
ضحك الملك مسرورا بعد أن قال جملته الأخيرة ولكن الأمير لم يشاركه بالضحك لأنه كان يجد صعوبة كبيرة في تصديق ما كان يقوله والده، بعد نوبة الضحك تابع الملك قائلا:
ـ أما الذئب فإنه كان نسرا غبيا جدا ذهبت محاولات رائد لتعليمه أدراج الرياح ولذلك لم يكن بامكان سحره أن يجدي معه نفعا، ولكن الحق الذي يجب أن يقال، هو أن الذئب نسر أكثر من النسور، فهو فتاك ومفترس تهابه الحيوانات ولا سيما الصغيرة منها.
ـ حسنا، فمن أين لهما تلك القوائم الأربعة وأنت كما ترى نحن لا نمتلك إلا ساقين؟!.
ـ آه، نعم، لقد كانا يحتاجان في حياتهما دوما إلى السرعة في الكرّ والفرّ ولذلك اضطرا إلى الاستعانة بأجنحتهما الضامرة وبمرور الوقت أصبحت تلك الأجنحة قوائما أمامية لهما مثل بقية الحيوانات غير الطائرة.
ـ هلا أخبرتني يا أبي من أين أتيت بهذا الكلام الغريب؟!
ـ لقد رواه لي الكاهن الأعظم بنفسه، هل ارتحت الآن؟
ـ آه! لقد فهمت! إذا هذا الكذاب المخادع هو وراء كل هذا!!!
انتفض الملك بشدة وقال:
ـ ويحك يا مجنون!!! أتريد أن تغضب عليك الآلهة؟! هيا تراجع عن الكلام الذي قلته بحق الكاهن الأعظم، وأذهب إليه لتطلب منه المغفرة.
ولكن الأمير قال بعناد:
ـ أتعرف ما هو أول عمل سأقوم به عندما أصبح ملكا؟ سأنفي هذا المشعوذ الدجال عن مملكتي. ألم تعرف بعد، أنه صنيعة وزيرك، الغراب الخبيث؟! ولكن دعنا من هذا الآن وقل لي يا والدي العزيز، أكان هو من نصحك بأن تضيق الخناق على الباز وتحرمه من تنفيذ مخططاته للسيطرة على بعض أجزاء الغابة الواسعة كما تقول؟
ـ بالطبع! فهذا الباز الشقي صعب الترويض، هو جاد وشديد المراس تراه يتدرب في جميع الأوقات وكأنه في حرب دائمة! وفوق ذلك طموحاته كبيرة جدا، إنه خصم يخشى منه ولذلك يجب أن يكون مقيدا طوال الوقت لنأمن شره.
ـ ما هذا يا أبي؟! تطلق يد الديك والثور والذئب ليعيثوا فسادا في أنحاء الغابة وتقول أنها نسور سابقة وتغلّ يد الباز الذي يمت إلينا بأقوى صلات الرحم، فهو الباز الكاسر الذي أشتق الاسم الذي أطلق علينا خطأ، وأقصد الكواسر فما نحن منها، من اسمه!!! يا والدي، ألا ترى أن هذا الغراب الخبيث يدبر شيئا في الظلام؟.
ـ وما الذي يمكن أن يدبره هذا الغراب الغبي الذي هو كالخاتم في إصبعي؟!
ـ إن هذا الغبي كما تقول يكره الباز لسبب شخصي، كما انه يريد أن يوصله لمرحلة اليأس لكي يقدم على عمل متهور فيوقع بذلك بيننا وبينه فتقوم حرب يكون هو المستفيد منها لأنه تاجر حروب كما تعرف ولا يعبد غير المال.
عندها ضحك الملك وقال:
ـ الغراب تاجر حروب! هذا الطائر المسالم!، يا ولدي، أي كلام هذا؟! أنت مخطئ!.
فقال الأمير بغضب:
ـ قد أكون مخطئا فيما يتعلق بنيّاته، لأن مخططاته قد تكون أسوأ مما توقعت بكثير، من يدري؟! ولكن ما خطبك أنت يا أبي؟ هل ستنتظر حتى يتسبب هذا اللعين في ضياع ملكك؟!
ثم نهض وغادر المكان تاركا الملك لحيرته وارتباكه وهو يرى ابنه يتصرف على هذا النحو للمرة الأولى في حياته!!! وفيما هو على حاله ذاك دخل عليه وزيره الغراب، فرمقه الملك شزرا وقال:
ـ ما الذي أتى بك يا وزير الشؤم الآن.
ضحك الوزير ضحكة رياء وقال:
ـ أطال أسد العظيم عمر الملك الحكيم، ولكني أتيتك لأني لم أجد للمشكلة التي واجهتني حلا.
ـ ومتى وجدت لمشكلة حلا يا غبي؟ هات ما عندك بسرعة.
ـ لقد ضاقت السجون يا مولاي بنزلائها ولم يبق فيها مكان للمزيد.
ـ وما الذي تريده مني؟
ـ أريد المزيد من الأموال لبناء سجون أخرى.
ـ ولكن لدينا من السجون الكثير بالفعل، فهل تريد أن تكون كل أبنية المملكة سجونا؟! ألم تستطع أن تفكر في حل آخر؟.
ـ نعم يا مولاي لقد فكرت، وأرجو أن تحوز فكرتي رضاك، لم لا نكون جيشا من المساجين ونشغله بحرب نشعل أوارها في مكان ما من الغابة، فنكسب من الحرب ونتخلص من أغلبية السجناء غير المرغوب بهم في نفس الوقت؟
لم يجب الملك على الفور بل راح يفكر لوهلة فبان الفرح على الغراب لأنه تصور أن الملك سيوافق على فكرته العبقرية، فراح يفرك بكفيه من الفرح، ولكن الملك صاح به فجأة:
ـ ولكن! كيف تأمن شر هؤلاء الأشرار؟ وما الذي يضمن لك أنهم لن يهاجمونا نحن حالما يرون أنفسهم وقد صاروا جيشا جرارا، وأنت تعرف مدى كراهيتهم لي!!!
ـ ولكن، ولكن!
فصاح الملك وهو منزعج أشد انزعاج:
ـ هيا أغرب عن وجهي الآن فسوف أفكر أنا في حل لهذه المشكلة، هيا اذهب.
أسرع الوزير هاربا من أمامه، ولكن الملك الغاضب سرعان ما صاح به:
ـ توقف.
فجمد المسكين في مكانه واستدار، فقال الملك:
ـ في المرة القادمة لا تحاول أن تفكر لوحدك، بل انتظر أوامري لتفكر، هل فهمت؟
ازدرد الوزير لعابه بصوت مسموع وقال بصعوبة:
ـ أمر، أمر مولاي.
ـ هيا اذهب الآن.)
ثم التفت إليّ الأفعوان وقال:
ـ وأنت أيضا يا خلد، اذهب الآن.
لاحظت في صباح اليوم التالي أن الطقس أبرد من المعتاد، فانتظرته بقلق خوفا من أن لا يحضر، لأن الأفاعي لا تخرج في البرد!. ولكنه وصل في موعده اليومي بالضبط!!! ويبدو أنه قد قرأ أفكاري لأنه سرعان ما قال لي:
ـ هل توقعت أن لا آتي؟
أومأت برأسي نعم، فقال:
ـ بسبب البرد، أليس كذلك؟
ـ نعم.
ـ ألم أطلب منك أن لا تصدق كل ما تسمع؟ إن هذه الأسطورة ليست إلا شائعة أطلقناها نحن معشر الأفاعي لكي نوهم الآخرين أننا ننام، والحقيقة هي أننا لا ننام أبدا، قل لي، هل سبق وأن رأيت أفعى مطبقة أجفانها؟
ـ كلا.
ـ أرأيت؟
ـ ولكن لم لا تنامون؟!
عندها ضحك بمرارة وقال:
ـ وهل يستطيع من له أعداء بقدر عدد أعداءنا أن ينام، يا بني لو رضخ أي منا لعادة النوم المضرة بصحتنا لما عاش ليتحكم بمصائركم، هيا دعنا من هذا الحديث الآن ولنكمل حكايتنا.
ثم سكت قليلا وبدا عليه وكأنه يحاول أن يتذكر شيئا، ثم قال:
( كان النسر " أفاق" أفاقا بحق! كان لا يستطيع أن يبقى في مكان واحد لفترة طويلة لأنه سرعان ما يملّ، فيحن لحياة الترحال والمغامرة مرة أخرى! ولأنه كان نسرا منعزلا ولا تربطه علاقات من أي نوع، وبأي مخلوق، فأنه كان بامكانه أن يرحل ساعة يشاء وإلى أية جهة يريد!!!.
وفي ذات يوم طار أفاق فوق أشجار الغابة وحلق عاليا في السماء حتى وصل إلى علو لم يكن قد وصله طير من قبل! فرأى من هناك الظل الأسود العملاق الذي تناطح قمته السحاب، للجدار الكائن إلى الغرب من الجزيرة والذي هو نهايتها! فكر في الذهاب إليه، واستكشاف ما وراءه، ولكنه خاف لأنه تذكر أنه إنما بوابة أرض الظلمات التي كان قد سمع نتفا من قصص أهوالها!!!
ولأنه كان يريد في ذلك اليوم أن يستمر في التحليق حتى يخترق السحاب بنفسه! فقد استمر في مسعاه حتى نجح!!! عندما وجد نفسه فوق السحاب أستخف به الطرب وأنسته السعادة خوفه من الأخطار التي توقع أنه سيواجهها فوق الغيم لأنه كان قد سمع الكثير من القصص المخيفة التي تروى عن عالم ما فوق الغيم الغامض. ولكنه عندما رأى أنه لا شيء هناك غير السماء الصافية راح يطير فوق الغيم آمنا، وظل كذلك لوقت طويل جدا وهو يتطلع إلى تلك التشكيلات الرائعة التي يكونها الغيم. وفجأة رأى أمامه بقعة داكنة لا تتناسب مع بياض الغيم الناصع، فتملكه الخوف!!! ولكنه تقدم منها بحذر ليكتشف أنها صخور فقال لنفسه:
ـ ما هذا؟ صخور فوق الغيم!
كان متعبا جدا ولكنه خاف أن يحط عليها! فبقى حائرا لبعض الوقت، ولكنه سرعان ما قرر أن يحط! لأنه كان يعرف أنه سينزل في النهاية فهو لم يستطع يوما أن يقاوم فضوله. عندما نزل على صخرة أدرك فورا أنها ليست شيئا غير حقيقي، فزادت حيرته!!!
ـ ولكن من أين أتت هذه الأرض الغريبة؟ وكيف يمكنها أن تبقى طافية هكذا فوق الغيوم؟! لأرتح قليلا الآن وسأستكشف أمرها فيما بعد.
ولكنه لم يلبث في مكانه طويلا لأن الأسئلة المحيرة كانت تتقافز في باله، وسرعان ما طار نزولا ليرى ما تحت الغيم في تلك المنطقة، وهناك كانت المفاجأة! فقد رأى أن تلك الأرض الغريبة التي تصور أنها عائمة فوق الغيوم، تخترقها وتمتد نزولا نحو الغابة!!! فقال يحدث نفسه:
ـ ولكن ما لهذه الأرض ترتفع هكذا حتى تناطح الغيوم؟! أنا لم أر طوال حياتي شيئا كهذا!!!
لاحظ شيئا بدا له كغصن شجرة وقد برز من صخرة! فحطّ عليه وهو يتلفت إلى اليمين و اليسار، ولكنه ما أن فعل حتى تحرك الغصن! نظر إلى الأسفل فإذا به يجد نفسه وقد هبط على قرن حيوان غريب!!! قفز النسر مذعورا، وكذلك فعل الحيوان! فطار الأول وركض الثاني مبتعدا!!!
فرّ أفاق المذعور طائرا إلى أعالي السماء، ولكنه قال لنفسه بعد حين:
ـ ولكن! لماذا أنا خائف؟ فهذا الحيوان الغريب بدا غير قادر على الطيران، أي أنه لن يستطيع الإمساك بي إذا ما أراد إيذائي، لأرجعن إليه، عسى أن أعرف ما هو؟ وما الذي يفعله هنا؟!
عاد بالفعل إلى الصخرة التي هبط عليها قبل قليل، ولكنه لم يجد الحيوان هناك! فراح يبحث عنه بالنظر حتى لمحه قابعا خلف صخرة بعيدة وهو يتطلع إليه خلسة! فطار إليه وهبط أمامه ولكن على بعد يؤمن له الفرصة للفرار إذا ما حدث شيء، أشار إلى الحيوان ليقترب، فأقترب الحيوان وهو يقدم ساقا ويؤخر أخرى! قال أفاق:
ـ اقترب، لا تخف.
قال ذلك وساقاه تكادان لا تقويان على حمله من شدة الخوف! قال الحيوان بتردد:
ـ من أين أتيت يا أيها الوعل الذي يطير؟!
فقال أفاق بدهشة:
ـ ماذا؟! وعل، ويطير، ما هو الوعل؟!
ـ الوعل، لا تعرف ما هو الوعل، وأنت في أرض الوعول؟! ولكن! إذا لم تكن أنت وعلا، فما أنت؟
ـ أنا نسر، واسمي أفاق!
ـ ومن أين أتيت يا أفاق؟!
ـ من تحت، من الغابة.
ـ ماذا؟! من تحت!!! أتريد أن تقول أنك أتيت من قعر العالم الأخضر! من الأرض التي تذهب إليها أرواح المقاتلين من الوعول؟! ولكن هذا مستحيل!!!
ـ أنا لا أعرف عمّ تتكلم يا سيد وعل، ولكني أخبرك الحقيقة، فأنا نسر وأعيش في الغابة التي تحت.
فقال الوعل وقد بان على وجهه الغضب الشديد:
ـ أنظر يا هذا، أنا "ناطح الصخر" من قبيلة "تيس الجبل" ولن أسمح لمخلوق أن يخدعني، إن الأرض التي تتكلم عنها هي أرض الأرواح وقد ذهب بعض الشجعان من قبيلتنا إلى هناك لزيارة أرواح أجدادهم ولكنهم لم يعودوا، لأن من ينزل إلى أرض الأرواح لن يستطيع أن يخرج منها، هيا أخبرني من أين أتيت وإلا أقسم بروح جدي الأعظم "تيس الجبل"، لأمزقنّك شرّ ممزق.
شعر أفاق بحيرة لأنه كان لا يريد القتال مع الوعل قبل أن يعرف منه التفاصيل التي شاء أن يستفسر عنها!!! فقال:
ـ ولكن ما الذي تريد أن أقوله لك يا سيد "ناطح الحجر"؟
فزأر الوعل قائلا:
ـ لقد قلت لك أنا "ناطح الصخر"، وليس الحجر، ثم أنا لست بسيد بل مقاتل.
ـ عذرا يا "ناطح الصخر"، ولكن قل لي، هل من شيم مقاتلي قبيلتكم أن يقاتلوا ضيوفهم؟
عندها شعر "ناطح الصخر" بالخجل فقال:
ـ عذرا يا "الوعل الذي يطير" ولكنك تأبى أن تقول لي الحقيقة!.
ـ دعنا الآن من الحقيقة فأنا جائع ومتعب.
فقال الوعل على الفور:
ـ هيا بنا إذا إلى مكان تجمع القبيلة لأقدم لك ما تأكله ومكانا تبيت فيه.
ثم راح يقفز من صخرة إلى أخرى بكل سرعة ورشاقة ويتبعه النسر طائرا حتى وصلا إلى مكان رأى أفّاق فيه الكثير من الوعول التي تجمعت حوله وهي تتفحصه بكل دهشة، فيما ابتعدت بعض صغار الوعول عنه وهي تبكي مذعورة.
قدموا له طعاما من حشائش الجبل ونباتاته فأصابه الغثيان عندما رآه! ولكنه لم يشأ أن يخبرهم أنه من آكلي اللحوم لكي لا يخيفهم، فأكلها مضطرا وهو يتطلع بنهم إلى صغار الوعول التي تتطلع إليه من بعيد.
في الصباح التالي استيقظ أفّاق من نومه على صوت صراخ وبكاء، فذهب إلى حيث وجد وعلة تبكي وسط مجموعة من الوعلات اللواتي يطيبن خاطرها فيما بدت الحيرة على وجوه الوعول!!! توجه أفاق إلى "ناطح الصخر" الذي كان واقفا وسأله:
ـ ما الذي حدث؟
فقال الوعل وقد بدا الأسى واضحا في عينيه:
ـ لقد اختفت "نسمة الصباح" بنت "العنزة الثكلى" هذه، وقد بحثنا عنها طوال الليل ولكننا لم نعثر لها على أثر!.
عندها قال أفاق في سره:
ـ آه، إذا اسمك هو "نسمة الصباح" يا أيتها الوعلة اللذيذة اللحم!.
ثم تصنع الحزن وقال:
ـ هل أستطيع أن أساعد في شيء؟
فقال "ناطح الصخر" بحزن:
ـ لا فائدة من المزيد من البحث، لأنها لا بد وأن تكون في أرض الأرواح الآن.
فقال أفاق في سره:
ـ في هذا أنت على حق، فقد ألقيت بقاياها من فوق الجبل، ولابد أن أبناء عمّي مسرورين الآن بأكل تلك البقايا.
ثم قال لـ "ناطح الصخر" برياء:
ـ مسكينة هي هذه الوعلة التي فقدت ابنتها للتو.
أومأ الوعل برأسه موافقا، ثم قال بعد قليل للنسر:
ـ هيا بنا الآن لنقابل أبي "التيس العنيد" زعيم القبيلة.
ما إن قال هذا حتى مرق وعل فتي من جنبه كالسهم مستهدفا أفاق!!! ولكن هذا الأفاق الخبير المتمرس في مواجهة الأخطار، تفادى قرون الوعل المهاجم في اللحظة الأخيرة وطار مبتعدا عنه، صاح "ناطح الصخر" غاضبا:
ـ ماذا دهاك يا "عين العقل"؟! لماذا تهاجم ضيفنا هكذا؟
لم يجبه "عين العقل"، بل راح يقفز في الهواء محاولا الوصول إلى أفاق الطائر، ولكن بلا جدوى! ولم يهدأ إلا بعد أن نطحه "ناطح الصخر" بقرنيه بقوة فطرحه أرضا، نهض "عين العقل" وقال ل "ناطح الصخر":
ـ دعني أقضي على هذا المجرم.
فقال "ناطح الصخر" بدهشة:
ـ ولكن لماذا؟! ما الذي فعله؟!.
ـ لقد كان هو من سرق "نسمة الصباح" في الليل، ولا أعرف ما الذي فعله بها، ولكني متأكد من أنه فعل قبيح.
عندما سمع أفاق قول الوعل الفتي بدأ يرتفع في الفضاء على مهل استعداد للفرار، ولكن "ناطح الصخر" سأل الوعل قائلا:
ـ وهل رأيته يفعل ذلك؟!
ـ كلا ولكني لاحظت كيف كان يرمقها في المساء، وعندما اختفت عرفت أنه الفاعل.
ـ أبالظنون تبني أحكامك يا عاقل؟!
ـ وما الذي تريدني أن أفعله عندما يكون اليقين مفقودا؟!
ـ تسكت وتجنّب الآخرين مشاكلك، هيا أغرب عن وجهي.
في تلك اللحظة حطّ أفاق على الأرض بعد أن اطمأن لموقف "ناطح الصخر"، وقال لـ "عين العقل":
ـ سامحك الله يا ولدي، صحيح أن من لا يعرفك لا يقدرك حق قدرك.
تأهب "عين العقل" للهجوم عليه مرة أخرى ولكن "ناطح الصخر" حال بينه وذلك فابتعد مزمجرا.
عندما دخل أفاق على "التيس العنيد" بصحبة "ناطح الصخر" انحنى أمامه وقال:
ـ مولاي ملك الجبل العظيم.
استحسن الوعل العجوز حركته التمثيلية ولاقت هوى في نفسه فقال:
ـ "التيس العنيد" يرحب بالضيف الكريم ويدعوه إلى الجلوس بالقرب منه.
فقال أفاق بفرح ظاهر:
ـ يا للشرف العظيم، شكرا، شكرا يا مولاي.
قال العجوز:
ـ أنا "التيس العنيد" وليس مولاي.
ـ ولكن هذه هي الكلمة التي ندعو بها عظماءنا في بلادنا يا مولاي.
ـ آه، فهمت! شكرا، اجلس هنا بجانبي.
جلس أفاق حيث أشار الوعل وبقى ساكتا حتى سأله العجوز:
ـ من أي الوعول أنت يا ولدي؟
ابتسم أفاق وقال:
ـ ولكني لست بوعل، بل أنا نسر.
فقال الوعل باستغراب:
ـ ولكني لم أسمع يوما بوجود كائنات غير الوعول في هذا العالم!!!
فسأل النسر الخبيث لكي يتأكد من شيء ما:
ـ هل هذا يعني أنه لا يوجد هنا غير الوعول؟!
ـ نعم.
ـ وأنت ملكهم جميعا؟!
ـ بل أنا زعيم قبيلة "تيس الجبل"، وهناك قبائل أخرى في الجهات الأخرى من الجبل، مثل قبيلة "المقاتل الذبيح" في الشمال، و"محاربي قوس قزح" في الجنوب وقبيلة "الغافلون" في الغرب. ولكن خذ حذرك منهم جميعا فهم خبثاء.
ـ أهذا يعني أنكم لستم على وفاق معهم؟
ـ بل هم أعداؤنا الألداء.
شعر أفاق بسعادة كبيرة حين سمع هذا لأنه سيسهل تنفيذ ما كان يفكر به من خطط في ذلك الوقت!!!. سأله الوعل العجوز قائلا:
ـ هل توجد للنسور قبائل مثلنا؟
تفاجأ أفاق بهذا السؤال ولكنه سرعان ما قال:
ـ نوعا ما، ولكن الأمر يختلف عندنا قليلا.
ـ ولكن! أصحيح أنك قلت لـ "ناطح الصخر"، أنك قد أتيت من تحت، من أرض الأرواح؟!
ـ نعم يا مولاي.
ـ ولكن هذا مستحيل.
ـ كلا يا أيها الملك العظيم، ليس مستحيلا، ولو منحتني الفرصة فسأستطيع أن أثبت لك ذلك.
ـ وكيف ذلك؟
ـ أن أرجع إلى بلادي الآن لكي أعود فيما بعد ومعي بعض أبناء جنسي ليؤكدوا لكم صدق دعواي.
عندها أقتحم "عين العقل" المكان وهو يصيح:
ـ أتريد أن تجلب إلى بلادنا بقية القتلة لتقضوا علينا يا أيها الشرير؟
كان ينوي مهاجمة أفاق! ولكن بعض الوعول التي كانت حاضرة، أمسكته قبل الوصول إليه، فصاح "التيس العنيد":
ـ ويحك يا مجنون! كيف تجرؤ على اقتحام مجلسي هكذا؟!
فقال "عين العقل" وهو يناضل لتحرير نفسه من الأيدي الممسكة به:
ـ عذرا يا أيها الزعيم، ولكن دعني أقضي عليه ما دام في متناول أيدينا وإلا ستندمون فيما بعد، يوم لا ينفع فيه ندم.
فرد "التيس العنيد" بغضب:
ـ أي هذر غريب هذا، هيا خذوه بعيدا عنا الآن وسيكون لي حساب عسير معه فيما بعد.
ثم التفت إلى أفاق وقال له:
ـ أما أنت يا ولدي فأنطلق إلى بلادك سالما وهات براهينك، وستلقى كل ترحيب عندما تعود إلينا.
فقال أفاق بدهاء:
ـ أمر مولاي.
ثم نهض وخرج من مجلس الزعيم وسرعان ما طار. وخلال ذلك كان "عين العقل" قد تخلص من أسر الوعول التي كانت ممسكة به وعندما رأى أفاقا طائرا، لحق به بتصميم، فضحك أفاق عندما رآه على هذا الحال اليائس، الأمر الذي زاد من غضبه فراح ينطح الصخور عندما رأى أن النسر القاتل قد ابتعد!!!.
في طريق عودته إلى الغابة وهو يطير هابطا إلى أسفل اكتشف أفاق أن الجبل إنما هو الجدار الأسطوري إياه! فهاله هذا الاكتشاف العجيب الذي لم يكن قد خطر له ببال!!!)
سكت الأفعوان وبانت عليه علامات التفكير لوهلة، فيما حافظت أنا على صمتي الذي كنت قد تعودت عليه، قال بعد حين وقد بدا على وجهه السهوم:
ـ آه لو تعرف كم تلعب الصدف، أحيانا، دورا في رسم الأحداث التاريخية في هذه الغابة العجيبة!.
ولأني كنت قد سمعت مثل هذا من قبل، قلت بتعجب:
ـ صدف! أتعني أن حياتنا؟
فقال مقاطعا، وبضجر:
ـ أنا لم أعن شيئا، بل قلت ما أشعر به.
أعقب قوله هذا فترة صمت أخرى قبل أن يقول:
ـ متعب أنا الآن، فأذهب وحاول أن تحضر بالوقت المحدد في الغد.
في الصباح التالي قال لي الأفعوان من دون أن يرد على التحية التي ألقيتها عليه عندما حضر:
( كما قلنا في الأمس، تتصرف الأقدار أحيانا بصورة غريبة!!! فلو لم يقرر أفاق في ذلك اليوم أن يطير عاليا لما اكتشف وجود الجبل ولما وقعت تلك الأحداث الجسام التي غيرت وجه الجبل والغابة من بعده!!! بل حتى لو كان قد ارتفع فوق الغيوم ومن ثم قرر فور شعوره بالتعب أن يعود إلى الغابة لما حدث ما حدث!. وقد يقول قائل أن اكتشاف وجود الجبل كان مسألة وقت فقط بعد أن تعلمت الطيور كيف تطير! وهذا صحيح، ولكن أليس صحيحا أيضا أن المكتشف لو لم يكن أفاقا، بل كان طيرا آخرا أقل أطماعا منه وأكثر رحمة، لكان مصير الجبل وسكانه من الوعول مختلفا، وبالتالي مصير الغابة من بعده؟! ولكن ما نفع هذه الأسئلة وما وقع قد وقع ووجدت حيوانات الغابة نفسها بعد حين في مواجهة وحش كاسر اسمه دولة نسور الجبل التي لم تسلم من أذاها حتى نسور الغابة نفسها؟!!!
المهم أنه في اليوم التالي لعودة أفاق إلى بلاد النسور دخل الغراب الوزير على ملك النسور الذي كان جالسا يأكل بشراهة، رغم أنه كان في حالة حداد حزنا على ابنه الوحيد وولي عهده، الذي مات في ظروف غامضة لم يعرف أحد ماهيتها!!! فقال له بتذلل:
ـ عذرا يا مولاي،
ولكن الملك قاطعه قائلا بغضب:
ـ والآن ماذا يا وزير النحس؟ ألا ترى أني مشغول بتدبير أمور المملكة؟
اضطرب الوزير وراح يتأتيء قائلا:
ـ عذ، عذرا، يا، مو، مو،
ـ هيا هات ما عندك وأرحني من وجهك الكئيب.
ـ أمر، مولاي، هناك نسر في الباب أسمه أفاق يريد أن يراك.
ـ ماذا؟ّ أفاق! من أفاق هذا؟!
ـ هو يقول أنك تعرفه لأنك سبق وأن كلفته بمهمات خاصة.
ـ آه، أفاق، نعم، نعم لقد تذكرته. ولكن ماذا يريد؟. حسنا، لا بأس، دعه يدخل.
استدار الوزير على الفور لتنفيذ الأمر، ولكن الملك عندما رأى قطعة اللحم التي كان قد نسيها وهي في يده، صاح:
ـ عد إلى هنا، هيا اجلب ذلك الغطاء وغطّ به هذا الطعام الملكي، آه من هذا الشعب الذي لا يترك وقتا لملوكه ليتناولوا وجباتهم.
أسرع الوزير لجلب الغطاء وهو يقول لنفسه:
ـ متى يجدون الوقت إذا، وعدد وجباتك في اليوم تتجاوز العشرين؟!
صاح الملك:
ـ ما هذا الذي تتمتم به لنفسك؟
ـ أدام اسد ظلّ الملك، أنا إنّما ألعن هذا الشعب الجاحد.
ـ هيا أسرع ودع هذا الأفاق يدخل لنر ما يريد؟
دخل أفاق بعد خروج الوزير وانحنى أمام الملك بحركة من حركاته المسرحية التي تعود عليها في مثل هذه المناسبات وقال:
ـ ليحفظ الله الملك العظيم.
فقال الملك بلامبالاة مقصودة:
ـ أهلا يا، ما اسمك؟
ـ أفاق يا مولاي أفاق. هل نسيتني؟!
ـ آه نعم أفاق، وماذا تريد يا أفاق؟
ـ عطف جلالتكم.
فهب الملك غاضبا وصاح:
ـ عطف جلالتنا!!! اسمع يا أفاق، إن كنت قد كلفتك مرة أو اثنتين ببعض الأعمال القذرة في السابق، فإن هذا لا يعني أبدا أني على استعداد لتحمل وجهك القبيح في كل مرة تريد أن تطلب فيها طلبا مني، لأني ورغم أن تكليفك من قبلي هو تشريف لك، أجزلت لك العطاء في الماضي. ثم، ثم ألا تعرف أنه أمر خطير أن يقاطع أبناء الشعب الملوك وهم يأكلون؟.
ـ وحقّ أسد لم أكن أعرف أنك تأكل، أما عن أمر تشريفك إياي فهو شرف ما بعده شرف لن أنساه ما حييت، ولكن رفقا بي يا مولاي، فأنا لم آت إلا لكي أكون في خدمتك، لا قرّت عين من يزعج ملك الملوك وقرّة عين النسور، فقط تكرم علي وأصبر حتى أوضح ما أردت قوله.
ـ حسنا ولكن أسرع فلدينا الكثير من المشاغل.
ـ أمر مولاي، فقد طرت قبل أيام حتى تجاوزت الغيوم علوا وهناك، فوق الغيوم اكتشفت جبلا ،
ـ جبل!!! ماذا تعني بجبل؟
ـ هو أرض ترتفع إلى أعلى يا مولاي.
ـ وكيف ترتفع الأرض وهي لا أجنحة لها؟!!!
منع أفاق بصعوبة ابتسامة سخرية كادت أن تطوف على منقاره، وقال بما تعوده من نفاق:
ـ إذا كان جلالتكم وبكل علمه لا يعرف، فكيف لي أن أعرف؟
ـ حسنا، وماذا رأيت هناك؟
ـ رأيت حيوانات غريبة تقول أن اسمها الوعول، وهي تمتلك قرونا كقرون الثيران ولكنها أطول منها وأكثر خطورة.
ـ أمر عجيب!!! ولكن، ولكن أين يوجد هذا الجبل الغريب؟! فهذه هي خريطة الجزيرة أمامي ولا ذكر فيها له.
ـ هو موجود هناك إلى الغرب من الغابة يا مولاي.
ـ ماذا؟ ولكن لا يوجد في الغرب إلا أرض البقرة الحلوب!
ـ كلا يا مولاي بل هو أبعد منها.
ـ ولكن لا يوجد وراءها غير الجدار الرهيب!
ـ نعم يا مولاي وهذا الجدار هو الجبل نفسه.
قفز الملك من مكانه مرعوبا وصاح:
ـ ماذا أتعني أنك قد ذهبت إلى أرض الظلمات وعدت منها؟!!! ابتعد، هيا ابتعد عني، فأنت إما كاذب أو شيطان رجيم.
ـ كلا يا مولاي، لا هذا ولا ذاك، بل أنا خادمك المخلص.
ـ ولكن كلامك غير معقول!
ـ أعرف يا مولاي ولكنه الحقيقة.
بقى الملك لدقائق يفكر بذهول حتى قال في النهاية:
ـ على كل حال، ليكن كلامك صحيحا، فما الذي تريده مني؟!
ـ لأني أفكر في مجدك يا أيها الملك العظيم فقد طمعت في سرب من نسورك الأشداء لأرجع إلى تلك الوعول المتناحرة المتفرقة وأقضي عليها وأرفع فوق قمة الجبل رايتك الحمراء العظيمة.
ـ وما الذي يمكن أن أفعله بجبل لا أعرف حقيقة أمره؟!
ـ أنا متأكد أن فيه من الثروات ما يجعل لعاب الخصوم يسيل، فلنبادر نحن قبل أن يسبقنا إليه الآخرون.
ـ وليتهم يفعلون، لأنهم بذلك يمنحوني الفرصة لابتلاع ممالكهم والقضاء على قواتهم التي تحرمني النوم. أما جبلك هذا فأنا لا رغبة لي فيه البتة.
ـ ولكن يا مولاي.
ـ هيا اذهب يا أفاق فقد أضعت الكثير من وقتي لحد الآن، فهلا تركتني أهتم بشؤون الرعية.
قال هذا وراح يفرك بطنه التي بدأ يسمع عصافيرها وهي تزقزق!. أسقط في يد أفاق ولم يعد أمامه أي مجال فانحنى أمام الملك بلا مبالاة وانسحب بسرعة وهو يحدث نفسه قائلا:
ـ أعرض عليك فرصة العمر وأنت لا تريد يا ناكر الجميل!!! فلتذهب إلى الجحيم إذا وأنا ذاهب إلى الباز عدوك اللدود لأعرض عليه ما عرضته عليك وأنا متأكد من أنه سيوافق على مشروعي لأنه أعقل منك بكثير يا أيها الملك المتخلف.
في اللحظة التي ترك فيها أفاق الغرفة، اقتحمها الوزير وقال للملك بتضرع:
ـ عفوك مولاي، ولكن أتسمح لي بكلمة قبل أن يفوت الأوان.
ـ أف لك يا وزير القرف، هيا قل ما تريد.
ـ لقد سمعت حديثك مع أفاق.
قفز الملك من مكانه فجأة وأمسك برقبة الغراب، وقال بغضب:
ـ ويحك أتتنصت على أحاديثي يا مأفون؟!
ذعر الغراب كثيرا، ولكنه قال وهو يكاد يختنق من شدة القبضة التي تطبق على رقبته:
ـ خادمك المتواضع أنا، فقط أسمعني الآن وعاقبني مثلما تريد فيما بعد.
فقال النسر ومن دون أن يطلق سراحه:
ـ هيا هات ما عندك!.
ـ لقد فكرت،
فهزه الملك بعنف وقال:
ـ هل تجرأت على التفكير مرة أخرى بعدما أمرتك بعدم فعل ذلك بدون أمر مني.
ابيض وجه الغراب الأسود من الخوف وشدة الضغط على رقبته وقال:
ـ أقصد أني لم أفكر يا ولي نعمتي فرأيت لو أننا أرسلنا النسور القابعة في السجن مع أفاق إلى الجبل فسوف نضرب عصفورين بحجر، نتخلص من السجناء ويكون لنا موطئ قدم هناك تحسبا لكل احتمال.
ترك النسر رقبة الغراب فسقط بعنف على الأرض ولكنه نهض بسرعة ووقف أمام جلاده بذل وخنوع، قال الملك:
ـ أرأيت كيف تكون أكثر ذكاءا عندما لا تفكر يا أيها الغبي؟ ولكن، أين أفاق؟!
ـ لقد خرج منذ قليل يا مولاي.
ـ إذا الحق به على الفور واجعله يعود وإلا نتفت ريشك وجعلتك محطّ سخرية الطيور، هيا.)
سكت الأفعوان قليلا، ثم قال بعد قليل متابعا:
( لا حاجة بي إلى القول أن الغراب قد لحق بأفاق بالفعل لأن قصة غزو مجرمي النسر لجبل الوعول معروفة ولا حاجة لتكرارها، ولكن ما أريد قوله هو أن النسور هي طيور سيئة الطباع، ولذلك كان من الطبيعي أن تكون القوة مبدأها في الحياة، والعنف سمة رئيسية من سمات ثقافتها. وهكذا عاشت حياتها رغم أنها تطورت من حيوانات دنيا إلى طيور راقية بفضل الصقر الرائد و سحر لباب، محكومة بقانون الغابة الأول" البقاء للأقوى". ولكن هذا لم يكن بلا ثمن طبعا، لأن من اتخذ القوة والعنف شعارا له لا يستطيع بمرور الوقت أن يفرق بين عدو وصديق! بل يستخدم قوته ضد الجميع، ولذلك أصبحت دولة النسور واحدة من أكثر الدول ابتلاءا بظاهرة الجريمة!!! والعجيب أن هذه الدولة كانت قد فرضت القوانين على أفرادها ولكنها كانت تخرق كل القوانين التي تنظم العلاقة بين الدول عندما يحلو لها ذلك، أو عندما تفرضه مصلحتها! وبذلك كانت تعطي المثل السيئ لمواطنيها! ولهذا امتلأت سجونها بالمجرمين الذين كان سيلهم عليها لا يكاد ينتهي.
وعندما قاد أفاق جيش المجرمين الذي جهز له إلى أعلى الجبل، وأغار به على الوعول التي تسكن هناك، أصبح عنوانا للموت لها، بفضل مهارة أفراد جيشه وتفننهم في ابتكار المزيد من الطرق الفنية، لتعذيب الوعول وإفنائها!!!.
قال الوعل "الغد الذي لن يأتي" لأبيه "ناطح الصخر" وهما يجلسان تحت صخرة (بعدما كانت الوعول طوال عمرها لا ترتاح إلا بالوقوف فوق الصخور) اتقاءا لغارات النسور الفجائية عليهم:
ـ قل لي يا أبي، هل أكرمتم "الوعل الذي يطير" عندما أتى لأول مرة؟
ـ بالطبع يا ولدي، وهل رأيتنا يوما لا نكرم ضيفنا؟.
ـ فلماذا إذا يوغل هكذا في قتلنا وطردنا من أراضينا؟!
ـ هذا لأنه وعل شرير بطبعه.
ـ ولكن! لماذا يصبح الحيوان شريرا؟ أيمكن أن يكون السبب هو اتخاذهم للحمنا غذاءا لهم؟!
ـ لا يا "الغد الذي لن يأتي" لأنهم لو أرادوا لحومنا فإن أعدادا قليلة منا ستكفيهم، ولكنهم أصيبوا بداء القتل الذي أصبح لذّة عندهم، لا ضرورة حياة! وهم فوق كل ذلك يعتبرونا كائنات أقل منهم درجة!!!.
بان الحزن على وجه" الغد الذي لن يأتي " وهو يقول:
ـ لا أكاد أصدق أني لن أرى بعد الآن عمي" قاتل الأشباح" أو جدي "التيس العنيد" الذي مات من الحزن!!! وحتى أترابي، قتل الكثير منهم مثل" همس الخيال " و" فلذة الوهم " وغيرهما ! أواه يا أبي متى ينتهي كل هذا؟!
نظر الأب إلى ابنه بحزن وقال:
ـ يا بني، إن الحياة تسير أحيانا عكس ما يشتهي الأفراد، ويجب علينا أن نتقبلها كما هي، لأن رفض ما يحدث لن يفيد كثيرا إذا ما كان أكبر من قدرتنا على التصرف به.
ـ ولكن! لماذا قبيلة "تيس الجبل" بالذات؟!
ـ لا يا بني فما حدث لنا، حدث مع القبائل الأخرى، بل أن قبيلة "الغافلون" تكاد الآن أن تفنى عن بكرة أبيها، لأنها هي التي تلقت الضربة الأولى، وقد استخدمت النسور في ضربها أقدم خدعة كانت تلجأ إليها الحيوانات، وهي اختيار أضعف الخصوم لتوجيه أقسى الضربات إليه لتوقع الخوف في قلوب الأقوياء، والغريب أنها قد نجحت في ذلك، فألقت الرعب في قلوبنا وأوهمتنا أنها لا تهزم! وعندما اكتشفنا الحقيقة، كانت قوتنا قد ذهبت بعدما خسرنا خيرة مقاتلينا.
سكت وقد بان على وجهه الوجوم واستغرق في التفكير للحظات قبل أن يقول: ـ يبدو أن هذا هو عقوبة الآلهة لنا لأننا بقينا طوال حياتنا متفرقين ومتقاتلين فيما بيننا حتى استغل "الوعل الذي يطير" فرقتنا لينفرد بكل قبيلة على حدة، ليوقع بها أفدح الخسائر.أواه يا"عين العقل" أرجو أن تستطيع وأنت ترقد في أرض الأرواح أن تغفر لنا لأننا لم نصدق ما قلته عن هذا المجرم!.
ـ ولكن يا أبي أليس الجبل كبيرا جدا؟ فلم لا نترك لهم هذه الأرض ونذهب للسكن في أرض أخرى فنتخلص بذلك من شرورهم؟!
ـ لا يا بني لقد أعطتنا الآلهة هذه الأرض ويجب علينا الحفاظ عليها بأي ثمن. كما أن المشكلة لا تتعلق بالأرض، لأنهم لن يكتفوا أبدا، ولو كانوا يفعلون، لاكتفوا بما هو متوفر عندهم في البلاد التي أتوا منها، ولكنهم يريدون الجبل كله، ولن يهنأ لهم بال حتى يقضوا علينا جميعا.
فقال الوعل الصغير بكل براءة:
ـ فلم لا نسلم أنفسنا لهم، على الأقل نحافظ على أرواحنا بذلك؟!
ابتسم له أبوه برقة وقال:
ـ ومن قال لك أنهم لن يقتلونا إذا فعلنا ذلك؟. وحتى إذا لم يفعلوا، فإن البديل للموت في هذه الحالة سيكون العيش الذليل!، ونصيحتي لك يا بني هي، إذا خيّرتَ يوما بين الاثنين، فأختر الموت لأنك إذا رضيت بالذل، فستظل تتمنى الموت طوال المتبقي من عمرك.
في تلك اللحظة سمعا رفيف أجنحة وزعقات نسور همجية، قفز" ناطح الصخر" ليجعل ولده وراءه وبقى متحفزا حتى ظهر نسر أمامهما وهو يبحث تحت الصخرة! فغافله "ناطح الصخر" بنطحة ألقت به أرضا، ولكن بقية النسور هجمت على الوعل بكل ضراوة، فراح يصارعها بكل ما أوتي من قوة حتى غابوا جميعا عن نظر الوعل الصغير الذي كان يراقب القتال غير المتكافئ بعين بدا فيها الذعر بأوضح أشكاله!!!. لم يمض وقت طويل حتى ظهر أمامه نسر وقد سال لعابه وهو يقول:
ـ والآن أصبحت ملكا لي، فتعال إلي أيها الحمل اللذيذ.
وتقدم نحو الوعل الصغير الذي اتخذ وضع القتال رغم خوفه الشديد! ولكن نسرا آخرا انقض عليه وهو يقول
ـ بل هو ملك لي.
فراحا يتقاتلان فيما بينهما حتى صاح نسر ثالث:
ـ هيا، كفا عن القتال ولنأخذ الحمل إلى القائد أفاق ليبت هو في أمره.)
وفجأة التفت إلي الأفعوان ليقول بحدة:
ـ أتعرف؟ هذه هي مأساة الضعفاء دائما.
فقلت بلا وعي:
ـ أن يقعوا في الأسر دائما؟
فجعله قولي هذا يبتسم ويقول:
ـ هذا، وأن يغروا الأقوياء بظلمهم.
ـ ولكن لم يجب أن يظلم الأقوياء؟!
ـ هكذا، لمجرد أنهم أقوياء، والقوي الذي لا يفعل يكون هو الاستثناء، لا القاعدة.
وفيما أنا أتأهب للمزيد من الأسئلة، قال بضجر:
ـ هذا هو كل ما عندي اليوم.
لم أتحرك من مكاني فورا لأن الأسئلة المحيرة كانت تنتهبني، ويبدو أنه قد لا حظ ذلك لأنه قال بحزم:
ـ لا مزيد من الأسئلة، موعدنا غدا صباحا.
وأنا في طريقي إلى جحري انتبهت إلى أن وجهه كان قد افتقد مؤخرا مسحة الحزن التي كانت تسيطر عليه عندما رأيته لأول مرة! فخمنت أنه قد تجاوز فكرة الانتحار، ففرحت لذلك في البدء، ولكني سرعان ما شعرت بعدها بالقلق! لأن هذا كان يعني أيضا أنه سيعود إلى ممارسة هوايته القديمة في التهام الخلدة!!!.
لم أحتمل مشاعري المتناقضة طويلا، فهرعت إلى فراشي لأنام وأنا في أشد اللهفة للغد وما يحمله لي من أقاصيص عجيبة على لسان هذا الأفعوان العجيب!!!
في اليوم التالي، لاحظت أنه عندما حضر أومأ إلي برأسه، وهو ما لم يفعله من قبل أبدا! فغمرني شعور بالامتنان لهذا السيد الكريم الذي أفصح عن ذاكرة يحسد عليها عندما قال بدون تردد:
( كان أفاق يجلس مزهوا على شجرة في أعلى الجبل والنسور تجئ وتذهب وهي تستشيره في مختلف الشؤون، عندما هبطت النسور أمامه وأحدها يحمل الحمل بمخالبه القوية. قال النسر الذي اقترح اللجوء إلى أفاق لحل النزاع:
ـ لقد أتيناك يا أيها القائد لكي تحكم بيننا، فقد وجدنا هذا الحمل مع أبيه قابعين تحت صخرة في أرض تيس الجبل، وقد قتلنا الأب بعد قتال شديد معه، ولكننا اختلفنا على ملكية هذا الوعل الصغير.
فضحك أفاق وقال:
ـ أما كان بامكانكم أن تقتسموه بينكم يا أغبياء؟! ولكن مادمتم قد جلبتموه لي، فاتركوه وأذهبوا.
قال النسر معترضا:
ـ ولكن، يا أيها القائد أفاق.
فصاح أفاق:
ـ هيا اذهبوا من هنا.
عندما سمع الوعل الصغير أسم أفاق أنتابه غضب شديد فهجم على الشجرة التي كان أفاق يقف فوقها ونطحها فاهتزت بشدة، الأمر الذي فاجأ أفاق فسقط على الأرض قبل أن يفتح جناحيه ليطير، كرّ "الغد الذي لن يأتي" عليه ولكن النسور التي كانت واقفة حالت بينه وما أراد، حتى وقف أفاق على ساقيه وهو ينظر إلى الوعل بتعجب وقال:
ـ أين تعلمت النطح هكذا يا أيها الوعل المتخلف؟!
فرفع الوعل رأسه عاليا وهو بين أيدي النسور الطامعة فيه وقال:
ـ لقد ولدت مقاتلا، فأنا ابن "ناطح الصخر" وحفيد "التيس العنيد".
صاح أفاق عندها باستغراب:
ـ ماذا؟! ناطح الصخر، أبوك!!! وأين هو الآن؟.
فقال أحد النسور:
ـ ولكني أخبرتك منذ قليل أنه قد قضي نحبه، فقد قتلته أنا ورفاقي هؤلاء.
فكر أفاق قليلا قبل أن يقول:
ـ إذا ليكن هذا اليوم عيدا وطنيا لدولة نسور الجبل الناشئة، فقد انتهت حربنا ضد الوعول الوحشية، وآن لنا أن نهتم بشؤون الدولة الأخرى.
فقال نسر:
ـ ولكن! لم يزل هناك الكثير من الوعول في شعاب الجبل!!!.
فقال أفاق وهو يبتسم:
ـ سنجمعها ونضعها في مناطق نقيمها لهم باحاطتها بسياج.
ـ ولكن لماذا؟! لم لا نقتلها كلها لنتخلص من شرورها إلى الأبد؟!
ـ تقتلها كلها!!! وكيف ندبر أمر طعامنا بعدها؟ أنأكل بعضنا؟ أم تريد أن تزدرد حجارة الجبل يا غبي؟! بل نضعها حيث قلت لتكون لنا طعاما دائما، كما إن مرآها سيجعل الأمم الأخرى تهابنا وتحسب لقوتنا ألف حساب لأن هذه الوعول ستكون رمزا أبديا لقوتنا.
أصاب الذهول النسور وهي تسمع كلام قائدها فأرخت قبضتها عن "الغد الذي لن يأتي" الذي استفاد من الفرصة التي سنحت له فقفز بعيدا عنها وليغافل أفاق بنطحة مؤلمة من قرونه الصغيرة، لم تجرحه ولكنها على الأقل أسقطته أرضا! فهجمت النسور مرة أخرى على الوعل الباسل وراحت تنقره بمناقيرها وتخدش جسده بمخالبها وهو صابر لا يصرخ من ألم!، قال أحد معاوني أفاق له، وهو ينظر إلى الوعل بنهم وشراهة:
ـ هبني إياه أيها القائد لكي أربيه وأعلمه كيف يحترم سادته.
فقال أفاق:
ـ بل هو منذ اليوم عبد لي لأذلّه وأذيقه مرّ الهوان في المتبقي من أيام حياته.
ثم التفت إلى النسور وصاح:
ـ هيا الآن لنحتفل بالنصر المؤزر الذي حققناه وسنجتمع بعدها للتباحث في شؤون دولتنا.
بعد توقف الوعول عن القتال نهائيا بسبب تبدد قوتها وفناء مقاتليها، أرسل أفاق الرسل من النسور إلى أنحاء الغابة المتفرقة لكي ينشروا خبر الدولة الناشئة هناك، ويحدثوا الحيوانات عن خيرات الجبل وثرواته الواعدة حتى يكون أرض الأحلام الجديدة التي تدعوهم للهجرة إليها لتحقيق أحلامهم هناك!. كان غرض أفاق من ذلك واضحا، لأنه عرف أن النسور لن تكفي لتحويل الجبل إلى دولة جديرة بالاحترام لقلة عددها، كما أنها بطبعها الوحشي كانت بحاجة إلى المزيد من الحيوانات لتتخذ منها طعاما، وفي نفس الوقت ترضي طبعها الشرس باتخاذها طرائدا تمارس عليها هوايتها بالاقتناص!!!.
وبالفعل فقد بدأت الحيوانات الجديدة بالتوافد على الجبل، ولكن أعدادها كانت ضئيلة في البداية الأمر الذي أصاب أفاقا بالإحباط لأنه كان يفتقد إلى نعمة الصبر، وسرعان ما أصابه الملل مرة أخرى واستيقظت في داخله الرغبة بالترحال المستمر التي تصور أنه قد تخلص منها!
فقرر أن يترك كل شيء ويرحل عن الجبل نهائيا!!! استقبلت النسور التي أسلمته قيادها، قراره هذا باستغراب، وساورها الخوف لأن الجبل لم يتمم الشروط التي تجعل منه دولة، وكان في ذلك الوقت أحوج ما يكون إلى قائد يحقق له ذلك، ورحيل أفاق كان يعني خلق فراغ لا يمكن ملؤه!!!
وقف النسر"صياد" أمام أفاق بذل وقال:
ـ هل انتهى الأمر يا قائد؟، أراحل أنت بالفعل؟!
ـ بلى.
ـ ولكن! كيف تتركنا في هذا الوقت بالذات، ونحن في أشد الحاجة إليك؟!
ـ وما حاجتكم إلي؟ ألا يكفيكم أني قد أخرجتكم من السجون التي كدتم أن تتعفنوا داخلها ، ومنحتكم هذا الجبل الواعد لتتمتعوا بخيراته لوحدكم؟ فما الذي تريدونه مني بعد؟! ولكي أكون صريحا أقول، لقد قرفت منكم ومن غبائكم وقذارتكم الغير معقولة، فدعوني لشأني الآن.
ـ ولكننا لم نزل بحاجة إلى قائد يقودنا!!!.
ـ ماذا؟ قائد! ولم لا تكون أنت القائد مثلا؟
أطرق صياد برأسه إلى الأرض وقال:
ـ أنت، أنت تعرفني، فـ، فأنا أغبى من أن أصلح للقيادة، لأني لا أفهم إلا في الصيد والأكل.
ضحك أفاق وقال:
ـ في هذا أنت على حق، ولكن مع ذلك أقول أن الأمر لم يعد يهمني، فالآفاق تدعوني إليها والمغامرات تنتظرني. ولكن قبل أن أذهب أريد أن أقول شيئا فأسمعني جيدا وبلغه لرفاقك، إن النسور في الغابة سوف تهتم بأمر الجبل بعدما سمعت ما روّجنا له بين الحيوانات الأخرى، ولن يطول الأمر حتى تحاول غزوه وضمه إلى ممتلكاتها هي وحلفاؤها، رغم أنها لم تعره اهتماما عندما عرضت عليهم فكرة اغتصابه، فتهيئوا لهذا الأمر وأعدوا له كل قواكم لأنها إذا ما أخذت الجبل منكم فإنها ستقضي عليكم لأنها تعرف أنكم سقط النسور والدول لا تتحمل أكثر من مجرم واحد يفرض القوانين فيها. وأما الأمر الثاني الذي أريد أن أقوله فهو أن الغربان ستأتي يوما إلى الجبل لا محالة، فإذا أردتم راحة بالكم وأمن دولتكم فلا تدعوا غرابا واحدا على جبلكم هذا، لأنها طيور خبيثة إذا دخلت مكانا أفسدته ولا يهنأ لها بال حتى تنخر في كيانه كالسوسة.
بعد رحيل أفاق تشرذمت النسور ودفعتها أطماعها إلى انفراد كل منها بقطعة أرض كبيرة وراحت تتقاتل فيما بينها للحفاظ على ملكياتها، فكان من سخرية القدر أنها بتفرقها أصبحت مثل الوعول التي وصمتها هي بالتخلف لأنها كانت متفرقة!!! وفيما هي منشغلة بمعاركها الداخلية نزل عليها جيش ملك النسور القوي فأسقط في يدها ولم تحرك ساكنا لمقاومته، خاصة وأنه كان مدعوما بجيش الديوك الذي اقتسم أراضي قبيلة " المقاتل الذبيح " مع النسور وجيش الثيران الذي سيطر على أراضي قبيلة " قوس قزح " في الجنوب.
وهكذا بدا وكأن القوى التي كانت تحكم معظم مناطق العالم القديم، الغابة، أصبحت هي سيدة الجبل وما كان يضمه من حيوانات هاربة من ظلم أولئك السادة الطغاة!!! ولكن القدر كانت له مخططات مغايرة لأن اللصوص ومهما تكاملت مخططاتهم المشتركة، فإنهم لا بد إلى الاختلاف والشجار سائرون!!! إذ كان ملك الثيران الذي نال لقب الثور الأهوج باستحقاق، قد استوعب دروس الخبث من معلمه ملك النسور، فقرر أن يستعمل سلاحه الجديد ضد حليفه اللدود لأنه أدرك أن الأراضي التي أصبحت له كانت كبيرة جدا، فخاف أن تتحالف النسور والديوك ضده لقضم أجزاء كبيرة من ممتلكاته الجديدة في أقصى الغرب. أرسل ذات يوم في طلب دجاجة جميلة جدا من ممتلكاته! كان يثق بها جدا، قال لها عندما وقفت في بابه تستأذن للدخول:
ـ تعالي يا دجاجتي. لقد كنت دوما تتمنين أن تقدمي لي ما أشاء من خدمات، اليوم تهيأت لك الفرصة، فهل تستغلينها.
قالت الدجاجة بغنج ودلال:
ـ يأمر الملك، وعلينا الطاعة والتنفيذ.
ـ حسنا فأسمعيني جيدا، سوف أهديك إلى الديك الأكبر،
فصاحت الدجاجة بقلق:
ـ ماذا؟ تهديني إلى هذا التافه!!! هل أغضبتك في شيء يا مولاي؟!
ـ كلا يا حلوتي، فأنا لم أزل أهواك، ولكن للضرورة أحكام، فقط اسمعيني، فهذا التافه كما تقولين، مولع بالدجاجات، ولا يكل من اقتناء المزيد منهن، وهو عندما يراك سيرتمي عند قدميك لأنه لم ير طوال عمره دجاجة بجمالك.
ـ ولكن ما الذي ستستفيده أنت من هذه التضحية الكبيرة التي تطلبها مني، فأنا لا أحتمل هذا المغرور.
ابتسم لها الثور وقال:
ـ هوني عليك يا جميلتي، فأنا سأستعيدك منه ولو دفعت فيك أموال الدنيا، ولكن فقط حققي لي ما أريد.
ـ وما هو يا مولاي؟!
ـ بعد أن تجعليه يهيم حبا بك، أريد منك أن تذكريه ليل نهار بأن حصته من الجبل هي أقل من حصة النسور حتى تدفعيه إلى المطالبة بالمزيد من الأراضي من ملك النسور.
ـ عجيب! ولكني تصورت أنك تريد أن تؤذي هذا الفارغ، فإذا بك تخطط لزيادة ملكه!!!
عندها انفجر الثور بالضحك وقال:
ـ وهل تتصورين أن هذا النسر اللئيم سيعطيه ما يريد؟! لا يا عزيزتي، إن هذا أمر مستبعد جدا، وأنا فقط أريد أن أوقع بينهما.
ـ ولكن، ماذا لو أعطاه ما أراد؟
ـ لقد حسبت لهذا حسابا، فسوف أهدي ملك النسور هدية هو الآخر.
فصاحت الدجاجة على الفور:
ـ أتقصد أنثى النسر القبيحة تلك؟!
أومأ الثور برأسه، نعم. فاستغرقت الدجاجة في التفكير لبعض الوقت ثم قالت:
ـ وهل تنوي استعادتها هي الأخرى فيما بعد؟
فقال الثور بخبث:
ـ كلا، فهي فرصتي للتخلص منها نهائيا.
فقالت الدجاجة بحماس:
ـ إذا أنا موافقة على ما تريد.
سارت الأمور كما اشتهى الثور الأهوج فاحترب حلفاء الأمس، النسر والديك فيما بينهما وامتلأت شعاب الجبل وممرّاته بالريش المنتوف والمناقير المكسورة!!!. ولكن قبل أن تقوم الحرب بينهما كان نسر من قادة جيش النسور الذي احتل الجبل اسمه" جرجي " قد أعجب بقطعة أرض تمتلكها سلحفاة مهاجرة هناك. وعندما أراد الاستيلاء عليها بالقوة كما هي العادة في مثل هذه الأحوال، زجره القائد الأعلى للجيش!!! وتبين فيما بعد أن السلحفاة كانت تدير صالة اسمها " صالة السلحفاة اللعوب" تقدم رقصات إناث السلاحف المتجردات من أصدافهن!!! وكان القائد الأعلى من رواد هذه القاعة ومن أشد المعجبين بالفن الذي تقدمه!!!. أدى الموقف المتأزم بين جرجي وقائده إلى هروبه من الخدمة ولجوئه إلى جماعة من النسور من المهاجرين الأوائل فوق قمة الجبل. ولأن من تعلم على السيطرة على الآخرين وقيادتهم ارضاءا لنزعاته الأنانية لا يستطيع أن يتنازل عن رغباته، فقد سيطر عليهم بسرعة وأصبح هو القائد فيهم. وعندما قامت الحرب في أقصى الشمال أدرك أن الفرصة قد واتته، فراح يراقب تطورات الحرب بكل اهتمام، بعد أن كلف تابعيه بالاتصال ببقية النسور المهاجرة المستوطنة في أنحاء مختلفة من الجبل،لضمها إلى الجيش الذي قرر أن يشكله.
دخل صياد على جرجي ذات يوم وقال له:
ـ لقد تجمع عندنا الكثير من النسور وأصبح جيشنا قويا فلم لا نبدأ حربنا الآن؟!
فقال جرجي وقد بدا عليه الانزعاج:
ـ كم مرة طلبت منك أن لا تتدخل في شؤون القيادة يا صياد؟
ـ ولكن أيها القائد،
ـ اسمع يا أيها الغبي
عندما سمع صياد كلمة غبي التي يخاطبه بها جرجي لأول مرة وقف متأهبا وقد علت وجهه شبه ابتسامة لأنه تذكر أفاق قائده القديم الذي كان خير من يعرفه، ولكن جرجي لم ينتبه لذلك، بل استمر قائلا:
ـ سننتظر حتى ينتصر أحد الطرفين لنهاجم، لأنه وبغض النظر عن النتيجة فإن النسور ستكون عند ذاك في أدنى درجات ضعفها، فنضمن كسب المعركة بجيشنا الصغير.
قال صياد:
ـ صحيح يا أيها القائد أن عدد أفراد جيشنا صغير، ولكنهم مجموعة من عتاة المجرمين الذين لا يشق لهم غبار في عالم الجريمة، فهم خريجو مختلف سجون مملكة النسور الشهيرة، وفي هذا العوض عن نقص العدد، فلا تخف.
ـ نعم يا صياد، أنا أعرف ذلك ولكني مع ذلك قائد أحسب لكل أمر حسابه وأريد أن أضمن النصر بأحسن صورة ممكنة. وعلى كل حال اطمئن لأنه يبدو أن الديوك في طريقها إلى إحراز النصر على النسور في أقصى الشمال لأنها ضجرت من القتال اللامجدي وهو ما سيضعفهم وعندها يحين دورنا.
وقد حدث ما توقعه جرجي، فأعلن الحرب على النسور فور توقف حربها ضد الديوك. فقاد جيشه والحق يقال، ببراعة فهزم فلول نسور الغابة وطردهم نهائيا من الجبل!!!. ولذلك انتخبته نسور الحبل رئيسا لها حال إعلان دولة الجبل المتحدة تكريما له. فكان أول ما واجهه من متاعب الحكم هو أن يقرر أحد أمرين، إما أن يهاجم الديوك في الشمال ليطردهم من المناطق التي يسيطرون عليها هناك، أو أن يركز جهوده في مكافحة الجيوب التي تتواجد فيها بقية الوعول التي انتشرت في أنحاء الجبل القصية!!!. فقرر أن يترك الديوك لشأنها في ذلك الوقت لأنها في النهاية من حيوانات الغابة!!!، ليتفرغ للوعول الغريبة التي كان يكرهها لأنها حيوانات متخلفة وهمجية!!! فكان هذا القرار هو الذي أتاح للديوك الاحتفاظ بجزء من الجبــل لحد يومنا هذا. وقد استطاع جرجي بفضل جيشه النظامي أن يقضي على أعداد كبيرة من الوعول، فيما ساق أعداد أخرى منها إلى الحدائق التي كان أفاق قد أقامها، وكانت هي النموذج الأول لحدائق الوعول المنتشرة الآن في أنحاء الغابة الفسيحة!!!. بعد ذلك فتح الباب على مصراعيه أمام هجرة حيوانات الغابة إلى دولته، لنفس الأسباب التي حددها أفاق في الماضي. فتدفقت مواكب الحيوانات من كل جنس ونوع على الجبل حاملة معها أحلامها العريضة، بعد أن توهمت أن الأمن قد استتب فيه!!!.)
سكت الأفعوان قليلا ثم قال كمن تذكر شيئا فجأة:
( عندما أعلن جرجي قيام دولة الجبل المتحدة، فإنها بالحقيقة لم تشمل كل أنحاء الجبل التي كانت تسيطر عليها النسور!!!. فبالإضافة إلى المساحات التي بقت خاضعة لحكم الديوك، كانت هناك أعداد كبيرة من الإقطاعيات التي يمتلكها أغنياء النسور الذين رفضوا أن يمدوا أيديهم إلى الرعاع الذين يكوّنون أغلبية جيش جرجي!!!. كانت تلك الملكيات الانفصالية تريد أن تقيم تحالفا سريا بينها للوقوف في وجه أطماع جرجي المتنامية مع قوته، لأنها كانت قد تعودت على ترف العيش بفضل استغلالها لغيرها من الحيوانات المستضعفة التي سرقنها من الغابة وأتت بها إلى الجبل، أبشع استغلال، وخاصة تلك الأرانب السوداء التي جلبت لأنها تستطيع أن تحفر في الأرض الصخرية، كما هي عادة الأرانب دائما، فيستفيد منها أصحاب الأرض في تحويل الأرض الصخرية إلى أرض زراعية بعد تفتت الصخور. فأعدت جيشا لهذه المهمة، ولكنها استجابت لدعوة جرجي للاجتماع، لا رغبة بالتفاهم! بل لكسب الوقت فقط!!!.
عندما وصل وفد النسور الغنية إلى مكان الاجتماع هال أعضاؤه أن يروا وفد دولة الجبل ملئ بالحيوانات المختلفة من غير النسور!!! والذي زاد الطين بلة أن الوفد كان برآسة الحمار ويساعده الفيل!!!. كاد وفد الأغنياء أن ينسحب لولا أنهم قرروا في آخر لحظة أن يسمعوا وجهة نظر جرجي من وفده على الأقل!.
نظر رئيس وفد النسور الأرستقراطية، النسر الأحمر الذي هو نوع من النسور الهجينة التي تمتاز بحدة طباعها،إلى الحمار بتعال وقال:
ـ لقد أنشأتم دولة تليق بكم، فما الذي تريدونه منا؟!
ـ نريد أن نوحد البلاد لأن الجبل هو دولة واحدة.
قال النسر الأحمر بخبث:
ـ وهل يشمل هذا الكلام الديوك في الشمال؟
تلعثم الحمار وقال:
ـ في، في الحقيقة أن وضع الشمال يخـ، يختلف قليلا.
ـ وكيف يختلف؟!
قال الحمار متجاهلا السؤال الأخير:
ـ إن الرئيس جرجي يرى أن،
في تلك اللحظة تسلل فأر كان قد ظلّ سبيله لأنه مهاجر جديد، إلى القاعة عن طريق الخطأ. كان أول من رآه هو الفيل الذي لم يكن قد رأى حيوانا مثله من قبل، كان واقفا بين قدميه وهو يحاول جلب انتباهه لكي يسأله عن الطريق، فأصابه رعب شديد! جعله يقفز من مكانه ويصعد على طاولة الاجتماعات، فيكسرها!!!. عمّ الهرج المكان، وأختلط حابل القوم المضطربين بنابلهم، وهم لا يعرفون ما الذي حدث، حتى تبين لهم الأمر في النهاية، فرمق الحمار الفيل شزرا، وضحك النسر الأحمر حتى سقط على الأرض، وقال حين نهض:
ـ وتريدون منا أن نتحد معكم يا دولة الرعاع؟!.
صرخ الحمار غاضبا:
ـ راقب كلامك أيها السيد، وإلا
ـ وإلا، ماذا؟ يا أيها المتخلف.
قال النسر الأحمر ذلك وهجم على الحمار، فتحولت القاعة بذلك إلى ساحة لأول معركة قامت بين دولة الجبل المتحدة و تحالف الأغنياء. ويقول من كان حاضرا ذلك الاجتماع من الحيوانات أن النسر كان قد لقّن الحمار درسا بليغا في فنون الضرب، ولكن التاريخ الذي كتب بعد أن هزمت دولة الجبل التحالف، وسيطرت على أراضيه لتضمها إليها، يتحدث عن شجاعة الحمار وبراعته في القتال التي جعلت النسر يفر هاربا من مواجهته!!!.
وبسيطرة جرجي على معظم الجبل أصبحت دولته ذات شأن وذاع صيت قوتها المتنامية والثروات الهائلة الكامنة فيها، الأمر الذي اضطر الديوك إلى محاولة إرضائه بأي شكل ممكن حتى أصبحت دولتهم مجرد اسم، وهي في الحقيقة كانت تدار من شجرة الحور الهائلة التي اتخذها جرجي عاصمة له!. أما دولة الثور فإن جرجي تعود على قضم جزء منها بين الحين والآخر، والثور العجوز لا يجرؤ على الاعتراض لأنه كان أضعف من أن يعترض، فراح يؤمل نفسه بفرصة تسنح له في يوم ما ليلقن النسر الخبيث درسا يجعله يحترم الثيران ويعيد له هيبته الضائعة، ولكن انتظاره طال وهذه الفرصة لم تأت، بل ازدادت أحواله سوءا حتى تفككت دولته على الجبل فيما بعد إلى دول متناحرة فيما بينها، بفضل مشورات الغراب الذي أصبح مستشارا للنسر جرجي!!!)
لاحظت أن عيون الأفعوان كانت تتفحصني طوال الوقت الذي كان يتحدث فيه وأنا أنصت إليه صامتا! قال بعد فترة صمت قصيرة:
ـ هل فهمت شيئا مما قلته لك لحد الآن؟
أجفلت من سؤاله غير المتوقع، ولكني قلت له بعد حين:
ـ فهمت، ولم أفهم!
فقال بهدوء:
ـ ستفهم، ستفهم، أما الآن فأذهب ولتكن موجودا هنا في الغد.
وفي اليوم التالي، تهيأت عندما رأيته مقبلا، للرد على تحيته هذه المرة بكل حرارة الامتنان الذي كنت أشعر به منذ الأمس، ولكنه تجاهلني عندما اقترب من دون تحية، وليقول من دون مقدمات وبصوت متباطيء ورتيب:
(عندما قدم الثور الأهوج دجاجته، هدية للديك، كان يأمل أن يحقق له ذلك بعض المكاسب السياسية، وهذا ما تحقق بالفعل، ولكنه لم يدرك أنه بفعلته هذه كان يناقض سنة من سنن الطبيعة وهذا أمر خطير لأنه تسبب في القضاء على الكثير من الحيوانات المتنفذة من قبل!!!
فقد كان حين فعل ذلك قد بلغ من العمر أرذله، فيما كان غريمه الديك وضحيته في مكيدته لم يزل شابا بل كان في عنفوان الشباب، وكانت حيوانات الغابة تراقبه بخوف لأنها تعرف أنه كان في طريقه ليكون سيدها الجديد بعد أن أفلت شمس ملك النسور في غابتهم!!!
وقد ابتدأت نهاية الثور عندما كان الديك في لحظات هيام حميمة مع دجاجته الثورية، فإذا به يسمعها تقول له وهي في حالة من النشوة التي تقرب الحيوان من حالته الغريزية فتبعده بذلك عن عقله واحتياطاته:
ـ أواه لكم أحبك يا ثوري الهائج.
انتفض الديك الذي كان ورغم مساوئه الأخرى، أبيّ النفس، عزيزها، هذا إذا تغاضينا بالطبع عن حقيقة أنه كان يعرف أن دجاجته الحبيبة لم تصل إليه إلا عبر سرير عدوه الثور!!!. انتفض، وفي تلك اللحظة زالت الغشاوة عن عينيه وأدرك لأول مرة، أنه كان وراء أكمة هدية الثور الملكية له، ما وراءها!!! فصاح بها على الفور:
ـ انهضي يا أيتها الفاسقة.
أجفلت الدجاجة السكرى بحلاوة اللحظات التي كانت تعيشها، وقالت:
ـ ما الذي حدث يا حبيبي؟!
فقال لها بغضب:
ـ إياك أن تكرري هذه الكلمة على لسانك، فهي لا تليق بالعواهر.
عندها أدركت أن زلة لسان قد أوردتها موارد الهلاك، وهذا ما كانت تخشاه طوال الوقت لأنها تعرف، أن من الصعوبة بمكان، أن يعيش الحيوان بجسده مع حيوان، فيما يمتلك حيوان آخر مشاعره، ولكن الموقف كان يتطلب منها أن تحتفظ برباطة جأشها، فقالت بشجاعة:
ـ ما هذا يا "ديك تاتوري" اللطيف؟ أهانت عليك دجاجتك الـ" ديك تاتورية" فجأة؟!.
كانت دجاجة خبيثة مجربة، استفادت من خبرتها التي اكتسبتها من الحيوانات المختلفة التي تمرغت في أحضانها، فلمست فور قولها هذا وترا حساسا من نفس الديك المغرور الذي كان مهووسا في تلك الأيام بفكرة الـ" ديك تاتورية" التي كان قد قرر إنشاؤها في وسط الغابة على حساب بقية الحيوانات!!!. ولذلك لم تخف منه عندما قال:
ـ بل كان يجب أن تقولي دجاجتي الـ" ثور تارية" يا أيتها اللعينة.
لم تخف، أو تهتز، لأنه تابع بعد ذلك قائلا:
ـ ألم تلاحظي أن تسمية الزرائب التي أقامها هذا الثور وأضرابه من الحيوانات الأخرى بالـ"ديك تاتوريات" أمر خاطئ كلية، لأنها كانت يجب أن تسمى بالـ" ثور تارية" و"النسر تارية" وحتى تلك الزريبة البائدة كان يجب أن تسمى بالـ" ذئب تارية" لا الـ" ديك تاتورية" التي لا يحق لغيري من الحيوانات أن يدّعيها لأني أنا الديك.
فقالت بخبث:
ـ ونعم الديك أنت.
عندها تذكر الديك غضبه! فصاح:
ـ هل تريدين خداعي يا خائنة؟ أنا الديك العظيم!!! هيا اعترفي على الفور، ما الذي كان يخطط له هذا الثور الخائب عندما أهداك لي؟.
كانت الدجاجة قد رأت مدى قوة الديك خلال مكوثها معه في الفترة الأخيرة، وبحسها العملي أدركت أن دولة الثور كانت آيلة إلى زوال، فقررت أن تتخذ قرارا تاريخيا لنفسها، تبدل به مصيرها حتى إذا فقدت الأمل بذلك في وصال حبها الحقيقي، فاعترفت بكل شيء للديك الذي قال:
ـ هكذا إذا يا سليل القطعان الضالة، الويل لك من غضبي، أما أنت أيتها اللعينة فسأريك قدر نفسك فيما بعد، لولا أني قد وعدتك للتو، لمزقتك شر ممزق، وجعلتك طعاما للفئران، ولكني أقسم بأني سأجعلك جارية لأحقر حيوان. ولكن بعد أن أنتهي من أمر ثورك الكريه.
وبالفعل، لم يمض على هذا وقت طويل حتى هاجم الديك بقواته المخيفة مملكة الثيران التي لم تصمد أمامه فأضافها إلى " ديك تاتوريته " فزال بذلك ملك الثور الأهوج الذي فرّ بعد ذلك إلى الجبل أملا في العيش بالمملكة التي أقامها في جنوبه. ولكنه تفاجأ حال وصوله إلى هناك أن الحيوانات التي كانت تعيش تحت رحمته قد وصلتها أنباء اندحاره الشنيع أمام الديك المنتصر فقسمت المملكة الجنوبية للجبل إلى مقاطعات عديدة يحكم كل منها وكيل لـ "جرجي" الذي لم يكتف بذلك بل قضم بقواته مساحات كبيرة من المملكة المنهارة ليضمها إلى " جرجيته "!!!. وقد رفض أولئك الوكلاء السماح للثور بالعيش في مقاطعاتهم! الأمر الذي اضطره لكسب لقمة عيشه، من العمل بجر المحراث لتحويل الأرض الصخرية إلى تربة صالحة للزراعة في دولة الجبل المتحدة، فبقى طوال المتبقي من حياته يكد في ذلك العمل المضني ولم ير بعد ذلك أبدا، بلاده، التي استمرت الثيران في التوالد فيها والتناطح، ولكن فيما بينها، لأنها لم تعد تجرؤ على نطح الآخرين، الذين لم ينسوا رغم ذلك، آثار قرونها القديمة.
وهكذا صدق الديك في توعده الثور، ولكن هذا الصدق قد صب في النهاية لمصلحة عدوه المقبل، نسر الجبل، الذي كان ذات يوم صديقا مقربا منه، لأن المقاطعات الموجودة في جنوب الجبل سرعان ما أصبحت ثكنات لقوات دولة الجبل المتحدة يتدرب فيها مقاتلوها على الانقضاض وطرق تمزيق الطرائد، الحديثة.
كما يبدو أن هذا الصدق قد أنسى الديك قسمه بشأن الدجاجة الخائنة، التي أجبره حبها الذي تغلغل عميقا في وجدانه على العفو عنها، والتزوج منها فيما بعد، وقد أراد أن يمنحها لقب الـ"دجا تورية"، ولكنه آثر في النهاية أن يطلق عليها لقب الـ" ديك تاتورة"، حفاظا على وحدة الـ"ديك تاتورية" التي أقامها، وأمنها!!!. فعادت الـ"ديك تاتورة" بعد ذلك إلى ممارسة هوايتها القديمة في اصطياد العشاق، مستخدمة في ذلك الصلاحيات غير المحدودة التي منحها إياها "الديك تاتور"!!!.
وللحق أقول، رغم أني أكره هذا الديك المتحذلق لأنه كان يعامل الأفاعي بكل احتقار، فإنه استطاع أن يبني "ديك تاتوريته" ولو لبعض الوقت، في الغابة، فقد كان بارعا في قيادة قوّاته وبث روح الحماسة فيها، فأصبح فجأة عدوا يبث الرعب في قلوب خصومه وخاصة قلب ملك النسور. كان طموحا جدا، حتى أنه وصل بفتوحاته إلى بلاد النعام المنسية في أطراف الغابة الشرقية، وهي التي تقع فوق بلادكم هذه بالضبط كما تعرف، كانت النعامات في ذلك الوقت خاضعة لحكم البواشق، فهزم جيش البواشق وسيطر على تلك الرقعة المهمة من الغابة، ولكنه اضطر للعودة على جناح السرعة إلى بلاد الديكة لوحده بعد أن طرقت أسماعه أخبار دجاجته الديك تاتورية الفاضحة وهو في تلك البلاد البعيدة!!! أتعرف؟ إن الذي كان يزعجه من الأمر ليس الشرف، أو معايير الوفاء والإخلاص، فهو لم يكن عفيفا هو الآخر، ولكن الألم، كل الألم كان يصيب كبرياءه وغروره، وأثناء المعارك الداخلية التي كان يخوضها ضد الدجاجة الشبقة والتي انتهت بهزيمته مرة أخرى كما هو معتاد، على العكس من معاركه الخارجية المظفرة حتى ذلك الحين، وصلته أخبار انسحاب جيشه من بلاد النعام المفككة!!! فكان وقع هذا الخبر سيئا جدا في نفسه، وأعتبره نذير شؤم، ولكنه عاد مرة أخرى لينظّم قوّاته ويستعد لذبح المزيد من الضحايا التي ستسقط على مذبح طموحاته.
في تلك الأثناء لاحظ الغراب الوجوم الذي سكن وجه مليكه طوال الفترة التي انصرمت، تقدم منه ذات يوم وهو يفرك جناحيه بتذلل وقد ارتسمت على وجهه إمارات البله المصطنع!!! كان الملك يذرع الغصن جيئة وذهابا كالسجين المظلوم!، وقال:
ـ ما بال ملكي المفدى؟
نظر الملك إليه شزرا وقال:
ـ ها قد أتى وزيري العبقري، أتريد أن تزيد من همومي؟ هيا، أرحني من وجهك القبيح الآن، فلدي ما يكفي من الهموم.
ـ فدتك نفسي يا مليكي المحبوب، هيا اخبر خادمك بما يثقل عليك، وستجدني نعم الناصح وخير مشير، وإلا، فلتمسح بي الأرض إن كان هذا يرضيك؟
توقف الملك عن، ذرع الغصن!!! ونظر إلى الوزير بإمعان، كان يعرف أن هذا اللعين يمتلك في جعبته الكثير من الحلول الناجعة للمشاكل التي قد تواجهه، فقد كان يمتلك دهاء الخبث ومكر الحاقدين، ولكنه لم يتعود مدحه لأنه كان في النهاية يحتقره، ويحقد عليه!!! قال بعد تفكير قصير:
ـ إنه هذا الديك، صاحب القرون، لقد بدأ يقلقني كثيرا بطموحه غير المحدود، وشرهه في ابتلاع الممالك تباعا!.
ـ آه، الديك الطامح إلى السيطرة على الغابة والعاجز عن السيطرة على دجيجته الحبيبة، ولكن، هل عجز مولاي عن الوصول إلى حل لمشكلته البسيطة؟
ـ ماذا؟! أنا عاجز يا حفيد الأغرار وسليل الأشرار، أنا،
فقال الغراب والخوف يتقافز من عينيه:
ـ عذرا يا ولي نعمتي، إن هي إلا زلة لسان، وعذري أني لا أستطيع إلا أن أكون مرتبكا وأنا مأخوذ بجلال حضرتك وسمو شأنك.
ـ أقسم أن أجعل لسانك طعاما للفئران لو زلّ مرة ثانية، ولكن قل لي، ما هو الحل لهذه المشكلة، البسيطة يا عار الوزراء؟.
ـ هو الحل القديم إياه يا مولاي، أقصد التحالف.
ـ تحالف؟! تحالف مع من؟!
ـ مع قوى الغابة الأخرى.
ـ قوى الغابة الأخرى! أتقصد الثور والذئب وكل منهم عدو لئيم؟! ألا تعرف أنهم في الحقيقة أعدائي رغم تظاهرنا بالمودة والمحبة؟.
ـ نعم يا مولاي، ولكن لا بأس في توحيد الصفوف عند المخاطر، ثم العودة فيما بعد إلى ما كنتم عليه، وأنا لم أقصد الذئب والثور فقط، فهناك الباشق والخنزير والقط الوحشي وكلهم تضررت مصالحه من تجاوزات الديك، فقط مدّ أنت جناحك لهم وسيتوحدون تحت رايتك ضد هذا المغرور ويمكنك عند اقتسام الغنائم أن تأخذ منها ما يعجبك، آه لقد نسيت فهناك الباز الكاسر أيضا.
ـ ماذا؟! الباز الكاسر! هل جننت؟ فهذا الوحش سيلتهم جناحي الذي أمده له لمصافحته.
ـ لا يا مولاي، فهو الآخر غاضب من الديك لأنه اغتصب الإمارات التي كان الباز ينوي أن يوحدها تحت رايته ليؤسس مملكته الكبرى، هو غاضب منه جدا ولكنه يخاف من مواجهته لوحده، ولا أراه إلا مستعدا لقبول كل عون قد يتلقاه من الآخرين.
ـ ولكن الديك أرحم إذا ما سيطر، من هذا الباز المخيف!.
ـ يا مولاي، يا مولاي، إن الخطر القائم الآن هو الأجدر بمواجهته، أما ما سيحدث في الغد فسنكون مستعدين له قبل أن يستفحل، ولن تكون جعبتنا خالية من مؤامرات تجهض كل ما قد يخطط له الطامعون، هيا يا مليكي ابعث رسلك لدعوة الآخرين للتفاوض والاتفاق فيما أهيئ أنا الفرصة لكم لتنفيذ ما تحبون.
نظر النسر متعجبا إلى هذا الغراب الضئيل الذي يتكلم كلاما كبيرا وقال:
ـ وما الذي ستفعله أيها الوزير الماكر؟
ـ سأوحي لهذا المغرور أن يغزو بلاد الدببة الصغيرة.
انتفض النسر غاضبا وصاح:
ـ ماذا؟! أتريد أن تزيد ملكه أيها الخائن الجبان؟ وتصرّح بذلك أمامي بكل صلافة؟ أقسم بروح رائد العظيم لأنتفنّ ريش ذيلك وأفضحك أمام الحيوانات جميعا، كريمها وحقيرها! أنسيت أن نيسر الدببة ومهما كانت الخلافات بيننا، هو في النهاية نسر من الشمال مثلنا بالضبط.
فقال الغراب برباطة جأش:
ـ لا يا قرّة عين الملوك وبهجة الشعوب، بل سأقدم له اللقمة التي سيغصّ بها الغصّة التي ستكون هي بداية النهاية.
ـ هه، ماذا؟. ماذا تعني؟!
ـ أنت تعرف يا مولاي أن الديك لا يزال قويا جدا، فهو ماهر في القيادة ويمتلك قوّات مدرّبة تدريبا جيدا وتؤمن به، وهذا الأمر يجعل من مواجهتكم إيّاه حتى إذا اجتمعتم، مغامرة محفوفة بالمخاطر، ولذلك أريده أن يخوض مغامرة خاسرة تفقده بعض قوّته وتزعزع ثقة جنوده به قبل أن تواجهوه المواجهة الأخيرة.
فقال الملك وهو لا يستطيع أن يخفي إعجابه بما سمع:
ـ يا لنعثل ونسله! كيف لم أفكرّ بهذا الأمر؟! ولكن، هذه الدببة الصغيرة لا طاقة لها بمنازلة هذا الشيطان!.
ـ ومن قال لك أنها ستقاتله؟ فكلّ المطلوب منها أن تنسحب أمامه ليتوغل في مملكتها الواسعة التي لن يستطيع ازدرادها كلها ولكنه ولغروره، لن ينتبه لهذه الحقيقة.
ـ ماذا؟ لن يقاتلوه! وينسحبون أمامه! أية خطة هذه؟! أنا لم أفهم!.
فقال الغراب بسرّه:
ـ ( ومتى فهمت أيها الغبي المتغطرس؟)
ثم قال للنسر المحتار:
ـ نعم يا وليّ نعمتي، هم يجب أن يشاغلوه حتى يحل فصل الشتاء وهو في بلادهم، وأنت تعرف أن برد شتاءهم قارس جدا، وعندها يبدؤون بشن حرب عصابات ضده، والدببة تستطيع أن تكون مقاتلة صلبة عندما تريد ذلك، فيضطر بذلك إلى مقاتلة عدوين كلاهما يخشى بأسه، الدببة والبرد، في آن واحد، فتكون بهذا هزيمته.
فصاح الملك مبهورا:
ـ لا بد وأن تكون قد رضعت مع شيطان الضباع يا كاهن الشياطين!!! تبدو لي هذه الخطة رائعة ومضمونة الـ، ولكن مهلا، مهلا، كيف ستستطيع تنفيذ كل هذا؟
عندها رسم الغراب ابتسامته الذليلة على وجهه وقال بخجل مصطنع:
ـ هذا هو سري الصغير، نفذ أنت المطلوب منك فقط، ودع الباقي لخادمك المتواضع.
والغريب في الأمر أن الأحداث سارت فيما بعد بالضبط كما توقعها وخطط لها الغراب الرهيب!!! فقد اقتحمت قوات الديك، بلاد الدببة التي امتنعت جيوشها عن مواجهتها في معارك فاصلة وظلت تنسحب أمامها طوال أشهر الصيف والخريف حتى وصلت إلى أقصى الشمال مع بداية فصل الشتاء الذي ما أن حل حتى جمّد ثلجه حماس القوات "الديك تاتورية" وأحال زهوها إلى حيرة واضطراب، ونصرها الموهوم إلى معاناة قاسية، لا أتصور أن الأحياء منهم قد نسوا رهبتها حتى يومنا هذا.
أنا لا أستطيع أن أحدثك عن الأهوال التي حدثت خلال تلك الفترة المظلمة من تأريخ هذه الغابة المخزي، ولكني أقول أن الحيوانات ومهما ادعت، تبقى عدوانية بطبعها ويأكل القوي منها الضعيف في الأحوال الاعتيادية، فكيف إذا دربت على القتل ويصبح مقياس النجاح عندها، عدد القتلى الذين سقطوا جرّاء بأسها؟! أؤكد لك أنها تتحول عندها إلى آلات لا تشعر بشيء غير لذة القتل ولا تشعر بالإشباع إلا عند إرضاء ساديتها المقيتة. ولا تفرق في ذلك بين عدو وصديق!!!.
لقد سقط خلال تلك الحملة اللاحيوانية الكثير جدا من الضحايا، ومن الطرفين، ولكن الدببة كانت بريئة من إثم دماء الكثير من جنود الديك!!! فقد فاجأ الشتاء تلك القوات البعيدة عن بلادها وهي لم تكن مستعدة له الاستعداد الكافي، فأضاف هذا عدوا ثالثا لها لا يعرف الرحمة، هو الجوع الذي يزيد ألمه برد الشتاء، حتى أنه يقال، والعهدة على الراوي، أن كلبا بريا كان قائدا لفصيلة من الأرانب في جيش الديك سئل عندما عاد وحيدا، عن جنوده الذين حاصرتهم الثلوج معه أياما عدة، فقال أنهم قضوا خلال معاركهم الضارية ضد الدببة، فأخذ كلامه على علاته، رغم أن الدببة لم تكن قد شنت هجومها المقابل بعد!!!.
أهاج البرد القارس في نفس الـ"ديك تاتور" الحنين إلى دفء أحضان "دجا تورته" وضاق ذرعا بسماع أعداد القتلى الذين كانوا يتساقطون من جيشه، فقرر أن يعود به إلى بلاده قبل أن تبيده الدببة ونصيرها البرد، فنجح وبخطة انسحاب ذكية في إنقاذ ما يقارب ربع العدد الذي زحف به على الدببة. وعندما اجتازت فلوله حدود بلاد الدببة الشاسعة، وجدت أن قوّات الحلفاء في انتظارها! وعندها فقط عرف الديك تاتور أن المشورة التي سمعها وهاجم بسببها بلاد الدببة إنما كانت جزء من مؤامرة لتدميره، فشعر بحنق شديد ومرارة جعلته يقرر أن يخوض معركته الأخيرة، بدلا من التسليم كما كان يفترض به، حفظا للأرواح التي كان يمكن أن تنفق في مثل هذه المعركة اليائسة، ولكنه كان مغرورا وكان يريد أن يكتب التأريخ اسمه بأحرف من نور كما أعتاد من قبل مع مجرمين كثيرين غيره!!!
رتّب قوّاته بطريقة أثارت إعجاب أعدائه قبل أصدقائه القليلين، فيما بعد، وناور وخادع حتى أدخل الرعب في قلوب أعدائه وخاصة ملك النسور الذي أثار قلقه غياب قوّات الباز الكاسر الذي وعد بالمشاركة في القضاء على عدوه اللدود الديك، تلك القوّات التي كان النسر يعول عليها كثيرا في هذه المعركة التي ستقرر مصير الغابة كلها لأنه كان يعرف أنها من خيرة القوات وأكثرها كفاءة. وعندما تبادرت إلى ذهنه فكرة أن يكون الباز قد اتفق مع الديك سرا ضده، تملكه الرعب وبات ليلة المواجهة يعاني من ألم شديد في معدته حتى فكر في أن ينسحب من الميدان متعللا بمرضه المفاجيء، ولكنه خاف من شماتة حلفائه اللدودين!!! فلم يبق أمامه إلا أن يتوعد الغراب الذي بقي ليدير شؤون المملكة في غيابه، بالويل والثبور إذا ما خرج من محنته هذه سالما!!!.
في الصباح الباكر من اليوم التالي دارت معركة رهيبة بين الطرفين، وقد نجح الديك في قيادة جنده إلى حدود نصر لو تحقق في حينه لكان أعجوبة في عالم الحروب، فقد اندحرت قوّات الحلفاء وكادت أن تولي الأدبار لولا أن قوّات الباز وصلت في ذلك الوقت ودخلت المعركة ضد الديك الذي أسقط في يده وعرف أن الفرصة في تحقيق حلمه بالسيطرة على الغابة قد ضاعت إلى الأبد، لأن الفلول المدبرة رجعت وأنقضّّت على قوّاته المنهكة بعد أن ألهب حماسها وصول قوات الباز المنظمة. عندما أدرك الديك أنها الهزيمة، بان عليه الحزن الشديد وتصور قادته أنه قد حزن لآلاف الجنود الذين سقطوا على مذبح أحلامه الهوجاء، بلا جدوى، إلا أنهم صعقوا عندما سمعوه يقول:
ـ في هذا اليوم ضاع كل المجد الذي بنيته لنفسي خلال السنوات التي مضت.
سقط الديك، فتنفس الحلفاء الصعداء، ولكن لفترة قصيرة! لأنهم عندما عقدوا مؤتمرا لإعادة ترتيب أمور الغابة ( حسب وجهة نظر مصالحهم وأطماعهم بالطبع )، تصرفوا بالضبط كما يتصرف اللصوص عندما يقتسمون غنائمهم!!! نعم، فقد اختلفوا حتى كادت أن تعقب تلك الحرب الظافرة التي خاضوها ضد عدوهم المشترك، حروب عديدة فيما بينها، لولا أن وساطات البعض نجحت، ولكن في تأجيلها فقط!!!.
وقد كانت أكبر الأزمات هي تلك التي نشبت بين الباز الذي لم يكتف بالإمارات التي كان يريدها، وأعطيت له، بل أراد قضم أجزاءا واسعة من تركة الديك المهزوم! والنسر الذي عارض ذلك بشدة خوفا من تنامي قوة عدوه الحليف!!! وقد استطاع وزير النسر، الغراب، أن يقنع ملكه بإعطاء الباز بعض ما يريد! ولم يعرف أحد كيف استطاع ذلك! أما لماذا؟ فإن ذلك أصبح واضحا الآن، لأن الغراب كانت لديه مخططاته الخاصة!!!، ولكن ذلك اللقاء العاصف الذي وجه فيه النسر شتّى أنواع الإهانات وأقذع الشتائم إلى وزيره، كان آخر عهد الملك بذلك الوزير الصاغر الذي اختفى من مملكته، بعد أن ساهم في وضع الخارطة الجديدة لذلك الجزء المهم من الغابة، تلك الخارطة التي رسمت الحدود المتفجرة لمختلف الدول، اختفى، وكأنه لم يكن له وجود في مملكة النسور، يوما ما!!!.)
ثم قال الأفعوان موجها كلامه لي:
ـ وأختف أنت الآن أيضا من أمامي، حتى صباح الغد.
وفي الصباح التالي، قال لي الأفعوان:
( عندما وصل الغراب، وزير ملك النسور السابق إلى الجبل استقبلت الحيوانات هناك قافلته الغريبة بتساؤلات حائرة! لأنه وصل طائرا بصحبة عائلته وعدد كبير من الخفافيش التي كان هذا أول عهدها بدولة الجبل، ثم وصلت بعد ذلك أمواله محملة بأكياس محروسة بالثعابين المخيفة الملتفة حولها، على ظهور حيوانات مختلفة!!!. وعندما سئل عن الثعابين أكد لسائليه أنها واحدة من أهدأ المخلوقات وأقلها ضررا! ).
قلت بلا شعور:
ـ ولكنك كنت قد قلت أن الأفاعي ليست جنسا قائما بنفسه، فمن أين أتى بكل هذه الأفاعي؟!
نظر إلي بغضب وقال:
ـ أولا، لا تقاطعني أثناء كلامي أبدا، بل انتظر انتهائي من سرد ما أريد ثم اطرح علي ما بدا لك من أسئلة، وثانيا أنا قلت إنها ليست جنسا قائما بذاته، ولكني لم أقل أنها قليلة العدد في الغابة، لأنك لو أحصيتها لوجدتها أكثر عددا من العديد من الأجناس، أم أنك تصورت أن الخلدة هي الحيوانات الوحيدة المهددة بالتحول إلى أفاعي؟ كلا فكل الأجناس فيها من الحيوانات ما يولد وفيه استعداد طبيعي لذلك، ولا فرق في ذلك بين راقية ومتخلفة، والآن أنصت ولا تقاطعني أبدا، مفهوم؟
أومأت برأسي موافقا، فقال:
( كان أول عمل قام به الغراب في الجبل هو طلبه اللقاء بجرجي على الفور. وقد رفض جرجي الذي كان قد أغراه منصبه الجديد، فصار مختالا فخورا، يأنف من السير على الأرض، كما تفعل معظم النسور أحيانا! بل كان يمضي معظم وقته طائرا لأنه توهم بأنه لم يخلق إلا للسمو في الأعالي، وعندما يتعب، يأوي إلى عشه الذهبي الذي أقيم له على قمة شجرة، كان قد أمضى معظم حياته حتى ذلك الحين في حياة الجيش وخوض المعارك المختلفة لأنه كان في النهاية يدافع عن فكرة آمن بها وبغض النظر عن شرعيتها، وعندما أصبح رئيسا، تذكر أنه لم يهتم بالجانب العاطفي من حياته، فقرر أن يعوض ما فاته في هذا المجال، وكان هذا القرار متأخرا جدا بالطبع. رفض اللقاء بالغراب في البداية، لأنه كان يعرف مدى هوانه وسوء نيّاته ودناءته. ولكن بعد إصرار الغراب على طلب المقابلة، وأنواع الإغراءات المادية التي أوحى بها لمعاوني جرجي لكي يوصلوها إليه، وافق على المقابلة على مضض.
دخل الغراب على جرجي وهو يفرك جناحيه تسبقه ابتسامة تذلل، وعندما رآه انحنى أمامه حتى كاد منقاره أن يشق لحاء غصن الشجرة الرسمي الذي كان جرجي يستقبل زواره فيه، وقال:
ـ سلام واحترام شديدين يا صاحب الجلالة.
قال جرجي بغضب:
ـ صاحب الجلالة! أتريد أن تصمني بالتخلف يا أيها الغبي، ألا تعرف أن دولتنا يحكمها رئيس هو أنا؟!.
ـ عذرا يا مولاي، ولكني تعودت طوال عمري على مخاطبة الملوك.
ـ أنا أعرف ذلك، وأعرف أن هذا هو الذي جعلك أستاذا في التذلل والخضوع.
ـ يا للذكاء، يا للنبوغ! لقد وصفتني بثلاثة كلمات!!! ولكني لا أعرف كيف أخاطبك يا مولاي!.
فقال جرجي وهو يتصنع التواضع:
ـ كلمة سيدي الرئيس ستفي بالغرض.
انتفض الغراب عندما سمع هذا فصاح مستغربا:
ـ سيدي الرئيس!!! عذرا يا مولاي، ولكني لا أستطيع مخاطبة عظمتكم بهذه الكلمات البسيطة، على الأقل اسمح لي أن أخاطبك بـ "سيد الرؤساء".
منع جرجي ابتسامة رضا من التسلل إلى منقاره، وقال بصوت تعمد أن يضمنه إيحاءات نفاد الصبر:
ـ خاطبني كما تشاء، ولكن هات ما عندك، فأنت لم تأت لكي تسمعني هذه التفاهات بكل تأكيد.
ـ بل أتيتك بكل الخير الذي تضمره نفسي المحبة لشخصكم المبجل.
تطافر الشك من عيني جرجي وهو يقول:
ـ وهل أحببت أحدا يوما يا أيها الوزير الخائن؟!.
ابتسم الغراب وقال:
ـ أصلح أسد جلالة الرئيس، تقصد تركي لملك النسور أليس كذلك؟!
ـ أقصد هذا، وغيره، فأنا لم أصادف طوال حياتي حيوانا يحبك!!!
ـ هذا لأنهم لا يعرفوني يا فخامة الرئيس. أما عن تركي لملك النسور فلأنه ملك ظالم.
ـ ولكنك بقيت في خدمته لزمن طويل جدا!.
ـ هذا لأني لم أكن أعرف إلى أين أذهب، وأنت قلت بنفسك أن الحيوانات لا تحبني فكيف آمنهم على نفسي إذا ما أصبحت في متناول أيديهم؟
ـ فما الذي تغير إذا؟!
ـ ما الذي تغير!!! لقد تغير كل شيء، فقد وجدت ضالتي، وتحقق حلمي القديم، لقد ولد عالم جديد ولا يسعني إلا أن أكون من خدامه.
نظر إليه جرجي بحيرة، وقال:
ـ حلم قديم وعالم جديد، أنا لم أفهم ما تعني!!!
ـ أعني دولتكم العظيمة يا صاحب العظمة، فهي الأمل الذي كنت أعيش لأجله، والحلم الذي طال انتظاري له.
عندها جلجلت ضحكة جرجي وقال:
ـ دولتنا، سامحك أسد يا غراب البين، ولكنها دولة تافهة على سفح جبل ومواطنيها قطاع طرق ومجرمين.
ابتسم الغراب بخبث وقال:
ـ أنا مسرور جدا لأني أدخلت الفرح على قلبك وجعلتك تضحك، ولكن اسمح لي أن أتجرأ وأقول أنك على خطأ في وصف دولتكم الموقرة بالتافهة، فالحقيقة هي أن المستقبل كله سيكون لها إذا ما أخذت بنصحي.
انتفض النسر بشدة وقال بحدة:
ـ أأفهم من هذا أنك تريد أن تكون وزيرا لي؟!!!
بان الرياء بوضوح على وجه الغراب الذي لم يكترث حتى لإخفائه، وقال:
ـ كلا يا درة تاج الرؤساء، فأنا قد اكتفيت من أن أكون الوجه القبيح للملوك، هم يأمرون فأنفذ لتنصب اللعنات على رأسي أنا.
ـ ولكنك أنت الذي توحي بما يأمرون أيها اللئيم.
أطرق الغراب برأسه بحياء!!! وقال:
ـ ولكنه ذنبهم، أن يسمعوني أليس لهم عقولا، فلم لا يستخدمونها؟!
ـ يا لك من خبيث!!! ولكن قل لي، لقد قلت ملوك! فهل كنت في خدمة ملك آخر قبل ملك النسور؟!.
ـ بل ملوك يا صاحب العظمة والسيادة، ولكن لهذا قصة أخرى سأرويها لك في وقت آخر.
ـ ولكنك لم تقل لي ما الذي تريده مني؟!
ـ أنا، أنا، أريد أن أكون مستشارا لك يا عظيم.
ـ ماذا؟! مشتسار! ما الذي تعنيه بذلك يا أيها المأفون؟!
ـ مستشار يا ولي نعمتي، مستشار، وهذا يعني أن أكون الناصح الأمين لك.
ـ أمين! أتقصد الأمانة التي عبّرت عنها لملكك السابق، فهجرته بعدما أفلت شمس ملكه؟!
ـ معاذ اسد يا مولاي، فأنا منذ اليوم قد ربطت مصيري بمصيرك، ثم أني لم أتركه إلا بعد أن تأكدت من أنه حفظ الدروس التي لقنته إياها في فن السياسة، والدليل أنه لم يعين لنفسه وزيرا من بعدي.
ثم أضاف بخبث وهو يفرك بجناحيه كما تعود في مثل هذه الأحيان:
ـ ثم، ثم أنا أعرف مدى حاجتك للأموال التي امتلك منها ما لا تستطيع أن تتصور، لكي تنفق على رغباتك المنزهة. وأنا خادمك وتحت أمرك فيما قد تحتاج إليه منها.
حك النسر رأسه عندما سمع كلمة أموال، فقد كان بحاجة إليها حقا لينفقها على نزواته المتعددة وكان منصبه لا يدر عليه الكثير منها لأن الدولة كانت لم تزل فقيرة، قال بعد تفكير قصير:
ـ أتقصد أنك لا تريد أجرا لمنصبك الغريب هذا؟!.
ـ وما الذي قد أفعله بالأموال؟، فأنا لدي ما لن أستطيع إنفاقه حتى لو عشت قرونا، لقد قلت لك إني أريد أن أكون خادمك المطيع، ألا تصدقني؟.
قال جرجي بتردد:
ـ حسنا، ما، مقدار ما تستطيع أن تقـ، تقرضني، إياه من الأموال.
ـ بقدر ما تريد منها يا أيها الرئيس العظيم.
بان التفكير العميق على وجه جرجي، فبقى الغراب يراقبه خفية رغم أنه أصبح متأكدا من النتيجة بعد أن سأله النسر عن كمية القروض الموعودة!. قال جرجي بعد حين:
ـ حسنا يا أيها المشتسار، ما الذي تريد أن تقوله لي بعد أن صرت لي كذلك منذ هذه اللحظة؟!
ـ مستشار يا سيادة الرئيس، مستشار، وأنا لن أقول شيئا الآن، بل سأنتظر حتى أدرس الأوضاع جيدا، ثم آتيك بمقترحاتي.
ثم انحنى عدة مرات وهو يتهيأ للانسحاب، فقال جرجي بقلق:
ـ انتظر! وماذا عن،
ـ لقد أصبح ما تحتاجه من أموال، في جناحك الرئاسي بالفعل الآن.)
بان الوجوم بعد ذلك على وجه الأفعوان، ثم قال وقد زاغت نظراته قليلا:
ـ وهكذا خالف جرجي نصيحة أفاق فحمل بذلك إثم السنة السيئة التي سيتحمل نتائجها البغيضة شعب الجبل الجديد، وشعوب الغابة جمعاء إلى النهاية.
ثم سكت ليقول بعد قليل متابعا:
( دخل الغراب على جرجي ذات يوم مسرعا وقال:
ـ حسنا يا سيادة الرئيس، لقد أعملت الفكر في أمر دولتكم الموقرة وقد توصلت إلى مجموعة من الأفكار أرى أن تأخذ بها لكي نستطيع أن نبني الميدان الأمثل لتحقيق طموحاتنا المشروعة.
لم يلاحظ جرجي أن الغراب أصبح يتكلم بصيغة الجمع عندما يتحدث عن دولة الجبل لأنه كان مشغول البال بعصفورة جميلة كان قد رآها في ذلك اليوم فأرسل من يتعقبها ويتقصى خبرها، وكان في تلك اللحظات ينتظر رجوع النسر من مهمته الرسمية التي كلفه بها سيادة الرئيس، فقال وهو شارد الذهن:
ـ هيا، هات ما عندك.
ـ حسنا يا أيها الرئيس، أنا أنصح أولا أن تكفل الدولة حرية الجميع.
انتفض جرجي عندما سمع ذلك وقال بحدة:
ـ ماذا؟! حرية! ولكننا في الجيش لا نهتم.
رسم الغراب أبتسامته الشهيرة على منقاره وقال:
ـ ولكن يا سيدي الرئيس نحن لسنا في الجيش الآن، وآن لك أن تتصرف كرئيس دولة.
ـ نعم، ولكن مسألة الحرية هذه! ثم، ثم ما الذي نستفيده من إعطاء الحيوانات حريتها غير الفوضى والانفلات؟.
ـ لا يا سيدي، فالحيوانات عندما تتعود على حريتها فإنها تستطيع أن تضبط نفسها، وعندما تفعل ذلك فإنها تكون قوة في يد الحاكم، كما إن حريتها هذه ستكون مقصورة على حياتها الخاصة ولن يكون لها دخل في السياسة إلا بالقدر الذي سنحدده نحن لها من خلال تأثيراتنا الخفية عليها، أما عنك أنت فلن ندع الأمر يؤثر عليك لأننا سنعمل، أنا وهيئة الاجتماع التي سندعو إلى تشكيلها، وقبل إقرار مباديء الحرية الجبلية، على اختيارك رئيسا مدى الحياة تقديرا للخدمات العظيمة التي قدمتها للأمة، أما عن مسألة الاستفادة فللحقيقة أقول أننا سنستفيد كثيرا من هذه الحرية التي تعني أن يفعل كل حيوان ما يشاء وخاصة في الجانب الاقتصادي، لأنها ستكون مشروطة بأن يدفع كل منهم ضريبة محددة تكون هي أساس الدخل القومي الجبلي الذي نستطيع أن ننفق منه على المسائل الداخلية، فيما نستغل الثروات الموجودة في باطن هذا الجبل العظيم لتنفيذ مشروعاتنا الطموحة في المستقبل، وبالمناسبة، يجب أن نسنّ قوانينا تسهّل على حيوانات الغابة الهجرة إلى جبلنا.
ـ ماذا؟ قوانين!، وهجرة! ولم ندعو الآخرين لكي يأتوا فنعطيهم هذه الأراضي التي انتزعناها انتزاعا من فم ضباع الشياطين؟!
ـ يا مو، أقصد يا سيدي الرئيس، ألا ترى أن أعدادنا تكاد تضيع في أرجاء هذا الجبل الفسيحة، نحن بحاجة إلى أعداد هائلة من الأيدي العاملة التي نضمن بتوفيرها استغلال خيرات بلادنا الاستغلال الأمثل، كما أن المزيد من الحيوانات يعني المزيد من الضرائب، وهكذا نضمن أن نربح من الوافدين الجدد مرتين.
بان التفكير على الرئيس جرجي بعدما سمع، ثم قال بصوت خفيض بدت فيه بوادر استحسان:
ـ أهكذا إذا، ولكن كيف يمكن أن نوصل خبر هذا إلى أرجاء الغابة الفسيحة.
ابتسم الغراب برضا وقال:
ـ ما علينا إلا اللجوء إلى الهَدْهَدْ.
ـ ولكننا لا نملك من الهداهد ما يكفي لمثل هذه المهمة الضخمة!
اتّسعت ابتسامة الغراب وقال:
ـ سامحك أسد العظيم يا سيادة الرئيس، أقول لك هَدْهَدْ فتقول هُدْهُدْ، إن هذه الهداهد التي تتكلم عنها ستكون الشوكة الوحيدة في الحلق بالنسبة لنا عندما نعطي الحيوانات حريتها في التعبير عن رأيها مثلما يحلو لها، لأن الكثير منها يمتلك من الكبرياء ما يجعله لا يستطيع السكوت عندما يرى الحق مجنيا عليه، كما أنها لا يمكن إخفاء الحقائق عنها بسهولة فهي ترى الماء تحت الأرض كما يزعمون، أما عمّا نحتاجه الآن فقد أعددت للأمر عدته حتى قبل أن أحطّ في هذا الجبل العظيم.
فقال الرئيس بتعجب:
ـ وكيف ذلك؟!
ـ ألم تسمع بالوطاويط الكثيرة التي جلبتها معي؟
ـ نعم، ولكني لم أعرف ما الذي قد تفعله بها.
ـ لقد دربتها لكي تنقل ما أشاء من أخبار وإلى من أريد وهي تفعل ذلك كالجن.
ـ ولكنها لا تطير إلا في الليل!!!
عندها ضحك الغراب وقال:
ـ وهل هناك أفضل من الليل لنقل الأخبار وسماعها يا مولاي؟.
ـ يا لنعثل الضباع!!! لقد بدأت أتساءل إن كان قبولي لعملك معي عملا حكيما!!!
ـ بل هو عين العقل لأني خادمك المطيع الذي لا يريد إلا خيرك وراحتك.
عندها تنحنح جرجي قليلا ثم قال:
ـ أتصور أنك قد بلبلت أفكاري بما يكفي للقاء واحد، فهلا تركتني لأرتاح؟.
فقال الغراب على الفور:
ـ سمعا وطاعة يا خير الرؤساء.
ثم انسحب ليخرج، ولكن الرئيس الذي لم يكن قد نسى للسلحفاة اللعوب موقفها في الماضي، وكان يتحين الفرصة للانتقام منها، خاف فجأة من أن يمنعه ما يخطط له الغراب من نشر لواء الحرية!!! في الجبل من تنفيذ ذلك، فقال:
ـ لحظة أيها المشتشار، أنا أفكر في نفي السلحفاة اللعوب من البلاد لأنها تفسد أخلاق الشعب، فماذا تقول عن ذلك؟
شهق الغراب عندما سمع قول الرئيس وقال:
ـ ماذا؟ أتريد أن تفرط بجانب مهم من مصادر الثروة القومية للبلاد؟!
فصاح جرجي غاضبا:
ـ هل جننت يا هذا؟ أقول لك السلحفاة اللعوب فتقول ثروة قومية؟!
ـ طبعا ثروة قومية، هل لديك فكرة عن عمر هذه السلحفاة العجيبة، لقد تجاوزت المائة الثانية من عمرها قضت تسعة عشر عقدا منها في ممارسة هذه المهنة التي هي أقدم منها، ولها أصولها وتقاليدها التي تعتبر السلحفاة الآن واحدة من أكبر خبرائها العارفين بها، فهل تريد التفريط بهذه الخبرة العظيمة؟.
فقال جرجي بلا حذر:
ـ ولكني أكرهها، أكرهها.
ـ لك أن تكرهها كما تشاء، رغم أني لست واثقا من أنك ستكون كذلك بعد أن أتكلم معها وأطلب منها أن تعاملك كواحد من أهم زبائنها، ولكن حتى ذلك الحين إياك أن تمسها بأذى فهي واحدة من الأسس التي سأبني عليها حملتي لجذب المزيد من الأيدي العاملة إلى بلدنا العظيم.
ـ ولكن! ما دخل هذه السمسارة اللعينة بما تخطط له.
فقال الغراب باستخفاف:
ـ وهل تصورت أني سأدعوهم للمجيء إلى هنا لكي يعملوا فقط كما هي الحقيقة؟ لا يا سيادة الرئيس، فنحن يجب أن نضمّن دعوتنا لهم الإغراء والترغيب، وهل ترى ما هو أشد إغراءا مما تقدمه هذه السلحفاة الطيبة من خدمات؟!.
فقال جرجي وهو يبدي اعتراضا خجولا:
ـ ولكن ألا تخاف من إغضاب الجمل، إله الأخلاق الفاضلة.
فقال الغراب وهو يكاد لا يستطيع أن يخفي ابتسامة سخرية راودت منقاره:
ـ هيا يا سيادة الرئيس، لا تكن نعامة، ألا ينبغي لنا إزاء الأهداف السامية أن نتنازل قليلا عن أخلاقنا الفاضلة؟.)
عندما سكت الأفعوان لاحظ أني كنت أرقبه بصمت وقد بدت علي علامات التفكير العميق، فتساءل قائلا:
ـ مالك تحدق هكذا في وجهي وأنت واجم؟
فاجأني سؤاله فقلت متلعثما:
ـ في، في الحقيقة، لقد كنت أتساءل مع نفسي، كيف استطعت أن تكون في أكثر من مكان واحد في وقت واحد؟!
ـ ولكن هذا مستحيل، فلم قد يخطر مثل هذا التساؤل على بالك؟
ـ لأن، ولكن قبل أن أجيب أرجوك أن تصدقني القول، أكل ما تحدثت عنه لحد الآن حقيقة أم إنه أسطورة تريد أن تفهمني الحقيقة من خلالها؟!
ـ لا، لا بالطبع هو الحقيقة بعينها، ولكن لم هذا السؤال؟!
ـ فكيف تعرف أنت كل هذه الحقائق إذا؟!
ـ آه، لقد فهمت، أهذا هو ما يقلقك ويثير التساؤلات في نفسك الصغيرة؟ حسنا يا بني، أنصت، هيا أنصت جيدا، وقل لي ما الذي تسمعه في هذه اللحظة؟
أنصتّ كما طلب مني فلم أسمع غير صرخات حيوانات الغابة وزعيقها!!! ولكنه لم يتركني طويلا لحيرتي، لأنه سرعان ما قال:
ـ أهناك غير صراخ الحيوانات؟
فهززت برأسي أن لا، فقال لي:
ـ أتتصور أنها جميعا تصرخ بدون سبب؟ أم أن هناك أسباب لصراخها؟
ـ طبعا هناك أسباب!
ـ فهل تستطيع أن تعرف كل الأسباب التي تجعل هذه الحيوانات تصرخ؟
هززت برأسي لا، ثانية، فقال:
ـ والآن أنظر بعينيك، وقل لي هل تستطيع أن تجتاز حدود مقدرة عينيك على الرؤيا؟
فقلت بدون تردد:
ـ بالطبع لا!
ـ أي أنك إذا ما أردت معرفة الحقيقة فإنك ستكون محددا بنطاق غرائزك التي تعينك على معرفتها؟
ـ وهذا صحيح أيضا.
ـ فإذا ما أردت أن تعرف حقيقة كل ما يدور من حولك في هذه الغابة فما الذي يجب أن تفعله؟ ـ أنا لا أعرف، اخبرني أنت!
ـ الحل هو أن تكون فضوليا بدرجة تجعلك تسأل عن كل ما ترى أو تسمع، أو حتى تحس، ولكن بشرط، أن لا تكتفي بمظاهر الأشياء، بل تحاول الغوص في أعماقها، فأنت مثلا لو سألت أصحاب الشأن في قضية ما فإنهم لن يجيبوك إلا بالطريقة التي تجعلهم يبدون أفضل الحيوانات، وهذا ليس من الحقيقة بشيء، ولذلك يجب عليك أن تسمع وبعد ذلك تنتظر الأحداث التي يمكن أن تثبت أو تنفي ما سمعت من ادعاءات، وبهذه الطريقة تترسّخ القناعات الصحيحة فيما بعد، أوه ما هذا الهذر الذي أتفوه به؟!
سكت بعد ذلك، ثم قال بعد قليل:
ـ انتبه جيدا أيها الخلد المزعج، هذه الغابة هي تأريخ في ادراكاتنا، قبل أن تكون مكانا نراه بأعيننا، ولا أمل لنا في إدراك اليقين في معرفة تفاصيل ما يدور فيها، ولذلك يكون للحدس الدور الأكبر في المعرفة فيها، نعم الحدس، ولكن الحدس المدرب تدريبا صحيحا، والبعيد عن قيود الأهواء والرغبات الشخصية التي تجعل مهمة إماطة لثام التزمت عن أعيننا أمرا مستحيلا، وأنا يا خلدي لي مصالح محددة كثيرة، ولكني تعودت على رؤية الحقيقة بعيدة عن سلطة مصالحي وتحديدات أهوائي، فأنا ثعبان فضولي ولا يرضيني غير رؤية الحقيقة كما هي لا كما أريدها أنا، وذلك لأني غير مسكون بالخوف من تأثير الحقيقة على ميولي فأنا أعرف فسادها وراض بالحضيض الذي انزلقت إليه.
ثم سكت لوهلة قبل أن يكمل:
ـ وفوق هذا وذاك لا تنسى بأني ثعبان، أي أني قبل أن أُسلط على رقابكم الرقيقة، كان عملي أن أسترق السمع وأنقل الأخبار إلى أولي الأمر الحقيقيين في هذه الغابة الذين يعرفون حقيقة كل ما يدور فيها، وخلال اتصالي بهم لا بد وأن أسمع ببعض ما لا يعرفه إلا من يشارك في جميع الأحداث أو يرسمها.
قلت عندها بدهشة:
ـ ماذا؟! تسترق السمع وتنقل،
ولكنه قاطعني قائلا:
ـ دع عنك هذا الآن، وسيأتيك خبره فيما بعد، أما الآن فأذهب واتركني لأرتاح.
في الصباح التالي هرعت وكلي لهفة للوصول إلى مكان اللقاء قبل الأفعوان، ولكني وجدته في انتظاري عندما وصلت إلى هناك! ذعرت وجمدت في مكاني منتظرا تقريعه وإهاناته في مثل هذه الحالات، ولكنه، ولعجبي، قال عندما رآني:
( آه لقد وصلت أخيرا، اقترب قليلا لنبدأ. لقد تحدثت بالأمس عن لقاءات الغراب وجرجي، ولكي لا أطيل عليك كثيرا سأكتفي بذكر المهم منها فقط، ففي يوم آخر دخل الغراب وهو يفرك بجناحيه وقد رسم على منقاره واحدة من ابتساماته النادرة التي لا تحمل آثار ذل! على جرجي الذي كان ينتظره، قال الغراب فور دخوله:
ـ هل أرسلت في طلبي يا سيد جرجي؟
ـ نعم، فقد أردت أن أسألك عن تلك القوانين التي جعلتني أطرحها على هيأة الجماع لاستحصال الموافقة عليها؟
ـ إنها هيأة الاجتماع وليس الجماع يا عزيزي جرجي.
ثم ابتسم ابتسامة ذات معنى، وأضاف:
ـ حفظك أسد من الأمراض التي قد تصيبك بسبب إدمانك الاتصالات الجنسية كثيرا، ولكن ما الذي أردت أن تسأل عنه بالضبط؟
ـ سواء عندي إن كانت هيأة جماع أم اجتماع، ولكن وجودها يضايقني كثيرا، ولا أعرف كيف سمحت لك أن تجعلني أوافق على إنشائها بتفاهاتك عن الحرية وأهميتها؟! المهم، أردت أن أسألك أولا عن وكالة الثعابين المركزية التي جعلتني أوقع قرار إنشائها، ما الذي تتأمله من هذه المخلوقات غير قتل أعداءنا في الداخل؟!
ـ وسيكون لنا أعداء أكثر في الخارج فيما بعد، أفلا يجدر بنا أن نتهيأ لهم؟ وعلى كل حال فإن القتل سيكون مهمة أخرى من مهام هذه الوكالة المهمة، لأن الأهم هو أن نعرف كل ما يدور في أنحاء الغابة لكي لا نفاجأ بشيء.
ـ وهل تستطيع الثعابين القيام بذلك؟
ابتسم الغراب اللئيم وقال متسائلا:
ـ أتعرف ما هي أهم ميزة في الأفاعي؟
نظر جرجي إليه ببله، فلم ينتظر الغراب ليسمع إجابة بل استطرد قائلا:
ـ هي قدرتها على الانسلال بصمت بحيث لا يسمعها أو يراها أحدا، فتكون قريبة من الأحداث، بل ستكون في قلبها، عندما تريد، وهذا سيكون عمل الأفاعي بالإضافة إلى المهام الأخرى مثل حياكة المؤامرات ضد أعداءنا، وتنفيذها، والكثير الكثير من الأعمال المجيدة التي سيكون وجودنا نفسه معتمدا عليها.
ـ ولكن كيف تتأمل من الأفاعي أن تقوم بكل هذه الأعمال الخطرة؟!
ـ هي لن تكون لوحدها، ولكنها ستكون العماد الذي يقوم عليه عمل هذه الوكالة المهمة.
ـ ولكن كيف سيكون بامكانها أن تنقل إلينا الأخبار بالسرعة المطلوبة وأنت تعرف المسافة الطويلة التي تفصلنا عن أرض الغابة؟!
ـ ومن قال لك أنها ستقطع كل تلك المسافة؟ لا يا عزيزي فقد رتبت الأمور لكي تنقل كل منها الخبر الذي حصلت عليه إلى أقرب أفعى منها والتي تنقلها هي الأخرى إلى أخرى وهكذا حتى يصل إلينا الخبر بعد مرور وقت ليس بالطويل أبدا.
بان التعجب على وجه النسر وقال:
ـ أهذا يعني بأنك قد زرعت المسافة التي تفصلنا عن الغابة كلها بالأفاعي؟!
ـ طبعا.
استغرق عندها النسر بالتفكير العميق لثوان طوال، قال بعدها:
ـ ثم ماذا؟
ـ ثم ماذا، ماذا؟! هل تتصور يا جرجي أننا نستطيع أن نقيم دولة تتربع على عرش الغابة لوحدها، من دون أن يكون لنا جهاز مخابرات يستطيع أن يكفينا شرور الأعداء الذين سيكونون متربصين بنا بكل تأكيد؟
ـ ولكن لماذا تريدها أن تكون لوحدها؟! ألا يكفينا أن نشارك الآخرين حكم الغابة واقتسام خيراتها معهم؟!
ـ حتى لو رضينا نحن، فإنهم لن يرضوا، فهكذا خلقت الحيوانات ولن تستطيع أن تبدل ريشها، ولهذا يجب أن نتحسب لكل طاريء قبل أن يقع.
ـ ولكن! ما الذي تستفيده أنت من كل هذا؟
فقال الغراب بصوت بدا فيه الانزعاج واضحا:
ـ وكيف لا أستفيد عندما أرى الدولة التي حلمت بها طوال حياتي متربعة على قمة العالم؟!
ـ ولكن!، أنت حتى لست بالجبلي!!!
فقال الغراب الخبيث:
ـ ومن هو الجبلي الحقيقي يا عزيزي جرجي؟ هيا، دعنا لا نختلف الآن ولنكرس كل جهودنا من أجل إقامة هذه الدولة الحلم.
قال جملته الأخيرة وبدت في عينيه نظرة تأمل للحظات وكأنه غراب عاشق يعيش إحدى أحلام اليقظة!!! ولكنه سرعان ما استفاق ليستمع إلى جرجي وهو يقول:
ـ وما هذا المشروع الغريب عن تشجيع نسانيس الغابة وببغاواتها المزركشة وكرواناتها وطيورها المغردة على الهجرة إلى الجبل، وإعطائهم تسهيلات ومغريات لم تقدم حتى للأيدي العاملة التي جعلتها تهاجر إلينا، أنت ووطاويطك الضبعية؟!
ـ آه، هذا، إنه جزء من المشاريع المستقبلية.
ـ ولكن أي مشاريع مستقبلية؟ هلا وضحت من فضلك، فأنا رئيس البلاد أتذكر ذلك؟
ـ بالطبع، بالطبع، فأنت رئيس البلاد وقرّة عينها، ولكني لا أريد أن أزعجك بتفاصيل قد تؤثر على، على، ما أنت، فيه من أعمال مهمة! فيها خير هذا البلد.
ـ هه؟ نعم، نعم، ولكن مع ذلك يجب أن أعرف الهدف من هذه الخطط!.
ـ طبعا، هذا من حقك، وإذا كنت مصرا فأعلم أن الهدف من هذا هو الاستفادة من هذه الحيوانات والطيور في الترفيه عن الشعب بتعليمها فنون التمثيل والغناء كمرحلة أول.
عندها صاح النسر البليد غاضبا:
ـ ماذا؟! أتريد أن تحول الوطن إلى ملهى بعد أن حولته من قبل إلى ماخور بمساعدة السلحفاة الملعونة، كاهنة الكلبة، آلهة الشبق!!!.
فقال الغراب بهدوء يحسد عليه:
ـ ما هذا الكلام يا جرجي العزيز؟ أنا حولت الوطن إلى ماخور؟ أم أني دجّنت لك الشعب بتقسيم وقته بين العمل بلا رحمة وقضاء بعض الوقت المتبقي لهم في صالونات السلحفاة اللعوب الموزعة في أنحاء الجبل لكي ينسوا فيها بعض هموم العمل، فأبعدت بذلك مشاكلهم عنك فيما لو امتلكوا أوقات فراغ فائضة عن حاجتهم، أهذا هو جزائي لأني أعمل من أجل مصلحتك؟
فقال النسر بخجل:
ـ ولكن، ولكنني لا أستطيع أن أفهم كل ما تخطط له، بل أشعر أحيانا بحيرة كبيرة عندما أرى سرعة تنفيذك لخططك وتنوعها!.
ـ هذا لأني لا أريد أن يسرقنا الوقت، فهو يسير بسرعة لا رحمة فيها ويجب أن نعد لكل أمر عدته، فقط ثق أنت بي ودعني أعمل ما هو خير لك ولهذا الوطن العزيز.
ـ ولكن، ألا ترى أن مسألة النسانيس والببغاوات هذه فيها بعض الإفراط في،
فقاطعه الغراب قائلا:
ـ بل أن هذا هو بداية الجزء الأهم والذي هو تصدير حلم الجبل من خلال هذه الفرق التي سنشكلها ثم نرسلها إلى أنحاء الغابة بعد أن تمتلك الخبرة اللازمة، لا تقل لي أن هذا الحلم سيكون بالكلام عن المثل والمباديء، فهذه البضاعة لا يأبه بها الكثير من الحيوانات والمهم هو أن نغازل أهواءهم وأن نراهن على غرائزهم، هذا بالإضافة إلى أننا سنخلق لهم أبطالا يحلون محل أبطالهم القوميين.
ـ ماذا؟!
ـ نعم يا عزيزي، فكل قوم لديهم أبطال من بني جلدتهم مأخوذون من أساطيرهم أو تأريخهم أو حتى من عصرهم الحالي، وما داموا يضعونهم نصب أعينهم فإننا لن نستطيع أن نسيطر عليهم، بل سيكونون مصدر خطر دائم على مخططاتنا للسيطرة على الغابة، فإذا ما نجحنا في إحلال صورة نسناس مدرب من نسانيسنا محل صورة بطل من هؤلاء، أو جعلنا صورة كروان تقتحم مخيلات إناثهم، أو نجعل ببغاء تتسلل بألوانها التي نزيدها زهوا بأساليبنا الخاصة، إلى أحلام ذكورهم، فإننا نكون قد ربحنا معركة في كل إنجاز نحققه في هذا المجال، وهذا كله كفيل بجعلنا ننتصر في النهاية في حرب السيطرة المطلقة على الغابة، أفلا تريد أن تكون حاكم الجبل والغابة الأوحد؟.
ـ في الحقيقة، نعم، نعم أيها الغراب العزيز.
ـ فدعني أعمل إذا، وكل ما أحتاجه منك هو الثقة المطلقة.
فقال النسر بأريحية وحماس:
ـ ولك مني هذا.
عندها بدأ الغراب يفرك بجناحيه وهو ما بات حتى النسر البليد يعرف أنه علامة على نية الغراب في طلب شيء! ثم قال:
ـ والآن يا عزيزي جرجي دعنا نتحدث قليلا في أمور شخصية.
فقال جرجي بقلق:
ـ تفضل!
ـ أنت تعرف أني أعطيك القروض منذ زمن طويل،
وقعت هذه المقدمة كالصاعقة على رأس جرجي الذي كان قد انغمس في ملذاته الشخصية حتى أصبحت نفقاته معتمدة كليا على قروض الغراب السخية، وكان الغراب طوال الفترة الماضية قد توقف عن وصف تلك المبالغ بالقروض حتى بدأ النسر يعتبرها منحا، كان يعاني من قلق بشأن صفتها الحقيقية ولكنه لم يجرؤ يوما على سؤال الغراب يوما عن ماهيتها خوفا من مطالبة الغراب بتلك الأموال إذا ما اعتبرها قروضا، وهكذا هو شأن الحيوانات التي تعيش حياتها على أساس القروض!!! وعندما قال الغراب ما قال شعر النسر بألم مفاجيء في معدته، ولكنه ازدردّ لعابه ولم يقل شيئا، بل راح يتابع حديث الغراب بوعي مترجرج!:
ـ صدقني أن تقديم هذه القروض لك كان مبعث سعادة عظيمة لي، وكيف لا أسعد وأنا أقرض نسرا عظيما مثلك لكي يسعد بحياته؟ ولكن، وصل المبلغ إلى أرقام كبيرة جدا، والأوضاع كما تعرف ليست جيدة أبدا في هذه الأيام.
كاد النسر أن يصرخ من شدة الحنق، لأنه كان يعرف جيدا أن الغراب قد ضاعف ثروته منذ أن أتى إلى الجبل من خلال سيطرته على سوق المخدرات في الجبل والتي كانت قد راجت كثيرا منذ مقدمه، وكذلك سوق المشروبات المسكرة، كما كان قد سمع عن أخبار العمولات التي كان يتقاضاها من السلحفاة اللعوب وشركائها في مؤسسة " الكلبة للتسلية والترفيه " لتمرير القوانين التي تخدم مصالحهم في أروقة هيأة الاجتماع!!! ولكنه لم يفعل لأنه خاف من الفضيحة إذا ما قرر الغراب الذي لم ينس أن يوثق تفاصيل القروض، أن يناقش الموضوع علانية، فقال بصوت هو إلى التضرع أقرب:
ـ ولكن! من أين لي هذه المبالغ الآن؟! أتريد أن أبيع القصر الرئاسي لكي،
فقال الغراب مقاطعا:
ـ لا، لا يا عزيزي جرجي، لم يكن هذا قصدي، و، ولكنك تعرف، أنا محتاج للأموال الآن.
ـ ولكن كيف تريدني أن أتصرف؟!
رفع الغراب كتفيه وقد رسم على وجهه علامات الحيرة الزائفة، ثم تظاهر بالتفكير لبعض الوقت قبل أن يقول:
ـ وإذا قلت لك أن هناك حلا؟
صاح جرجي بلهفة:
ـ فانجدني به أيها الغراب الطيب.
ـ حسنا، أنا أستطيع أن أتنازل لك عن المبالغ التي أقرضتك إياها إذا ما،
ثم سكت متعمدا فصاح جرجي بضيق كبير:
ـ إذا ماذا؟ هيا تكلم.
ـ إذا ما، وافقت على الزواج من ابنتي الوحيدة.
عندها صاح جرجي كالمصدوم:
ـ ماذا؟! أنا أتزوج أنثى غراب؟!
لم يبد على الغراب أنه قد لاحظ مدى تقزز جرجي من هذه الفكرة! لأنه قال بكل هدوء:
ـ أنت غير مضطر إلى ذلك، ولكن عدم الزواج يعني ضرورة تسديد قيمة الدين.
ولا أرى داعيا إلى التذكير بأن الوضع الذي وجد جرجي نفسه فيه جعله لا يمتلك الكثير من الخيارات، فوافق على الزواج من ابنة الغراب التي ولدت له نسرا! ولكنه لم يكن يشبه بقية النسور لأنه كان نسرا أصلعا، وإن كان يتميز بشيء، فهو شدّة قبحه!!!.
عندما ولد السبط الذي كان الغراب ينتظره طوال عمره، شعر بأن الحياة قد ابتسمت له أخيرا، وليتها ما فعلت لأنه لم يكن إلا بائع حزن ومروّج تقطيبات يبيعها للآخرين بابهض الأثمان!!! المهم هو لم ينتظر إلا الوقت الكافي ليبلغ حفيده العمر المطلوب لكي يبدأ بتنفيذ الجزء الآخر من خطته الجهنمية! فقد كان قد شجع السلحفاة اللعوب ضمن اتّفاق سري بينهما على نقل مرض زهري إلى جرجي خفية من خلال الإناث المحترفات اللاتي كانت ترسلهن تباعا إلى النسر الشبق العجوز، وقد كان والحق يقال، اختيار نوع المرض موفقا جدا، لأنه لم يمهل النسر القومي كثيرا، بل نفق بعد وقت قصير ولكنه كان كافيا للغراب لكي يقنع النسر المحتضر بكتابة وصيته التي يوصي فيها بنقل عصا الحكم إلى ابنه الذي تكفل الغراب بتربيته وتعليمه بنفسه، من بعده!!! ولكن دأب الرياح أن تناكد السفن أحيانا، والسحر قد ينقلب على الساحر في لحظة غفلة، وكان هذا ما حدث هذه المرة، ولكن غرابنا هذا ساحر لعين ومتمكن من سحره يتجاوز المطبات التي تعترض دربه ولو بعد لأي!!! فقد كان قد أغرى هيأة الاجتماع في جلستها الافتتاحية بانتخاب جرجي رئيسا مدى الحياة على أمل أن ينتقل هذا الحق إلى خلفه بالوراثة، ولكن فأله قد خاب لأنه لم يتوقع أن تكون الأطماع قد وصلت إلى الحد الذي وصلت إليه عندما تكونت كتلة الهيئة الغريبة في ذلك الوقت، فقد كان كل من الفيل والحمار يتشاركان في قيادة حزب واحد يضمّهما بعد انتهاء الحرب الأهلية، ولكن اطماعهما الشخصية فرقتهما فيما بعد فأسس الفيل حزب لحسابه الخاص، وعندما تشكلت الهيأة خاض كل من حزب الحمار والفيل صراعا مريرا فيما بينهما لأنهما كانا الحزبين الاكبرين، للفوز بمقاعد الهيئة المحدودة، ولكن النتيجة جاءت متقاربة جدا، فلم يحسم النزاع بينهما في حينه.
ولكن، عندما مات جرجي فجأة سنحت الفرصة لكل من الحمار والفيل لتصفية الحسابات فيما بينهما وفي نفس الوقت تحقيق أحلامهما في امتلاك السلطة المطلقة على مستوى الدولة!!! فأجهضا بنفوذهما المحاولات التي قام بها الغراب جاهدا لنقل السلطة إلى سبطه العزيز، "الذي خاف أن يخدم في الجيش عندما كان التجنيد إجباريا في الجبل، فأستخدم الجد نفوذه ليعفيه من الخدمة العسكرية بحجة صحته العقلية والنفسية المتدهورة!!!" حتى أسقط في يده، فانزوى جانبا وهو يراقب ما يدور بنظر ثاقب وعيون لا ترمش لها جفون خلال فترة تنامي حمّى الانتخابات التي أتفق على اللجوء إليها لاختيار رئيس البلاد الجديد والذي تحتّم أن يكون واحدا من اثنين، إما الحمار أو الفيل.
الحمار أم الفيل؟ أو الفيل أم الحمار؟ كانت هذه هي الأسئلة التي تدور في بال مواطني الجبل في تلك الأيام التي شهدت ولادة مهزلة الحملات الانتخابية السخيفة، ولقول الحق فقط، أقول أن الحمار قد أثبت في ذلك الحين أنه ليس غبيا دائما كما هو متهم من قبل الحيوانات لأنه قرر فجأة أن يستخدم أسلحته السرية في حملته هذه فأوحى لمعاونيه أن يستخدموا قصة الفأر القديمة للانتقاص من منافسه الفيل، وقد أتى هذا الأمر أكله ولم يمض الكثير من الوقت حتى كانت سمعة الفيل لا تسمح له بمنافسة الحمار، فقرر أن يقوم بالهجوم المقابل فركز على الحياة الجنسية الحافلة للحمار ولكن هذا لم ينفعه كثيرا لأنه هو أيضا لم يكن بالقديس المتعفف!!! فاضطر لبذل الأموال، سخية، لشراء أصوات الناخبين! وقد نجح في ذلك هذه المرة ولكن معين ثروته المحدودة بدأ بالنضوب، فلم يجد بدا من اللجوء إلى الغراب الفاحش الغنى لكي يعينه في مسعاه السياسي!!!.
عندما أنبيء الغراب بوفود الفيل عليه وهو في بيته، كان من الطبيعي أن لا يدعوه للدخول لأن ذلك كان مستحيلا كما هو واضح، فخرج إليه هاشا، باشا تسبقه عبارات الترحيب التي كان يتقنها مثلما يتقن كل ما في هذه الغابة من نفاق، انتظر الفيل حتى أصبحا لوحدهما تماما كما طلب هو ذلك، ليقول بتردد:
ـ عذرا يا، سيدي المبجل، لم، يكن في بالي أن، أن أشغلك عن مهامك العظيمة، ولكن السبل سدّت في وجهي ولم يبق أمامي غير شخصك الكريم.
فقال الغراب في سره:
ـ إذا وقعت أخيرا أيها المتبجح، وها أنت تمرغ خرطومك في التراب أمامي.
ثم قال للفيل الوضيع:
ـ لا تهتم يا صديقي فبابي مفتوح لكل سيد كريم.
ثم أضاف بعد ضحكة قصيرة:
ـ حتى إذا كان لا يتسع لمروره.
انفجر الفيل في ضحكة حتى كاد أن يتمرغ في التراب لولا أنه خاف من مخاطر القيام بمثل هذه الحركة غير المأمونة العواقب بالنسبة له، ثم قال:
ـ لأسد درّك يا سيدي، كريم وشجاع وفوق ذلك خفيف الظل، من أين تأتي بكل هذه الخصال الحميدة؟
ثم أضاف بعد ذلك في سره:
ـ يا كاهن نعثل الحقير!.
قال الغراب:
ـ شكرا أيها الصديق، قل وستراني كلّي آذان صاغية.
فقال الفيل على الفور:
ـ حسنا يا خير المخلوقات، فأنت ترى أن الحمار اللئيم لم يكن شريفا في المنافسة التي قامت بيننا للفوز بمنصب خادم الأمة الغالي، ففبرك هذه القصة الغريبة التي لا أدري أي ضبع أوحاها له، أقسم لك بروح جرجي العظيم إنها كاذبة، ولكن لا عجب، فهذا الحمار كان طوال عمره مريض الخيال، سيء الخصال، لا يتورع عن اقتراف الذنوب لتحقيق مصالحه الخاصة، المهم أن هذا الادّعاء كلّفني غاليا لأني أنفقت ثروتي كلها في محاولة استمالة هذه الجماهير الجاحدة التي لا تعرف أني أحاول إبعاد الخطر عنهم بترشيحي لنفسي في مقابل هذا الحمار الخائن، وقد، وقد أتيتك، طامعا في كرمك لمساعدتي في بلوغ هذا الهدف النبيل الذي أسعى إليه.
فقال الغراب وقد بدت عليه علائم العظمة التي يتوهمها في نفسه:
ـ آه، طبعا، طبعا، وهل يعقل أن أردك خائبا.
كاد الفيل أن يقفز من الفرح، ولكن الغراب تابع قائلا:
ـ ولكن قبل هذا أريد أن أسألك لم تكلف نفسك هذا الجهد الكبير؟ لم تنهك نفسك من أجل منصب لن يورثك غير الإجهاد والإنهاك ولا تستطيع أن تستفيد منه على صعيد شخصي بوجود هذه الهيأة اللعينة؟
قطب الفيل حاجبيه وقال بصوت خفيض وبنيرة متسائلة:
ـ لم أفهم؟!
ـ صدقني أيها الصديق أن هذا المنصب لن يورثك إلا الهموم ووجع القلب، أنت لم تكن ترى جرجي المسكين كثيرا، ولا تعرف ما كان يتعرض إليه من ضغوط، أنا أعرف لأني كنت قريبا منه طوال الوقت، ثم، ما الذي تبتغيه من هذا، أتريد سلطة؟ أقسم بأرواح أجدادي لأوفرنها لك حتى لو بقيت في بيتك، فتستطيع أن تمد خرطومك في أي اتّجاه تشاء، لا في أنحاء الجبل فقط، بل في أنحاء الغابة البعيدة أيضا. أتريد مالا؟ لأعطينك منه ما يكفل رغيد العيش لأحفاد أحفادك. وأنا شخصيا سأرفض هذا المنصب لو عرض علي، أتتصور أني كنت عاجزا عن الحصول عليه لو رغبت؟
اخترقت خيبة الأمل فرحته القصيرة، فقال بحزن وانكسار:
ـ أهذا يعني أنك لن تعطيني المال اللازم للاستمرار في حملتي الانتخابية؟
ـ بل سأعطيك إياه وسأساعدك لكي تفوز بما تصبو إليه.
فنظر الفيل إليه نظرة شك وحيرة وقال:
ـ لم أفهم!!!
ـ نعم يا صديقي، سأجعلك تفوز، ولكن بشرط واحد، هو أن تتنازل عن المنصب لمن هو أهل له، لأن أسد خلقه خصيصا لهذه المهمة الهائلة. وبعد هذا لن تعرف طعما للحاجة يوما.
قال الفيل باستغراب:
ـ ولكن من هو هذا الذي خلق خصيصا لهذا المنصب؟!
فقال الغراب بتواضع وأدب:
ـ ومن يكون غير سبطي الأمين الذي نذرته لكي يكون خادم هذه الأمة وقائدها إلى الغد العظيم؟
فقال الفيل باستحياء:
ـ ولكن،
ولكن اعتراضه الخجول لم يصمد طويلا أمام حجج الغراب الدامغة وبراهينه الأكيدة المتمثلة في الأرقام التي تزايدت حتى أرضت الفيل وأسكتته.
وقد برّ الغراب بوعده فيما يتعلق بالانتخابات، فقد استمرّ في ضخ الأموال اللازمة لإدامة الحملة الانتخابية للفيل في تلك الانتخابات الفضائحية التي أصبحت النموذج التي سارت عليه الانتخابات في دولة الجبل لحد يومنا هذا، ولكن تلك الأموال لم تنفع الفيل في النهاية لأن الحمار فاز بالانتخابات فوزا ساحقا!.
وفي اليوم الذي خصص لاستلام الحمار لمقاليد الحكم، وقف الفائز أمام الجماهير المحتشدة وقال خاطبا قبل أن يردد القسم:
ـ شكرا أيها المواطنون الشرفاء لأنكم أوليتموني ثقتكم الغالية، وأنا بدوري ولكي أثبت لكم أني لم أكن طامعا في غير خدمتكم أعلن أمامكم بأني قد تنازلت عن هذا المنصب لمن خلق له خصيصا، والذي نذره جده العظيم لخدمتكم وأعده لكي يكون قائدكم إلى الغد العظيم، أتنازل للنسر الأصلع، ابن جرجي العظيم وسبط الغراب الرحيم.
وقد أصبح هذا الأمر تقليدا متبعا لحد الآن في الانتخابات التي تجري بصورة دورية في دولة الجبل المتحدة، يتنافس الحمار والفيل فيما بينهما في صراع حام ومثير، ليجلس النسر الأصلع على كرسي الرئاسة في النهاية!!! ولكنه كان في كل مرة يبدّّل اسمه مداراة لمشاعر الناخبين، فهو مرة النسر الأصلع وأخرى النسر اللعوب أو جرجي الصغير أو حتى النسر الخارق، وذلك حسب ما يرتئي كل من الفيل والحمار عندما يفوز أحدهما بالانتخابات)
وبعدها صمت الأفعوان، فقلت متعجبا:
ـ ولكن لم يفعلون ذلك؟! أليس هذا أمرا سخيفا؟!
فقال الأفعوان:
ـ وهناك في الجبل سخافات كثيرة أخرى، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يتبوأ منصب القائد في هذه الغابة المبتلاة به.
في الصباح التالي، عندما حضر الأفعوان، قال لي بصوت واضح:
ـ صباح الخير.
فكدت أقفز فرحا، ولكني لم أجرؤ، فقبعت في مكاني وأنا عاجز عن السيطرة على ذيلي الذي راح يهتز طربا ويتمايل فرحا!!! قال الأفعوان بعد أن استقر في مكانه المعتاد ومن دون مقدمات:
سقط الديك وأجبر على التنازل عن الحكم لابنه "الديك الأنيق" الذي أصبحت أمه الديك تاتورة السابقة، وصية عليه. وقد أبدل أسم الديك تاتورية إلى "قطعانية الديكة" التي اشتهرت فيما بعد بثلاثيتها الشهيرة " دجاج، ريش، بيض".
أما الديك فقد سجن في بلاد الذئاب وبقى في سجنه حتى وافاه الأجل بعد سنين لم ير خلالهما ابنه ولا زوجته أبدا، وكان كلما طالب برؤيتهما، قال له سجنته:
ـ سنجلبهما لك عندما تبيض.)
سكت الأفعوان عندها وبانت على وجهه علامات التفكير العميق للحظات قبل أن يقول:
ـ وقد حاول المسكين خلال المتبقي من عمره أن يضع بيضة، ولكنه فشل، ولذلك أصبحت بيضة الديك رمزا للأشياء المستحيلة!!!.
ثم أعقب ذلك لحظات صمت أخرى، ليقول بعدها:
( أصبحت الدجاجة الشبقة الحاكمة الفعلية للقطعانية الجديدة طوال الفترة التي سبقت بلوغ ابنها، الرئيس الصغير، سن الرشد، وكان من الطبيعي أن تستمر في مزاولة هواياتها القديمة التي أصبحت أسهل منالا لتزايد سلطاتها واختفاء ظل الديك الثقيل من حياتها. ورغم أن شعار الدولة هو الدجاجة، إلا أن الصفة الذكورية في الحيوان، أي حيوان، كان شغلها الشاغل.
تصورت أن الحظ قد ابتسم لها نهائيا في حياتها، ولكن القدر كانت له مخططات أخرى، فقد كانت قد تورطت في نزاع مرير ضد أنثى النسر، منافستها أيام كانتا محظيتين للثور الأهوج، وترك ذلك النزاع آثارا قوية لم تستطع الأيام أن تخفف من وقعها في نفس الغانيتين، فبقيتا تحقد كل منهما على الأخرى رغم أنهما لم تلتقيا مرة أخرى.
كنا قد عرفنا أن الثور الأهوج أهدى "ناسا" منافسة الدجاجة إلى ملك النسور لغرض في نفسه، وقد استطاعت أن تبلي بلاءا حسنا في تنفيذ دورها المرسوم، ولكن استمرار علاقتها بالملك كان مستحيلا لأنه (بارد) كما هو معروف، لا بطبعه، ولكن لأنه كان مضطرا لذلك! فقد كان سليل عائلة معروفة بشبقها واشتهرت خلال تأريخها لا بسبب الفضائح المادية كما هو شأن بعض الملوك الآخرين، بل كانت فضائحها جنسية دائما!!! كان جده الأكبر مصابا بالجنون، ولكنه مع ذلك أصبح ملكا فيما بعد، وقد تزوجت أخت جده ذاك ملك نوع من البزاة فأصبحت ملكة هي الأخرى، ولكنها سرعان ما ضبطت وهي تمارس الزنا مع وزير الملك، ذكر البط المثير، فأعدمت ومزقت جثتها شر تمزيق!!! كان ذلك الجد المجنون مهووس جنسيا بالفعل، ولم تسنح له أية فرصة مع أنثى أي حيوان وفوّتها! وبسببه سنت العائلة المالكة قانون عدم زواج أبناءها من غير النسور الذي يجري في عروقها الدم الملكي فقط، لأنه كان قد روّعها بنبأ زواجه سرا من أنثى ثعلب تؤمن بأن جزء من روح أسد قد حلّت فيها! رغم أنها من الكلبيات فيما ينتمي أسد بأصله إلى فصيلة القطط كما هو معروف!!!، وقد قيل أن ذلك الزواج قد أثمر ثلاثة أبناء قبل أن يتوج ملكا للنسور فيما بعد.
وقد ظهر في زمن الملك الحالي العديد من النسور التي تدعي أن دماء الملوك تجري في عروقها لأنهم أحفاد أولئك الأبناء الذين كانوا ثمرة لذلك الزواج الغريب، فأجبر هذا، الملك على توخي الحذر في علاقاته بالإناث لأن هذا كان من شأنه أن يعيد على الأذهان ذكرى فضائح عائلته الكريمة على مر التأريخ الأمر الذي قد يدفع البعض إلى التحقق من أمر هذه الادّعاءات التي لو صحّت لكانت كارثة على الملك لأن نبأ ذلك الزواج لو تأكد، لكانت ثمراته هي الأحق بالعرش لأن الملك إنما كان وريث أمه التي أصبحت ملكة لعدم وجود ولي عهد لأبيها من الذكور!!! وسواء إن كانت هذه الادّعاءات صحيحة أو هي من تدبير الغراب الوزير كما أشيع في حينها إلا أن الغريب في الأمر أن ذلك الغراب لم يستفد من هذا بشيء أبدا في ذلك الوقت، ولكن أسباب هذه الغرابة أزيلت الآن بعد أن وضعت النقاط على الحروف، ولكني سأحدثك عن الأمر في الوقت المناسب، أما الآن فأريد أن أقول أنني أميل إلى عدم تصديق مثل هذه الادّعاءات، لأنني أعرف شخصيا الكثير من الحيوانات التي تدّعي مثل هذه الادّعاءات زورا وبهتانا! أنا لا أقول أنها جميعا تدّعي انتماءها إلى أصول ملكية، بل هي تميل إلى نسب نفسها إلى ما تظنّه أصل مشرّف، وكأن الأصل هو الشرف، لا حقيقة الحيوان نفسه! ولكني لا أعجب لحال هؤلاء، فهم في النهاية إنما يحاولون استحداث وهم يخفف عليهم مرارة حياتهم، بل أعجب لحديث الملوك عن دمائهم النقية وهي تحمل شوائب بقية الحيوانات بلا استثناء!!!
لقد أضطرّ ملك النسور المسكين إلى عدم الانصياع إلى رغبته الطبيعية في الإناث، فأصيب بلعنة، ولكن ما همّنا من هذا ما دامت النسور نفسها لا تهتم لتفاصيل حياة حكامها كثيرا؟!)
قال هذا ونظر إلي مبتسما، فأردت أن أسأله عن ماهية تلك اللعنة التي تحدث عنها، ولكنه تابع قائلا:
( عندما انفصلت ناسا عن الملك فوجئت بعدد القلوب التي ألقيت أمامها على الأرض كبطاقات تعريف، من قبل نسور الحاشية وحيواناتها، والقادة، وبقية الشخصيات المهمة في الدولة! فقد كانت جميلة جدا ومتعاونة عندما يتعلق الأمر بدعوات الـ، العشق، والغرام، وفوق ذلك، كان يزيد سحرها سحرا، أنها كانت محظيّة الملك، أي أنها عرفت الكثير من أسراره التي يتلهفون لسماعها!!!.
وقد كانت هي من طيبة القلب بحيث لم ترد دعوة وجهت إليها!!! ولأنها أحست أن وقتها لا يتسع للارتباط بهم فرادى، إذ كان لديها مخططاتها الخاصة التي يجب أن تنفذ في أوقات محددة، فقد قررت أن ترتبط بهم على أساس المجموعات!!! ولقول الحق، يجب أن نعترف أنها كانت بارعة في تقسيم وقتها بينهم بدون تضارب!. وقد انحنى الجميع أمام جمال ناسا ما عدا اثنان، هما الغراب الوزير، والغريب أنه تجاهل وجودها طوال الفترة التي امتدت ما بين ظهورها في بلاط الملك واختفائه هو منه، والأغرب من هذا، أنها بادلته الموقف فلم يظهر عليها أنها لاحظت وجوده يوما ما، ولم يعرف أحد إن كان موقف أحدهما إنما هو رد فعل لموقف الآخر، أم أنه كان شيئا آخرا!!!. أما الثاني فقد كان عصفورا دوريا لا يعرف أحد من أين جاء! ولا كيف أصبح في عداد الحاشية، أو ما هو عمله في البلاط بالتحديد!!!.
التقى العصفور بـ "ناسا" خلال حفلة من الحفلات التي كانت تقام كثيرا في البلاط في تلك الأيام، فقال لها بدون مقدمات:
ـ عفوا سيدتي، ولكني أعجب لحالك الغريب!.
نظرت ناسا إليه ببرود وقالت:
ـ وما هو الغريب في حالي يا، سيدي؟.
ـ هذا العدد من العشاق الذين تجمعيهم من حولك في آن واحد.
ـ وما هَمّكَ من هذا الأمر؟ أمنزعج مني أنت؟ عجبا! هل وجهت إلي الدعوة ورفضت؟!.
ـ آه، كلا، في الحقيقة أنا لم أفعل. و لا أخطط لذلك.
ـ فلم تشغل رأسك الصغير بشأني إذا؟
ـ عفوا سيدتي، ولكني قلق عليك، فلو سمع الكاهن الأكبر بسيرتك هذه، فإنه سيحرمك من بركاته بكل تأكيد.
ـ آه، أهكذا إذا؟ حسنا، أشكر لك اهتمامك بي يا سيدي، عمت مساءا.
وفي اليوم التالي عندما التقت به صدفة، استوقفته، وقدمت له ريشة حمراء صغيرة وقالت:
ـ هاك ريشة من أسفل بطن كاهنك المبجل لتتبرك بها يا سيدي.
ثم تركته لذهوله وابتعدت من دون أن تلتفت إليه مرة أخرى.
ولكن من هي ناسا هذه؟ هذا ما يجب أن نوضحه قليلا قبل أن نسترسل.
عندما استطاع الباز الكاسر أن يوحد الإمارات التي وضعت تحت وصايته بعد الحروب الديكية، من خلال المعارك الطاحنة التي خاضها ضد أمراءها الرافضين لحكمه وسحقه لهم بدون رحمة، تحقق حلمه الكبير الذي كانت الحيوانات الأخرى تخشاه، فقد أصبح حاكما لمملكة كبيرة، وبوجود جيشه القوي الذي أعاد حب جنوده الكبير لملكهم، كابوس الديك المدحور إلى أحلام بقية الحكام، رغم أنهم لم يتسنى لهم أن ينسوه تماما بعد. وعندها أصبح الباز الكاسر العدو رقم واحد للجميع، فبدأت المؤامرات والدسائس التي كانت تحاك دائما من أشدّ أعداء الباز كرها له، وأكثرهم خوفا منه، ملك النسور!.
كان الكلّ يجتمع عند النسر، يخططون ويدبرون، ويتصورون أنهم وصلوا بمؤامراتهم إلى حدود الكمال، ولكنهم في لحظات التنفيذ، يكتشفون أن الباز كان مطلعا على مؤامراتهم مسبقا، وقد اتّخذ الاحتياطات اللازمة لها!!! تكرّر ذلك الأمر مرّات عدّة حتى أيقنوا بوجود جاسوس بينهم، ولأنهم كحكام لا يمكن أن يشتبهوا بأنفسهم!!! فقد حامت الشكوك حول حاشية النسر، وقد طمأنهم هذا الأخير، وأكد لهم أنه لن يرتاح حتى يقدم لهم هذا الخائن بنفسه.
عندما بدأت التحقيقات، أصبح كل من له علاقة بالبلاط متهما، ولكن هذه العدالة في الاتّهام لم تشمل اثنين، أوّلهما كان "دودي" العصفور إيّاه، وذلك خوفا من الملك الذي غضب غضبة رهيبة عندما أتّهم من قبل نسر لأول مرة، فاختفى ذلك النسر بعد ذلك وفهم البقية الرسالة، فقد كانوا يعرفون أن قوانينهم لا تنص على عقوبة الإعدام لتهمة الخيانة العظمى!!! ولكن هذا لا يمنع اختفاءهم. أما الثاني، أو فلنقل الثانية، فقد كانت ناسا التي بقت عصية على الشكوك لأن تأريخها كان معروفا، وكان الجميع يعرفون أنها كانت هبة من الثور الأهوج لمليكهم المحبوب ولذلك فهي لا علاقة لها بالباز الكاسر، ولأنها، وهذا هو الأهم، كانت قد أصبحت مستودع أسرار الجميع، وخاصة الحميمة منها، وكانوا يخافون من أن تفتح منقارها إذا ما أخضعت للتحقيق بالفعل، ولا يستثنى من هذا الملك المسكين الذي كان لا يعرف أن سيرته الخاصة كانت قد أصبحت على كل لسان!!!.
لم يشك أحد بناسا، ولكنهم لو كانوا قد توقفوا عن الهيام بها، وتمعنوا في وجهها من دون الغوص في أحلامهم الشبقة، لأدركوا أن ملامحها تحمل الشيء الكثير من ملامح البيزان! رغم تظاهرها بأنها نسر!!! ولو كانوا قد رحموا الثور بعد سقوطه المدوي بدلا من تركه لمصيره البائس، لكان أخبرهم بأنه هو الآخر كان قد تلقاها هدية من الباز، وإن فكرة إهدائها لملك النسور، نفسها، كانت بإيحاء من الباز الماكر!!!.
كانت "بازا ناري" وهذا هو اسمها الحقيقي، كما تبين فيما بعد، ابنة باز فقير يعمل كأجير في احدى المقاطعات بإمارة الباز الكاسر، كانت جميلة جدا، وما أن بلغت، حتى خطبها أحد العمال في تلك المقاطعة لنفسه، وفي يوم الزواج رآها الباز الإقطاعي الذي كان يمتلك الجميع! فأعجبته، وقرر أن يستخدم حقه الطبيعي، الذي تكفله له الأعراف والقوانين!!! في قضاء الليلة الأولى مع العروس، فلم يجد العريس المسكين بدّا من انتظار الليلة الثانية ليمارس حقه هو!!!.
في تلك الليلة رأى الإقطاعي من العروس ما جعله على يقين من أنه لم يكن الذكر الأول في حياتها، ولكن حلاوة ما رأى جعلته لا يهتم بذلك، بل هام بها، وكان هذا جلّ ما تتمناه!!! لم يعرف الباز النبيل!!! أنها هي من ألحت على زوجها أن يكون هو من ضمن المدعوين لكي يشرّف حفل زواجها كما ادّعت، وليتذكر حقه الطبيعي، لأنه لم يكن يستخدمه دائما، كما كانت تتمنى في الحقيقة، فقد كانت طموحة جدا، ولكنها لم تعرف أن الإقطاعي كان طموحا هو الآخر، وكانت له مخططاته الخاصة عندما قرر أن تستمر علاقتهما بعد تلك الليلة، من دون اهتمام بالزوج الذي كان سواءا، إن عرف، أو لم يعرف، لأنه لن يغير من الأمر شيئا.
بعد مرور فترة بدأ الإقطاعي يطلب منها أن تقدم خدمات خاصة لبعض ضيوفه المهمين!!! ولقول الحقيقة فقط، يجب أن نذكر أنها لم تكن تمتلك اعتراضات أخلاقية على ذلك، ولكنها أدركت أن الوقت قد حان لتحقيق بعض المكاسب المادية التي تضمن لها غدا أفضل، فطلبت مقابلا كبيرا لتلك الخدمات، وعد الإقطاعي بإعطائه لها، ولكن الزمن طال، وكثرت الخدمات، والوعد لم يتحقق، فعرفت أن كل ما كانت قد سمعته عن بخل سيدها الكبير وعدم أمانته، صحيح، لم تذهب إليه للمطالبة لأنها عرفت بذكائها وحسها العملي أن ذلك لا جدوى منه، بل انفردت بنفسها لبعض الوقت، ثم اختفت!!! وعندما انتبه النبيل! لاختفائها، هرع بنفسه إلى بيت زوجها للسؤال عنها، فقد كان سيقيم حفلة في تلك الليلة، وكان في أشد الحاجة إليها، ولكن الزوج أنكر معرفته بمكانها، وقال أنه كان يتصور أنها مشغولة بتهيئة الحفل مع بقية الإناث في بيت النبيل!!!.
طارت "بازا ناري" إلى قصر الباز الكاسر لتشكو إليه الإقطاعي الذي مرّغ شرفها في التراب، وأبعدها عن زوجها الذي تحبه، قسرا!. ولكن الأمير عندما رآها، سال لعابه وقدّر موقف الإقطاعي! وعندما رأى علامات الدهشة مطبوعة على وجهها شعر بالخجل قليلا لأنه تصور أنها قد صدمت بما بان على وجهه، من رغبة فيها، وهي التي أتت تشكو إليه من أبعدها عن زوجها الذي تحبه!!! ولكن ذلك لم يكن ليغير من الأمر شيئا على كل حال، لأنه كان قد اشتهى، ولم يكن هناك شيء يمكن أن يثنيه عن عزمه!!! ولكنه لم يكن يستطيع أن يتصور أن تلك الدهشة في الحقيقة، كان مبعثها، أن بازا ناري لم تتوقع أن تتهيأ لها هذه الفرصة بالسهولة التي حدثت بها! الأمير بنفسه! يا للسعادة وحسن الحظ! أتت لتشكو النبيل الذي لم يقدرها حق قدرها فإذا بها توقع الأمير في حبائلها!!! كادت أن تصرخ وسط الحشد المجتمع من حول الأمير الرهيب" هيت لك " ولكنها تداركت نفسها بفضل خبرة الأنثى المجربة التي تعرف أن الثمن سيكون أغلى كلما بدا الأمر أصعب، فآثرت أن تبقى الأنثى الحزينة والزوجة الغاضبة لشرف زوجها، كما أدعت منذ البداية! كانت تعرف أنها بذلك إنما تقامر بفرصتها هذه، ولكنها ولدت مقامرة، كما أنها كانت تعتمد على سلامة حدسها كثيرا الذي لم يخب هذه المرة أيضا لأن الأمير قال لها بعد أن استمع إليها:
ـ اذهبي لترتاحي الآن، فأنت ضيفتي، وسنرى فيما بعد ما الذي نقرره.
وعندما زارها فيما بعد في الجناح الذي خصص لها في قصره، وحيدا، ومدعيا أنه جاء ليستمع إليها من دون مقاطعة! تصنعت البله ورفضت الانصياع إلى الإيحاءات المكشوفة التي ضمّنها في كلامه، وراحت تردد أمامه " زوجي، زوجي" فكانت هذه اللازمة هي المرافعة التي أدت إلى إصدار حكم الموت على الزوج المحبوب!!! فقد درج الأمير على إرسال الحملات العسكرية المستمرة، إلى أماكن مختلفة من الغابة، لتنفيذ أطماعه، ولكي لا ينسى جيشه الذي كان يعده لمغامرات أكبر،أبدا الروح العسكرية التي استطاع أن يبثها فيه. كان يجمع بين الحين والآخر جيشا رديفا من العمال الذين يرسلهم النبلاء في المقاطعات التابعة له مقابل حمايته لهم وتنظيم شؤونهم، وكان هذا الجيش الرديف يستخدم في كسر دفاعات الأعداء بأرواح رجاله، لكي تتقدم القوات الرئيسية على أشلائهم، لتحقيق النصر المطلوب!!!. أرسل الأمير طلب الرجال من المقاطعة التي تضمّ عائلة بازا وزوجها، مرفوقا باسم الزوج الذي أرسل بعد ذلك إلى الحرب مصحوبا بتوصية خاصة تجعل رحلته تلك، باتّجاه واحد!!!.
وعندما أصبحت بازا خليلة الأمير بعد ذلك، عملت على أن يكون النبيل نفسه في عداد الجيش الرديف ، مصحوبا بنفس التوصية، بعد تجريده من ألقابه التي تؤول إلى أبيها، الذي يكون هو مالك المقاطعة الجديد، فكان لها ما أرادت!!!.
خلال العلاقة التي ربطت الأمير ببازا، لم يخيب حدسها، ظنها مرة أخرى، فقد عرفت منذ البدء أن من يمتلك حيوية الأمير وهوسه بالأشياء لا بد وأن يكون ملولا، ولذلك جهدت لكي تظهر له قدراتها وإمكانياتها خلال الفترة القصيرة التي أغرم بها، لأن العودة إلى تلك المقاطعة المنسية على حدود الإمارة لم تكن من ضمن مخططاتها، رغم أنها أصبحت ملكا صرفا لعائلتها!. وبالفعل فقد أذهلت الأمير بما أفصحت عنه من قابليات، وبعد أن أرته فنونها في الرقص، وبالمناسبة هل رأيت يوما دجاجة ترقص؟ لو لم تكن قد فعلت، فأنت لم تر شيئا في حياتك، وقد قيل لي أنها كانت أفضل راقصة، وتعرف كيف تثير غريزة الذكور فتمتلكهم!، ولكن هذا لم يكن أفضل ميزاتها، بل الأفضل، أنها كانت تمتلك من الحس الأنثوي الشفاف ما يجعلها تتكيف مع متطلبات الذكور الذين ترتبط بهم، فتلبي لهم كل رغباتهم، وتكون عونا لهم على عقدهم فترضخ لها، ولذلك تحملت كل سادية الأمير بتسامح ماسوشي يليق بالشهداء، وعندما قالت له أنها ستحمل تلك العلامات المغطاة بريشها الناعم، والتي نقشها بمنقاره، كأوسمة فخر تذكرها بالعلاقة التي تشرفت بها معه، طوال حياتها، أدرك أنها من كان يبحث عنها لمساعدته في تنفيذ الخطط البعيدة المدى التي كان يفكر بها. فقرر أن يهديها، بعد أن ملّ منها بالطبع، وبعد الاتفاق معها، إلى الثور المهووس على أن يدبر فيما بعد أمر انتقال ملكيتها إلى عدوه اللدود، ملك النسور، بعد أن أصبح ملكا هو الآخر، للاستفادة من قابلياتها أعظم استفادة، وقد تحقق كل ما خطط له، ولكن إلى أجل محدد!!!.
عندما كانت بازا، أو ناسا، فيما بعد، محظيّة لملك النسور, كانت أخبار غريمتها الدجاجة تصلها أولا بأول، وعندما تزوجت عدوتها الديك المغرور وأصبحت "ديك تاتورة" الديوك، لم تهتم كثيرا، بل شمتت بها في الحقيقة، لأنها كانت تكره الديك وتحتقره، وتتصور أنه سيمنع الدجاجة من الإفراط في فسقها كما تشتهي. ولكنها عندما عرفت أن الدجاجة أصبحت بعد هزيمة الديك رئيسة للبلاد، تزوجت ثائرتها، حقدها، فولدا دسائسا ومكائدا، ولم يهنأ لها بال لأن هاجس رؤية مصبّ كراهيتها، ذليلة، مهانة بقى مسيطرا عليها حتى موتها!!!.
كان الوضع آنذاك غريبا جدا، فقد كان الكل يضمر العداء للكل، ولكن الكل كان يتظاهر بالود ويدعي التعاون مع الآخرين!. كانت المصالح قد غيرت اتجاهات الصداقات فأصبح أعداء الأمس أصدقاءا، ولكن بالطبع، إلى حين. ولعل من أغرب ما حدث هو التقارب الذي حدث بين حكام الدببة الصغيرة من النسور الشمالية مع بلاد الديوك، رغم المعاناة الشديدة من اجتياح الديك المغرور لبلادهم في السابق، والتي كانت آثارها لم تزل حية في نفوسهم!!! ولكننا عندما نفهم مبدأ التوازن الدولي، على حقيقته نستطيع أن نفهم مبرراتهم، فقد حدث حينها تقارب مقلق بين الباز وعقبانور العقبان، فهدّ ركائز الطمأنينة القلقة التي كان أعداؤه يشعرون بها بعد أن أعطوه بعض ما يريد عندما اقتسموا غنائم الديك تاتور المدحور، وفي الحقيقة أنهم لم يكونوا قلقين من القوة التي يمكن أن تضيفها العقبان إلى قوة الباز الرهيبة، لأن العقبان أصبحت في ذلك الوقت مجرد طيور دوارة في الجو وهي تتحين الفرص للانقضاض على ما تبقى من فرائس الآخرين، بعدما كانت ترهب الغابة كلها بفيالقها المنظمة وقوتها الرهيبة في الماضي، ولكنهم كانوا خائفين من مخططات الباز، فما دام أخذ يبحث عن حلفاء فإن هذا يعني أنه هناك وراء الأكمّة ما وراءها، وما وراء الأكمّة هو الذي كان يقضّ مضاجع الحكام الصناديد، ويحرمهم لذيذ النوم.
وعندما وقّع الباز معاهدة صداقة مع البشقان كبير البواشق وأخذ يرسل البوازي لتدريب جيشه الذي وإن كان غير منظم إلا أنه يضم مقاتلين يحسب لبأسهم ألف حساب، وإعادة تنظيمه، تجسدت مخاوف الجميع وأيقنوا أن الكارثة قادمة لا محالة! ولكن أين؟ ومتى؟ لم يعرف أحد ذلك، فأخذ الجميع يترقب بصمت وكأن فوق رؤوسهم الجنّ!.
وعلى حين غرّة حدث ما لم يكن بالحسبان، وليلعنني اسد إذا كان ذلك غير محسوب كما تصوّرت معظم الحيوانات في حينها، وانقضّت الكارثة كالزلزال على الجميع فأفزعت حتى الجنّ الذي تصوروا أنه كان قائما فوق رؤوسهم، فقد زار ابن العقبانور وولي عهده، وزوجته بلد العجائب الرابض تحت نير الخوف المستديم من بأس البوازي وغدر النسور وعنجهية وصلافة الديوك وحدة مناقير العقبان عندما تتمكن، ذلك البلد الذي كانت تسكنه تركيبة من حيوانات شتى لا تربطهم رابطة واضحة، فأصبح بسبب ذلك قبلة أطماع الجميع، وهو ما جعله الفتيلة التي تفجر الأوضاع في الغابة دائما.
عندما وصل ابن العقبانور إلى تلك البلاد الغريبة، لم يعرف أحد كيف زيّن له نعثل أن ينزل من فضائه الذي كان يطير فيه آمنا إلى الأرض ليتبختر وزوجته الجميلة، بين تلك الحيوانات المكتوية بظلم أبيه وأضرابه من الحكام طوال تأريخهم!!! ولكنك يا ولدي لو أعملت الفكر قليلا، وبعد أن بينت لك الكثير من حقائق هذه الغابة العجيبة، تستطيع أن تخمّن من يكون بسهولة، ولكن ذلك سيكون مجرد تخمين، وهذه الحقيقة هي بالضبط ما يعتمد عليها هذا اللئيم في عدم تمكن الآخرين من الاقتصاص منه بسبب خبث أعماله، لأنه سيتمكن من إنكار التهم المنسوبة إليه لعدم كفاية الأدلة!!!. ولكن المهم الآن هو أن العقبانور الصغير عندما أصبح هدفا سهلا أمام تلك الحيوانات الحاقدة، لم تشأ مجموعة من الثعالب أن تفوّت هذه الفرصة على نفسها فانقضّت عليه لتمزقه هو وزوجته شر ممزق، ومن الطبيعي أن لا يستطيع المظلوم أن يكون منطقيا عندما تتهيأ له فرصة الانتقام.
بعد هذا أطلّ الجنون وفرض اللا منطق نفسه على الغابة، أنا لا أقول أن المنطق كان هو السيد قبل هذا، ولكني إذ أذكر تلك الملايين من الحيوانات التي سارت إلى حتوفها وهي تنشد الأناشيد الوطنية، لا يسعني إلا أن أفترض أن اللامنطق قد زاد إلى درجة غير معقولة في تلك الأيام. فقد أرسل العقبانور فيالقه المهلهلة إلى بلد العجائب ليعاقب شعبه بحيواناته المختلفة على ما فعلته مجموعة من الثعالب الغاضبة!!!، فثارت ثائرة الحلفاء لأن هذا يهدد المنطقة التي يسيل لها لعاب الجميع، فهددت بشن حرب على العقبان، فرد الباز بتهديد مضاد، فتجيّشت الجيوش وتحشّدت الحشود والحشود المقابلة كما هو شأنها دائما لممارسة الضغوط أو خوض الحروب، تقابلت الجيوش لفرض الشروط أو متهيئة لساعة الصفر الملعونة، التي شهدت الغابة عجبا لا مثيل له قبل أن تحين بلحظات، فقد فوجئت الحشود المتقابلة بصرخات أصمّت أسماعها تنطلق من أقاصي الفضاء، وعندما رفع الجميع أنظارهم، رأوا لباب الجميلة وقد لبست دروع الحرب وهي منقضة عليهم!!! لم يفكر أي منهم بمن هو المستهدف، كما لم يفكر أحد قط في محاولة إيقاف لباب والسؤال عن سبب غضبها وهم إنما يصفون حسابات خاصة بهم، ولكنهم توحدوا من دون شعور وتراصّوا كتلة واحدة أمام هجوم لباب الرهيب عليهم، أتستطيع أن تفقه معنى توحدوا في هذه الحالة؟ لقد توحدوا بمعنى الكلمة وهو ما لم يفعلوه من قبل أبدا ولن يفعلوه إلى آخر الزمان مرة أخرى!!! توحّدوا ليجابهوا لباب!!!.
لقد ساء لباب كثيرا أن ترى هؤلاء الضالّين وهم يستخدمون سحرها الذي وهبته لهم لخيرهم في قتل بعضهم بعضا، فارتدت ملابس الحرب وأطلقت صرخاتها لكي تلقي الرعب في قلوبهم وهو ما نجحت فيه ولكن، لتوحدهم ضدّها!!! وكان هدفها أن تشلّ حركتهم لكي تحرمهم من السحر الذي وهبتهم إياه منذ زمن طويل، وكل ظنها أنها تستطيع ذلك لأنها هي جنية السحر الأصلية، ولكنها كانت لا تعرف مدى القوة التي اكتسبها سحرهم الأسود الذي كان يستمد قوته الحقيقية من الشرور التي تسكن نفوس الحيوانات وتضيف أنانيتها إليه قوة مضاعفة لأنها تشعر بأنها إنما تعمل من أجل مصالحها الشخصية وهو ما لم يكن سحر لباب الحقيقي يهدف إليه لأنه كان لخير الحيوانات جميعا، بل أنها كانت لا تعرف حتى بوجود سراب!!! فكانت معركة غير متوازنة أبدا شعرت لباب منذ البداية أنها خاسرة لها ولكنها استمرت فيها بكل شجاعة المباديء الأصيلة التي كانت تحملها، حتى سقطت مضرّجة بدمائها، ولكنها لم تمت لأن هذا غير ممكن أبدا، بل زحفت لتختفي عن الأنظار وسط تهليلات الحشود الضالة التي سرعان ما التفتت لتواجه بعضها البعض لتكمل تصفية الحسابات فيما بينها سلما أو حربا، بعد أن دحرت عدوها المشترك، ولكن الأوان كان قد فات على الحلول السلمية!!!.
في ذلك اليوم كان النسر الأصلع في طريقه إلى أسفل الجبل مسرعا لأنه كان مرتبطا بموعد غرامي، عندما اعترضت دربه مخلوقة قبيحة جدا! حطّ على مبعدة منها وقال:
ـ من أنت أيتها القبيحة؟
ضحكت القبيحة وقالت:
ـ أنظروا من يتحدث عن القبح؟ ولكن لم العجب فأنت سبط الغراب الذي يعير بقية الغربان بوجوههم السوداء، ولكن لا بأس الآن فأنا في حاجة إلى التحدث إليك.
ـ تتحدثين إلي! ومن تكونين؟!
ـ اخرس واسمعني جيدا.
ـ ماذا؟ أخرس!!! ويحك، أتعرفين من أكون؟
فقالت المخلوقة باستهزاء:
ـ لو كانت أمي غراب لما تجرأت على التبجح أمام الآخرين حتى لو كنت رئيسا للبلاد.
لم ينبس الأصلع ببنت شفة هذه المرة لأنه أدرك أنها كانت تعرفه ومع ذلك لم تكن تخافه أو تخشاه، أوجس منها خيفة ولكنه عندما قالت له:
ـ هيا اقترب لأخبرك بما أريده منك، هيا لا تضيع وقتي فأنا أنتظر هذا اليوم منذ دهور.
شعر بغضب أنساه خوفه منها فصاح:
ـ ومن أنت لتصدري لي الأوامر؟
تأففت بضجر وقالت:
ـ أنا سيدتك سراب، هل ارتحت الآن؟
ولكن غضبه كان قد وصل أقصى مداه عندما سمع ما قالت، كانت واقفة على صخرة تشرف على واد عميق، فهجم عليها بكل عنف، ولكن مخالبه المشرعة لم تنشب إلا في الصخر وصدم منقاره الجلمود فصرخ من شدة الألم، والخوف، لأنه لم ير أحدا على الصخرة! بل سمع صوت سراب يخاطبه من الخلف قائلا:
ـ هل اكتفيت الآن؟
التفت إلى الخلف مذعورا فوجدها واقفة في المكان الذي كان هو واقفا فيه، شعر برعب لم يشعر به من قبل فرفع جناحه ليستخدم فنون السحر الأسود الذي أتقنه على يد أمهر السحرة بعد أن أصبح رئيسا للبلاد، ولكن سراب قالت بصوت بدا له كالفحيح الغاضب:
ـ هيا، حاول أن تستخدم سحرك لأنتف به ريشك وأحرمك من الطيران لما تبقى من حياتك التافهة، هيا افعلها إن كنت نسرا.
سقط جناح الأصلع إلى جانبه بيأس، وقال بصوت باك:
ـ أنجدني يا جدي، فأنا لا أستطيع مقاتلة أرواح الضباع.
قالت سراب بهدوء:
ـ نسر صغير وعاقل، حسنا أصغ إلي جيدا ولن ترى مني إلا الخير العميم لك ولدولة الشر التي تقودها، لقد آن لكم أن تنبذوا كل قوى السحر التافهة التي امتلكتموها لحد الآن وسأعلمكم أسرار السحر الجهنمي الذي سيجعلكم أسياد الغابة بعد أن تتقنوه.
قال الأصلع بصوت مرتجف وخائف:
ـ و، ولكـ، ولكن، من أنت؟!
ـ لقد قلت لك أنا سراب.
ـ ومن، أين، أتيت؟!
ضحكت عندها سراب وقالت:
ـ لقد أتيت من اللامكان، ومن كل مكان.
سرت قشعريرة في جسد النسر المرعوب حتى الموت وقال:
ـ لم، لم أفـ، هم يا. سيدتي!!!.
ـ ليس المهم أن تفهم، بل أن تصغي وتعي.
فقال النسر بتضرع:
ـ ولكن، كيف أعي بدون، أن، أن أفهم؟!
ـ في هذا أنت على حق، حسنا قل لي، هل سمعت يوما بلباب؟
ـ طبعا سمعت، فهي التي ألهمت جدنا الأعظم رائد أسرار العلم والمعرفة وببركة سحرها أصبحنا ما نحن عليه الآن.
ـ نعم، ولكن أتتصور أنها ترضى بالشرور التي توزعونها بأريحية على الحيوانات الضعيفة اليوم؟ كلا يا صغيري، لقد وهبت سرها لرائد على شرط أن يستخدمه في الخير فقط وهو ما لم تلتزموا به.
ـ فلم لم تستعد ما وهبته إذا؟!
ـ لأنني ولدت في اللحظة التي لامس فيها سحرها الجانب المظلم من نفس رائد.
فقال النسر الخائف بحيرة:
ـ لم أفهم!!!
ـ حسنا، لأشرحها لك بطريقة أخرى، يجب أن تعرف أنه لكل فعل في هذه الحياة رد فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتّجاه.
ـ ولكن! ما هذا الكلام الغريب الآن؟!
ـ حاول فقط أن تسمع و لا تقاطعني، فأنا أريدك أن تؤمن بما أقول حرفيا حتى إذا لم تفهمه كله فهو ليس للنقاش، وما أوامري إلا للتنفيذ، أفهمت؟
أومأ النسر برأسه موافقا من دون اعتراض وبذل جهدا يائسا لاستعادة تركيزه الذي شتّته الخوف ونثره الرعب، فأكملت سراب حديثها قائلة:
ـ كانت لباب تركز على جانب الخير من النفس الحيوانية، ولكنها لم تعرف أن الوعي الذي يتسرب إلى داخل تلك النفس إنما يتوغل في كلا الجانبين اللذين تتكون منهما وهما الخير والشر، وعندما وعى رائد ذلك الدرس ولدت أنا في الجانب الوحشي من نفسه والذي كان لحظي قويا جدا لا يستطيع الجانب الآخر السيطرة عليه.
فقال النسر بغباء:
ـ أهذا يعني أنك ابنة رائد:
قهقت عندها سراب بصوت مجلجل وقالت:
ـ بل سيدته وسيدة أتباعه الفانين إلى نهاية العالم، فأنا سراب العظيمة التي لا يمكن أن تفنى.
ـ ولكن!
ـ ويحك، أسكت، ألم أقل لك لا تناقشني، بل أصغ فقط؟.
لم يجرؤ النسر المرتعد على أن يتفوه بشيء فقالت سراب:
ـ منذ ولادتي بدأت أحبط محاولات لباب لاستعادة ما وهبته، كانت هي في ذلك الوقت أقوى مني بكثير، ولكن موقعي في أعماق الحيوانات كان يعينني على النجاح فيما كنت أصبو إليه، في البداية لم أكن أجرؤ على مغادرة مواقعي الحصينة في حلكة ظلمات النفس الحيوانية، ولكني كنت أزداد قوة بمرور الوقت ومع تزايد الحروب والمعارك التي كنت أنجح في حبك تفاصيلها، وما يتبع ذلك من رغبة متزايدة في الانتقام وغلبة مشاعر الحقد على مشاعر الحب والتسامح في النفس الحيوانية المضطربة، في الوقت الذي كانت تفقد فيه لباب المزيد من قوتها الأصيلة لمصلحتي لأن الحزن الذي يتآكلها عندما ترى ما يحدث من كوارث بسبب السحر الذي وهبته هي، كان يبلبل قواها ويضعف همتها، واليوم فقط حدث ما كنت أنتظره منذ دهور، لقد هزمت لباب نهائيا ولم يعد هناك ما أخشاه من الإسفار عن وجهي الحقيقي.
قال النسر في سره:
ـ و ياله من وجه!
فقالت سراب بغضب:
ـ بل يجب أن يكون وجهي هكذا أيها الأحمق، فهو ليس إلا مرآة لما يحدث في دواخلكم أيها الأشرار.
لم يستطع الأصلع بعد أن أدرك أنها تقرأ أفكاره أيضا، أن يسيطر على ساقيه من شدة الرعب فأقعى في مكانه عاجزا عن الحراك! قالت هي متابعة:
ـ منذ اليوم سأكون أنا الآلهة التي يجب أن تعبدون، لا أسد أو غيره من الخرافات، بل إياك أن تورد ذكر أسد على لسانك بعد اليوم، فهو رغم كونه خرافة إلا أنه رمز للخير، فإياك والخير لأنه لا يليق بعباد سراب الضالّين، انتبه، عندما تصيبك الحيرة فما عليك إلا اللجوء إلى الغراب كاهني الأمين.
عندها تناسى النسر خوفه الرهيب وصاح:
ـ ماذا؟! جدّي؟
ـ نعم جدّك، فهو خير من يمكنه أن يكون كذلك لأنه هو في الحقيقة نعثل الضباع، لا تلك الشخصية الخرافية التي تخيف بها الحيوانات صغارها المشاكسين.
ثم طارت مبتعدة عنه وهي تقول بصوت ظلّت جنبات الجبل تردده من بعدها:
ـ اتّبع نصائحه فهو الذي سيوصلكم إلى ما تصبون إليه ببركاتي، و لا تنسى، إيّاك والحب، حذار من العطف، وأنبذ الشفقة التي يمكن أن توردك موارد الهلاك.
عندما وصل النسر الأصلع بعد لقاءه سراب إلى قصره الرئاسي بصعوبة جمّة، تلقّاه الخدم عندما رأوا حاله المريع، وأخذوه إلى فراشه وظلوّا يلقون عليه الأغطية وهي لا يتوقف عن الرجفان حتى دخل عليه جدّه مسرعا وقد استخفّه الطرب وهو لا يعرف بحال سبطه العزيز، صاح في اللحظة التي دخل فيها:
ـ ما هذا؟ سبطي العزيز نائم والأخبار العظيمة تترى والبشائر تتزاحم على الأسماع! انهض يا ولدي، فقد قامت الحرب في الغابة والأعظم من ذلك، بشرى هزيمة لباب المنكرة، لقد سمعت الأخبار للتو من جواسيسنا فأتيتك طائرا لأبشرك بنفسي، هيا استيقظ فقد بدأ فجرنا بالبزوغ.
ولكنه لاحظ أن الأغطية كانت تهتز بفعل رجفان النسر المفجوع من تحتها، أزاحها فألفى سبطه يبكي كالأطفال وهو يحاول كبت بكائه بلا جدوى، صاح الغراب:
ـ ما هذا يا ولدي؟ ما ألذي حدث لك؟!
فقال النسر وهو يغالب دموعه المسفوحة:
ـ أواه يا جدي، أين تكون عندما أحتاجك؟ لقد رأيت الموت بعيني اليوم، وكادت شيطانته أن تختطفني لولا عناية الأقدار.
قال الغراب بقلق واضح:
ـ ولكن، ما الذي حدث بالضبط؟!
ـ لقد، لقد، يا لأسد أخاف حتى أن أستعيد ما حدث في خيالي! لقد التقيت اليوم بزوجة نعثل الضباع، بل هي سيدته وسيدة الشر كله، أي رعب سببته لي وأي خوف رهيب!.
ـ ولكن من هي هذه المخلوقة التي سببت لك كل هذا الرعب؟!
ـ تقول أن اسمها سراب،
فصاح الغراب بأعلى صوته:
ـ ماذا؟! ظهرت سراب!!!. يا للبشرى ويا للسعادة، لم أتوقع أن تظهر بهذه السرعة ولكن حمدا لآلهة الشر ما دامت قد ظهرت.
ثم التفت إلى سبطه الذي كان يتطلع إليه بدهشة ما بعدها دهشة وقال:
ـ انهض يا ولدي فقد حان وقت تحقيق الأماني، ولكن لا بد لنا من العمل بجد وإخلاص لتحويل كل أحلامنا إلى حقيقة واقعة، ولا أخفيك أن هذا يحتاج إلى وقت طويل وجهد كبير.
ولكن النسر المتعجب قال بصوت مضطرب:
ـ ما هذا يا جدي؟ أقول لك كنت سأموت فتفرح لذكر اسم التي كادت أن تقتلني؟!
فقال الجد الأسود:
ـ هيا يا ولدي، لا مجال للشرح الآن، ألا تثق بجدك؟ وهل عملت يوما منذ أن ولدت إلا من أجل مصلحتك؟ هيا تعال معي لنناقش أمر الحرب الطاحنة التي قامت في أنحاء الغابة، فنحن يجب أن نزيدها أوارا ونستفيد من كل الفرص التي يمكن أن تلوح لنا بسببها، لقد آن أوان العمل الجدّي، وآن لنا أن نسير بالأحداث إلى اتجاه تحقيق أحلامنا. وبالمناسبة لقد سقطت لباب سقوطا مدويا فأزيحت بذلك آخر العقبات أمامنا.
ـ نعم أعرف ذلك.
ـ تعرف ذلك؟! من أين عرفت وقد عرفت أنا بالخبر للتو؟!
ـ لقد أخبرتني سراب اللعينة بذلك.
ـ آه، هكذا إذا، ولكن، إياك أن تشتم سراب مرة أخرى، أتريد أن تحبط كل جهودنا؟
ـ ما هذا أحلام وجهود وفرص؟! أنا لا أستطيع أن أفقه من الأمر شيئا!
ـ لا يهم، لا يهم، فقط امتثل لرغبات جدك المحب وستكون كل الأمور على خير ما يرام. والآن لنزن الوضع في الغابة، لقد بدأ الباز حملته لبسط نفوذه على الغابة جمعاء، ولكن خاب فأله لأن هذا لن يكون ما دمت أنا على قيد الحياة، ولكننا مع ذلك يجب أن لا نستعجل الأمور ولننتظر ما سينقشع عنه غبار المعارك، وخلال ذلك يجب أن نرسل المساعدات العاجلة إلى الحلفاء لإعادة التوازن إلى طرفي النزاع الذي تميل كفته لصالح الباز القوي.
ـ ماذا؟ أتريد أن ندخل الحرب؟!
ـ كلا يا ولدي، لقد قلت لك مساعدات لا جيوش، مساعدات تشمل التجهيزات وبعض فنون السحر القديمة المتوفرة لدينا، ولكن يجب أن لا ننسى إرسال الرسل للباز لكي نطمئنه لموقفنا المحايد، حتى نرى فيما بعد ما سيكون.
ـ ولكن لم ندسّ مناخيرنا فيما لا شأن لنا به؟!
ـ ماذا؟! لا شأن لنا به! ها، ها، منذ اليوم لن يحدث شيئا في طول الغابة وعرضها لن يكون لنا شأن به، هيا ادع الهيأة للاجتماع لنجعلها توافق على ما سنرسله من مساعدات، ولنبدأ اللعبة.
ـ لعبة! أي لعبة؟!
ـ اللعبة التي أصولها أن نشعل فتيل الحرب يا بني، فكلما تعلم سحرتنا حيلة جديدة يجب أن يكون هناك من نجربها عليه، وهكذا نبقى نفتعل المزيد من الحروب لنجرب السحر خلالها، فنكسب بذلك مرتين، مرة لأننا تأكدنا من فعالية سحرنا وأخرى لأن نجاحنا يجعل الآخرين يلهثون وراء سحرنا فنبيعهم أسرار السحر القديم ونظل نهددهم بالأحدث حتى نبتكر غيره.
في اليوم التالي عندما دنا مني الأفعوان وهو يزحف على مهل، بادرته بالتحية قائلا:
ـ صباح الخير يا سيدي الكريم.
ولكنه لم يرد إلا بتقطيبة وحركة تكاد لا ترى من رأسه! فأقعيت صامتا في مكاني منتظرا بدئه للحديث. قال بعد دقيقة صمت أو أكثر:
( لم ينتبه أحد إلى أن الباز لم يكن قد حشد جميع قواته أمام بلاد الديوك التي كان الكل يتوقع أن تكون هي المستهدفة بتحرّكات قطعاته الرهيبة، كانت الديوك قد بنت استحكامات قوية على الحدود التي تفصلها عن بلاد البوازي، ولكن بلادا تحكمها أنثى لا يسيرها إلا إحساسها بالشبق الذي يسيطر على مشاعرها لم يكن لها أن تتوقع أن الباز كان لا يفكر أبدا في اختراق تلك الحدود رغم تمكنه من ذلك، بل كان يريد أن ينهي حسابه مع ذلك البلد غير العصي عليه ليقدمه هدية متواضعة لبازا التي قدمت له أجلّ الخدمات ثم يتفرغ بعد ذلك لبقية أعدائه وهو محتفظ بقوته كما هي، فحشد جزء من قوّاته على الحدود المشتركة ولكنه أرسل خيرة قطعاته لاحتلال بلاد القطط الوديعة التي كانت هي الملهمة لأسطورة السباع التي ابتدعتها مخيلة الحيوانات في الغابة وراحت تعبدها فيما بعد، ومنها شخصية الأسد كبير الآلهة ومعبود الغالبية العظمى من الحيوانات، كانت هذه البلاد تقع إلى الخلف من بلاد الديوك، وقد استغرق جيش الباز في اجتياح البلدان الصغيرة التي تفصلها عن بلاده ودخولها واجتياح بلاد الديوك بعد ذلك زمن قياسي لم يدع الفرصة لأحد لتخمين ما كان يضمره الباز الكاسر قبل تحققه! فسقط جزء كبير من بلاد الديوك بلمح البصر وذهبت الجهود التي بذلت لبناء الاستحكامات القوية أدراج الرياح!!! ولكن نشوة النصر لدى الباز لم تستمر طويلا، لأن دهاء النسور جعلهم يتحسبون للطواريء التي قد لا تخطر لهم ببال، فحشدوا قواتا مشتركة في وسط بلاد الديوك ومن دون أن ينتبه الباز، لكي تكون بالمرصاد لأي حركة غير محسوبة من قبله، وعندما اصطدمت قواته بتلك القوات الضخمة تحولت من قوات متقدمة باستمرار في زحف لا رحمة فيه إلى قوات متخندقة خلف استحكامات أقامتها على عجل في مواجهة استحكامات الحلفاء، فتحولت الحرب منذ تلك اللحظة إلى حرب خنادق وبقت كذلك إلى نهاية تلك الحرب التي استمرت لوقت طويل جدا ).
عند ذلك توقف الأفعوان عن الكلام فانتبهت إلى أن التعب كان يبدو واضحا عليه! وعندما طال صمته، توقعت أن لا يكمل حديثه في ذلك اليوم، ولكن سؤالا محددا كان يلح على بالي، و لم أستطع أن أبعده عنه، فقلت بعد حين مترددا:
ـ ولكن هناك شيئا لم أستطع فهمه لحد الآن!!!
تأفف الأفعوان وقال:
ـ وما هو الذي لم تفهمه أيها الخلد المزعج؟!
ـ أنت تتحدث عن البوازي والنسور والعقبان والبواشق وهي كلها طيور تطير، فما شأنها والخنادق وبقية الاستحكامات التي لا تعيق إلا الحيوانات السائرة على الأرض؟!
فقال وهو يبتسم ابتسامة استهزاء:
ـ ها قد أصبحت أسئلتك أكثر ذكاءا، وعلى العموم يجب أن تعرف أن الطيور تقاتل في الفضاء بكل الأسلحة المتاحة لها من سحر ومناقير ومخالب، ولكن كل الانتصارات التي تحققها هناك تكون بلا معنى لو لم يكن هناك من يسيطر على الأرض التي تنظف سماءها من طيور أعدائها وهذا هو دور الحيوانات المشدودة إلى الأرض بسيقانها التي تستعبدها الطيور وتستخدمها للسيطرة على تلك الأراضي التي تضمها لأملاكها، وهنا يجب أن أذكر أن في تلك الحرب استخدمت الأفيال في الحروب لأول مرة فكان ذلك فتحا في تأريخ الحروب.
ـ ماذا، الأفيال؟! وهل يعقل أن تستطيع الطيور السيطرة على ألأفيال وأن تستخدمها في تحقيق أغراضها الخاصة.
ـ بالطبع فهذا ما حدث.
ـ ولكن! كيف استطاعت ذلك؟!
ـ بالسحر يا بني، بالسحر، والآن اذهب فأنا متعب وسيكون لنا في الغد حديث طويل.
في الصباح التالي، بدا أحسن حالا، ولكنه تجاهل تحيتي مرة أخرى! وعندما تكلم، كان الانقباض باديا عليه وهو يقول:
( عندما واجه الباز المفاجأة غير السارة في وسط بلاد الديوك أدرك بأنه لم يتقن عملية بث العيون في بلاد أعدائه، فأرسل سرا إلى بازا ناري لتحول منطقة عملها إلى داخل بلاد الديوك لكي توافيه بأخبار أعدائه المجتمعين هناك أولا بأول، وقد استجابت بازا لهذا الأمر بكل شجاعة، فاختفت من بين النسور فجأة لتظهر مرة أخرى في بلاد الديوك منتحلة في هذه المرة مظهرها الحقيقي كأنثى باز جميلة، دخلت بلاد الديوك بجرأة رغم أنها أصبحت بذلك تحت رحمة غريمتها الدجاجة التي لو اكتشفت أنها هي لأزالتها من الوجود بلمح البصر، ولكن هكذا هو شأن المغامرين، فهم يستطيعون المقامرة بكل شيء من أجل أهدافهم التي يبحثون عنها حتى لو كانت المقامرة هي على حياتهم الشخصية!، وفي تلك الفترة كان مستقبل عشيقها القديم، الباز الذي أصبح منذ اليوم الذي تعرفت فيه عليه، بؤرة آمالها في الحياة، على كف عفريت، فخاطرت بحياتها لكي تبعد يد ذلك العفريت عن العبث بأقدار أميرها المحبوب، وفي الحقيقة أن الخطر كان كبيرا على الباز في تلك الأيام لأن مخططاته لم تسر مثلما كان قد خطط لها، ولولا بعد نظره وتحسبه للمفاجآت لكان قد أصبح في خبر كان، كان قد أتفق مع البواشق على أن تهاجم في نفس الوقت الذي اجتاح فيه بلاد القطط، بلاد الدببة لكي تشاغل جيشها فتبعد بذلك خطر ضم قوته إلى بقية القوى التي كانت تتربص به في ميدان المعركة الرئيسية في وسط بلاد الديوك، وهذا ما حدث لأن البواشق أذاقت الدببة الأمرين خلال قتالها، ولكن القتال ظل سجالا بينهما من دون أن تميل كفة النصر إلى أحد الطرفين حتى خرجت بلاد الدببة من الحرب بمفاجأة مذهلة لم يحسب لها أحد حسابا قبل أن تحدث!!!، كما أن جيش العقبان كان يشاغل في نفس الوقت جزءا مهما من القوات المتحالفة التي كانت تحاول أن تخرجه من بلاد العجائب. فبقت الأمور على ما هي عليه طوال سنوات عجاف استعرت فيها نيران تلك الحرب لتلتهم الملايين من أنواع الحيوانات.
كانت بازا ناري خلال ذلك الوقت تتجول في معسكرات الحلفاء لتفتن القواد وتسلب لبهم برقصها المثير، وبكفاءاتها المتعددة لتمتص أسرارهم التي كانت تستقر بعد حين عند الباز الكاسر فيعرف عن طريقها كل مخططات الحلفاء ضده، وبذلك كانت بازا ناري هي المعادل لكل التفوق العددي الهائل على قوات الباز في جبهة منتصف بلاد الديوك، ولكن في ذات يوم وصلت رسالة سرية مستعجلة، معنونة إلى الدجاجة الداعرة تخبرها أن غريمتها العتيدة "أنثى النسر" تسرح وتمرح في بلادها لتجمع من حولها العشاق من كبار قادة الدول المتحالفة لتطلع على الأسرار العسكرية المهمة وتنقلها إلى سيدها الباز، ثارت ثائرة الدجاجة التي لم تكن تعرف أن أنثى الباز التي اشتهرت في بلادها فجأة، كانت هي غريمتها ناسا! والتي كانت تريد اللقاء بها لتتعلم منها بعض فنونها في اصطياد الذكور، لقد حاولت اللقاء بها ولكنها لم تستطع ذلك رغم المحاولات المتعددة التي حاولتها، لأن الراقصة كانت تتعلل في كل مرة تصلها دعوة لزيارة القصر الرئاسي لمقابلة دجاجة البلاد الأولى بعذر جديد، لم يعرف أحد من كان مرسل تلك الرسالة التي اختفت آثارها بعد ذلك، وكل الذي عرف عنها أنها أتت من مكان قصي يتعدى حدود الغابة!!!. ثارت ثائرة الدجاجة ولم تهدأ حتى رأت غريمتها مكبلة بالقيود أمامها، ولكنها لم تستطع أن تتلذذ بانتقامها لأن بازا لم ترضخ لها وبقيت محتفظة بكبريائها وأنفتها حتى اللحظة الأخيرة من حياتها التي انتهت عند المقصلة، بعد أن حكمت عليها الدجاجة بالإعدام بنفسها ورفضت كل المحاولات التي بذلت من مستشاريها لإثنائها عن عزمها، لأن قانون البلاد كان يكفل للجميع الفرصة في محاكمة عادلة، ولكن الرغبة في الانتقام التي سيطرت على الدجاجة جعلتها تعجز عن أن تدرك بأن بازا كانت لتعدم حتى لو عرضت على أية محكمة لأن ذنبها كان من الضرب الذي لا يغتفر في ظل هيمنة قوانين الحرب الصارمة، فكلفها هذا الخطأ الكثير، بل كل شيء!!! لأن ولدها الذي هو رئيس القطعانية الحقيقي، كان قد كبر وهو يرزح تحت نير الذل والشعور بالعار من تصرفات أمه غير المحتشمة، وبلغ أشده فشعر أن الوقت قد حان ليأخذ زمام الأمور بيده ولكنه بقى مترددا حتى تعمقت علاقته بملك النسور الذي أشار عليه بإبعاد أمه عن مسرح السياسة لكي يتفرغا لمشاريعهما المستقبلية، استغلّ الابن خطأ أمه الأخير ففرض عليها الإقامة الجبرية ومنع عنها الزيارات نهائيا، فلم تلبث الدجاجة هناك كثيرا حتى وجدت ذات يوم ميتة! فقد بلغ ابنها من الخبث حدا أن جعل حراسها وخدمها جميعا من الدجاج!!! ففقدت الدجاجة المسكينة كل رغبة لها في الحياة، فانتحرت.
عندما سمع الباز نبأ إعدام بازا ناري أدرك على الفور أن الحظ قد عبس في وجهه أخيرا، وأنه خاسر لهذه الحرب لا محالة، ولكنه لم يفكر ولو للحظة واحدة في طلب وقف الحرب أو اللجوء إلى مائدة المفاوضات لحفظ ما يمكن حفظه لأن هذا لم يكن من طبعه، فاستمرت الحرب لفترة أخرى كانت الغابة خلالها مسرحا للمزيد من المفاجآت، فقد دوى خروج بلاد الدببة من الحرب بقرار من حكومتها الجديدة دوي الصواعق الرهيبة التي كان يرسلها أسد السماء عندما يغضب.
كانت بلاد الدببة الفقيرة تعاني الأمرين خلال الفترة التي خاضت خلالها حربا لا منتصر فيها ضد البواشق من جهة وضد البوازي التي كانت تهاجم حدودها بين الحين والآخر في حملات سريعة لتخفيف الضغط عن البواشق عندما تقع في مأزق يقودها إليه قوادها المتغطرسين. فأضيف هذا إلى الظلم الطويل الذي كانت الدببة قد عانت منه على يد النيسر وحاشيته من نسور الشمال، ولأن الظلم لا يمكن أن يستمر إلى ما لانهاية ظهر دب كبير نما بعيدا عن أعين شرطة النظام فصار أكبر حجما من بقية الدببة بكثير، فقاد حركة منظمة ضد النظام تحولت إلى ثورة لم تتوقف حتى سقط النظام المتفسخ ليكون القرار الأول للحكومة الجديدة إعلان انسحابها من التحالف وطي صفحة الحرب بالنسبة لها.
في ذلك اليوم بالذات دخل الغراب على سبطه الذي كان جالسا وقد بدت على وجهه الهموم، وعندما رأى جده قال على الفور:
ـ حسنا فعلت بمجيئك يا جدي، فقد كنت أفكر للتو بالبحث عنك.
ـ لقد جئتك بشأن عاجل، ولكن اخبرني أولا لم كنت تريدني؟
ـ أردت أن أسألك عن السبب الذي يجعل خفافيشك تشن هذه الحملة القوية في الترويج للحرب التي تدّعي أننا على وشك الدخول فيها؟ هل نحن على أبواب حرب بالفعل؟
ـ هذا هو ما أتيت لأحدثك عنه، لقد دعوت الهيأة للاجتماع وهم بانتظارك للبتّ قانونا في أمر إعلان الحرب على الباز ودخول قواتنا أرض المعركة في الغابة.
ـ ماذا؟! إعلان حرب!!! ولكن، ألم يكن يجدر بك أن تستشيرني أولا، فأنا رئيس الدولة أتذكر؟
ـ اللعنة، حتى الكلمات التي تنتقيها ورثتها عن أبيك الـ، المرحوم، ولكن لا وقت لدينا لهذه الرسميات يا ولدي، فقد نضجت الثمرة وأوشكت على السقوط، هيا انهض فورا ولنسرع إلى مكان الجما، سحقا لك يا من يأبى شبحه مغادرة مخيلتي، أقصد الاجتماع.
ـ ولكن، من هو هذا الذي يأبى شبحه،
ـ هيا، هيا لا تشغل بالك بالهذر الذي أتفوه به، بل إسرع لئلا يدركنا الوقت.
وفور إعلان الحرب على الباز، توافدت على الغابة قطعات الجيش الجبلي التي دخلت المعركة فورا ضد جيش الباز الذي كان الوهن قد تسرب إليه في ذلك الوقت بعد سنين الحرب القاسية التي مرت عليه، فقد خرجت بلاد الدببة من الحرب ولكن ذلك لم يفد الباز كثيرا، لأن فلول جيش البواشق سحبت على عجل من حدود بلاد الدببة لتدافع عن حدود بلادها الغربية التي بدأت تتعرض لهجمات جيوش الحلفاء بقيادة النسور التي ادّعت أنها تريد أن تنهي الباز بسرعة بإخراج حلفائه من المعركة، وفي الحقيقة أن ملك النسور الخبيث كان يهدف إلى مرام كانت بعيدة عن متناول تفكير حلفائه الغافلين، فقد هبت في ذات الوقت فلول أخرى من البواشق لتحاول الاحتفاظ بمستعمرتها بلاد النعام، التي زحف عليها جيش النسور ليزيح عنها نير البواشق ويبدله بنير النسور والديوك مناصفة بينهما وذلك بناءا على معاهدة سرية بينهما وقعوها في غفلة من حلفائهم لاقتسام تركة البواشق والبوازي في أطراف الغابة البعيدة!!! وبهذه المعاهدة أثبت ملك النسور أنه كان تلميذا نجيبا لمعلمه الغراب! فقد تبين فيما بعد أنه قد احتلّ تلك الأرض لأن تقارير عيونه المبثوثة في أرض النعام كانت قد أشارت إلى احتمال وجود الكمء بكميات كبيرة جدا في تلك الأراضي المنسية من الغابة، وهو ما تحقق فيما بعد لأن الكمء أكتشف في تلك البلاد التي هي سقف بلادكم هذه، بكميات لم تتوقعها حتى أشد التقارير التي رفعت إلى ملك النسور و قائد الديوك، تفاؤلا! لقد أدرك ملك النسور أن مستقبل الغابة سيتحدد في هذه المنطقة بالذات لأنها تضمَ في باطنها معظم الكمء الموجود في الغابة، و الكمء كما تعرف أصبح منذ اكتشافه "كما كانت لباب قد قدّرت"، السبب الأول في تطور فنون السحر بأنواعها لأنها كانت قد أودعته بركتها لكي يكون عاملا جوهريا في تقدم الحيوانات بعد أن يمتلكوا القدرات الأساسية للسحر الأبيض قبل اكتشافه، وبذلك تصورت أنها تضمن للحيوانية جمعاء المستقبل الزاهر!!! إن الكمء موجود في أنحاء مختلفة في الغابة، وهو موجود بوفرة في الجبل، ولكن كمء النعام يمتاز بأن بركات لباب فيه لم يدنس بتعويذات سراب الشريرة لأنها لم تكن تعرف بوجوده أساسا)
عندها لم أعد أستطيع السيطرة على نفسي، فقد أثار بكلامه هذا سؤالا ظل يدور في خاطري منذ وقت طويل من دون أن أجد الإجابة عليه، وكانت الفرصة قد حانت لي في تلك اللحظات فقلت وأنا أجازف بخطر إغضابه لأني أقاطعه:
ـ ولكن، إن كانت النعامات طيورا كما تقول، وتمتلك هذه الكميات الضخمة من الكمء، فلم لم تستعمله لتتعلم الطيران؟ أو لتبيعه بأثمان معقولة وأنت تقول عنها أنها كانت فقيرة، أو على الأقل لتأكله وتقضي به على جوعها الذي كانت تعاني منه؟! إذ لا يعقل أن تكون جائعة وبلادها مكمأة عظيمة كما تقول!!!
ـ هذا لأنها كانت مجرد حارسة عليه لصالح أصحابه في وسط الغابة، ثم أنها كانت تأنف من أكله لأنه يكون مليئا بالرمل عندما يستخرج من باطن الأرض، وهي لم تكن قد سمعت باختراع اسمه الغسل بعد. أفهمت؟. والآن حاول أن لا تقاطعني مرة ثانية.
ثم صمت لبعض الوقت قبل أن يقول متابعا:
( خرج جيش البواشق مدحورا من الحرب فبقي الباز لوحده في المعركة، لأن جيش العقبان كان خارجها منذ البدء ولم يقدم شيئا يدعم جهود الباز الجبارة لإدارة حربه العدوانية بل كان ذلك الجيش يشكل عبئا آخر على البوازي التي كانت تضطر بين الحين والآخر إلى إرسال بعض قواتها لكي تقيل عثرات جيش العقبان المنهار!!! وفي ذلك الوقت بالضبط دخلت دولة الجبل الحرب إلى جانب الحلفاء ولتطأ أقدام جنودها أرض الغابة لأول مرة، فأسقط في يد الباز وراح يقاتل قتال اليائس المستميت ولكن ذلك لم يقه شر النهاية المأساوية لأحلامه التوسعية، فقد انهارت قواته وراحت تنسحب بلا نظام باتجاه بلادها تتبعها جيوش الحلفاء بلا رحمة حتى توقفت على حدودها بعد إعلان وقف إطلاق النار و فرض الشروط المجحفة على بلاد البوازي. ولكن نصر الحلفاء لم يكن ناجزا لأن الباز الكاسر كان قد تمكن من الاختفاء بعيدا عن أعينهم قبيل أن يأسروه!.
تم عقد مؤتمر اقتسام الأرباح الذي شهد النزاعات المعتادة بين اللصوص في تلك المرحلة. ولكن تم الاتفاق في النهاية على أن تسترجع بلاد الديوك الأراضي التي سبق وأن أستقطع منها لضمها إلى مُلك الباز في الماضي، و بالمناسبة كانت هذه الأراضي منذ البدء غير واضحة الهوية وغامضة الأصول لأن خارطة الغابة كانت دائمة التغير بحيث تصبح المطالبة بقطعة أرض من قبل دولة معينة على أساس أنها كانت ضمن حدودها منذ القدم أمرا مضحكا، لأن المطلوب أولا هو تحديد عدد السنوات الذي تعنيه كلمة قدم في هذه الحالة وهو ما لم يذكره أحد طوال فترة الصراعات العنيفة التي أغرقت الغابة بدماء الضحايا!!!. أما النسر فقد قنع " بعد أن ضمن هو والديك حصتهما الدسمة في أطـــراف الغابة طبعا " بأن يشارك في حكم بلاد البوازي المشترك مع حلفائه المنتصرين لكي تكون البوازي تحت رقابة أعين الحلفاء الحريصة على قص أجنحتها لكي لا تعاود الطيران، أما النسر الأصلع فلم يطالب بمقابل لمشاركته المتأخرة في الحرب بل أعلن رغبته في حراسة حدود الغابة!!! والغريب هو أن أحدا لم يسأله عن العدو المفترض الذي كان يريد أن يحرس تلك الحدود بسببه!!!.
ولكن النسر الأصلع كان غاضبا في قصره وهو يسأل جده عن السبب في إصراره على عدم المطالبة ببعض الغنائم الكثيرة التي غنمها الحلفاء، فقال الغراب العجوز باستياء:
ـ ماذا، غنائم، أتريد منا أن نقبل بنفايا الآخرين؟ لا يا عزيزي فنحن لا نريد غنائما صغيرة.
ـ ولكن ما الذي تريده بالضبط؟!
ـ إما الكل أو لاشيء.
ـ كل ماذا؟
ـ كل الغابة بالطبع، هيا يا ولدي حاول أن تستعمل ميزة التفكير وحاول أن تجاري جدك العجوز بذلك، أتتصور أننا انتظرنا كل ذلك الوقت الطويل لنرضي بلقيمات صغيرة، لا يا ابن أبيك، سنكون نحن أصحاب الوليمة وسيأكل الآخرون من فضلاتنا.
ـ ولكن متى سيكون ذلك، فها قد انتهت الحرب وضاعت الفرصة؟!
عندها ضحك العجوز الخبيث وقال بجذل:
ـ لا يا ولدي، إن هي إلا البداية وسيرى الجميع الأهوال في المستقبل القريب.
وضعت خارطة جديدة أخرى للغابة في تلك الفترة ولكنها منذ ذلك الوقت كانت خارطة مؤقتة وبفعل فاعل مجهول!!!. بدا وكأن الأمور قد استقرت أخيرا في عمق الغابة لأن حيواناتها قد اتفقت على أن تعيش بسلام فيما بينها، على أن تعبر أقوياؤها عن ساديتها بلَي أعناق الحيوانات التي كانت تعيش على أطراف الغابة مثلما تشاء وبدون حساب، لأن القرار كان أن تكون تلك البلدان ملكا صرفا لمالكيها من نسور وديوك وذئاب بعدما كانت من قبل ملكا للثيران والبواشق وغيرها من الكواسر الظالمة. ولكن حلم الاستقرار كان بعيد المنال ولا أعرف كيف تجرأ الحلفاء على إغماض أعينهم ليناموا قريريها، والأجمّة تغلي بما تحتها من مفاجآت عنيفة؟!!!.
عندما دخل الغراب على النسر الأصلع وجده مهموما وقد وضحت على وجهه إمارات اليأس والقنوط، وعندما رأى جده داخلا عليه هب من مكانه وصاح:
ـ ألحقني يا جدّي.
صاح الغراب مذعورا:
ـ ما، ماذا حدث؟!
ـ لقد ضاع مستقبلي وذهبت أحلامي أدراج الرياح.
ـ ولكن كيف؟ بل لماذا؟ أو، ما الذي حدث؟
ـ إنه الكساد يا جدي الذي ضرب الاقتصاد الجبلي وهزّ أسسه، الكساد الذي أعقب الحرب، الحيوانات محتارة وأصحاب العمل يائسون، بل أن البعض منهم انتحر لأنه لم يحتمل خساراته المتتالية، وأنا عاجز، لا أستطيع أن أفعل شيئا، فكيف سينتخبوني رئيسا لهم مرة ثانية بعد فشلي الذريع هذا؟! وخاصة أن قرار الدخول في الحرب صدر عني، ولكن بطلب منك بالطبع، أتذكر؟
عندما أكمل الرئيس كلامه كان الغراب العجوز يضحك ويضحك فيغصّ عندما يريد الكلام، صاح النسر بغضب:
ـ ما هذا يا جدي؟! مستقبلي على المحك وأنت تضحك!!!
فقال العجوز بعد لأي:
ـ طبعا أضحك، أعمل ليلا ونهارا من أجل ضمان مستقبلك وأنت تخاف عندما ترى الخير مقبلا عليك! ثم ما هذا الكلام عن عدم انتخابك مرة ثانية؟ متى انتخبت لتخاف من عدم انتخابك مرة أخرى؟!
انتبه عندها الرئيس إلى قصد جده، فتجاهل ما قال ولكنه سأل:
ـ ولكن! ما هذا الخير الذي تتكلم عنه؟ أقول لك "كساد"، فتقول "خير"!!!
ـ طبعا خير، ولكن لم لا تعفيني من محاولة إفهامك الأمر؟، فرأسك الصغير لم يخلق للقلق بشأن هذه القضايا الكبيرة.
ـ ما هذا يا جدي؟ أنا الرئيس ويجب أن أفهم.
ـ حسنا يا فهيم، ولكن انتبه لكلامي لأنني لن أقوله أكثر من مرة، هذا الكساد الذي تخاف منه إنما يصب في مصلحتنا لأنه لن يصيب إلا أصحاب رؤوس الأموال الصغيرة والمتوسطة، أما نحن فإن ما نمتلكه من أموال يمكننا من احتمال أية خسارة ومن ثم تعويضها فيما بعد، وتحويلها إلى أرباح لا تخطر ضخامتها لأحد ببال، بعد أن نشتري مشاريع الخاسرين بأبخس الأثمان، أو حتى أن نأخذها منهم مقابل وعد أن ندفع عنهم الضرائب التي تراكمت عليها فقط، وأنت تعرف كيف ندفع نحن الضرائب.
أعقب كلامه هذا بضحكة مجلجلة، فقال الرئيس الحائر:
ـ نعم، نعم، ولكن،
ـ بلا ولكن يا بني، فالجزء الأفضل من المخطط هو تأثير ما يحدث على اقتصاد الغابة جمعاء، وكيف سنستفيد منه في تنفيذ المتبقي من خطتنا لبسط سيطرتنا عليها. ولا تنسى أن أقاربنا الغربان قد سحبوا كل رؤوس أموالهم العاملة هنا وفي الغابة لكي يشتروا ما يستطيعون من أشجار في أرض النعام تهيؤا للقادم من الأيام وما سيحدث فيها.
قال الأصلع مبهوتا:
ـ ماذا؟! مخططكم!!! أتقصد أن ما يحدث؟
ـ طبعا، وهل توقعت أن شيئا يمكن أن يحدث رغما عن إرادتي؟ هيا يا بني دع عنك هذا الأمر وعش حياتك وتمتع بها، وأترك لجدك العجوز أمر الاهتمام بك ورعايتك.
ـ وما قلت عن شراء الأشجار من قبل الغربان! ما الذي يفعلونها بها وهناك من الأشجار في الغابة ما لا يحصره عد ولا إحصاء؟!
ـ نعم ولكن هذه الأشجار ليست ملكا لهم كما ستكون تلك.
ـ ولكن تلك أيضا ملك للنعام!
ـ في الوقت الحاضر، ولكنها لن تكون كذلك فيما بعد.
نظر النسر الحائر إلى جده بقلق وقال بصوت بدا فيه الشك واضحا:
ـ جدي، أرجو أن لا تخلق لنا مشاكلا مع نسور الغابة في الوقت الحاضر، نحن في غنى عنها، أنت تعرف أنها هي من تملك أرض النعام الآن، أليس كذلك؟
ـ بالطبع، بالطبع، وما يحدث هناك لا دخل لي فيه في الوقت الحاضر لأن نسور الغابة هي التي تكفلت للغربان بإعطائهم تلك الأراضي.
هز النسر عندها برأسه وقال بلهجة العارف:
ـ آه هكذا إذا، ألهذا الأمر فقط قلبتم حياة الحيوانات رأسا على عقب؟!
عندها ضحك الغراب العجوز وقال:
ـ ألم أقل لك أن رأسك الصغير لا يحتمل التفكير بمثل هذه الأمور؟ أتصدق أن مخططا بهذا الحجم ينفذ لتحقيق غاية واحدة فقط؟
عندها بانت الحيرة مرة أخرى على محيّا النسر، فبقيَ صامتا يفكر لبعض الوقت قبل أن يقول بأسى:
ـ ولكن الحيوانات المسكينة التي تفقد،
فصاح الغراب بغضب:
ـ أي حيوانات؟ وأي مسكينة؟ لا أعرف لم ورثت من والدك المعتوه غباءه؟ هيا إهتم بشؤونك الخاصة ودع الأمور العظيمة لمن هو كفء لها.
ضربت موجة الكساد التي استمرت لعقد كامل، عالم الغابة بأجمعه، فسقطت رؤوس وحلّت محلها رؤوس أخرى بمباركة الغراب الرهيب، وقد عانت الطبقات الفقيرة في أنحاء الغابة كثيرا من هذه الموجة، ولكنها لم تمت أو تنتحر كما فعلت بعض الحيوانات الغنية لأنها كانت قد تعودت الجوع منذ دهور فلم يغير الكساد من أمرها كثيرا.
في تلك الفترة كانت الطبخات السحرية تعد في بلدين مختلفين وبعيدا عن أعين الحلفاء المفترض بها أن تكون يقظة!، ففي بلاد الدببة كان الدب الكبير الذي لم يقابل إلا بالاستهزاء والاستهانة من كبار الغابة على أساس أنه لن يواجه في محاولة قيادة الدببة المتخلفة إلا الخيبة والخذلان، لنقص تجربته وغرابة أفكاره وأطواره معا!!! ولكنها كانت مخطئة لأن الدب الكبير كان طوال الفترة التي اختفى فيها عن أعين النيسر هربا من ظلمه، كان يهضم مختلف الأفكار التي يمكن أن تسنده في مهمة تحويل أحلامه إلى حقيقة، فمارس بذلك أهم ما يمكن أن يحقق النجاح للحيوان في حياته، وهو التفكير بصبر وأناة، وخلال تلك الفترة الطويلة انتبه إلى أن أهم عنصر استندت إليه الطبقات الحاكمة في مختلف أنحاء الغابة في عملية ترويض شعوبها كان الجانب الاقتصادي، فركزت القوة المادية في أيدي عدد محدود من حيواناتها ومريديها وجعلت الأغلبية الجائعة تدور بذلك في أفلاكهم، فقرر بكل بساطة أن يجعل الطبقات المسحوقة تمتلك تلك القوة من خلال سيطرة الدولة التي سيؤسسها عليها وإشراك الفقراء في إدارتها!!! وسواء أكانت فكرته تلك خيالا لا يمكن تنفيذه على أرض الواقع، أو نظرية صعبة يهددها التطبيق بالفشل، فقد أمسك بزمام الأمور في بلاده وبدأ بتطبيق ما بدا له من أفكار عندما كان في عزلته، فنجح في تثبيت أسس الدولة التي كانت النموذج الأول المناقض لكل الدول التي كانت قائمة في ذلك الوقت، ولكن ذلك كان إلى أجل مسمى!!! لأن الدولة الجديدة ما أن وقفت على سيقانها، حتى بدأت مرحلة الأطماع!!! فإذا بالدولة التي كانت تتحدث عن تصدير العدالة إلى شعوب الغابة جميعا، تمتلك من فنون السحر القاتل ما لا يخطر لحيوان على بال!!! لاحظ يا بني أن المشكلة هنا هي أنه لابد من الحيوانات لإدارة شؤون أي دولة، وما دامت الحيوانات ظالمة وطماعة بطبعها، فإن الدول ستبقى تعيش على دماء غيرها عندما تصبح قوية وبغض النظر عن مدى جمالية الأطروحات الحيوانية ومثاليتها!!!.
أما الدولة الثانية فلم تكن إلا دولة البوازي التي فرض الحلفاء عليها شروطا مجحفة لا أعرف كيف صدقوا أنها ستبقى راضخة لها إلى الأبد والباز الكاسر الذي زادته الجروح شراسة لم يزل على قيد الحياة مختفيا في مكان ما وهو يراقب سير الأمور بعيون لا ترمش لها جفون؟! هو لم يجرح في ساحات الوغى، بل كانت جروحه كرامة تنزف وهو يرى بلده مقسما، وشعور بالمهانة مقيم، وهو يرى الحلفاء يقتطعون ما يراه حقا له ليعطوه لعدوه الديك!!! كانت البوازي في ذلك الوقت غاضبة وحانقة لأنها لم تستسغ الذل الذي فرض عليها، وعندما بدأت رسائل الباز الكاسر تصل إليها خفية مع رسله من البوازي التي بقيت وفية له وفرضت على نفسها المنفى الاختياري معه، دب نشاط هائل في نفوس البوازي وراحت تعمل بكل جد لتطبيق التعليمات التي كان الباز يمليها عليها في خطته لقلب الموازين رأسا على عقب في الوقت المحدد، ومن دون علم الحلفاء الذين كانوا يتصورون واهمين أنهم يسيطرون على الأمور في تلك الدولة، أو من يدري؟ لعلهم كانوا يعرفون، ولكنهم لم يفعلوا شيئا!!!. لقد تحول الباز الكاسر في تلك الأيام إلى معبود للجماهير البازية، "بسبب الحملة الدعائية التي قادها الخفاش الضئيل، صديق الباز الحميم، الذي كان جمّ النشاط، واسع الحيلة ومتّقد الذكاء"، حتى أنهم اعتبروه هو النمر، إله الحرب في الميثولوجيا البازية، أو حتى الأسد كبير الآلهة! وكان لهذا فعل السحر في أنفسهم لأنهم حولوا تعليمات الباز الكاسر إلى أسلوب لحياتهم حتى حقق كل ما كان يصبو إليه من خلالهم، فقد كان السحر ممنوعا على البوازي ما عدا ما قد يحتاجونه لحفظ النظام فيما بينهم، فعملت البوازي على إتقان طرق جديدة للسحر القاتل كان يعلمهم إياه قواد الباز المتخفين، حتى تحولت البوازي جميعا إلى قواد وهي تحت حراسة أعين الحلفاء التي باتت لا ترى ومناخيرها العاجزة عن الشم!!!، بل إنها استطاعت أن تدرب عددا هائلا من الفيلة الممتازة على فنون القتال وأساليب الكر، والكر فقط! لأنها كانت ممنوعة من الفر، في أعماق أدغالها الكثيفة والحلفاء نائمون يحلمون بغنائمهم التي كانوا يجبونها من البلاد التي ابتليت بهم في أطراف الغابة!!!. وعندما عاد الباز الكاسر إلى بلاده أخيرا، دخلها دخول المظفرين ليستلم زمام الحكم فيها على الفور، ويجعل صديقه الخفاش وزيرا له، ولم تجرؤ سلطات الحلفاء على القيام بأي حركة خوفا من ردود فعل البوازي التي جعلها الحماس والظلم الذي عانت منه طوال أعوام تحت حكم الحلفاء أشد شراسة وبأسا، أو لعلها غضّت النظر عن الباز في تلك المرحلة لأنها رأت في قوته المعادل الذي كانت تحتاجه في تلك الأيام لموازاة قوة الدب المتنامية، إذ لم يخف الباز كراهيته للدب منذ اللحظة الأولى.
ولكن! حال رجوع الباز إلى قلعته بدأت عملية العد العكسي لساعة الصفر!!! ولم تكن ساعة الصفر تلك إلا حرب، هي النسخة الثانية من الحرب الغابية الكبرى التي لم يكن قد مضى على نهايتها أكثر من عقدين، كان أحدهما هو عقد الكساد المشؤوم، ولم تكن الكثير من الحيوانات المسكينة قد التقطت أنفاسها بعد من قحط السنين المرّة التي مرت!!!. فقد مضت الجهود، سواء إن كان ذلك بقصد أو من دون قصد للتحضير للظروف المؤاتية لتلك الحرب!!!)
ثم صمت الأفعوان قبل أن يقول:
ـ كان بودي أن أسترسل اليوم أكثر، ولكن هذه الحرب لها شأن يختلف عن سابقاتها، وأريد أن أكون أكثر ارتياحا لكي أصفها لك كما يجب، فأذهب الآن ولتكن موجودا في الغد.
في اليوم التالي، أتى الأفعوان متأخرا، وعندما وصل، قال على الفور، ومن دون مقدمات:
( دار الباز الكاسر بعينيه يتفحص بهما وجوه مساعديه الذين كان قد اختارهم بكل دقة وعناية فوجد العزم واضحا فيها فاطمأن وقال:
ـ لقد آن أوان العمل أيها السادة، فقد تهيأت الظروف وأصبحنا مستعدين لرفع الظلم الذي حل بالوطن وإزالة آثاره نهائيا من نفوس البوازي الباسلة، ولن نزيل آثار الوسم المهين بالنار الذي تعرضنا له إلا بالنار التي ستحرق كل أعدائنا وتجعل الغابة تدين بالولاء والطاعة لنا نحن البوازي أنقى الطيور الراقية وأشرفها، وعندما يتم ذلك سنعطي كل ذي حق حقه حسب تسلسله في سلم تصنيف الحيوانات الذي يجب أن يكون هو المقياس الذي تصنف الحيوانات على أساسه، أيها السادة، هيا إلى العمل فقد آن أوان إقامة الدولة البازية الكبرى التي ستدوم ألف عام. ولكن تذكروا يا أخوتي أن الغربان كانت هي السبب الأول في الكارثة التي حلت بنا في الحرب السابقة وعليها أن تدفع الثمن غاليا هذه المرة، ولذلك اعتبروا ما أقول أمرا عسكريا صارما سيظل قائما طوال فترة الحرب، وحتى بعدها، أقضوا على كل الغربان التي قد تصادفكم خلال المسيرة المظفرة التي ستسيرونها بعد أيام قليلة لأن هذه الغابة لن تأمن الشرور حتى يكتم الردى صخيخ الغربان.
ولم يكن هذا الأمر الغامض الدوافع والركيك المبررات بالنسبة لقائد هو سياسي قبل أن يكون عسكري، هو سر تلك الحرب العنيفة الوحيد، بل لعله كان أهون الأسرار وأكثرها إمكانية للتقبل، لأن المبررات والدوافع كانت مقبولة في النهاية لكل من يعرف حقيقة الغربان، وهذه لم تكن حال بقية الأسرار العصية على الفهم والتحليل!!!.
بدأت الحرب عندما اجتاحت جيوش البوازي وبدون سابق إنذار! بلاد الباندا الصغيرة فالتهمتها خلال أيام، فأعقب ذلك إعلان كل من ملك النسور ورئيس قطعانية الديكة الحرب على الباز، ولكن قبل أن يتمكن النسر من إرسال قوات كافية لتسهم في التحشد المضاد الذي أتفق على حشده على الحدود المشتركة بين بلاد الديكة والبوازي، كرر الباز حركته القديمة وبمهارة ومرونة فائقتين، فأحتل بلاد القطط بلمح البصر ليهاجم بلاد الديكة من الخلف، وليسقط الخط الدفاعي الخيالي الكلفة الذي أقامه ابن الدجاجة الشبقة على الحدود بدون قتال مرة أخرى، ولكن في هذه المرة لم تستطع قوة أن توقف زحف كتائب الفيلة المدربة أفضل تدريب ممكن، والتي باتت تلقي الرعب بزحفها في أشد القلوب ثباتا، فلم تتوقف إلا بعد أن أكملت احتلال كل أراضي الديكة المذعورة، وعندما وصلت طلائع جيش النسور، كانت دولة الديك قد زالت من الوجود!!!
ولكن ملك النسور لم يهتز عندما سمع تلك الأخبار غير المطمئنة، فقد قال للجماهير التي اجتمعت من حوله للسؤال عما أثار قلقها من أنباء:
ـ لا بأس أيتها الجماهير المخلصة، فقد أعددنا للعدو ما سيذهله ويرده إلى بلاده منكسرا مخذولا. فقط انتظروا حتى تستكمل قواتنا تحشداتها.
ولكن أحد المساعدين همس في أذن الملك قائلا:
ـ رويدك يا جلالة الملك، فأنت تتحدث عن عدو يمتلك تلك الفيلة المرعبة، لا تستعجل في إعطاء الوعود فقد يحصل ما لا تحمد عقباه.
انفجر الملك ضاحكا عندما سمع كلام مساعده وقال بصوت مسموع:
ـ ولكني عن تلك الأفيال إنما أتحدث أيها الغبي، اصبر وسترى أنت وهذه الجماهير الوفية ما سيحدث.
وعندما التقى الجمعان، وبان ما بان، ضحكت الغابة مما كان!!! وشرّ البلية ما يضحك مثلما قيل منذ قديم الزمان، فقد تواجه الجيشان، النسور إزاء البوازي، والأفيال النسرية أمام الأفيال البازية، وكل حيوان واجه نظيره من الحيوان، وفجأة ظهرت آلاف الغربان، فألقت حمولتها من الفئران، بين صفوف أفيال الباز المتراصّة البنيان، ثم ولّت الأدبار وفرّت زاعقة من خوف كما هو ديدن الجبان، فقد أمل ملك النسور ومستشاروه أن تكون هذه الحيلة القديمة هي القشة التي تحفظهم من غرق وتردّ لهم الشعور بما افتقدوا من أمان، ولكن تلك الأفيال المدربة سلفا على الحيل المحتملة في مثل هذه الأحيان، لم تهتز لها سيقان، بل بقيت رابطة الجأش، ثابتة الجنان، وما هي إلا ضربة على الأرض من أقدامها المتان، حتى ارتدت على أصحابها الفئران، وعندما رأت أفيال النسور تلك الزوبعة من صغير الحيوان، طار صوابها وهاجت أشد هيجان، وكأنها رأت مرعب الجان، هربت، فداست في فرارها مرعوبة كل ما حشده النسر من حيوان، وتركتهم بين ميت وأنّان، وهكذا ذاق الملك المتبجح طعم الهزيمة والخذلان، قبل أن يحين لبدء المعركة أوان!!!.
ارتدّ جيش النسر ومن تحشد معه من الحلفاء وبقايا الديوك مدحورا، فتبعه الباز الظافر بجيشه الذي راح يذيق الفلول المنسحبة كل أنواع الذل والهوان حتى ارتدّت إلى بلادها منهكة القوى خائرة العزيمة لا قبل لها بالمزيد من المعارك والقتال، وفجأة! أمر الباز جيشه بالتوقف عند حدود بلاد النسور!!!. لقد كان بامكانه أن يزدرد تلك البلاد الصغيرة لقمة واحدة، ولكنه لم يفعل رغم العداء الشديد الذي كان يضمره له ملك النسور الذي كان هو الشوكة التي تغرز في جنبه كلما عمل على تحقيق هدف من أهدافه، لم يفعل ذلك وعدوه كان بلا جيش يمكن أن يدافع عن أرضه في تلك الفترة، ولكنه يقرر بعد حين أن يهاجم بلاد من تعاهد معه عشية الحرب، ليغصّ بتلك اللقمة العصية على الازدراد!!! نعم، فقد كان الباز قد وقّع معاهدة صداقة وعدم اعتداء مع الدب الكبير حاكم بلاد الدببة الصغيرة، الذي أراد الحلفاء أن تكون علاقته به علاقة عداء، ولكنه استغل الأمر بمهارة فوقع تلك المعاهدة ليوجه إلى الحلفاء ضربته القاصمة قبل أن يتفرغ للدب! فما أن استقر جيشه في الأراضي التي احتلها من الغابة، حتى قرر أن يغزو بلاد الدببة الشاسعة!!! فارتكب بذلك الخطأ الذي وقع فيه الديك المغرور من قبل! ليدحره البرد والجوع هناك بعد حين كما فعلا مع الديك المقبور!!! أنا أرفض التفسير الذي يقول أن ذلك كان غباءا من الباز، لأن من يقود بلاده وجيوشه مثل تلك القيادة لا يمكن أن يكون غبيا، ولكن ما الذي حدث بالضبط،؟ أنا لا أستطيع أن أعرفه على وجه اليقين، ولكني أشك، والشك لا يصلح لأن يكون أدلة عندما نتحدث عن الحقيقة!!!
ولكن، دعنا لا نستبق الأحداث فنتحدث عن نهاية الحرب لأن الفترة الأولى منها كانت المعارك فيها عبارة عن نسخة مكررة، تتجيش جيوش الحلفاء فتأتي قطعات جيش الباز فتدحرها، ثم تتجيش مرة أخرى لتُدحر أيضا، وكانت دولة الجبل خلال ذلك تراقب الأحداث من جبلها العالي وترسل المساعدات السخية إلى الحلفاء الذين كانوا سرعان ما يتركونها غنائم للبوازي الظافرة طوال الوقت في تلك الفترة من الحرب. وعندما وصلت أخبار حفلات القتل الجماعي التي كانت تقام على شرف الغربان التي يشاء قدرها أن تقع فريسة لمخالب البوازي، إلى أسماع النسر الأصلع، أصابه الجزع والحزن، فقد كان هو في الحقيقة نصف غراب، وأنا، ورغم أني لست بغراب، أشعر برعب كبير كلما فكرت في آلاف الغربان التي سيقت إلى حتوفها مرغمة و لا ذنب لها غير كونها غربانا، فقيرة!، ولكني لم أستسغ أبدا أن تدفع شعوب كثيرة فيما بعد في أنحاء الغابة ثمن جريمة لم تقترفها هي!!!.
عندما سمع النسر الأصلع أنباء المذابح، أسرع إلى جده ليقول له بلوعة وأسى:
ـ هل سمعت يا جدي بأخبار المذابح التي تتعرض لها الغربان على أيدي البوازي؟
فقال الغراب بهدوء:
ـ نعم يا ولدي، سمعت.
لاحظ النسر بذهول أن وجه جده لم يحمل أي تعبير عن التأثر وهو يقول ذلك فقال:
ـ ولكن! أليسوا هم أهلك وأقاربك؟
ـ نعم، وسننتقم لهم فيما بعد.
فصاح النسر بغضب:
ـ ولكنهم يموتون الآن فما الذي يستفيدونه من انتقامك لهم؟!
نظر الغراب بحدة إلى سبطه وقال:
ـ ولكن ما الذي تريد مني أن أفعله؟
ـ ما الذي تفعله؟! هيا نعلن الحرب على الباز لننزل بجيوشنا الجرارة لنحارب الباز المجرم وننقذ أقاربنا من براثنه.
صاح الغراب غاضبا:
ـ صه أيها المعتوه، أتريد أن تفسد كل مخططاتنا التي رسمناها بكل صبر وأناة، إياك أن تكرر ما قلت للتو.
ـ ولكني أنا رئيس البلاد، أتذ،
ـ اخرس ولا تكمل ما تقول، أنت رئيس البلاد لأني أردت ذلك، وإذا ما ارتأيت غير هذا فهو ما سيكون، فابتلع لسانك ولا تتكلم عندما آمرك بذلك، أفهمت؟ ثم، كيف تريد أن تقنع أفراد الشعب بدخول الحرب؟ أتريد أن تقول لهم أنك ومن أجل حفنة من الغربان هم لا يحبونها أصلا ستغامر بأرواح أبنائهم في أجمّات الغابة البعيدة؟ أتريد أن تفقد كل أمل في مستقبلك السياسي المضمون إلى أن تموت؟!
هنا قال النسر بحدة أيضا:
ـ هاك ما فعلته بنا بأفكارك السخيفة عن الحرية، أما كان بامكانك أن
فصاح الغراب به مرة أخرى وهو في أشد حالات الغضب:
ـ قلت لك اخرس و إلا قطعت لسانك، لا تتصور أن كونك سبطي سيمنعني عن ذلك فيما لو رأيت أنه ضرورة، اخرس وأعلم أن هذه الحرية هي مطيتنا لتحقيق ما نريد.
ومع ذلك قال النسر، ولكن بصوت هذّبه الانكسار:
ـ ولكن الآلاف من الغربان يقتلون كل يوم!
ـ نعم، ولكن ذلك سيكون خيرا.
فقال النسر بذهول:
ـ ولكن، كيف، كيف يكون القتل خيرا؟!
فقال الغراب وهو ينظر إلى بعيد:
ـ عندما يكون هو الحجة التي نبني عليها أسس تحقيق ما كنا نحلم به منذ آلاف السنين، وعندها سننتقم، ليس من البوازي فقط، بل من جميع.
ولكنه أمسك لسانه فجأة ولم يكمل!!!.
كان الباز قد أقام تحالفا قبل الحرب في مواجهة تحالف أعدائه، مع حليفين كما فعل في الحرب السابقة بالضبط، حليف قريب كان هو الذئب التافه المصاب بجنون العظمة الفارغة، لأن الذئاب الشرسة كانت سيدة الغابة قبل أن يظهر السحر في ميدان الحروب، ولكن بعد ظهوره لم يعد لشراذم الذئاب أية هيبة فكان جيشها عالة على الباز بالضبط كما كان جيش العقبان في الحرب السابقة، فكان هذا هو ما دفع بالباز إلى إرسال جزء كبير من خيرة قوّاته إلى الصحراء الواقعة إلى الجنوب من ميدان الحرب في وسط الغابة، وهي الصحراء التي تفصل القسم الشرقي من بلاد النعام عن غربها، وذلك للدفاع عن الأرض التي أعطيت للذئب هناك ترضية له لأنه كان حليفا للحلفاء ضد الباز في النسخة الأصلية من الحرب الغابية!!! والتي عجز جيش الذئاب المهلهل عن الصمود فيها أمام الضغوط التي كان يتعرض لها من جيشي النسور والديوك " التي كانت بعيدة عن وطنها عندما سقط ذلك السقوط المعيب " اللذين كانا يسيطران على معظم أراضي الشرق في ذلك الحين.
أما الحليف الثاني الذي اختاره الباز فكان مفاجأة الحرب الحقيقية، وكان تصرفه في لحظة معينة واحدا من أكثر أسرار تلك الحرب غموضا!!! فعبر غابات البامبو في أقصى الشرق كانت تعيش عصافير صفراء صغيرة على حافة الغابة القصية، وكانت الحيوانات التي تعرف بوجودها تعاملها معاملة طيور الزينة لفرط رقتها ودماثة خلقها، حتى أن شعارها القومي كان زهرة الأزاليا المقدسة عندهم وكانوا يقيمون للأزهار مهرجانات دائمة لفرط حبهم لها، ولكن تلك الطيور تحولت فجأة إلى وحوش كاسرة فأذاقت حيوانات غابات البامبو الماطرة كل أنواع القسوة والظلم حتى أصبحت تنافس النسور والبوازي وغيرها من الطيور الكاسرة في سمعتها وضراوتها!!! ومع طيور الأزاليا الصفراء تحالف الباز لتكون عبئا يشاغل به قسما من جيوش الحلفاء في ذلك المكان القصي من الغابة.
وبعيدا عن التحالفات وما يراه كل حليف فيها، كانت عصافير الرقة والجمال قد حققت كل ما قد يدفعها الطمع إلى تحقيقه في البلدان الصغيرة المحيطة بها، حتى إنها التهمت تنينا عملاقا أثناء ذلك بمناقيرها الصغيرة!!! فما الذي قد يدفعها إلى المقامرة بكل ذلك بعمل غير مدروس العواقب أقدمت عليه في لحظة انصياع لرعونة لا مثيل لها؟!!! أرجوك لا تقل لي أن ذلك كان غباءا، أو عدم تخطيط! فأنا لا أحتمل مثل هذه التبريرات )
فقلت مقاطعا إياه بلا وعي:
ـ ولكني لم أقل ذلك! ومع ذلك، هلا قلت لي أنت لم فعلت ما تصفه أنت بالرعونة والهوج، إن لم يكن عن غباء أو عدم تخطيط؟!.
فقال الأفعوان وهو يهز برأسه:
ـ أواه يا ولدي، أنا أدفع نصف حياتي ثمنا لمعرفة الأسباب الحقيقية لذلك، ولكن، أين مني اليقين في أسرار الكبار هذه؟! هيا دعنا من هذا الآن، ولنكمل قصتنا:
( في ذات يوم نهضت نسور الجبل ومن تحشد معها من الحيوانات في قاعدة عسكرية متقدمة أقيمت على صخرة في أدنى الجبل تشرف على الغابة، في الصباح الباكر فلم تر الشمس رغم أن سحرة الأنواء الجوية كانوا قد توقعوا جوا صحوا لذلك اليوم!!! كانت طيور الأزاليا الصغيرة قد أغارت فجأة على تلك القاعدة فحجبت الشمس عنها وبدت سماءها صفراء!!! لم يتوقع أحد مثل هذا الهجوم غير المعقول فتحولت القاعدة الضخمة إلى حطام خلال ساعات وقتلت النسور فيها وهي لم تزل في أسرتها والحيوانات الباقية في حضائرها، ومن استطاع منهم أن يستعيد رباطة جأشه وتحرك، لم يجد أمامه غير الموت الزؤام.
كانت الغارة على صخرة الياقوت تلك، كارثة قومية لدولة الجبل اضطرت هيئة اجتماعها إلى الالتئام في ظهر ذلك اليوم ليظهر الرئيس الأصلع في العصر ليعلن نبأ إعلان الحرب على عصافير البامبو الصفراء وحلفائها من بوازي وذئاب.
نزل جيش نسور الجبل إلى الغابة برتلين وهو يحلم بالنصر السريع، فذهب الأول منهما لينضم إلى الحلفاء في وسط الغابة ليلاقي المرّ من البوازي الصلبة، فيما عانى الآخر الأمرّين من العصافير الصغيرة التي أبتلي بقتالها، فقد كانت من النوع الذي لا يستسلم أبدا ولا يعترف بالفرار كحل من الحلول!، فبقى يعاني ما يعانيه حتى انتهت تلك الحرب الرهيبة بالمزيد من المفاجآت والأسرار!.
كانت القوات التي أرسلها الباز لإقالة عثرات الذئاب بقيادة باز ماهر دوّخ غرمائه وجعلهم يصابون بالإحباط حتى قبل أن يقابلوه في ساحات الوغى، ولكنه عندما أصبح في عمق الصحراء الشاسعة كان بعيدا جدا عن وطنه، أي أن خطوط إمداداته أصبحت أطول من اللازم بكثير، والأهم من ذلك أن أفياله كانت بعيدة عن الغابة التي توفر بأغصانها الكميات الهائلة التي تحتاجها الأفيال كقوت لها، فاستغل قائد النسور في تلك المنطقة هذا الأمر وباشر بهجوم وبإسناد من قوات الحلفاء التي أرسلت على عجل لتكون بإمرته، قاتلت قوات البوازي الناقصة التجهيزات، عدوها المتفوق عليها عدديا وبكامل تجهيزاته، بشراسة واستبسال، ولكن الكثرة تغلب الشجاعة في أحيان كثيرة، وهو ما حدث في هذه المعركة الفاصلة أيضا، فبدأت قوات البوازي تتراجع لأول مرة منذ بدء الحرب، ولم يقلق هذا الباز الكاسر في البداية، ولكنه عندما سمع أن جنوده قد بدأوا فيما بعد بتسليم أنفسهم بأعداد كثيرة لعدوهم بعد أن ضاقت بهم سبل النجاة وانقطع أملهم في العودة سالمين إلى وطنهم البعيد، تشاءم وشعر بأن هذه هي بداية النهاية، ولكنه كان يعرف جيدا أنه لن يمنح فرصة البدء من جديد مرة ثانية، ولذلك قرر أن يقاتل قتال مقطوع الرجاء وهو قتال لو تعرف، مميت.
ولقد كان تشاؤم الباز في محله لأن الدببة الصغيرة التي انسحبت أمام قواته عند بدء غزوه لأراضيها وهي تحرق المساحات من حولها، كانت قد أعطت من الخسائر ما لا يصدقه عقل حيوان! فانتظرت حتى يفعل الشتاء القارس البرودة في بلادها، فعله الرهيب في جيش البوازي لتبدأ هجومها المقابل الذي بدأته بحماس الحاقد المحقّ. كان الدب الكبير قد أعدّ لهذا الهجوم المقابل أحسن ما يمكن إعداده من قوة وتجهيزات، تفوق بها حتى على أعدادات حلفائه الغربيين الأغنى منه بكثير لأنه كان قد أتقن سبل النجاح في إدارة العمل الجماعي للشعب من خلال سيطرته على مصادر الثروة في بلاده وتقسيم جزء صغير منه على أبناء الشعب بعدالة يحسد عليها، وسيطرته على الشعب نفسه أيضا على أساس أن ذلك الشعب المسكين كان قد تعود على الشدة من حكامه طوال تأريخه وليس من المعقول أن يتوقع من حكامه الجدد أن يكونوا لطفاءا معه إلى الدرجة التي تهدد بإفساده!!!، فيما كرس الجزء الأكبر من الثروات التي تجمعت لديه لترجمة أحلام الدولة التي أقامها في غفلة من الحيوانات والزمن في السيطرة، إلى وقع معاش.
هاجمت الدببة البوازي المتجمدة من البرد، من كل حدب وصوب، وبوقت واحد، فصمدت البوازي لتلك الصولة الصاعقة العزوم، ولكن لبعض الوقت فقط، ثم بدأ مسلسل الإخفاقات الذي تسبب في إنسحاب مستمر لم ينته إلا في أعماق بلاد البوازي نفسها.
كان الحلفاء قد قرروا أن يركزوا بغاراتهم المفاجئة بفرق النسور الساحرة التي تحمل أسرار السحر الأسود الذي يحول التعويذات إلى نيران لا ترحم، وتحرق الأخضر واليابس، على المخازن التي تضم أطعمة وتجهيزات جيوش البوازي المنتشرة أنحاء الغابة، والقائمة في أجمات وطنهم بعد أن استطاعوا أن يصلوا إليها أخيرا. فكان ذلك سببا في عرقلة المجهود الحربي البازي الذي كان قد بدأ يواجه قبل ذلك مشاكل هائلة بالفعل، لعل توفير الحيوانات اللازمة لتعويض التي تنفق، كان من أسهلها، لأن الباز الكاسر أمر بعد أن كادت البوازي التي تلائم أعمارها ظروف القتال أن تجند كل الحيوانات إذا لزم الأمر، ولذلك لاحظ الحلفاء قبيل انتهاء الحرب أن معظم البوازي والحيوانات التي كانت تؤسر، لم تبلغ سن الرشد القانوني بعد، فقد أخذت الباز يزج بكل حيوان يلتفت إلى أنثى في الطريق لأن هذا هو الدليل على أنه قد بلغ، لأن البلوغ أصبح هو سن التجنيد لا الرشد، وفي المقابل لم يسلم من التجنيد والقتال حتى من لم يعد يلتفت إلى زوجته النائمة إلى جنبه على سرير الزوجية لبلوغه من العمر أرذله!!!.)
سكت وقد بان الوجوم على وجهه! فانتظرت أن ينهي كلامه بفارغ الصبر لتلهفي لمعرفة ما حل بالباز المخيف، ولكن الأفعوان قال بصوت خفيض بعد دقائق:
ـ أتعرف؟ لقد كانت الحروب أسوأ مخترعات الحيوان على الإطلاق، فنتائجها تكون وخيمة على جميع الأطراف، وبغض النظر عن هوية المنتصر أو المهزوم فيها.
ثم هز رأسه بأسى وقال:
ـ هيا اذهب، فلا رغبة لي بالمزيد من الكلام الآن.
فعدت إلى جحري وأنا أعجب لحال هذا القاتل الذي يدين الحروب لأنها تتسبب في سقوط قتلى!!!
في الصباح التالي وصلت إلى مكان اللقاء ورحت أنتظر، ولكن الوقت مرّ ولم يظهر الأفعوان! فبدأ القلق يتسرب إلي ليزيد من إحساسي بالألم الرهيب في لساني الذي كنت قد بدأت أعاني منه منذ يومين!. كان ألما مفاجئا لم أعرف له سببا، كان موجودا طوال الوقت منذ أن بدأ، يخف أحيانا وفي أحيان أخرى يشتد فقررت أن أحاول علاجه اليوم، ولكن بعد أن ألتقي بالأفعوان لأسمع منه حديثه اليومي.
مرت الساعات ثقيلة لكنه لم يظهر حتى أسقط في يدي لأعود خائبا، ويبدو أن الشعور بالخيبة المتواصلة طوال تلك الساعات أنساني في النهاية ألم لساني لأني عدت فورا إلى جحري حاملا معي حيرتي الكبيرة لأني لم أكن أعرف ما الذي حل بالأفعوان، والأسوأ، أني لم أكن أعرف إن كان سيظهر في الغد، أم لا!!!.
وفي الغد، وبعد انتظار قصير لكنه مضنٍ، ظهر الأفعوان أخيرا، كدت أن أعانقه مسرورا عندما اقترب وهو يبتسم لي ويقول:
( عذرا لأني لم أستطع الحضور بالأمس لكن أعدك بأني سأحاول أن لا يتكرر ذلك. والآن أين وصلنا؟ آه الباز، نعم الباز، فقد كان الخناق يضيق عليه من جميع الجهات التي كانت تتقدم منها جيوش أعدائه من الحلفاء، فقد كان جيش الدببة قاب قوسين أو أدنى، وهو يتقدم من الشرق، من مركز قيادته ، فيما تتقدم قوات الغربيين من الحلفاء من جهة الغرب بكل ثقة وثبات بعد أن باتت لا تجد من يصد تقدمها من البوازي والأفيال. طلب معاوني الباز الذين بقوا أوفياءا له حتى اللحظة الأخيرة! أن ينقل مركز قيادته إلى مكان أكثر أمانا، ولكنه رفض أن يترك ذلك المركز العزيز على قلبه لأنه شهد أيام عزه ومجده عندما زرع الخوف في كل شبر وطأته جيوشه الجرارة.
وهو في أزمته الأخيرة تلك وصلته أخبار قتل الذئاب لحاكمها الذئب التافه بعد أن تخلصت من خوفها منه برؤية جيوش الحلفاء تجتاح بلادها، فهبت لتمزق الذئب الذي بلغ من التفاهة أنه كان يقلد الباز مثله الأعلى في كل شيء، حتى أنه رفض أن يتزوج عشيقته التي بقيت وفية له حتى اللحظة الأخيرة فقتلت معه!!!، لم يكن الباز يحب حليفه المهزوز هذا ولا يحترمه، ولكنه عندما سمع بنبأ مقتله بهذه الطريقة أيقن أن لحظة النهاية قد أزفت، فأراد أن يمثل دورا آخرا قبل أن يغادر الحياة فاختار دور العاشق الولهان!!! إذ أرسل في طلب عشيقته الوفية وطلب من الكاهن الوحيد الذي بقى معه أن يزوجهما على عجل، وبعد انتهاء مراسيم الزواج قبّل زوجته على مرأى من رفاقه وهو ما لم يفعله أبدا من قبل، ثم أمسكها من جناحها ودعاها للطيران معه، فحلّقا حتى بلغا قمة أعلى شجرة كانت لم تزل سالمة ولم تطلها نيران الأعداء التي كانت لا تبقي ولا تذر، وهناك طلب من زوجته أن تجرد جناحه من الريش بمنقارها، عرفت هي ما نواه على الفور، ولكنها لم تعترض بل توسلت باكية أن يفعل معها ما طلبه منها بالضبط، وبعد أن وافق على ذلك نزع كل منهما ريش جناح صاحبه، ثم تعانقا وألقيا بنفسيهما سوية ليصلا إلى الأرض جثتين هامدتين!، ولكي لا يدع الفرصة لأعدائه لكي يشمتوا به عندما يقفون أمام جثته كان قد أوصى الخفاش، وزيره، أن يحرق جثته بعد موته، فكان هذا هو ما فعله المعاون الأمين الذي انتحر بعد ذلك هو الآخر، ليستلم الحكم من بعد الباز الكاسر بازا من قادته كانت مهمته تسليم البلاد المحطمة إلى الحلفاء الذين إقتسموها حتى قبل أن تنتهي الحرب، فأخذت الدببة شرقيّ البلاد وتركت غربيّها للحلفاء الغربيين ليحكموها كيفما شاؤوا!. ولكن فصول تلك الحرب المأساوية لم تشأ أن تنتهي حتى تسفر حيوانات الغابة جميعا عن وجهها الحقيقي، البشع بالطبع، وتؤكد زيف ادعاءاتها الحيوانية، وتبين كيف أن الحضارة التي قامت في ذلك الجزء من الغابة هي الوجه الثاني للعملة التي وجهها الآخر هو القتل والظلم والقسوة غير المبررة، فقد حدث قبيل نهاية الحرب أن اتفق الحلفاء على عدم مهاجمة بقعة معينة من بلاد البوازي لأنها بقعة مقدسة قديمة أقيم فيها معبدا لأسد، فهبت جموع الحيوانات من البوازي وغيرها التي سمعت بذلك إلى ذلك المعبد المهجور هربا من النيران التي كانت تصب عليهم في كل أنحاء بلدهم المستباح عسى أن تحفظ قدسيته المهانة حياتهم، ولا أرى داعيا لذكر أن تلك الحيوانات كانت في أغلبيتها العظمى، من الإناث والصغار، لأن الذكور كانوا إما قد نفقوا، أو ينتظرون دورهم في ذلك. وفي ذات ليلة لا يمكن أن تمحى ذكراها من سجل التأريخ الأسود، انقضّت الصواعق المحرقة من كل حدب وصوب على تلك البقعة التي ظن اللاجئون إليها أنها ستكون منطقة الأمان بعد أن صدّقوا ادّعاءات الحلفاء الذين قرروا فجأة أن يدمروا تلك المنطقة بسحرهم الأسود بتحريض من طرف لم يجرؤ أحد على الإعلان عنه فيما بعد، ولكني أتوقع منك أن تخمن من يكون بعد أن سمعت كل ما قلت لحد الآن )
عندها أومأت برأسي بخجل بالإيجاب على أساس أني قد عرفت من كان يقصد، ولكني في الحقيقة لم أعرف! وتنفست الصعداء لأنه لم يسألني المزيد من الأسئلة بل قال متابعا:
( حسنا، لقد مات في تلك الليلة والتي بعدها وما بينهما من نهار وما تبعهما من نهار آخر عشرات الآلاف من المخلوقات البريئة التي لا ذنب لها في كل ما حصل. أنا أعترف لك بأني أمارس القتل بنفسي، بل وقد أستمرئه أحيانا، ولكني عندما أفكر فيما حدث في تلك الساعات الثمان والأربعين أعجز عن المخاطرة في تصور ما حدث فيها من صور تقشعر لها الأبدان. ولكن ليت أن ذلك كان آخر المآسي )
صمت الأفعوان فجأة وبانت في عينيه نظرة حزن قبل أن يتابع قائلا:
ـ أتعرف؟ لو طلب مني أن أصف تأريخ هذه الغابة بكلمة واحدة لما قلت غير "مأساة"، والمأساة أن هذه المأساة ستستمر حتى تلف مستقبل الغابة بظلماتها! فما لكم معشر الخلدة تقيمون الغابة ولا تقعدونها عندما تتكلمون عن الخلدة القليلة التي ألتهمها أحيانا؟!
عند سؤاله المفاجيء هذا، أصابني رعب شديد لأني تصورت أنه كان ينتظر مني جوابا!!! يا لنعثل! كيف كان يمكنني أن أجيبه؟ ولكنه قال بعد قليل وقد تناسى سؤاله:
( مات الباز الكاسر واستسلمت البوازي بلا قيد أو شرط، وهكذا انتهى حلم إقامة دولة الألف عام بعد سنين لم تبلغ عدد أصابع قدم الباز!!! ولكن الحلفاء لم يقعوا في الخطأ الذي سبق وأن وقعوا فيه بعد الحرب الأولى، فقرروا أن يكرسوا التقسيم الذي حدث في آخر أيام الحرب للدولة البازية ليكون هو الوضع القائم لكي يأمنوا شر البوازي نهائيا، فأبقوا الشرق للدببة والغرب للحلفاء.
انتهت بذلك الحرب في قلب الغابة، ولكنها لم تضع أوزارها نهائيا لأنها كانت لم تزل حامية الوطيس في أقصى شرق الغابة بين نسور الجبل وعصافير الزهور التي أثبتت أنها أصلب حتى من البوازي التي كان يضرب المثل في صلابتها والتي تسللت إليها روح الهزيمة حتى قبل أن تعلن هزيمتها النهائية وهو ما لم يحدث مع تلك العصافير الجهنمية التي كانت ترفض الاستسلام مهما بلغت مواقفها من حرج!!! فأذاقت بذلك النسور طعم الخيبة وبددت أحلامها بالنصر السريع الذي كان يراودها عندما دخلت الحرب ضد تلك الطيور الضئيلة التي يغري مظهرها الآخرين بقبول تحدياتها!، بل أنها اقتربت بها من حدود الانهيار بعد أن لقنتها مختلف الدروس في القتال والاستبسال، حتى إن العصفور منها كان عندما يعجز عن هزيمة غريمه من النسور كان يهاجمه بمنقاره الذي ينغرز من شدة الاندفاع بصدره عميقا، فيموتان سوية!!!
عندما دخل الغراب على سبطه ألفاه حائرا مرة أخرى فسأله قائلا:
ـ ما لي أراك محتارا مرة أخرى، هيا قل لجدك عن الذي يزعجك وسيحله لك.
فقال النسر المحتار بحزن:
ـ لا يا جدي، لا أتصور أن بامكانك أن تساعدني هذه المرة، وأنا أتساءل مع نفسي إن كان أحد يستطيع ذلك؟.
فقال الجد المحب بلين وعطف:
ـ ولكن جربني أولا، هيا اخبرني، أو أجبني فقط، هل أنت مهموم بسبب الحرب مع تلك العصافير اللعينة؟
ـ وهل هناك همّ غيرها؟ لقد ارتاحت جميع الحيوانات وبقينا نحن غارقون في هذا المستنقع الدموي!!!
فضحك الغراب الرهيب وقال:
ـ ولكني لأجل الإسراع في إنهائها أتيتك، هيا أصدر أمرك باستخدام سلاحنا الجديد لكي تنتهي في طرفة عين.
نظر الأصلع إلى جدّه بدهشة وراح يتطلع في وجهه مليا قبل أن يقول:
ـ وهل هذا هو وقت الهزل والمزاح يا جدي؟!
ـ ومن قال لك أني أمزح يا صغيري؟ فقط أصدر أمرك وسترى ما يحدث.
ـ ولكن! أي أمر وأي سلاح؟!
ـ وهل يغير معرفتك بهذا من الأمر شيئا، فقط أصدر أمرك.
ـ ولكن أي سلاح هذا يا جدي؟! فأنا لا أعرف عنه شيئا!!!
ـ نعم، أنا أعرف أنك لا تعرف عنه شيئا، كما لا تعرف هيئة الاجتماع عنه شيئا لأن هذا السر خاص بي والباز النابغة الذي فرّ إلينا ليبيعنا سر السلاح الذي كان الباز المقبور يريد أن يفاجئنا به، ومن كان يعمل عليه من السحرة بمعزل عن العالم الخارجي، لقد انتهوا منه أخيرا وتمت تجربته بنجاح وهو سلاح جهنمي سيكفل لنا النصر الأكيد على أعداءنا، هيا أصدر أمرك فقط فأنت القائد العام للجيش الجبلي كما تعرف.
ـ ماذا؟ القائد العام؟ آه لقد كدت أنسى ذلك! نعم، نعم، ولكن، ما هو هذا السلاح؟!
ـ هيا يا ولدي، لم تريد أن تصعب علي الأمر؟ فأنت لن تفهم حتى لو حاولت أن أشرح لك الأمر، فقط أصدر الأمر لمعاونيك و لننتهي من هذا الأمر بسرعة.
دار هذا الحديث في ساعة متأخرة من أحدى الليالي الصيفية الحارة، وفي الصباح الباكر تسللت ثلة من النسور إلى بلاد العصافير، تصور من رآها تطير من ذلك المكان القريب الذي كمنت فيه منذ فترة، أنها كانت في طريقها لتنفيذ غارة سحرية اعتيادية كما هو المعتاد في أيام الحرب، ولكن ما حدث كان عصيا على الإدراك في حينها! فقد كانت تلك الغارة الجهنمية فاتحة العصر الغرابيّ الذي كلكل على الغابة منذ ذلك اليوم الذي أعلنت فيه الحيوانات المتحضرة مدى همجيتها وتدني شعورها الحيواني، فقد تم فيه استخدام " سحر عش الغراب " الذي ابتكره باز ضالّ خان وطنه، بغض النظر عن كون ذلك الوطن كان همجيا هو الآخر! وباع أسراره إلى أعدائه، وقد أسماه هذا الاسم الغريب تكريما للعش الذي ترعرع فيه الغراب المحسن الكريم الذي كان لإسناده للمشروع، اليد الطولى في النجاح المدوّي الذي آل إليه!!!.
كانت تلك الثلّة من النسور التي أغارت في غفلة من عيون العصافير لكي لا تكتشفها قبل أن تصل هدفها لأنها تعرف جيدا أي نوع من المقاتلين الصلدين هم هؤلاء العصافير، مجموعة من خيرة سحرة النسور، تدربت طوال سنين على " سحر عش الغراب " بمعزل عن الحيوانات الباقية، وكان السحر ورغم الآفاق التي وصل إليها قبل ذلك لم يزل سحرا بدائيا إذا قيس بهذا السحر الذي لم يصبح ممكنا إلا بعد اكتشاف الكمء، ولا يمكن استعماله إلا جماعيا لأنه يحتاج إلى ما لا يقل عن اثنين وتسعين من أساطنة السحر وخبرائه الذين لا يستحقون تسميتهم إلا إذا ما وافق على ذلك نعثل الضباع الرهيب بنفسه. أنا لا أدعي أني أعرف ما الذي يحدث بالضبط في تلك العملية الجهنمية، ولكني أعرف أنها تبدأ بعملية متسلسلة يبدأها الساحر الأول الذي يحول ما ينجزه إلى الثاني فيضيف عليها هذا من معين سحره الذي نهله من قروح الأرض التي تصلها بالعالم السفلي الذي تسكن فيه شياطين الضباع، ويحوله إلى الثالث، وتتكرر العملية حتى تصل إلى الساحر ما قبل الأخير الذي يهيئها تعويذة هائلة في الجو رغم أنها لا تُرى، فيأتي الساحر الأخير الذي هو سميّ نعثل وربيب سراب فينطق، لا بتعويذة سحرية كاملة كما قد يتبادر إلى ذهنك، ولا بكلمة أو حتى بحرف، إن هو إلا صوت يكاد لا يسمع، أو هو لا يسمع بالفعل، فيخترق ذلك الصوت التعويذة القائمة بسرعة شيطانية ليحرر كل ما فيها من قوى شريرة تجمعت بطريقة جعلتها لا تكون حاصل جمع قوى السحرة الذين ساهموا بها، بل هي أضعاف مضاعفة لذلك، فتقوم القيامة على الأرض المنكوبة التي يستهدفها هذا السحر، فتلفح حرارة مسروقة من نار الجحيم كل حي لتصهره في لمح البصر، وتهب أعاصير هي أعتى من أشد أعاصير أرض الضباع السفلية عتوا لتقتلع في طريقها كل ما هو واقف، أو حتى نائم، لترفعه في دوامة تتصاعد إلى أعلى قبل أن تغوص به إلى حيث نعثل وضباعه، ثم تأتي بعد ذلك السعالى وغيلان الموت لتقطف بمناجلها رؤوس من شاء حظهم العاثر أن يبقوا على قيد الحياة بعد مرور الهول عليهم. وبعد كل هذا، تبقى لعنة غامضة تدور في أجواء المكان وتسيطر على هوائه وتنذر من يتجرأ على مس ترابه بأوخم العواقب التي لن يتخلص منها إلا برحمة القبر!!!
أنا لا أريد أن أطيل في وصف ما لم أشهده بعيني، وأنا لا أريد ذلك، أقصد أن أشهده بعيني، حتى لو ضمن أسد لي حياتي، ولكني أعترف أن ذلك الباز الأثيم، ورغم هول ما جنته عبقريته، كان يمتلك حسا فنيا رقيقا! لأنه جعل سمة تلك الكارثة الهوجاء غلالة من تراب وأشياء أخرى ترتفع في الجو حتى ترسم شكلا لفطر عش الغراب!!! ومثل هذه القابلية الفذة لا تتهيأ إلا لصنف نادر جدا من الحيوانات الغريبة، والمتناقضة حتى مع نفسها.
قضى "عش الغراب" هذا على مئات الآلاف من عصافير الأزاليا البريئة، من أناث وشيوخ وصغار، والذين كانوا نائمين بأمان يحلمون بعدما تحررت مخيلاتهم من كوابيس الحرب ولو لساعات!!! كان ما حدث في ذلك اليوم كارثة هائلة جعلت الحيوانات تنسى كارثة معبد أسد التي حدثت قبلها بأشهر قلال! كارثة هزت الضمير الحيواني بشدة، ولعل أغرب ما يقال هنا هو أن ضمير النسر الأصلع كان أول من اهتز لأنه كان أول من سمع بالكارثة ونتائجها، فأقتحم مخدع جدّه الذي كان نائما بعد أن ظل ساهرا طوال الليل لا يجد الكرى دربه إلى مقلتيه حتى سمع بما حدث فاطمأن ونام قرير العين، صاح النسر الغاضب بدون سابق إنذار:
ـ ما هذا الذي فعلته أيها العجوز الأثيم؟!
هبّ الغراب النائم من فراشه مذعورا وهو يصيح:
ـ رحماك أيها الباز الأسدي فأنا خادمك المتواضع المطيع.
ولكنه عندما رأى جلد رأس النسر العاري الذي كان قد احمرّ من شدّة الغضب، تعرف فيه على رأس سبطه فقال وقد تسلل بعض الهدوء إلى نفسه:
ـ ما هذا يا ولدي؟ كيف تجرؤ على اقتحام مخدعي والصياح أمامي هكذا، ألم يعلمك أبوك المقبور الأدب والإحترام؟!
قال النسر بصوت بدا كالفحيح من شدة الغضب:
ـ دع أبي المسكين وشأنه، فهو آمن في قبره من شرّ أعمالك، وقل لي، ما هذا الذي فعلته أنت وبازك الضبعي هذا؟!
عرف الغراب أن سبطه كان في حالة من الغضب تجعله لا يستجيب للتهديد والوعيد فقال بصوت تعمّد أن يضمّنه ما أستطاع من حزن وانكسار:
ـ آه، أهذا هو جزاؤنا لأننا ننقذك من أعدائك الأشرار؟
فقال النسر وفورة الغضب لم تزل تحتدم في داخله:
ـ أعدائي، أم أعداؤك أيها النذل الخسيس؟
فقال الغراب وهو يبذل جهدا كبيرا لإسالة ولو دمعة واحدة من عينيه:
ـ هيا يا ولدي، استمر في شتم جدك المحب فأنا لم تعد بي رغبة بالحياة بعدما سمعت منك للتو.
فجأة، شعر النسر بالخجل والإحراج، فقال متمتما:
ـ ولكن، يا، جدي، ما حدث كثير، بل كثير جدا، كل هذا العدد من الحيوانات في ضربة واحدة!!!
فانتهز الغراب اللئيم الفرصة وقال على الفور:
ـ لا يا ولدي، ليس كثيرا لأنك لو أحصيت الأرواح التي ستزهق إذا ما استمرت هذه الحرب سنوات أخرى لعرفت أن هذه الآلاف التي ماتت اليوم هي الضحية التي يجب أن نقدمها فداءا لأرواح الملايين التي استطعنا أن نحفظ أرواحها.
شهق النسر عندها وقال:
ـ ولكنك كنت نائما عندما دخلت، فمن أين عرفت بخبر ما حدث، وقد سمعت به أنا للتو؟!
ابتسم الغراب وقال:
ـ أتتصور يا عزيزي أن جدك يستطيع أن ينام قبل أن يطمئن على مستقبلك؟
ـ ولكن، الحرب لم تزل قائمة!!!
ـ نعم، ولكنها ستتوقف بعد تكرار التجربة مرة واحدة، أو اثنين.
كاد النسر أن يسقط مغشيا عليه عندما سمع قول جده، فقال:
ـ ما، ماذا، مرة، أخرى ولكن هذا مستحيل!!!
قال الغراب بأقصى ما يستطيع من هدوء يخفي به غضبه وضيقه من سبطه الرعديد:
ـ لقد قلت لك يا ولدي، يجب أن نقدم الضحايا على مذبح الغد السعيد الذي نعده للحيوانات بعد السنوات العجاف التي عاشتها لحد الآن. ثم من قال لك بأننا نحن من يميت؟ فمن نكون لنستطيع أن نميت هذا العدد من الحيوانات؟
بان التعجب على النسر فقال وهو في منطقة ما بين الشك والتصديق:
ـ فمن الذي يميتهم إذا؟!
ـ أسد بالطبع.
ـ ولكن ما دخل أسد بهذا؟!
فابتسم الغراب لأنه اطمأن إلى أنه قد نجح في تحويل أنظار سبطه الحانق وقال:
ـ بل له كل الدخل، فهو الذي يحيي ويميت وما نحن إلا الأسباب التي ينفذ بها إرادته، وأنت تعرف يا عزيزي أنه ورغم ألوهيته يمتلك كل غرائزنا ورغباتنا، ولولا ذلك لما تزوج بأمنا اللبوة المقدسة، وأسدنا المعبود هذا يصاب بحالة شبق عنيف بين الفينة والأخرى، فيطالب اللبوة المباركة بحقوقه ولكنها تكون مشغولة عنه بالدأب علينا برحمتها وعنايتها! فيقرر أن يلتهم الموت عددا منا لكي ترضخ اللبوة لرغبته المقدسة فتعوض من مات من الحيوانات بإنجابها المزيد منها. أيعقل أن لا تعرف هذا وهو أمر معروف عن الأسد؟!
فقال النسر الذي كان يناضل للاحتفاظ بالمتبقي من وعيه وهو لم يزل في الأرض الحرام بين الشك والتصديق:
ـ آه، نعم، ولكن مع ذلك، ماذا عن الحيوانات يا جدي، ما الذي ستقوله عنا فيما بعد؟
ـ ومن يهتم بما ستقول إذا كانت ستعي الدرس الذي قدمناه لها اليوم؟!
لم ينتبه النسر المسكين للتناقض الصارخ فيما قاله الغراب للتو! فغادر المكان مضطربا أشد اضطراب كما كان عندما دخل!!!.
ولم يمض أكثر من اثنين وسبعين ساعة حتى زارت شياطين الظلام بلاد الأزاليا والبامبو مرة ثانية لتقدم لها حلم الغد السعيد على شكل فطر عش الغراب عملاق مسح الحياة عن وجه الأرض في منطقة ثانية من بلاد العصافير الصفر التي اضطرّت للتسليم بدون قيد أو شرط لأنها عرفت أخيرا أنها قد أخطأت كثيرا عندما أذاقت نسور الجبل مرارة الذل والهوان في قتالها العنيد وهي تتصور نفسها تبارز في قتال بين فرسان!!!، وبهذا انقشعت غلالة الحرب ليتوضّح شكل عالم الغابة الجديد الذي سأبدو مملا وسخيفا جدا إذا ما ذكرت أنه قد تغير كثيرا، فلهذا وجدت الحروب، ولكني أريد أن أركز على أمر غريب حدث في تلك الفترة، فمن المعروف أن حصة أكثر المتضررين في الحرب من المنتصرين يجب أن تكون هي حصة الأسد، أو هكذا أفترض أنا على الأقل، وقد حدث هذا بالفعل، ولكن على الرغم من أنف الحلفاء، لأن الدب الكبير الذي قدمت بلاده العدد الأكبر من الضحايا " وطبعا هذا بدون أخذ خسائر بلاد البوازي بالحسبان لأنها كانت هي من بدأ تلك الحرب والأسوأ من ذلك أنها خسرتها! "، أصبح هو فرس الرهان الأول بعد انتهاء الحرب في وسط الغابة، في الوقت الذي بدأت فيه شمس بقية القوى تأفل إعتبارا من لحظة توقف الحرب، ولكن الغريب أن نرى أن البلد الذي كان هو الضحية الأولى للحرب، والذي يأتي بالمرتبة الثانية بعد بلاد الدببة الصغيرة في عدد الضحايا الذين لو حسبنا نسبتهم إلى عدد السكان لفاقت هذه النسبة نسبة ضحايا الدببة بكثير، وأقصد بذلك بلاد الباندا، التي كوفئت بأن استعبدت من قبل الدب الكبير!!! ولكن الرابح الأكبر في تلك الحرب اللعينة بدون منازع، كان الجبل، رغم أنه أعطى العدد الأقل من الضحايا في تلك الحرب التي بدأت قبل مشاركته فيها بسنين!!!
سكت الأفعوان فتصورت أنه وصل إلى نهاية حديثه لذلك اليوم، ولكنه سرعان ما استدرك قائلا:
( وقبل أن أنهي حديثي أريد أن أذكر بأنه خلال الاحتفالات الخيالية التي أقامتها دولة الجبل لاستقبال جيشها العائد من أعماق الغابة، لاحظ الغراب الذي كان حاضرا أن وجه سبطه يعلوه الوجوم وإمارات القلق! فقرر أن يسأله عن السبب فيما بعد، وبالفعل بادره بالسؤال عندما اختليا قائلا:
ـ ما هذا يا ولدي، فرغم المجد والسؤدد اللذين حققتهما لك، أراك كئيبا وغير راض؟!
فقال النسر الأصلع وهو لا يخفي مدى حيرته:
ـ عذرا يا جدي العزيز، بل أنا ممتن لما فعلته بالفعل، ولكني أتساءل عما سنفعله عندما تتكشف حقائق خسائرنا إبان الحرب بعد رجوع الجيش؟!
قال الغراب بدهشة:
ـ خسائر! أتحسب هذه خسائرا؟! ألم تعرف أننا قد أعطينا الحد الأدنى من الخسائر بين الحلفاء، بل أن هذه الخسائر كانت أقل عددا من الضحايا الذين سقطوا إبان الحرب الأهلية التي أشعل نيرانها أبوك المرحوم، فلم قد يبرم الشعب بها؟
ـ ولكنها كانت حرب الغابة يا جدي، لا حربنا.
فصاح الغراب بحنق:
ـ بل هي حربنا نحن وسيرى الجميع ذلك بعد سنوات قلال.
فقال النسر الأصلع وقد بانت على وجهه الهموم:
ـ من يدري؟ هل سأكون موجودا كرئيس، عندها؟!
ضحك الغراب عندما سمع قول النسر فقال:
ـ آه، هذا هو الأمر إذا! لا تخف يا صغيري بل ستكون موجودا بكل تأكيد.
ـ ولكن الشعب سيحملني مسؤولية فقدان أبنائه.
ـ نعم، ولكن إلى حين، لأن الشعوب ذاكرتها ضعيفة إذا ما عرفنا كيف نتعامل معها، وأنا قد أعددت له ما ينسيه حتى نفسه من لهو وقصف بواسطة السلحفاة اللعوب المباركة والكروانات والببغاوات وتلك المواد السحرية التي استوردها له من جهنم خصيصا من مخدرات ومسكرات، و لا تنسى أننا نغسل له دماغه طوال الوقت عن طريق الأخبار التي ننقلها له بواسطة الخفافيش، سترى يا ولدي إلى أي مدى ستصل هذه المؤثرات بتأثيرها، لا على شعبنا فقط، بل على كل الشعوب منذ هذا اليوم لنحقق بها أهدافنا المشروعة في السيطرة على العالم، ثم لم تحمل همّ الانتخابات والحمار والفيل موجودين، هيا يا ولدي خفف عن نفسك وأستغل هذه الفرصة للترويح عنها، ما لك ورثت كل مساويء والدك وتركت أهم ما فيه، شبقه وتفسخه الأخلاقي؟!.)
وعندها التفت الأفعوان إلي وقال ممازحا:
ـ وماذا عنك أنت؟ ألا تريد أن تمرح قليلا مع خلدة جميلة، هيا اذهب للبحث عنها ودعني أرتح قليلا.
عندما وصلت إلى مكان اللقاء في الصباح التالي لم أجد أمامي غير خلد مهيب يجلس في المكان الذي تعود الأفعوان على الجلوس فيه!!! أربكتني المفاجأة ولم أعرف كيف أتصرف! فأنا حريص على سرية لقاءاتي بالأفعوان، ولا أدري من أين أتى هذا اللعين في هذا الوقت بالذات! وعندما بادرني الخلد بالقول:
ـ ما حاجتك أيها الخلد الطيب؟
ازداد ارتباكي ولم أجب إلا بعد أن استجمعت البعض من مقدرتي على التركيز لأقول:
ـ لا، لا شيء، لقد كنت مارا من هنا بالصدفة.
وكان هذا قول غبي بكل تأكيد لأنه يعني بأني يجب أن أغادر المكان بسرعة! فازددت حيرة على حيرة! قال الخلد الغريب مرة أخرى:
ـ هيا يا أخي، إذا كانت بك حاجة لشيء فأخبرني بها لعلي أستطيع مساعدتك.
كدت أن أزجره بشدة لو لا أن مهابة مظهره ردعتني! قلت:
ـ لا شيء، لاشيء، أنا ذاهب.
ولكني لم أسر إلا خطوات معدودات حتى سمعت صوت ضحك من خلفي!!! في هذه المرة لم أستطع أن أضبط أعصابي فاستدرت بغضب لأرى الأفعوان أمامي!!! ارتددت إلى الخلف من هول المفاجأة ولم أستطع أن أقول شيئا في البداية! أردت أن أسأله عن الخلد إذ لا يعقل أن يكون قد ازدرده بهذه السرعة! ولكنه قال بمرح:
ـ لقد خدعتك بمهارة، أليس كذلك؟
لم أفهم ما كان يقصده، فرددت ببلاهة:
ـ خدعتني! كيف؟!
ـ لم تتعرف علي، هه؟
ـ وكيف لا أتعرف عليك يا سيدي؟!
ـ أقصد، عندما بدوت لك كالخلد.
صرخت بدون وعي مني:
ـ بدوت لي كالخلد!!! أتقصد أن الخلد الذي رأيته للتو ثم اختفى، كان أنت؟!!!.
فقال بسرور واضح:
ـ نعم.
ـ ولكن هذا مستحيل!!!
ـ آه أتقصد إبدال هيئتي، كلا بل هو بسيط علينا نحن معشر الحيوانات المتحولة فهو موهبة طبيعية وهو أمر ضروري جدا لنا.
ـ ولماذا هو ضروري؟!
ـ لأنه أحد طرق الاختفاء التي قد نلجأ إليها عندما نريد أن نغير مظاهرنا مع تغير سادتنا أو عندما نكون في حالة دفاع عن النفس، أو، هروب.
ـ هروب؟! هروب ممّ؟!
ـ هناك الكثير من الأسباب التي تجعلنا نخاف فنقرر بسببها الهروب.
ـ خوف؟! وهل تخاف الأفاعي؟!
ضحك عندما سمع سؤالي الغريب وقال:
ـ بل أن الأفاعي هي أكثر الحيوانات خوفا لأنها لا تسير على أقدام، بل تزحف وهذا ما يجعلها ترى أصغر حيوان يسير على أقدامه وكأنه عملاق، وهذه الحقيقة تجعلها تعيش في خوف مقيم طوال حياتها.
لم أرد عليه هذه المرة بل استغرقت في التفكير بالذي قاله! فأنا لم أر الأمر من هذه الناحية أبدا طوال حياتي!!! كان هو الآخر قد استغرق في أفكاره الخاصة، فقال بعد أن هز برأسه عدة مرات:
ـ حمدا لأسد لأنكم لا ترون ما هو أمام أنوفكم وإلا لكانت حياتنا معكم صعبة جدا.
ثم سكت ليضيف بعد قليل:
ـ أتدري ما الذي تفتقرون إليه؟ إنه الإيمان، الإيمان بأنفسكم والإيمان بقضاياكم.
ـ ولكننا مؤمنون بأشياء كثيرة.
ـ ولكنه إيمان ضعيف، أتعرف لماذا؟ لأنكم تتصورون أن الإيمان لا يكون إلا إذا كان هناك معلم، والإيمان الحقيقي هو الذي ينبثق يقينه من أعماق الفرد ووجدانه.
ـ أتعني أنه لا حاجة إلى المعلمين؟
ـ بل هم ضرورة لأنهم يفتحون الأبواب أمام الآخرين فقط، ولكن الوصول يبقى رهن بإرادة الحيوان منا ومدى إيمانه، فعليه هو أن يقتحم الأبواب ليعرف حقائق الأشياء اعتمادا على ذكائه وتجربته و لا ينتظر أن يلقنه أحد شيئا.
فقلت عندها بحيرة:
ـ ولكني لا أفهم دخل هذا بما كنت تتحدث عنه قبل قليل!!!
فقال على الفور:
ـ وهذا سبب آخر يجعلكم تحت رحمة غيركم، أن لا تفهموا، ولكن! لماذا أصرح بما قد يكون خطرا علي فيما بعد؟ هيا لنكمل قصتنا، إلى أين وصلنا بالأمس؟
لم أستطع تحمل فكرة أن لا أفهم ما كان يقول فقلت بصوت هو إلى التوسل أقرب:
ـ رجاءا يا سيدي، لا تدعني في حيرة، فأنت أقسمت أن تطلعني على الحقائق كما هي، فهل فقدت ثقتك بي فجأة؟ هيا أفهمني ما كنت تقصده بكلامك هذا.
فقال بانزعاج خفيف:
ـ ولكنك لن تفهم، لأنكم لو كنتم تفعلون لما أصبح هذا حالكم.
ـ بل سأفهم لو أفهمتني أنت يا معلمي، هيا جربني هذه المرة أرجوك.
ـ ولكن، كيف آمن على نفسي بعد أن أطلعك على ما لا يجوز إطلاع أحد منكم عليه؟
ـ وهل بتّ تشكك في ذمة خادمك الأمين؟
نظر إلي بتمعن للحظات وقال:
ـ على كل حال لقد أصبحت أنت رهانا بالنسبة لي وأنا لا أخشى المغامرات أحيانا، حسنا، لقد قصدت أنكم أسأتم استعمال سلاح الخوف، فبدلا من جعله سلاحا في أيديكم جعلتموه سلاحا مشرعا عليكم.
فقلت بتعجب لم أستطع إخفاءه:
ـ وكيف ذلك؟!
ثم تكورت في مكاني استعدادا لتلقي سيلا من الإهانات التي تعود على توجيهها لي بعد كل سؤال غبي أطرحه، ولكنه ولعجبي قال بهدوء:
ـ تخافون من الذي لا يخاف منكم فحسب، وإنما يخاف حتى من لحظة يقظة واحدة يمكن أن تصيبكم.
كدت أن أسأله عمن يكون هذا بدون ترو، ولكني أمسكت في اللحظة الأخيرة لأنه ليس من المعقول أن يكون كريما معي دائما! ولكنه قال فجأة وبحدة واضحة:
ـ إيّاك أن تشي بكلمة مما يقال هنا أمام أحد لأنك يجب أن تعرف بأنه مهما حدث فسأعمل على أن تنال ما تستحق في حال أن أثرت بثرثرتك انتباه الآخرين إلى ما خفي عنهم.
مرة أخرى لم أفهم ما كان يقصد ولكني قلت باندفاع:
ـ بل أنا خادمك الأمين كما قلت، ولكني،
فجأة مرقت الحقيقة التي كان يقصدها إلى عقلي! لقد كان يتحدث عن نفسه وعن خوفنا الكبير منه!!! أهذا معقول؟! أيعقل أن يكون قد بدأ يثق بي إلى الحد الذي، ولكن هذا صعب التصديق!!!
لاحظ هو علامات التعجب التي ظهرت على وجهي فقال باستهزاء واضح:
ـ بدأت تفهم الآن،هه؟ حسنا يا بطل حافظ على شعورك بالخوف مني لكي تحافظ بذلك على حياتك، هل فهمت؟
أومأت برأسي من دون أن أجيب بكلمات هذه المرة لأني لم أعرف بم أجيب! ولكنه عندما قال:
ـ لقد كان بامكانكم أن تجنّبوا أنفسكم الكثير من الأمور السيئة التي تحيق بكم الآن، ومن يدري، كان من الممكن أن لا أتحول أنا أيضا، إلى، إلى.
ثم صمت، قلت:
ـ ولكن كيف يمكن أن لا نخاف منك ونحن مجرد خلدة لا نعرف أن الأفاعي يمكن أن تخاف؟
ـ لو كنتم تملكون عقولكم لعرفتم أن الأفاعي تخاف من أشياء كثيرة جدا، وخاصة من الصقور.
بددت غيوم الحيرة التي تكاثفت في عقلي آخر أمل لي بفهم ما كان يريد قوله!!! إذ لا يعقل أن يكون هذا السخيف جادا في كلامه وهو يتحدث عن أساطير لا مكان لها على أرض الواقع، ولم أملك نفسي من ترديد كلمة:
ـ الصقور!!!
بكل بلاهة! ولكنه لم ينتبه لحقيقة حالي لأنه قال بجدّ:
ـ نعم، فالأفاعي تخاف كثيرا من الصقور التي تنقض عليها من الجو فتلتقطها قبل أن تنتبه، فلم رضيتم أن تتحولوا إلى خلدة؟!
ـ ولكن كيف يكون بامكاننا أن نتحول إلى ما نريد؟!
ـ على الأقل كان بامكانكم أن لا تتحولوا إلى ما لا تريدون.
لم أستطع أن أفهم ما كان يريد قوله فبدت الحيرة على وجهي، ويبدو أنه قد انتبه لذلك لأنه قال لي فجأة:
ـ حسنا، حسنا، قل لي، أتؤمن بنظرية النشوء والارتقاء؟
ـ ولكن، كيف أؤمن بشيء لا أعرفه؟!
ـ حسنا إنها النظرية التي تتحدث عن الخلية الأولى التي نشأت ثم تطورت لتتنوع أشكالها فكانت هذه الحيوانات التي تراها في أنحاء الغابة المختلفة.
ـ لم أفهم!!!
ـ وما الجديد في ذلك؟ قصدي أن لا تفهم، ولكن مع ذلك لا بأس لأن هذه النظرية في الحقيقة صعبة الفهم والتصديق، ومع ذلك أرى أن فيها من الحقيقة الشيء الكثير، لأن الحيوانات البسيطة التي تكونت في البدء تكفّلتها الطبيعة فكانت تنتقي لها الجيد من صفاتها وتحفظه مثلما كانت تكيّفها بمرور الوقت لكي تضيف إليها المزيد من المزايا الضرورية لرفدها في ميدان البقاء، أي أن الحيوان وحيد الخلية الذي وجد في البدء بعد أن توفرت له ظروف الولادة في الطبيعة، استطاع أن يكون أكثر تعقيدا فيما بعد لأنه بدأ يتكون من خلايا أكثر، فأصبح دودة مثلا، ثم أصبح فراشة وبعد ذلك ديناصورا!!!
ـ مهلا، مهلا يا عم! أي حيوان وأي خلية أتريد أن تقول أن أجدادنا وجدوا صدفة في الطبيعة، ولكن ماذا عن الأسد العظيم الذي خلقنا مثلما يقول كهنتنا؟!
ـ أي أسد عظيم يا ولدي؟ إن هو إلا أسطورة ابتدعت لتشويشنا لمحاولة ضبطنا والسيطرة علينا لكي تحقق فئة مصالحها الخاصة على حسابنا، أو بالاحرى على حسابكم أنتم، أما مسألة الصدفة فأنا لم أقل ذلك، بل أنا أؤمن بوجوب وجود خالق، ولكن كيف خلق ومتى؟ فهذا ما لا يسعني الادّعاء أني أعرفه.
لم أصغ جيدا لثرثرته الأخيرة هذه لأن بالي كان مشغولا بمسألة النشوء والارتقاء غير المتوقعة هذه، لم قد أنكرها وها هو الدليل على صحتها قائم أمامي؟! فقلت بتردد:
ـ على كل حال، أتصور أني أستطيع أن أستسيغ هذا الكلام الغريب الذي تفوهت به عن هذه النظرية.
بدت المفاجأة واضحة على محياه فقال بصوت بدا فيه الشك واضحا:
ـ وكيف ذلك؟!
ـ ألست أنت دليل على صحتها؟ ألم تتطور من خلد إلى أفعوان؟
فجأة! انفجر ضاحكا حتى انقلب على ظهره، ثم عانى كثيرا حتى يستعيد وضعه الطبيعي، ولكن الدموع مع ذلك كانت لا تزال تترقرق في عينيه من شدة الضحك، ثم قال:
ـ وكيف تراني دليلا على التطور؟!
فقلت ببله:
ـ أليس الحجم الكبير دليل على التطور؟
ضحك مرة أخرى، ولكن باعتدال هذه المرة ثم قال:
ـ إذا كان هذا صحيحا لكانت الفيلة سادة هذه الغابة، ولكن ألا ترى أنها تعاني الكثير من ظلم النسور التي تصغرها حجما بكثير، ثم لم الإسراف في اللغو وما حالتي وأضرابي، إلا دليل سلبي على هذه النظرية، بل هي إثبات لنظرية التفسّخ والانحدار.
ـ ماذا؟! التفسّخ والانحدار! ما هذا الآن؟!
ـ دع عنك ذلك، فأنا إنما أسخر من الحال الذي وصلنا إليه، لا أكثر.
ـ إذا كان حالكم بهذا السوء، فلم ترضون به، بل كيف تحتملون أنفسكم؟!
ـ أما لماذا نرضى فلأننا قد وصلنا إلى ما وصلنا إليه، ولا مجال للتغيير، أما كيف نحتمل أنفسنا؟ فلم لا نحتملها وهناك من هو أسوأ منا؟
ـ وهل هناك من هو أسوأ؟!
ـ طبعا، هناك الكثير.
ـ ولكن من هم هؤلاء؟!
ـ أنتم.
ـ ماذا؟! نحن! ولكني ولدت خلدا، فما الذي تريدني أن أفعله؟ أصبح نسرا مثلا؟!
نظر إلي صامتا وهو يرمقني باحتقار واضح، ثم قال بعد قليل:
ـ ومن قال لك أن النسور كانت أحسن حالا منكم؟ بل والحق يقال كان بامكانكم أن تكونوا أحسن منها بكثير، ولكنكم اخترتم أن تكونوا خلدة بعد أن تحولتم قبلها، إلى نعامات.
فجأة، مادت بي الأرض وشعرت أن سيقاني تكاد لا تحملني من الرعب!!! فقد اتّضح كل شيء لي في تلك اللحظة، لقد جنّ الأفعوان، وما هذره هذا إلا دليل قاطع على جنونه، يا لأسد العظيم، لقد كنت قريبا جدا منه!!! أي شيطان جعلني أقترب من أفعوان خطير، وفوق هذا مجنون، تصبب العرق البارد من جميع أنحاء جسدي فيما كان عقلي يدور بسرعة هائلة باحثا عن مخرج من هذا الشرك القاتل الذي أوقعت نفسي فيه! آه لو تدرون كم كنت متمسكا بالحياة في تلك اللحظات؟ قلت بصوت تكاد أن تشوهه خلجات الخوف، وأنا أحاول أن أشاغله عسى أن أستطيع القفز مبتعدا عنه بأمان، ولكني كنت غير واثقا من مقدرتي على تنفيذ ذلك لأني كنت قد سمعت الكثير عن سرعة انقضاض الأفاعي على ضحاياها:
ـ ولكن، كـ، كيـ، ف يمـ، كن، أن نكو، ن نعامات، ثم، نصير خلدة؟!
ـ وفق نظرية التفسخ والانحدار بالطبع.
لم يبد عليه أنه كان ينوي مهاجمتي، بل كان في الحقيقة في تلك اللحظات أهدأ طبعا من السابق، بحثت في وجهه عن إمارات الجنون، فلم أجد شيئا منها!!! فزادني هذا حيرة على حيرة، ولكنه مع ذلك بعث بعض الاطمئنان في نفسي، قلت:
ـ ولكن، أتعني أننا يمكن أن نكون أحسن من النسور؟
فابتسم باستخفاف وقال:
ـ الآن وفي ظل أوضاعكم الحالية، بالطبع لا، بل أن واحدكم لا يحق له أن يحتقر دودة لأنها أفضل حالا منه.
ـ ولكن كيف يمكن أن تكون الدودة أحسن حالا منا ونحن أرقى منها بكثير؟!
ـ هذا لأنها ولدت دودة، وبالمناسبة أتعرف ما هو رأيي في الدود؟، أنا أرى أنه أفضل حالا من حيوانات الغابة لأنه على الأقل مبرأ من أطماعها وشرورها.
ـ ولكن الديدان تتقاتل فيما بينها أيضا!!!
ـ نعم، ولكنها ليست بالشريرة أبدا، بل هي تتقاتل من أجل البقاء، ولا تحاول أن تقول لي بأن الظلم والاعتداء على الآخرين الذي تمارسه الحيوانات هو صراع من أجل البقاء لأنها لو توحدت بدلا من تشرذمها هذا لكان أملها في البقاء أفضل بكثير!!!
ـ نعم، ولكن الديدان،
فقال بنزق:
ـ هيا، دع عنك حديث الديدان هذا، فهي خلقت هكذا ولكنها تمتلك الأمل في أن ترتقي يوما لتصبح حيوانا أرقى، أما أنتم معشر الخلدة فليس أمامكم إلا الانحدار، ومن يدري؟ لعلكم ستمسون حشرات هذه المرة، إما هذا، أو البدء منذ هذه اللحظة في سلوك الدرب العسير لكي تكونوا،
ولكنه صمت فجأة بعد أن هز رأسه بيأس، فقلت بحماس:
ـ لكي نكون ماذا؟!
ـ صقورا مرة أخرى، كما كان أجدادكم.
في هذه المرة لم أفوّت الفرصة، بل قفزت بكل ما وهبني إياه الخوف من قوة استثنائية لأبتعد راكضا بأقصى سرعة اتيحت لي طوال عمري مبتعدا عن هذا الأفعوان المجنون الذي يتصور الخلدة صقورا أسطورية!!!.
ـ2ـ
عندما استيقظت مبكرا في الصباح التالي، كانت فكرة أن لا أقابل الأفعوان مرة ثانية هي أول ما تبادر إلى ذهني، فقلت لنفسي:
ـ ليذهب هذا المجنون إلى جحيم نعثل وضباعه.
ولكن، مع اقتراب موعد اللقاء، بدأ القلق يتسرب إلي! كيف يمكن أن أقضي يومي؟ وإذا لم ألاقه كما كنت أفعل طوال الأيام السابقة، فإلى أين أذهب؟ ثم، ثم لم يبد عليه الجنون حقا كما أقنعت نفسي بسبب الرعب الذي شعرت به! بل بدا،
ومع التبريرات التي بدأت تترى في داخلي "رغم أني لم أستطع بعد أن أقتنع بجدية حديثه عن الصقور والنعامات"، وفجأة! وجدت نفسي أركض بأقصى سرعتي نحو مكان اللقاء لكي أبلغه قبل أن يحضر هو!.
عندما أتى ورآني واقفا، قال:
ـ آه لقد أتيت إذا، ولكن، لم فررت بالأمس؟!
وما أن تململت محرجا حتى قال بهدوء:
ـ لا بأس، لا بأس، المهم هو أنك قد أتيت، وحسنا فعلت، لأنك لو لم تفعل لكنت قد غضبت منك كثيرا.
ثم أضاف بعد هنيهة وهو يبتسم:
ـ وأنت تعرف ما يعنيه غضبي، والآن، إلى أين وصلنا بقصتنا؟
فاجأني سؤاله هذا فقلت متمتما:
ـ كنت قد حدثتني عما دار بين الغراب وسبطه بعد،
فقاطعني قائلا:
ـ آه، نعم، تذكرت، لقد حدثتك عن توقعات الغراب لما بعد الحرب.
أصابتني الدهشة لما حل بذاكرة الأفعوان العجيبة فجأة! فهو لم يكن قد حدثني عن هذه التوقعات، وقبل أن أقول له ذلك، قال:
( بعد سنوات قليلة تحقق كل ما قاله الغراب العجوز لأن الدول التي كانت غنية والمالكة لغيرها من الدول الفقيرة بدأت بالتنازل عن حقوقها "التاريخية" هناك!!! فانسحبت بالتدريج بعد أن أنهكتها الحروب واستنزفتها المغامرات ليبدأ عصر جديد كلية هو عصر لعبة الشطرنج بين نسر الجبل وغريمه الدب الكبير الذي كان يزداد كبرا في كل يوم!!!
انسحبت دول السيادة القديمة بصمت من معظم أملاكها! ولكن ملك نسور الغابة أبى إلا أن يعطي مثالا حيا عن خبثه وتنكره لكل المباديء الحيوانية!. فقد كان طوال فترة حكمه لجزء كبير من بلاد النعام يمتص غضب النعامات القليلة التي تقف بوجهه بالادعاء بأنه إنما يقيم لها دولا عصرية وأنه سيتركهم حالما يصبحون مؤهلين لحكم أنفسهم، ولكنه عندما اضطر للخروج مرغما بسبب افرازات الحرب الباهظة الثمن بالنسبة له من الناحية الاقتصادية منح ما لم يكن من حقه أن يمنحه إلى من لا يستحق، فتنازل عن جزء من تلك الأرض للغربان لتسكنه بمباركة القوى الكبرى في الغابة آنذاك!!!.
لقد كانت الغربان موجودة طوال عمرها في كل أنحاء الغابة، ولكن شأنها كان غريبا دائما، فهي لم تمتزج بأي مجتمع عاشت فيه رغم أنها كانت دائما تلعب أدوارا خطيرة في تلك المجتمعات بعد أن تحولت في غفلة من الجميع من حيوانات هامشية منبوذة إلى طيور تمسك بكل مفاتيح الحل والربط في تلك المجتمعات، لأنها امتلكت الثروات التي جعلتها تتحكم بمقدرات الدول التي منحتها مكانا لتعيش فيه بدلا من حياة التيه الصعبة في صحارى الحياة، من خلال السيطرة على اقتصادياتها التي هي عصب الحياة لكل الدول. أنا لا أنكر أن تلك الطيور الغريبة عانت خلال تأريخها الطويل من شتى أنواع الاضطهاد، ولكن ذلك لم يكن بسبب أن الحيوانات تميل بطبعها إلى الظلم وإيذاء الضعيف، فقط، بل لأن الغربان نفسها كانت تعاني دائما من عقدة الهجر، التي أوجدتها هي في نفسها، أيضا، وهذا بغض النظر عن جنون الارتياب والشعور بالاضطهاد طبعا، وأنا أركز على عقدة الهجر لأن الغربان في النهاية هي من الحيوانات، والحيوانات بطبعها تميل إلى الالتقاء بالآخرين وتكوين علاقات متوازنة معها، ولكن بقية الحيوانات كانت طوال تأريخها لا تميل إلى بناء مثل تلك العلاقات مع الغربان، أو بعضها على الأقل، بسبب شذوذ تصرفاتها وميلها إلى الاستعلاء عليها بلا مبررات، فكان هذا يحزّ في قلبها! ولا أعرف لماذا تشعر بذلك وهي أساسا تعتبر الآخرين أقل شانا منها؟! ولكن هذا هو ما يحدث على كل حال، فتبتئس الغربان ويدفعها موقف الحيوانات الأخرى معها إلى المزيد من الشطط في التصرفات الخرقاء، وهو ما يدفع الحيوانات الأخرى إلى المزيد من الابتعاد عنها، فيسبب هذا المزيد من الألم والحزن للغربان!!! وهكذا حتى تحول الأمر إلى عقدة مستعصية لا يمكن الخروج منها، ولذلك ترى أن الشريرة من الغربان هي المخلوقات الوحيدة التي لا تشعر بتأنيب ضمير عندما تقتل غيرها من الحيوانات في حالة المقدرة والتمكن طبعا، بل أنها تتخذ من مثل هذه المناسبات أعيادا تحتفل بالذكرى السنوية لها!!! ولك أن تقدر مدى الظلم الذي ستحيقه مثل هذه المخلوقات بالحيوانات الضعيفة التي تخاف منافستها على قيادة الدولة التي منحت لهم قسرا، وخاصة إذا كانت عاجزة عن الطيران مثل النعامات الصغيرة التي سلبت أرضها؟!.
لقد نزلت تلك الغربان نزول القدر الغاشم على أرض النعام، وقد هبت النعامات للدفاع عن أرضها، ولكن ما الفرصة التي تملكها نعامات تعجز عن الطيران ولا تفقه شيئا في السحر، وتقودها أفا، أقصد قيادات غير جديرة أمام غربان تطير ولديها كل تعاويذ السحر الأبيض والأسود التي منحتها الطيور في بلدان الغابة المتقدمة البعض منها، وسرقت هي المتبقي منها؟! أنا لا أريد أن أذكر تلك المآسي التي حلت بالنعام في أرضها على يد الغربان الظالمة، فحديثها يطول، ولكني أستغرب للخفافيش التي مهمتها نقل الأخبار بين الحيوانات! لم تخفي تلك التفاصيل؟ لا بل تظهر النعامات وكأنها هي التي تظلم الغربان المسكينة؟! ولكن لم الاستغراب ونحن نعرف من الذي يحرك هذه الخفافيش اللعينة؟! ومرحى لبعض الهداهد الشريفة التي تصر على قول الحقيقة رغم بطش وقسوة الباطل.
في تلك الأيام، لاحظ ظليم من النعام يميل إلى التفكير والتمعّن فيما يحدث حوله من أمور، أن الغربان قد هزمت النعائم لأنها تستطيع الطيران، وتمتلك من القسوة ما يجعلها تستخدم السحر بلا وازع من ضمير أو خوف من عقاب!!! فآمن أن ما أُخذ بالسحر، به يسترجع، ولكن!!! أين السحر من النعام وهي لا تستطيع أن تطير؟! فأعمل الفكر جاهدا حتى أكتشف أخيرا أن النعامات إنما تمتلك كل مؤهلات الطيران من ريش وأجنحة وأذيال مريشة ولا ينقصها إلا، إلا ماذا؟! أخذ يبحث ويبحث حتى سمع في ذات يوم بأسطورة لباب التي أعطت الصقر الأسطوري أسرار سحرها وجعلته يعلم الحيوانات كيف تطير! فقرر أن يذهب للبحث عنها لتعطيه بعض تلك الأسرار لكي تسترجع النعائم حقها المستلب، والغريب أنه رغم معرفته بذلك الخبر القديم جدا، لم يكن قد سمع بما حدث للباب قبل بضعة سنين!!!.
كان الظليم " نعمان " يحب حمامة بيضاء حبا جما، وكانت هي تبادله الحب، وقد تعاهدا على الزواج، ولكنه قرر أن يؤجل الزواج حتى ينفذ المهمة التي أخذها على عاتقه لأنه كان من الضرب الذي يستطيع أن يضحي بأحلامه من أجل قضية يراها عادلة، وعندما فاتح حبيبته بأمر ما نوى، لطمت وجهها وبكت وصاحت:
ـ ولكن كيف تأمن علي شر هذه الغربان التي ملأت أرضنا؟ كيف تتركني وحيدة في هذا الوقت بالذات، وتذهب للبحث عن خيال محض، فما الصقر إلا أسطورة قديمة وما قصة لباب إلا نتاج لخيالات المجانين، لأن هذا السحر الأسود الذي نقتل به يوميا لا يمكن أن يكون نتاجا لعطاء جنية بهذه الطيبة والنقاء!!!
نظر نعمان بحزن إلى حبيبته وقال:
ـ عذرا يا حبيبتي، ولكنه قراري الشخصي ويجب أن أكون أمينا في قراراتي و إلا لن أحتمل عيش حياتي.
لم تنفع الحمامة احتجاجاتها لأن حبيبها نعمان نفذ في النهاية ما كان قد نواه لأنه كان مثاليا في مبادئه ولا يستطيع أن يساوم فيها، ولكنه ورغم ذلك كان وللأسف انفعاليا يندفع فيما يبدو له صحيحا قبل أن يتبين طريقه!!! لأنه ما أن ابتعد عن وطنه المستباح حتى أدرك أن مشكلته لم تكن تكمن في الاهتداء إلى المكان الذي يمكن أن يجد فيه لباب، وإنما في كيفية الوصول إليها في فضائها التي تطير فيه فوق قمم الأشجار وهو لا يعرف الطيران رغم كونه طيرا؟!. عانى المسكين كثيرا من هذا السؤال الذي لم يجد له جوابا، وبقى لفترة طويلة أسيرا لمد الأمل وجزر الخيبات، ولكنه لم يفكر ولو للحظة واحدة في العودة إلى وطنه وأحبابه خائبا لأن الموت كان أهون عليه من ذلك! فقرر أن يمضي في طريقه وهو لا يدري إلى أي أرض يتوجه أو بمن يستنجد ليعينه على حيرته! فكانت هذه هي مأساة نعمان الثانية بعد مأساته الأولى بسبب المؤامرات التي ضيعت وطنه!!!.)
وفجأة توقف الأفعوان عن الكلام! فخشيت أن يتوقف عن الكلام، فقلت:
ـ ولكن ألم تحاول النعامات أن تدافع عن نفسها؟!
ـ كلا، هي لم تحاول فقط، بل قاتلت، وكان قتالا مجيدا بالفعل، ولكن ما الذي يمكن أن تفعله الشجاعة أمام جبروت السحر؟!
فجأة لاحت على جبينه تباريح الذكريات وراح في نوبة تأمل جعلت الوجد يلوح في عينيه! إبتسم لنفسه بحزن وهز برأسه قبل أن يقول:
ـ عندما كنت لم أزل نعامة قاتلت،
صحت من دون حذر:
ـ ولكن، ما هذا؟
أجفل عندما سمع صوتي فقال:
ـ ماذا؟ ما الذي جرى؟!
قلت:
ـ ولكنك كنت قد أوحيت لي بأنك كنت خلدا قبل أن، أن تصبح، هكذا!
ففحّ بغضب وقال:
ـ أنصت أيها اللعين ولا تقاطعني. هل عرفتني كاذبا؟
ـ كلا، ولكني لا أستطيع أن أفهم!
ـ ستفهم في الوقت المناسب، أما الآن فعليك أن تأخذ كلماتي على علاتها حتى أربط لك الخيوط فيما بعد، أفهمت؟
ـ نعم.
(ـ لقد قاتلت مع نعامات فصيلي قتال الأبطال، ولكن ما الذي يمكن أن نفعله أمام سحر سراب الذي كان طوع ريشات أجنحة الغربان؟ دُحرنا ولكننا قاتلنا قتال الصقور قبل أن نُهزم، أقسم لك أنه إذا كان هناك ما يذكر لي من أعمال فلن يكون إلا هذا الذي أحدثك عنه الآن، لقد أوهمتنا الأفاعي بأننا نمتلك السحر، لنقاتل فتتخلص من إثم ضياع الأرض، ونُهزم لتحتفظ برضا أسيادها عنها! وقالت لنا بأننا سنطير بكل تأكيد في الوقت المناسب لأننا نمتلك الأجنحة أساسا، ولكنها كانت أكاذيب كلها، وما أسمته سحرا تبين أنه ليس إلا نوع من الحيل التافهة التي تعتمد على الخداع البصري فقط!!!)
سكت للحظات وراح في نوبة تفكير قصيرة قبل أن يتابع قائلا:
(ـ دُحرنا ولكن ما فعلته في تلك الحرب الخاسرة، أتدري، رغم أننا كنا نقاتل راجلين فقط إلا أن شدة صولاتنا على الغربان كانت تجعلها تتقافز كالجنادب ناسية أنها طيور طائرة من شدة الرعب! كان ما فعلته خلال تلك الحرب من أعمال مجيدة قد لفت أنظار عيون النسور المبثوثة فيما بيننا فأوصلته إليها. كنت آنذاك مليئا بالأحلام والآمال الكبار، وكنت أمتلك من ميزات القيادة الشيء الكثير، ولكني كنت أحمل في داخلي كشأن بقية الحيوانات ضعفا كبيرا، ولم يكن إلا الشعور بالدونية إزاء الطيور لإحساسي بأنها أفضل منا بكثير، وعندما تم الاتصال بي من قبل النسور وتسلمت دعوتها لزيارة بلادها، لم أتردد بل سافرت على الفور ومن دون تفكير، وهناك، رأيت ما أنساني البقية الباقية من أحلامي النعاميّة، ولكني عندما عرفت ما يريدونه مني ثرت ولم أستجب لطلبهم على الفور وأخذتني العزة بنعاميّتي، ولكن ذلك لم يستمر طويلا لأني لم أصمد أمام حملة الترغيب والترهيب التي مارسوها علي، مرة يتوعدوني بتقديمي كوجبة عشاء لملك النسور، وأخرى يضعون أمامي كل ما لذ وطاب من نباتات الجبل وحبوبه اللذيذة وأنا جالس كملك غير متوج وسط مجموعة فائقة الإغراء من إناث الجبل المختلفات الأصناف. عودوني على لين العيش بعدما عانيت من شظفه طويلا في بلادي، ثم هددوني بأسوأ العواقب إذا لم أستجب لهم.
سكت قليلا وبان على وجهه إمارات التفكير لبعض الوقت قبل أن يقول:
ـ ولكن لم التبرير وقد حدث ما حدث؟ لم أصمد طويلا فاستسلمت لعملية غسيل الدماغ التي أجرتها لي النسور بكل طيبة خاطر، بل بشعور بالامتنان أيضا! وعندما استلمت الأمر بالتوجه إلى بلادي مرة أخرى بعد مرور سنوات، انتبهت فجأة إلى أني كنت قد بدأت باستعمال أطرافي الأربعة بالسير من دون أن أنتبه!!! ركضت بأقصى سرعة إلى النهر لأرى على صفحة مياهه ما حلّ بي، فاكتشفت أنني قد فقدت ريشي أيضا!!! ذلك الريش الذي كان هو مبعث فخري في الماضي، الريش الأمل الذي كان يجعل الحلم بالغد الأفضل لنا أمرا مشروعا، لأنه كان الأمل بمعاودة الطيران يوما!!!. خجلت من نفسي، ولم أحتمل فكرة مواجهة النعام عندما أعود فاعتذرت من أسيادي وطلبت منهم أن يسمحوا لي بالبقاء في وطنهم، ولكنهم طمأنوني وأخبروني بأن أحدا لن ينتبه إلى ما حدث!!! لم أفقه في حينها معنى ما قالوا، ولكني كنت أثق بكل ما يقولون، فعدت لأجد بلادي وقد خلت من النعام!!!
عندها، لم أعد أحتمل أكثر، فقلت رغم حذري من ردود فعله الغاضبة:
ـ خلت من النعام! ولكن إلى أين ذهبت؟!
نظر إلي مليّا، ثم قال باستهزاء:
ـ لا أدري إن كنت صادقا في غبائك هذا الذي تدّعيه، ولكن على كل حال سأجيبك، لقد طارت النعامات.
فصرخت من دون حذر هذه المرة:
ـ ماذا؟! طارت! ولكن النعامات لا تطير!!!
فقال بغضب ظاهر:
ـ كلا لم أقصد هذا الطيران، بل قصدت أنها قد اختفت وكأنها لم يكن لها وجود يوما ما في بلدي، والآن هلا خرست وتركتني لأكمل كلامي.
سكت للحظات ليسترد أنفاسه التي سارعها الغضب، ثم قال بعد حين بهدوء:
ـ لم يمر على عودتي وقت طويل حتى أصبحت الخلد الأول في بلادي، أو أفعوان ما تبقى منها الحاكم إذا شئت قول ذلك.
ـ ولكن! ألم تقل أنت أن النعامات كانت قد اختفت؟!
ـ نعم!
ـ فمن كانوا رعيتك إذا؟!
ـ ومن يكونون غير الخلدة الذي أنت واحد منهم يا أيها الأخرق؟
ـ أتعني أن بلادنا هذه هي نفسها بلاد النعام التي ذكرتها؟!
ـ كلا، بل أعني أن الأرض التي تقع فوق أنفاقكم هذه كانت هي بلاد للنعام أيضا، ولكنها لم تستطع أن تستمر بالعيش فيها بعد أن أصبحت خطرة لكثرة الأنفاق التي حفرتموها تحتها، وإذا كنت لا تعلم، فأعلم أن كل ما حدث كان مخططا له بدقة.
عندها تصورت للحظات أني قد فهمت بعض ما قاله فقلت بحماس:
ـ آه، لقد فهمت الآن!
ـ بل لم تفهم وحقّ أسد، كما لن يفهم الخلدة أن تركهم لأرضهم وسكناهم لما تحتها لن يبعد عنهم شرور أعداءهم عندما يحين الوقت!.
شعرت عندها بغضب كاد شرره أن يطفر من عيني، وصحت من دون خوف منه أو وجل:
ـ ولكن إذا كان ما تقوله صحيحا، فلم لم تمنعهم عن ذلك وأنت الحاكم كما تقول؟
ضحك وقال باستهزاء:
ـ أمنعهم! أنا أمنعهم؟! ولكن واجبي كان أن أقودهم إلى هناك، فلم ارتضوا بذلك؟
قلت ومراجل الغضب لم تكد أن تكف عن غليانها في داخلي بعد:
ـ عجبا لك! تتكلم عن مساوئك وكأنها مناقب!!!
ـ بل أنا أعرف نفسي فقط لأني حيوان واقعي، فلم لا يستفيدون من واقعيتهم، هذا إذا كانوا يمتلكونها، ليعرفوا أنفسهم؟
ـ وهل يستطيعون ذلك في ظل خوفهم المستمر منك؟
ـ ها قد عدنا إلى مبرر الخوف السخيف، ألا ترى أنهم لو كانوا قد أحسنوا التصرف، لما كنت أنا موجودا لأثير فيهم كل هذا الرعب؟
أحالت الحيرة التي تسربت مع سؤاله هذا حمم براكين الغضب في داخلي إلى كتل من صخور جثمت على عقلي ومنعته من استيعاب معنى ما كان يقول!!! قلت ببله:
ـ ماذا؟!
ولكنه تجاهل سؤالي وقال:
ـ أتعرف؟ أتساءل أحيانا عن السبب الذي يجعلني أتردد في التهامك لأتخلص من إزعاجك المستمر لي؟
عندها انتبهت إلى مدى قربي منه فانكمشت في مكاني عاجزا عن الحراك ولكنه لاحظ ذلك فقال:
(ـ لا تخف، فقد التهمت على الفطور قبل أن آتي إلى هنا خلدين سمينين، والتفكير في الأكل الآن يجعلني أشعر بغثيان، كما أني تعودت على وجودك ولا أخفي عليك أني بدأت أحبك لأنك أنت من أعاد إلي حبي للحياة بعد أن كدت أن أفرط بها في لحظة حماقة لا مثيل لها. والآن ما الذي كنا نتحدث عنه قبل أن، آه نعمان، كنا نتحدث عن نعمان. جال نعمان في أنحاء الغابة الفسيحة وهو يتكلم ويخطب في مختلف الحيوانات، ولكن لم يكن هناك مجيب!!! قادته سيقانه الطوال إلى الجبل، وهناك تعثرت خطواته بعد أن حل به التعب الذي حول تجواله هناك إلى تيه! ولقول الحق يجب أن أقول أنه حاول شرح القضية للآخرين في البداية، ولكن الخفافيش رفضت مساعدته خوفا من الغراب العجوز، كما أن الهداهد التي ساندته لم تكن قادرة على إيصال صوته إلى الجميع، فقرر أن يعتمد على نفسه فيما يريد، وذات يوم اتيحت له الفرصة في إلقاء خطبة بجمع من حيوانات الجبل، وكان قد استعد لخطبته هذه أحسن استعداد واتخذ من حادثة حقيقية انقضّت فيها شياطين الغربان المسلحة بسحر سراب على مجموعة من النعامات النائمة بأمان في العراء، مثالا يشرح به وحشية الغربان، فراح يتحدث بكل حرارة حتى أنه بكى كما كان يفعل كلما تذكر تلك المأساة التي حلت بتلك النعامات التي لم تكن إلا إناثا وأفراخها وبعض عجائز النعامات. سأله تيس وضع على ظهره جناح زائف، كان حاضرا منذ البداية عن عدد النعامات التي ذهبت ضحية تلك المأساة، فقال بصوت تنوح نبراته:
ـ كانوا أكثر من أربعمائة.
فقال التيس بذهول:
ـ أربعمائة ماذا؟
قال نعمان بانزعاج:
ـ أربعمائة نعامة بالطبع!
عندها انفجر التيس في ضحك صاخب حتى انقلب على ظهره فتكسرت الأغصان التي كانت تثبت أجنحته الورقية! ولكنه اعتذر فيما بعد لنعمان الغاضب وقال:
ـ عذرا يا صديقي، ولكن ما تفعله يضحك بالفعل، فأنت تريد أن تكسب التأييد لقضيتك بالحديث عن مقتل أربعمائة طير متخلف في بلد قام على جثث ملايين الوعول التي ذبحت بلا رحمة!!! هيا يا صديقي أتركنا لنذهب في سبيلنا فمشكلتكم معشر النعام تكمن في ضعفكم، كونوا أقوياء يصبح الحق معكم.
رغم غضبه الشديد، شعر نعمان بأن ما قاله التيس فيه شيء من الحقيقة فجعله هذا يتذكر مشروعه القديم في البحث عن لباب، ولكنه استمر أولا في تجواله في الجبل عسى أن يحقق شيئا، ولكن، ضاع صوته وذهبت أصداؤه هدرا، فقرر أن يسعى في طلب لباب التي لم يعرف كيف الوصول إليها حتى أخبره نسر عجوز رقّ لحاله بأنها لم تعد تسكن في أعالي الأشجار بل قبعت بعد هزيمتها تحت صخرة في أسفل الجبل!!! هرع نعمان إلى تلك الصخرة وهو في حال وسط ما بين الشك بكلام النسر العجوز وتصديق له!.
عندما وصل إلى المكان المقصود توقف تحت الصخرة التي وصفها له النسر ولكنه لم يجد أثرا للباب فظلّ يلتفت يمينا ويسارا وهو حائر ولا يعرف ما الذي سيفعله بعدما ذهبت كل محاولاته للقاء لباب أدراج الرياح!!! وفيما هو كذلك سمع فجأة صوتا يقول:
ـ ما الذي تبغيه مني أيها المسخ؟
التفت مذعورا إلى مصدر الصوت فرأى أمامه طيرا بدا في أسوأ حال، ولكن العين رغم ذلك لا يمكن أن تخطيء جمال وجهه الأسطوري!!! قال نعمان بارتباك:
ـ أنا، أبـ، حث، عن السيدة، لبـ، باب!
ـ أنا هي السيدة "باب"، فما بغيتك؟
عندما سمع نعمان قولها عكف ساقيه الطويلتين ليبرك أمامها ويقول بتوسل:
ـ رحماك أيتها السيدة أعيني من أتاك محتاجا لنور سحرك.
قالت لباب بتبرم:
ـ ومن تكون يا هذا؟ انتظر، ألست نعامة؟!
ـ بلى.
ـ ويحك، أتجرؤ على استجداء ما سبق وإن ضيعته، مني؟!
فقال نعمان باستغراب:
ـ ولكن ما هو هذا الذي ضيعته؟! آه أتقصدين وطني؟ ولكن ما الذي كان بامكاني أن أفعله إزاء القوة الغاشمة؟!
ـ أن تقاتل حتى الموت على الأقل، ولكن ليس عن هذا أنا أتحدث.
ـ عمّ إذا يا سيدتي المبجّلة؟
ـ عن إرث أجدادك الذين كانوا هم أمناء سر سحري الذي جئتني الآن مستجديا إياه!
لم يفقه نعمان شيئا مما كانت تقول! فأدرك أنها قد فقدت صوابها بعدما تعرضت له من محن! وقال:
ـ ليسلم عقلك وإدراكك أيتها الطيبة، ولكني مجرد نعامة لا غير، فعن أي أجداد تتكلمين؟!
عندها رمقته شزرا بطريقة أدخلت الرعب في قلبه وقالت:
ـ وفوق هذا لا تعرف من هم أجدادك!!! هيا أركض أيها السخيف لتدفن رأسك في تراب وطنك منتظرا الموت هناك فهذا أفضل لك بكثير.
فرد نعمان على الفور:
ـ لا تقولي لي يا سيدتي بأنك قد صدّقتِ هذه الصورة التي لفقتها لي نسانيس الجبل في أذهان الحيوانات!!! وإلا خبريني أرأيت طوال عمرك نعامة تدفن رأسها في الرمال؟!
فقالت لباب بنفاد صبر:
ـ هيا اذهب عني وإلا مسختك علجوما حقيرا كما تستحق أن تكون.
عندها ثار الغضب في نفس نعمان، والنعامات رغم ضعفها عنيفة عندما تغضب! وقال:
ـ ولكن ما ذنبي أنا في الذي حصل لك؟!
لاحظت لباب نوبة الغضب الصقرية تلك، فقالت بلين:
ـ في هذا أنت على حق، لأنك على الأقل لا تعرف عم أتحدث، ولكني رغم ذلك لا أستطيع أن أنسى كيف تسللت سراب من خلال شروركم معشر حيوانات هذه الغابة لتمسي حقيقة واقعة!
فقال نعمان بلا خوف:
ـ حتى في هذا أنت المذنبة.
بان التعجب على لباب وتساءلت مستغربة:
ـ وكيف أكون أنا المذنبة؟!
ـ أو لست أنت جنية السحر؟ أفما كان الأجدر بك أن تتوقعي ما حدث قبل أن يقع؟ ثم، ثم، لقد وقع ما وقع، أيليق بك أن تنوحي على نفسك مثل المخلوقات الضعيفة؟ وتعتزلي من هم في أشد الحاجة لك الآن بعد أن عم الظلم وساد الإرهاب؟!
ابتسمت لباب بمرارة وقالت:
ـ صحيح أن الحكمة يمكن أن نسمعها حتى من أشد المخلوقات ضعفا لأنها لا علاقة لها بالقوة والضعف، ولكن متى تفهم الحيوانات هذا؟! هيا اذهب يا بني الآن فأنا لا أستطيع أن أساعدك بشيء، بل أنت فقط الذي يستطيع مساعدة نفسه، هيا اذهب ودعني أتدبر أمر نفسي.
عاد نعمان من رحلته اللبابية خائبا بعد سنين طوال، إلى وطنه السليب الذي لم يستطع دخوله إلا خفية لأنه لم يكن يمتلك الجنسية الغرابية التي أصبحت هي الشرعية هناك! فعرف أن حبيبته الحمامة كانت قد قضت نحبها منذ سنين بعد أن اغتصبها غراب كاسر! وعندما بانت للعيان قطيرات الدم على بياض ريشها الناصع، اتهمها بأنها حاولت قتله لأنه غراب مسكين أتى إليها باحثا عن مأوى فاضطر للدفاع عن نفسه! فصدر بحقها حكما بالإعدام ونفذ على الفور!!!.
مادت الدنيا بنعمان عندما عرف بذلك وتفجرت كل طاقات الغضب العنيف في أنحاء نفسه الثائرة، فقرر أن يهجر تلك البطاح التي لم تعد ملكا له!!!)
فقلت بعدما سكت، متسائلا باستغراب:
ـ ولكن، إلى أين ذهب؟!
ـ عاد إلى الجبل ليتخذه وطنا له.
ـ هذا عجيب!
ـ نعم ولكنه هو الذي حدث.
ـ وبعد ذلك؟
ـ بعد ذلك نسى بمرور الأيام ولعه القديم بالقضية، ولكن الرغبة بالطيران تحولت في نفسه إلى هاجس حرمه من رضي العيش حتى تمكن في النهاية من الطيران.
صحت بلا وعي مني:
ـ هل طار الظليم؟!
فقال الأفعوان بهدوء:
ـ ولم لا يطير إذا كان الدب نفسه قد طار.
ـ الدب! أي دب؟!
ـ الدب الكبير
ـ ولكن هذا مستحيل!!!
ـ قد يبدو الأمر مستحيلا، ولكن عندما يقرر حيوان أمرا ما ويمتلك الصبر والإرادة اللازمين وهما ما لا تمتلكه الأغلبية الساحقة من الحيوانات، يصبح الأمر ممكنا في بعض المرات، ثم لم هذا الإصرار على إنكار هذه الحقيقة وأنت لابد وأن تكون قد سمعت بها بنفسك لأنه لم يمر وقت طويل منذ أن سقط الدب سقوطه المدوي إياه، أنت تعرف جيدا أنه كان يطير، أليس كذلك؟ ولكن دعنا منه الآن، فقد طار نعمان بعد أن استقر في الجبل وتزوج أنثى نسر ولدت له ابن طويل الساقين والرقبة، ولكنه كان نسرا على أية حال!
طار نعمان ولكنه لم يصبح نسرا أبدا رغم أنه فقد نعاميته للأبد لأن النسور كانت تنكر عليه طريقة طيرانه الخرقاء وتعرفه قبل أن يصبح قريبا منها بمسافة طويلة، حقق حلمه أخيرا ولكنه لم يستمتع به لأنه لم يجد فيه اللذة التي كان يتوقعها، وعندما تخلص من ضغط الهاجس تذكر القضية التي كان قد نسيها وهو في حمى الصيرورة الجديدة التي فرضها على نفسه باختياره المهجر وطنا بديلا للوطن الضائع! تذكرها ولكنه كان قد فقد حماسه القديم لها لتقدمه بالسن ولأنه كان قد تعود على مستوى جديد من الحياة لم يجد في نفسه الجرأة على التنازل عنه، فركنها مرة أخرى في غياهب النسيان.
انتظرت قليلا لكي يكمل كلامه ولكنه بقى ساكتا فقلت مستفهما:
ـ وبعد؟
فقال بلا اكتراث:
ـ لا شيء.
ـ لا شيء؟! ولكن ما الذي قصدته من إيرادك لقصة هذا التافه؟
ـ أولا هذا التافه كما تقول هو أخي، وثانيا لقد أوردت قصته لكي أفهمك بأني لم أكن الوحيد الذي خان القضية فقد تهيأت له الفرصة ليقدم خدمات كثيرة لها بعد أن أصبح مواطنا في الدولة التي باتت تتحكم في مصير الغابة، ولكنه لم يفعل.
ـ آه، هكذا إذا، التبرير، ولكن مع ذلك فإن الخيانة درجات، وما فعله هو لا يمكن أن يقارن بما فعلت!.
ما أن قلت هذا حتى أدركت بأني قد تجاوزت حدودي معه، ولكنه قال من دون أن يبدو عليه الغضب:
ـ ها قد بدأت سخافات النسبية، افهم يا بني أن الأمر لا يحتمل التأويلات فالخيانة هي الخيانة مهما اختلفت ألوانها.
لم أقتنع بكلامه بالطبع، ولكني لم أصر على وجهة نظري لأني كنت حريصا على عدم إغضابه للأريحية التي عبّر عنها قبل قليل بعدم غضبه مني!!!)
في اليوم التالي، تذكرت وأنا أسير بتثاقل في طريقي للقائه، أريحيته في اليوم السابق" ومن الغريب أني قد تناسيت بعض إهاناته التي ضمّنها إياها!". كانت معاملته لي تميل إلى التحسن باضطراد، ولكن ذلك لم يفرحني كثيرا في ذلك الصباح لأن سيقاني كانت تبدو وكأنها لا تقوى على حمل جسدي! وكأن آلام لساني التي لم يوقفها العلاج لا تكفي لتنغيص حياتي؟!
عندما وصلت المكان المعهود كنت مشتتا بين شعوري بالارتياح لما بدر منه من تغيير في معاملتي، وشعور ممض بالألم وقلق من هجوم الأوجاع والوهن!. وعندما رأيته مقبلا من بعيد، قرّ قراري على أن أحاول معه لعلّي أكسب منه المزيد من المواقع التي يمكن أن تخفف عني، ولكنه عندما اقترب، بادرني بالقول ومن دون تحية أو سابق إنذار:
ـ ما لوجهك القبيح هذا ينبيء عن حزن وكدر؟
فاجأني قوله هذا فقلت بحدة ومن دون تردد:
ـ لم تعاملني هكذا؟ إن كنت تكرهني، قل لي فقط، وسأريحك من وجهي إلى الأبد.
فإذا به، ولعجبي، يضحك ويقول:
ـ ماذا؟! أكرهك!
ـ أنت تحتقرني إذا
فقال وهو لم يزل مبتسم الوجه:
ـ حتى في هذا أنت مخطيء، لقد كنت أمزح معك فقط! وعلى كل حال لِمَ لَمْ تعبر عن غضبك مني ما دمت تتصور أني أحتقرك أو أكرهك؟
ـ ماذا؟ أغضب منك!!! وهل أجرؤ؟!
ـ أتعرف؟ إن الغضب مكروه بصورة عامة، ولكنه أحيانا يكون ذا فائدة.
ـ كيف؟!
ـ لأنه يكون أحيانا السبب في تخلص الحيوان من مشاعر تورده موارد الهلاك وهو لا يعرف، خذ الحزن مثلا، فهو عندما يكون كبيرا و يتلبس الحيوان، فإنه يجعله يشعر بعدم الرغبة بالحياة، ولكنه إذا ما شعر في لحظات الحزن تلك بغضب مفاجيء فإنه قد يستعيد باستسلامه للمشاعر الجديدة حبه للحياة.
لم أفهم ما كان يريد قوله بالضبط! ولكني سألته وأنا لم أزل متأثرا من أهانته لي:
ـ لماذا تعلمني كل هذا؟
فاجأه قولي هذا حتى ألجم لسانه لوهلة كان خلالها يتطلع في وجهي وقد اختلطت في وجهه إمارات الدهشة والغضب! ولكن يبدو أنه قد استعاد هدوءه قبل أن يقول:
ـ في ذات مرة تعرضت لإغراء شديد من أفعى كانت تعترض طريقي دائما، قالت لي "هيت لك" بكل طريقة ممكنة، ولكن أعقب صمودي الطويل لها، انهيار مقاومتي! فرضخت لتوسلاتها الأنثوية، أتدري ما قالته لي عندما اقتربت منها أول مرة؟ لقد سألتني عن الشيء الذي أعجبني فيها وجعلني أحاول إغراءها؟!
ضحكت لقوله وقلت:
ـ وما الذي فعلته عندها؟
ـ لاشيء، فقط شعرت بالغضب فابتلعتها حية.
ـ أوه، يا للروعة! هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها وصفا لهذه العملية بهذه البراعة!!!
مطّ عندها شفتيه وقال بضجر:
ـ كلا لقد قصدت المعنى الحرفي للابتلاع.
ـ ماذا؟! أتقصد أنك قد،
ـ نعم.
ـ وهل يصح أن تأكل الأفاعي أفاع مثلها؟!
ـ بل يفضل أيضا، لأن من يفعل ذلك يتخلص من منافس، ويصبح بطلا ولو لبعض الوقت في نظر الحيوانات التي كانت تعاني من ظلم الأفعى المأكولة.
كان ما قاله فظيع، ولكني شعرت في أعماقي بإعجاب غريب به!!! وكنت سأستسلم لإعجابي هذا لفترة من الوقت لولا أني تذكرت فجأة أني لم أفهم سبب ذكره لقصة الأفعى هذه في هذا الوقت بالذات فقلت:
ـ ولكن! ما دخل هذا بما كنا نتكلم به للتو؟!
فقال بنفاد صبر:
ـ ألم تكن أنت من طلب مني تعليمه ما أعرف؟ فلم تسألني مثل هذا السؤال السخيف؟
فجأة شعرت بالرعب لأن هذا كان يعني أنه يمكن أن، ولكنه سرعان ما طمأنني بعد أن بان الخوف علي، قائلا:
ـ لا تخف، فأنا لا أفكر بابتلاعك، فأنا بدأت أشعر بالميل نحوك، وأنت تعرف بأن لا ولد لي، من يدري؟ لعلك ستكون يوما بمثابة هذا الولد بالنسبة لي.
جعلني تصريحه المفاجيء هذا أشعر بالدوار! فهو يعني الشيء الكثير جدا مما لم أكن أتوقعه! فهو قد يعني، يعني، لم أحتمل أكثر فقلت بصوت متهدج:
ـ أهذا يعني أنك،
فقاطعني قائلا:
ـ نعم، بدأت أحبك وأنا أفكر بتبنيك.
ـ ولكن هذا يعني بأني سأكون أفعوانا أنا الآخر!!!
ـ ولم التعجب وكل منكم معشر الخلدة يمكن أن يكون في مكاني! قل لي ألا تتصور أنك يمكن أن تصبح أفعى يوما ما.
صحت باستنكار:
ـ كلا بالطبع!
ـ ولم لا؟
فقلت بدون تفكير:
ـ لأني، لأني، حيوان. طيب، نعم طيب.
فابتسم ساخرا وقال:
ـ بوركت أيها الطيب، ولكن، ما دمت خلدا فلا معنى لطيبتك، ثم عن أي طيبة تتحدث ألا ترى إن الخلدة بدأت تخشاك منذ بدأت تلتقي بي وخاصة أني أمرت أعواني أن يحذّروا الآخرين من التعرض لك لأي سبب كان؟.
لم أنتبه إلى معنى ما قال على الفور لأن عقلي كان مشغولا بالعلاقة بين كوني خلدا وعدم استطاعتي أن أكون طيبا كما يدعي هذا المجنون فقلت:
ـ ولماذا لا يستطيع الخلد أن يكون طيبا؟!
ـ لأن الطيبة الحقيقية تكون موقفا، أنا لا أقول أن الخلدة ليست طيبة، ولكن كونك خلدا ضعيفا يعني أن طيبتك بسبب ضعفك وهذا ما لا يعتدّ به.
ـ فما الذي يجب أن أكونه لكي أكون طيبا إذا؟!
ـ أن تكون صقرا مثلا، وطيبا.
ـ ولكن! ما لي أراك تلح في ذكر الصقور وما هي إلا طيور أسطورية؟!
ـ من قال لك هذا؟! بل الصقور حقيقية، وموجودة، وقانا أسد شرها، ولكنها وله الحمد، قليلة.
ـ فأين هي إذا؟ أنا لم أر صقرا طوال حياتي!.
كشّر في وجهي ساخرا وقال:
ـ وكيف تراها وأنت تعيش تحت سطح الأرض؟ ولكن على كل حال، لو حدث المستحيل ووصلت إلى قمة شجرة عالية يوما ما، فسترى صقرا يحوم في دوائر في السماء بكل تأكيد.
ـ ولكن! لم يحوم في دوائر؟!
ـ لأنه مقيد.
ـ مقيد! ولكنك تقول أنه يطير!
ـ نعم يطير، ولكنه مقيد بوحدته.
ـ أتقصد أن هناك صقر واحد فقط في هذه الغابة الفسيحة؟
ـ بل هناك العديد من الصقور، ولكنها مع ذلك قليلة، ومتفرقة.
ـ فلم لا تلتقي معا إذا؟!
ـ ومن الذي سيسمح لها بذلك؟ ثم أنها حتى إذا ما اجتمعت فإن عددها لن يكفي لأن الأمر يحتاج إلى الكثير من الصقور.
ـ أي أمر؟!
ـ أمر العودة إلى مكانها الذي تستحق على مسرح الأحداث في هذه الغابة.
ـ يا للصقور المسكينة، ولكن دعنا منها فأمرها ميئوس منه على كل حال.
بانت ابتسامة في زاوية فم الأفعوان وقال:
ـ نعم، دعنا منها فالغابة لا تتسع لي ولها في نفس الوقت.
أثار قوله الاستغراب في نفسي فقلت:
ـ ولكن! لم تقول هذا؟
نظر فجأة في عيني مباشرة، قبل أن يقول بعد حين:
ـ لا تهتم لقولي الآن، ولكنك ستفهم كل شيء فيما بعد، أما الآن فأذهب لأني لا أجد في نفسي الرغبة بالمزيد من الحديث اليوم.
وأنا في طريقي إلى البيت بدأت أفكر بما قال مرة أخرى، وعندها فقط انتبهت إلى أن ألمحيطين بي كانوا قد بدأوا منذ فترة يعاملوني بطريقة مختلفة كليا، ولكني لم أنتبه لذلك لأني كنت مشغولا بالقصص الغريبة التي كان الأفعوان يرويها لي طوال الأيّام التي انقضت منذ تعرفي عليه! كنت أتصور أن لقاءاتي به كانت سرية ولكن يبدو أن هذا كان فقط ما بدا لي وإن الجميع كان يعرف بعلاقتي بالأفعوان الرهيب!!! الخلدة تخشاني! وأعين أعوان الأفعوان ترعاني!!!، لحظة، لحظة، أتحبني الخلدة، أم تحترمني؟! ولكن! من الذي يهتم ما دامت تخشاني؟ آه أيّة مشاعر جميلة بدأت تغزوني في تلك اللحظات! من الذي سيجرؤ بعد اليوم على الوقوف في وجهي، حتى ذلك الدعيّ اللئيم، وعندما تذكرته تفجر غضبي الكامن وثارت أحقادي، فقد كنت قد تعرضت قبل فترة إلى ضرب مهين من خلد قوي كنت قد حاولت إغواء حبيبته الجميلة في غيابه. أنا أعترف لكم أن موقفي لم يكن أخلاقيا جدا، لأنه كان صديقي وكنت أنا أمين سره في هذه العلاقة بينهما، ولكن العقوبة لم تكن بمستوى الجرم أبدا، بل فاقته بكثير!!! ولأني بالإضافة إلى كل هذا كنت أحسده لأن مثاليته كانت من النوع الذي لا أفقهه أو أحتمله!.
لم أعد إلى البيت في ذلك المساء إلا بعد أن عثرت عليه لأوسعه ضربا وهو لا يجرؤ حتى على الدفاع عن نفسه، ولم أتوقف إلا بعد أن رأيت دموع الحنق تترقرق في عينيه المتورمتين!.
في الصباح التالي وفيما أنا مسرع إلى مكان اللقاء وأنا مزهو بقوتي ومشتاق إلى صديقي الجديد وأحاديثه الساحرة وقفت أمامي فجأة خلدتي الجميلة، حبيبتي التي تحملت كل ذلك الضرب في الماضي بسبب رفضها لي وإخبارها لحبيبها القديم بما فعلت في غيابه! ولكني لم أتمكن من إبعادها عن بالي لأنها كانت دائما حلم حياتي، وكيف أتمكن وهي اميمة التي لا أطيق تنفس الهواء في المكان الذي لا يضمها؟ كنت قد لاحظت قبل أيام اهتمام مفاجيء بي في نظراتها أنساني ما حدث من قبل، فأقدمت على ما لم أندم عليه في هذه المرة لأنها سرعان ما استجابت لدعواتي!، شعرت بفرح غامر لما حدث ولكني لم أكلف نفسي عناء السؤال عن السبب الذي جعلها تغير موقفها مني لأني كنت مشغولا كليا بعلاقتي بالأفعوان، صديقي!!!.
عندما رأتني اميمة في ذلك الوقت المبكر من الصباح الذي تخلو فيه الأنفاق من المارة، سائرا بسرعة إلى مكان اللقاء أقبلت راكضة علي، ولكنها توقفت قبل أن تحتضنني لأن مثل هذه الأفعال كانت ممنوعة علينا في العلن نحن الخلدة رغم إدماننا للفسق في حياتنا الخاصة!!! ولكني لاحظت عندما توقفت أمامي، أنها كانت تتصرف بغرابة في ذلك الوقت المبكر الذي خلت فيه الأنفاق من المارة! وفي الحقيقة شعرت بانزعاج خفيف من لقائي المفاجيء هذا، بها! لا لأني لا أحبها أو لأني قد مللت منها بل كنت في الحقيقة في أشد الشوق إلى وصالها الذي كانت تمنعه عني حتى ذلك الوقت تدللا، ولكن لأني كنت في لهفة لأرى الأفعوان!!! لقد رأيت الألق في عينيها عندما اقتربت مني ولكني لم أهتم به، وشممت رائحة أقسم لكم بأني لم أكن بتلك الدرجة من العذرية التي تجعلني لا أدرك مدلولاتها، ولكني لاضطراب أفكاري وانشغالي بأحلامي لم أستطع أن أميزها في ذلك الصباح!!! قالت وهي تتمايل بغنج أمامي حتى أني رأيت اليتيها تتراقصان رغم أني كنت واقفا أمامها:
ـ بوركت لما فعلته بالأمس بذلك التافه المغرور.
قلت بلا وعي مني:
ـ نعم، نعم ولكن عذرا أيها الحبيبة فأنا في عجلة من أمري الآن فهلا تعذريني؟.
تجاهلت الخيبة الكبيرة التي أطلت من عينيها التي انطفأ الألق فيهما وأسرعت في الابتعاد عنها:
ـ أمرك، يا حبيبي.
كانت هذه هي الكلمات الأخيرة التي سمعتها منها وهي تقولها بصوت كادت تخنقه العبرات!!!.
عندما وصل الأفعوان بعد ذلك، وبعد التحية الرقيقة والابتسامات، قال على الفور وكأنه كان يريد أن يعوض عدم رغبته بالحديث بالأمس:
(ـ عندما وضعتني النسور هنا، كانت تعرف أن أوان رحيلها قد حان بعد أن أنهكت نفسها بحروبها المتواصلة، ولكنها لم تحتمل فكرة أن تترك كل الخيرات التي تضمها أرض النعام فوظفتني لكي أكون وكيلها.
ـ ماذا؟ وكيل! وكيل ماذا؟!
ـ وكيل حاصلات، ومراقب كمء.
ـ كمء؟!
ـ نعم، الكمء
ثم بانت عليه علامات التفكير للحظات قبل أن يفزعني بضحكة مجلجلة انطلقت فجأة من أعماقه وراح يعاني من محاولة السيطرة عليها ليتمكن من قول ما كان يريد قوله، وعندما نجح أخيرا، قال بصوت لاهث:
ـ لقد اختلست كميات من الكمء لحسابي الخاص، وكنت أجهد نفسي لكي أجد الأماكن الملائمة لأكلها بعيدا عن عيون النسور المحيطة بي رغم أن ذلك شبه مستحيل! لقد كانت الرغبة في الطيران تتملكني! تصور! حيوان في طور الانحدار يحلم بالارتقاء! أنا الآن أدرك أي غبي كنته، ولكن في ذلك الوقت كان هاجس الطيران قويا في داخلي لأني كنت قد عشت في بلاد النسور طويلا.
ثم سكت وراح يهز رأسه بقوة وكأنه كان يريد أن يبعد تلك الذكريات عنه، ثم قال:
ـ انتهت الحرب ومن نافلة القول أن نؤكد أن ذلك الانتهاء كان إيذانا ببدء ظروف جديدة ستعصف بدول الغابة! وأول ما فعلته القوى المنتصرة هو أنها أسست المنظمة الغابيّة لتكرس بها أحقيتها في القيادة، وكان تأسيس هذه المنظمة هو الإعلان الرسمي لانتهاء زمن الحروب بين الكبار بشكل مباشر، وتشريف الصغار بتكليفها بخوض حروبها فيما بينها نيابة عنها.
فقلت مستغربا:
ـ ولكن لم قد تفعل ذلك وهي تستطيع أن تكسب حروبها بنفسها بعدما تطور السحر الأسود ذلك التطور الهائل بظهور سحر عش الغراب؟!
ـ كان ذلك السحر هو السبب في ابتعادها عن التحارب فيما بينها لأنه يعني فناء الغابة فيما لو أستخدم بكثرة، ثم إن دفع الآخرين إلى الحرب كانت عملية مربحة دائما حرص النسر الأصلع "على أساس أنه هو الواجهة لذلك النظام الرهيب الذي هو مجرد موظف فيه" والدب الطائر على إيجاد المبررات لها دائما، لأنها تؤمن لهما أسواقا لتصدير سحرهما القديم للأطراف المتحاربة، فتؤمن لهما بالإضافة إلى الأموال، الفرصة في تجريب بعض سحرها الجديد في مختبرات القتال الحقيقي الذي يدور في كل مرة في بقعة جديدة من الغابة وهما في مأمن من شرور الحروب. وقد أتقنا عملية رسم مناطق النفوذ الخاصة بهما في أنحاء الغابة في أروقة المنظمة الغابيّة نفسها، فتكونت الأحلاف، حلف النحل وهو حلف النسر الأصلع وحلفائه الذين ارتأوا أن يكون هذا اسم حلفهم لأنهم قرروا أن يعملوا بنشاط النحل ودأبه لتحقيق أهدافهم، وكان القائد فيه هو النسر الأصلع لأنه كان الأقوى، ولكن هذا لم يكن يعني أن الآخرين لم يكونوا يشاركون في الأعباء المالية المترتبة على واجبات الحلف، فيما كان حلف العسل الذي أسّسه الدب الطائر في المقابل على أساس أنه كان يريد لحلفائه أن يأكلوا من العسل الذي كان يحبه هو حبا جما، كان الجانب المادي لهذا الحلف مسؤولية الدب الطائر لوحده لأن شركاءه فيه كانوا أفقر من أن يستطيعوا الإنفاق عليه! أشّرت مناطق نفوذ الحلفين باللون الأحمر لأنها كانت ممنوعة بشكل مطلق على الطرف الآخر، ثم راحا يتبادلان المراكز بتنسيق مذهل فيما بينهما في مناطق الغابة الأخرى، وكل ذلك بمباركة هذه المنظمة الغريبة التي كان من أوائل أعمالها، المجيدة، هو أنها منحت جزءا من أرض النعام، للغربان لتعيث فيها فسادا وتحيل حياة النعام فيها إلى جحيم، لتنعم هي فيها!!!،
ولكن لم التعجل؟! فلنعد إلى الوراء قليلا لكي يبدو الكلام متسلسلا ومنطقيا، فقد كانت أحلام الغراب كبيرة جدا بعد انتهاء الحرب بتلك الطريقة الملائمة " بالنسبة له بالطبع "، ولكن لم يكن لها أن تتحقق بسهولة، فقد ارتفع نجم الدب عندها بصورة غير متوقعة وبسرعة مذهلة، وكأن ملايين الدببة التي فقدت حياتها خلال الحرب كانت هي الضريبة التي يجب أن يدفعها كل من أراد الارتقاء؟! المهم، إن الدب تعلم بعد ذلك الطيران كما سبق وأن قلت لك، وما هي إلا فترة وجيزة حتى امتلك أسرار سحر عش الغراب، فهز الأرض تحت سيقان النسر الأصلع وجده الغراب الذي لم يتوقع أن يحدث هذا! ولكنه رغم ذلك لم يفقد توازنه بل تصرف بواقعية وتقبل المزاحمة من الدب لأنه أدرك أنه قد أصبح قوة لا يستهان بها في لحظة غفلة منه، وراح يركز جهوده على كيفية التبارز، ليس كالفرسان بالطبع! ويتحين الفرص للقضاء على هذا المنافس المزعج!. ومن نتائج الحرب المباشرة الأخرى هو اضطرار قوى الغابة القديمة إلى مغادرة ممتلكاتها! في أنحاء الغابة، وتركها للنسر الأصلع لكي يكون السيد الجديد فيها، وكان النسر العجوز قد وضعني في مكاني لكي أكون عينه في حال غيابه وانشغاله بتهيئة الظروف اللازمة للاحتفاظ بما يمتلكه هنا، ولكن أوان رحيله حان بسرعة لم يتوقعها، فانتقلت ملكيتي إلى النسر الأصلع ضمن ميراثه من سلفه، فقرر هذا أن أستمر في مكاني لكي أؤدي نفس المهمة التي هيأتني لها النسور، ولكن لحسابه الخاص هو، هذه المرة، أو لحساب الغراب إذا ما توخينا الدقة فيما نقول.)
عندما سكت الأفعوان بعد ذلك ليستعيد أنفاسه التي كانت قد تسارعت وهو يتحدث بإنفعال واضح، قلت متسائلا:
ـ ولكن لم يرغب النسر الأصلع، أو الغراب على الأصح بأن يحتفظ بمناطق نفوذ تحت الأرض؟!
التفت إلي مسرعا وتطلع في وجهي قليلا قبل أن يقول:
ـ وأخيرا، سؤال ذكي! جيد، جيد جدا يا ولدي، لقد قلت لك أن بلادكم تقع تحت بلاد النعام، بل أنتم نعامات في الأصل، لا، لا تحاول أن تعترض، فقط اسمعني، إن الأنفاق التي تحفرونها أنتم تجعل الأرض تنهار تحت النعامات، ولذلك كان يجب أن أكون أنا موجودا لكي أنسق جهودكم في هذا المجال، وبعد إنجاز هذا كان لا بد من الاستمرار بمراقبتها لفرض القيد عليها باستمرار. أتعرف؟ لقد رأيت عجبا في تعامل النسر الأصلع مع النعامات! فهو عندما يغضب من الدببة، يبادر إلى ضرب النعامات، وعندما يسوءه تصرف البوازي، يسحق النعامات، بل هو عندما يهينه جده، يصب جام غضبه على النعامات! ومن السخرية أن نعرف أن كل الحيوانات المعدّة للذبح يجب أن تسمّن إلا النعامات فهي طوال عمرها تضوّر جوعا قبل أن تذبح على يد الغربان ذراع النسر الأصلع الطولى في المنطقة!!!
صحت عندها من عجب:
ـ ولكن! لماذا؟!
ـ لأن الغراب وبكل بساطة كان طوال عمره يحقد على الصقور.
ـ الصقور!!!
ـ نعم الصقور، أجداد النعام.
ـ ما هذا؟! الخلدة هم نعامات بالأصل، والصقور أجداد للنعامات!!! أتريد أن تقول،
فقاطعني بنزق قائلا:
ـ أنا لا أريد القول، بل قلت، ولك أن تصدق ما تشاء.
ثم أضاف بعد قليل وبصوت أهدأ:
(ـ أنظر، أنا أعرف أن ما أقول صعب التصديق، ولكنه الحقيقة ويجب أن تصدقني، أما الآن فدعنا نكمل قصتنا فعندما بدأت فلول النسور والديكة بالانسحاب من مستعمراتها في الشرق بالتدريج بعد أن سبقتها الذئاب إلى ذلك، بادر النسر الأصلع بالذهاب إلى جده الغراب العجوز زائرا ليستشيره في بعض ما بدا له من أمور، فوجده مجتمعا بمجموعة من الببغاوات والعنادل والنسانيس! فأنتظر حتى انفضّ ذلك الاجتماع الغريب، وحالما اختلى بجدّه سأله باستغراب شديد:
ـ أمرك غريب يا جدي! تدور أحداث هائلة في الغابة وأنت تزجي الوقت برفقة هذه المجموعة الغريبة من الحيوانات التافهة!!!
ابتسم الجدّ المحب برقة وقال:
ـ آه لقد أزفّ الوقت الذي بدأت تعلمني فيه كيف يمكن أن أقضي أوقاتي إذا؟! لا بأس يا سبطي العزيز، ولكن هذه المجموعة التافهة من الحيوانات كما تقول ستكون هي الجيش الذي نغزو به الغابة في الغد القريب.
صاح النسر بتعجب شديد:
ـ ماذا؟! جيش! أي نوع من الجيوش سيكون هذا يا جدي؟
قال الغراب بصبر:
ـ أعذرني يا سبطي فإن مهمة احتلال الغابة بأكملها أهون علي من محاولة إفهامك ما أفكر به، ولكن اخبرني الآن بالسبب الذي دعاك إلى زيارتي.
لم يشأ النسر إغضاب جده لأنه كان بأمس الحاجة إلى مشورته في تلك اللحظات، فتغاضى عن مدلولات كلامه وقال:
ـ ألم تسمع بانسحاب نسور الغابة وديوكها التدريجي من بلاد الشرق التي كانت تحتلها من قبل؟
ـ طبعا سمعت، ثم ماذا؟
ـ ثم ماذا؟! ألا يجدر بنا أن نبادر إلى إرسال جيوشنا للحلول محل الجيوش المنسحبة من تلك البلاد الغنية؟
انفجر عندها الغراب بضحك صاخب وقال:
ـ يا لك من سبط محب يا عزيزي، فأنت تصر على إضحاك جدك العجوز في كل مرة تتكلم فيها معه، لم أكن أتوقع أن يكون ابن جرجي الثقيل الظل بمثل هذه اللطافة.
في هذه المرة لم يستطع الأصلع أن يسيطر على غضبه فصاح بحدة:
ـ لقد طلبت منك أكثر من مرة ألا تذكر أبي المرحوم بسوء.
فصاح الغراب بغضب أشد:
ـ وهل تتوقع مني أن ألتزم بأوامرك أيها الأخرق المأفون؟
فقال النسر وقد خالطت صوته نبرات التذلل:
ـ ولكن يا جدي، ما هذا؟ ألجأ إليك لطلب المشورة فتقابلني بالتهجم والصراخ!
فقال الغراب بصوت أقل حدّة:
ـ وما الذي أستطيع فعله وأنت لا تفهم أنني أعمل بأقصى طاقتي لتخفيف ضغوط الحكم عنك بأخذ زمام المبادرة بنفسي لكي أريحك، ولكن على كل حال، قل لي ما الذي تريده مني هذه المرة؟
ـ ولكني قلت لك، ألا يستحسن بنا أن نرسل جيوشنا لتحل محل جيوش النسور والديوك في بلدان الشرق البعيد؟
نظر الغراب إلى سبطه ثم قال بعتب:
ـ ألم تفهم يا بني بعد أنه قد آن لهذا الطراز من التعامل الدولي أن يختفي؟ ثم أيليق بنا ونحن أمة عظيمة أن نقلد الآخرين في الطرق التي كانوا يتبعونها لمعاملة غيرهم من الأمم؟
شهق النسر من فرط المفاجأة وقال:
ـ يا لأسد يا جدي! أتريد القول بأنك بتّ تؤمن فعلا بالشعارات الكاذبة التي رفعناها عن حرية الآخرين في تقرير مصيرهم وغيرها من التفاهات التي كنا نجمّل صورتنا بها في أعينهم؟!
قهقه الغراب وقال:
ـ بل أقصد يا عزيزي أننا سوف نحتل الغابة بأجمعها ونحن جالسان على قمة هذا الجبل، ومن دون أن نحرك قواتنا إلا بالحد الأدنى من التحركات الضرورية.
ـ ولكن كيف يمكننا ذلك؟!
ـ لقد قلت لك لا تشغل بالك بذلك فجدك موجود ولتنم أنت رغدا، أما الآن فاتركني لأني لم أكمل لقاءاتي المهمة لهذا اليوم.
قال النسر بتردد:
ـ ولكن!
ولكن جده صاح بنفاد صبر:
ـ لم لا تريد أن ترتاح وتريحني يا بني؟
فأنسحب النسر بصمت وقد بانت على وجهه علامات الخيبة والحيرة، وما أن إختفى حتى طلب الغراب أحد معاونيه الواقفين بالقرب من بابه طوال الوقت وقال له بلهجة آمرة:
ـ ليدخل علي الخفاش السمين على الفور.
وسرعان ما دخل عليه خفاش سمين جدا وصوت أنفاسه المتسارعة بسبب طيرانه المجهِد يسبقه، كان خفاشا مهيبا في نظر الخفافيش لا على الجبل فحسب، بل في أنحاء الغابة نفسها لأنه كان عميد الخفافيش جميعا، ولكنه ما أن أصبح أمام الغراب حتى خرّ ساجدا أمامه بكل تذلل وضراعة! فقد كان واحدا من أوائل الخفافيش التي ربّاها هذا الغراب الخبيث ولذلك كان هو خير من يعرف أن استمراره في النعيم الذي كان يرفل به واستمراره في حياته، لا في عمله فقط، مرهون برضا هذا الغراب الضبعي الرهيب، عنه!!! قال الغراب من دون أن يكلف نفسه عناء أن يطلب منه النهوض من سجوده:
ـ هل نفذت ما سبق وأن طلبته منك؟
قال الخفاش وهو يغالب تهدج صوته بسبب الرهبة وتسارع أنفاسه:
ـ بالحر، ف الـ، واحد، سيدي.
ـ يجب أن تفهم أن المرحلة المقبلة لا تحتمل الأخطاء السخيفة، فالرهان كبير هذه المرة، إما الكل أو لاشيء، فإياك والخطأ لأنك تعرف عواقبه، أليس كذلك؟
ـ نعم، نعم يا سيدي، ولكن هذه الهداهد،
ـ دعك منها الآن لأن صوتها سيضيع في الجلبة التي سنحدثها بخفافيشنا المنتشرة في كل مكان، كما أن لي مخططي الخاص لهذه الطيور المزعجة ولكن عندما يحين الوقت، أما الآن فأعدّ غرفة العمليات ولتكن حاضرة للطواريء.
ـ الطواريء؟!
ـ نعم، آه، أقصد عندما تكون هناك أزمات تستدعي استعراضا لقوتنا نرهب به عدونا قبل أن نستخدم قوّاتنا فعلا، فنحن نريد أن نكثف مظاهر قوتنا إلى الحد الذي تكوّن فيه ضغطا سياسيا هائلا يجعل المواقف المعارضة تنصهر بمرور الوقت لتصبح جزءا من الإرادة الجبلية، أو بمعنى آخر أن نستفيد من الحقيقة الافتراضية قبل أن نري خصومنا حقيقتنا التي هي أقل من تلك بكل تأكيد، وبناء هذه الحقيقة الافتراضية يعتمد عليك بالأساس فأنت رأس الحربة في هذه الحرب غير المرئية، وعليك أن تستفيد من كل الأسلحة المتاحة لك من خفافيش ونسانيس وببغاوات وعنادل، وبالمناسبة يجب أن تستفيد من سحر قراءة الأفكار وتوارد الخواطر الذي طوره سحرتنا واستخدمته الأفاعي في مهامها التجسسية بكل نجاح لأنه اختزل المسافات التي كانت تقطعها مئات الأفاعي بسرعة لنقل الأخبار، فقد أصبح بامكاننا أن نعرف ما يحدث في أقاصي الغابة بعد مرور دقائق من حدوثه لأن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من ثعبانين أو ثلاثة يتواصلون بطريقة توارد الخواطر حتى يصل إلينا، وبنفس الطريقة يمكنك أن تنقل ما تريد من أوامر أو أخبار مفبركة إلى جميع أنحاء الغابة.
ـ نعم يا سيدي، ولكني لم أفهم ما الذي يمكن أن أفعله بالنسانيس والببغاوات في زمن الحرب؟!
ـ لقد قلت لك حقيقة افتراضية، وهذا يعني أن حربك بدأت منذ الآن وبغض النظر عن مفهوم الحروب التقليدي، قل لي أتعرف لماذا تعبد الحيوانات أسد؟
ـ طبعا لأنه خلقهم، أليس كذلك؟
ـ خطأ، بل هم الذين اختلقوه، فما هو إلا فكرة، ودليلي على ذلك أنهم تصوروه حيوانا مثلهم له سيقان وذيل ويكره مثلهم ويحب، بل ويتقاتل أيضا، ويختار منهم فئة ليكونوا عباده المفضلين! كلا يا فاهم إن هذا لا يمكن أن يكون حال الخالق، بل هم اختلقوا صورة لحيوان أسطوري ليعبدوه، أو ليعبدوا القوة التي يوحي بها إليهم وليتوقوا إلى الغابة السحرية التي تصوروا أنه يعيش فيها، فهم لا يعبدون إلا القوة التي ترهبهم ولا يتوقون إلا إلى ما هو ليس في متناول أيديهم، وأنا أريد أن نكون نحن أسد هذه الغابة ويكون جبلنا هو الغابة السحرية التي يحلمون بها، ومثل هذا الأمر يحتاج إلى عمل دؤوب في السلم والحرب، وتذكر دائما أنك إذا ما أردت أن تستميل الآخرين فخاطب غرائزهم لا عقولهم لأن الغريزة هي التي تسيّر الأكثرية، أما أصحاب العقول فلا شأن لك بهم لأن ادعاءاتك لن تنطلي عليهم. ولذلك يجب أن تركز في فترات الهدوء على تلميع صورة النسانيس التي ترقص وتمزح وتقنع الحيوانات بالأكاذيب، والببغاوات التي تفتنهم بأشكالها التي يزيدها سحرا في مخيلاتهم حديث خفافيشك المستمر عنها، والكروانات والعنادل التي سنستغل أصواتها لتمرير ما نريد من أفكار إلى عقول الآخرين في نفس الوقت الذي نجعل منها نماذج باهرة لما تريد الحيوانات أن تكونها.
سكت الغراب قليلا ليسترد هدوء أنفاسه قبل أن يقول:
ـ هيا اذهب الآن ولا تضع المزيد من وقتي الثمين وتذكر أن توصي خفافيشك أن تخبر الحيوانات بكل شيء يحدث في جبلنا هذا، وخاصة ما يخص الأعمال المجيدة التي تنجزها السلحفاة اللعوب هنا، لا تنسَ، كل شيء، كل شيء ما عدا الحقيقة بالطبع.
نهض الخفاش ليغادر كما أمره سيده ولكنه تذكر فجأة أمرا ما فتساءل:
ـ وماذا عن الداخل؟
ـ وما به الداخل؟!
ـ أقصد أبناء شعب الجبل، أليس من المفروض بنا أن نبرر لهم سياساتنا في الخارج؟ كما تنص اللوائح التي وضعت أنت بنفسك ديباجاتها، فهل نكذب عليهم؟
قال الغراب على الفور:
ـ بل يجب أن لا نكذب عليهم، ألا تكفيهم الأكاذيب التي يسمعونها من حفيدي في يوم تنصيبه رئيسا كل عدة سنوات؟
اهتزّ جسد الخفاش الضخم وهو يقاوم رغبته في الضحك وقال:
ـ كل عدة سنوات أم عدة،
ولكن الغراب رمقه شزرا فأمسك عن الكلام خوفا، فأكمل الغراب:
ـ لا تكذب، ولكن قدم لهم الحقائق من وجهة نظرنا نحن، و، و، حاول أن تخفي عنهم بعض ما لا يجب أن يعرفوه، هل إخفاء جزء من الحقيقة يعتبر كذبا؟
فقال الخفاش بحماس:
ـ كلا يا سيدي، بل هو ذكاء.
فقال الغراب بارتياح ظاهر:
ـ حسنا، جيد، جيد.
ولكن الخفاش تساءل مرة أخرى:
ـ ولكن هناك أشياء لا يمكن إخفاءها مثل الحروب، وما يحدث في دولة الغربان، المحترمين، يا سيدي!
فصاح الغراب ثائرا:
ـ ويحك، لا أم لك، أتقصد أنك قد أخبرتهم أن تلك البلاد كانت للنعام قبل أن يشرفّها الغربان باحتلالها؟
قال الخفاش بصوت متهدج:
ـ كلا يا سيدي، ولكني أقصد أن مهمة إخفاء هذا الأمر صعبة جدا بوجود الهداهد، يا سيدي.
ـ آه، فهمت، نعم، نعم، الهداهد، ولكن، لا تهتم فالشعب ذاكرته ضعيفة ولن يبقى فيها إلا ما سنظل نردده عليه، أما الحروب، فيجب أن تعرف أن معرفة الآخرين بحقيقتها لن يضرنا بشيء، بل هو لصالحنا لأنه يجعل الآخرين يخافون منا، ولكن تذكر دائما أن أهم شيء هو أن لا نقرّ بالحقيقة التي يعرفها الجميع علنا، أن هذه هي أصول اللعبة، هل فهمت؟ هيا اذهب.
ما إن غادر الخفاش حتى طلب الغراب معاونه مرة أخرى وقال:
ـ آتوني بالبومة على الفور.
ولم يمر وقت طويل حتى دخلت البومة وقد زاد الخوف وجهها الأصفر اصفرارا، وقالت بصوت متهدج:
ـ خيرا يا سيد الجبل العظيم؟!
وقعت كلماتها هذه موقعا حسنا في نفسه فقال بلين:
ـ لا تخافي أيتها البومة العزيزة فقد أرسلت في طلبك لأني في حاجة إلى حكمتك في إدارة شأن عظيم من شؤون دولتنا التي ستكون عن قريب، الأعظم.
شعرت البومة بالارتياح بعد زوال خوفها بسبب الاستدعاء المفاجيء، فقالت:
ـ قل يا سيدي وستجدني كلي آذان صاغية.
ـ حسنا، دعيني أسألك أولا، هل تعرفين بوجود شجرة دائمة الخضرة في الجبل لا يوجد مثيل لها في الغابة أبدا؟
فكرت البومة قليلا قبل أن تقول:
ـ بالطبع، هي شجرة الأسى.
ـ عوفيت أيتها الذكية، نعم هي شجرة الأسى التي أقصدها، أريد منك أن تكوني المسؤولة عنها في جميع أنحاء الجبل، ولا تقطف منها ورقة واحدة إلا بمعرفتك، وبأمر مني، وستكون هناك قوّات من خيرة مقاتلي الجبل بإمرتك لحراستها.
قالت البومة باستغراب شديد:
ـ أمرك مطاع يا سيدي، ولكنها مجرد شجرة تافهة، فهي لا تثمر ومنظرها قبيح يبعث الكآبة في النفس!!!
فقال الغراب بحدة:
ـ وهل تصورت أني قد اخترتها لكي أرسل أوراقها باقات محبة لحبيبتي؟ نعم أنا أعرف ما هي، ولكني اخترتها لندرتها واقتصار وجودها على الجبل لأن أوراقها ستكون العملة الرسمية في الجبل، ومن بعده في الغابة جمعاء.
ـ في الغابة جمعاء! ولكن عملة نسور الغابة الفحمية هي التي،
ـ أنسي أمرها يا عزيزتي، فقد آن أوان زوال الفحم بعد أن أزف عصر أوراق الأسى.
قالت البومة وقد بدا الشك في نبرات صوتها بالرغم منها:
ـ ولكن كيف سنفرضها على الآخرين بالرغم منهم، فهي سامة كما تعرف، و إلا لكانت حيوانات الجبل النباتية قد أكلتها؟!
فقال الغراب بصبر:
ـ هيا يا عزيزتي لا تجعليني أغضب منك منذ البداية فأنا أكره الأسئلة الكثيرة، وعلى كل حال فأعلمي أننا سنفرضها بكل الوسائل، قولي لي، هل نحتاج في الجبل إلى جلب شيء من الغابة؟
ـ كلا فكل شيء متوفر لنا في هذا الجبل العظيم، بل أن الغابة هي التي تشتري ما تفتقر إليه منا.
ـ بالضبط، وهذا هو أول أساس سنستند إليه في فرض هذه الأوراق عليهم لأننا لن نبيعهم شيئا بعد الآن إلا بعملتنا الرسمية هذه وهو ما سيجعلهم يتهافتون على شرائها منا بالأحجار الكريمة المتوفرة لديهم والتي سنكنزها هنا في هذه البلاد.
ـ ولكن لم لا نبيعهم الأشياء بهذه الأحجار بدلا من،
فقال الغراب بغضب هذه المرة:
ـ ويقولون عنك حكيمة! لا أدري أي غبي تصور هذا! أتتصورين أن اكتفاءنا هذا سيدوم إلى الأبد، خاصة وأننا نستهلك مواردنا بكل شراهة؟! كلا بل سيحل علينا يوم نضطر فيه إلى شراء ما نحتاجه من الآخرين، ولمثل هذا اليوم أنا أتهيأ، هيا اذهبي لتنفيذ الأمر ودعيني أهتم بشؤون هذه الدولة.
وأنت أيضا يا ولدي اذهب الآن لأهتم أنا أيضا بشؤون دولتي)
في اليوم التالي قال لي الأفعوان:
( ـ بعد تغير الظروف الدولية في الغابة، سارع ملك النسور الذي كان يتمتع بواقعية تفرض عليه أن يدرك مدى حراجة موقفه لأن مصيره أصبح ملك جناح النسر الأصلع إلى تقديم فروض الطاعة والاحترام له بكل الطرق الممكنة، ولكن الأصلع لم يبد عليه أنه قد تقبل تلك الفروض، فقضى الملك أوقاتا صعبة وهو يفكر بالاحتمالات السيئة التي قد يواجهها إذا لم يرض عنه هذا السيد القوي الجديد، وفي لحظة يأس قرر أن يلقي بنفسه في أحضان الدب القوي رغم اختلاف العقائد الصارخ فيما بينهما! وكاد أن ينفذ قراره هذا، لولا أن رسولا من النسر الأصلع أتاه في اللحظة الأخيرة يبلغه برغبة النسر في لقاءه على قمة الجبل!!!
وصل النسر العجوز إلى الجبل بعد رحلة مجهدة كادت أن تسقيه بمصاعبها كأس النفوق، وبعد أن ارتاح لبعض الوقت بدأ محاولات اللقاء بالنسر الأصلع، ولكن المواعيد أرجئت وكثرت الوعود الدبلوماسية ولم يتحقق اللقاء إلا بعد لأي!!! وعندما دخل نسر الغابة على نسر الجبل، ابن عدوه القديم، جرجي، الجالس خلف مكتبه الفخم، لم يكلف الأخير نفسه عناء الوقوف لتلقي ضيفه الكبير! بل قال عندما رآه بكل برود:
ـ أهلا، أيها الـ، ملك.
سرت رعشة في ظهر الملك العجوز، وكادت دموعه أن تنفجر من بؤس هذا اللقاء الذي لم يتوقعه حتى وهو في أشد حالاته تشاؤما!!! ولكنه تحامل على نفسه بصعوبة، وقال:
ـ سلاما أيها الرئيس.
كان الرئيس قد طالب جده عندما تناقشا بشأن هذا النسر المتهالك، أن يحيلاه على التقاعد، أو حتى إحالته إلى المحكمة التي أنشأتها القوى المنتصرة في الحرب لمحاكمة من يشاءون، كمجرم حرب!!!، ولكن الغراب رفض ذلك لأنه كان يعرف مسبقا أنه سيحتاج هذا العجوز المحنك في يوم ما، فهو رغم خبثه، نسر في النهاية! ولكنه مع ذلك أصر على حضوره بنفسه إلى الجبل لكي يتمتع بإذلاله قليلا، قال الرئيس وهو يضحك باستخفاف:
ـ سلاما! أتقول سلاما في بلد يتخذ كلمة الحرب تحية له؟! كان الأحرى بك أن تقول حربا، فأفنيك ومملكتك في غمضة عين.
ثم أعقب قوله هذا بالضحك الصاخب ليعطي ضيفه انطباعا بأنه إنما كان يمزح، وكان هذا هو جلّ ما يعرفه من الأصول الدبلوماسية!!!، فهم النسر المحنك ذلك على الفور، ولكنه قال وهو يكاد يرتجف من شدة الحنق:
ـ لقد سمعت قبل أن آتي إلى هنا عن خفة الدم التي تتمتعون بها يا نسور الجبل.
فقال الأصلع بسرعة بديهية غريبة عنه:
ـ وهو ما لا تتمتعون به يا نسور الغابة الثقيلي الظل.
وضحك مرة أخرى، ولكن العجوز لم يجبه هذه المرة لأن حنقه كان قد وصل إلى درجاته القصوى، وكاد أن يرتكب حماقة تكلفه مملكته لولا أن صوتا جلجل في أنحاء المكتب قائلا:
ـ ما هكذا يعامل الملوك يا سبطي العزيز.
التفت الملك إلى مصدر الصوت يسبقه شعور بالامتنان لهذا الذي يفهم في الأصول، فرأى غرابا عجوزا يتقدم نحوه! فخالط الانزعاج شعوره بالامتنان! فيما بان الارتباك على النسر الأصلع وقال متمتما:
ـ ولكني كنت أمازحه يا جدي!
ـ أعرف ذلك يا عزيزي، ولكن هناك أصول يجب أن تراعيها مع الملوك.
ثم التفت إلى الملك وقال:
ـ أرحب بك أيها الملك في دولة الجبل.
فقال العجوز وهو يتطلع إلى الأصلع وكأنه يستفسر عن هوية القادم الجديد:
ـ أشكرك أيها السيد المهذب!.
فقال النسر الأصلع:
ـ أقدم لك جدي، الحيوان الأهم في دولتنا، جدي أقدم لك ملك نسور الغابة.
وذلك بناءا على اتفاق مسبق بين الغراب وسبطه! فقال الغراب إثر ذلك:
ـ نعم يا سبطي، ولكن كل منا يعرف الآخر منذ زمن بعيد.
أجفل الملك عندما سمع هذا لأنه لم يكن قد تعرف على وزيره القديم بعد في هذا الغراب العجوز، فقال بأدب مصطنع:
ـ هل تلاقينا من قبل يا سيدي العزيز؟!
فقال الغراب ببرود مقصود:
ـ أيعني هذا أن جلالة الملك قد بلغ من العمر ما جعله ينسى وزيره القديم؟
فمادت الأرض بالملك المبهوت وكاد يسقط على الأرض من شدة المفاجأة! وكان هذا هو جل ما يريده الغراب الخبيث! فغمز بعينه لسبطه الذي قال على الفور:
ـ سأتركك الآن مع جدي لتعقدا ما تريدان من اتفاقيات ستكون سارية المفعول فور إبرامها، فهو حائز على رضا الحكومة والشعب.
ثم غادر المكتب ليترك الملك شبه المشلول في براثن الغراب التي لا ترحم!.
قال الغراب وهو يبتسم برياء:
ـ والآن يا عزيزي الملك ما هي طلباتك؟
فقال الملك الذي كان لم يزل تحت تأثير المفاجأة المذهلة التي لم يكن يتوقع حدوثها حتى في كوابيسه، في سره:
ـ حان وقت الحساب العسير إذا أيها العجوز!
ثم بصوت حاول أن يضمنه أقصى ما يستطيعه من تهذيب:
ـ أريد قبل أن أقول شيئا، أن أطلب منك أن نحاول تناسي الماضي البعيد أيها المبجّل.
فقال الغراب في سره:
ـ يا للمخادع اللعين.
ثم بأدب جم لم يكن من صفاته بكل تأكيد:
ـ ولم قد ننسى الماضي وليس فيه ما يمكن أن يسيء إلى علاقتنا؟
فأجفل الملك مرة أخرى ونظر في عيني الغراب مباشرة عسى أن يستكشف فيه نياته ولكن ذلك الوجه الجامد لم يشي له بشيء، فقال في سره:
ـ قضي علي إذا!
ولم ينبس ببنت شفة في البدء لأنه لم يجرؤ على قول شيء في ظل غياب المعرفة بنيات هذا العدو الرهيب الذي برز له من طيات الماضي المنسي!!! فقال الغراب بهدوء وأدب:
ـ أوامرك؟!
ظن الملك أن هذا هو بداية الانتقام، فسرت رعدة اجتاحت جسده بعنف قبل أن يقول بتضرع:
ـ أرجوك يا سيد غراب، فقد بلغت من العمر عتيا ولم أعد أحتمل الضغوطات، أصحيح أنت لا تجد في ماضينا ما يشين؟!
فقال الغراب بصوت تعمد أن لا يخفي اللوم فيه:
ـ عجبا يا جلالة الملك! أتراني كاذبا؟
فصاح الملك بتوسل واضطراب:
ـ ليغلفني الفناء إن كنت أرى هذا! فأنا لم أر فيك يوما غير الصدق والأمانة.
كاد الغراب أن يصيح من شدة الغضب، ولكنه شاء أن يستمر في تمثيل دوره حتى النهاية لأن المصالح بالنسبة له أهم من الانتقام بسبب مواقف شخصية أكل الدهر عليها وشرب، فقال بجد وهدوء:
ـ طلباتك إذا.
فقال الملك وهو لم يزل غير مصدق لما يراه من أدب الغراب:
ـ لا أريد غير الاستمرار في حكم مملكتي الصغيرة.
ـ والمطلوب منا؟
ـ الضمانات.
فقال الغراب بمكر ودهاء:
ـ وما دخلنا نحن بالضمانات؟
فتهالك الملك العجوز جالسا لأنه لم يعد يستطيع احتمال مكابدة وضعه وهو واقف، وقال في سره:
ـ يا لنعثل! أي شر تضمره لي أيها اللئيم؟!
ثم قال بصوت أرجفه الخوف والتوسل والاضطراب:
ـ كلـ، مة، منك، منكم، تكفي.
فقال الغراب:
ـ حسنا، ولكن ما الذي تقدمه لنا في المقابل؟
فقال الملك وقد بعث فيه الأمل الذي تجدد القوة والنشاط:
ـ الذي تشاؤونه.
فقال الغراب:
ـ نحن لا نريد منك شيئا، ولكننا نحتاج إلى دليل على صدق نواياك.
قال النسر العجوز باستغراب:
ـ دليل! هه؟ أط، أطلب أنت ما تريد وسأنفذ أنا!
ـ حسنا، سوقكم المالية.
ـ وما بها سوقنا المالية؟!
ـ أريد منك أن تخفف من نشاطها، وفي نفس الوقت أرجو أن تعيرنا بعض خبرائها لكي ينظموا أمر سوقنا الوليدة.
ـ ولكن، هذه، هذه خيانة لوطني!
وعندها فقط أسفر الغراب عن وجهه الحقيقي فصاح:
ـ هيا، دع عنك هذه الألفاظ الرنانة فهي تنفع للتسويق إلى الشعوب، لا إلينا، ثم، لم هذه المكابرة وأنت تعرف يقينا أن شمس ديكتاتوريتكم آيلة إلى أفول، وهذا يعني أن سوقكم هذه ستغلق لأنكم بغياب القوة لن تستطيعوا أن تصدروا هراءكم الذي تعودتم على تصديره من خلالها.
شعر الملك أن كلام الغراب هو الحقيقة، ولكنه قال بكل غطرسة، وهو يمتلك من هذه الفضيلة مقدارا كبيرا كما هو شأن النسور:
ـ كلا، لن أسمح لهذا أن يحدث ما دمت على قيد الحياة.
فقال الغراب بهدوء حسده عليه حتى النسر العجوز الذي اشتهر بالهدوء!!!:
ـ آه، هذا يعني أنك قد اخترت الدرب الصعب لكلينا.
فقال النسر بتوجس:
ـ ما الذي تقصد؟!
ـ أقصد أني سأنال ما أريد من غيرك من ملوك النسور وهم كثر كما تعرف.
ـ ماذا؟! ولكني ملك النسور الوحيد!
ولكن الغراب قهقه ساخرا وقال:
ـ أمتأكد أنت؟ هل نسيت ورثة العرش الذين تركهم جدك المجنون؟
ظهر الانزعاج واضحا على محيا النسر المفخوخ وقال:
ـ آه، تلك الإشاعات القديمة، ليلقي نعثل روحي في أعماق جحيمه إن لم تكن أنت وراء تلفيقها.
تجاهل الغراب الملاحظة الأخيرة عن عمد وقال:
ـ هيا، أتعتقد أنك اللقيط الوحيد الذي يمكن أن يدّعي مُلكَ النسور؟
فصاح النسر بحنق عظيم:
ـ راقب ألفاظك يا سيد، أنسيت أنك إنما تخاطب ملكا من الملوك؟!
فقال الغراب باستخفاف:
ـ آه، لقد نسيت أنكم تفضلون الطريقة المحافظة التي تتقنونها في توزيع فسقكم وفجوركم فيما بينكم وللآخرين، أقول لك، عذرا يا جلالة الملك، ولكنك ابن عاهرة أثيم، فتقول لي، يجب أن لا تستخدم مثل هذه الألفاظ يا سيدي العزيز، وإذا كان لا بد منها فهلا قلت ابن حرام، لا ابن عاهرة، من فضلك! هيا فنحن هنا قد قرفنا من نفاقكم هذا الذي عانينا منه طويلا وأصبحنا نتصرف ونتكلم كما يحلو لنا، وبالطريقة التي تروق لنا بعيدا عن أعرافكم البغيضة.
أفحم الملك، فلم يلح في هذا الموضوع، بل قال في محاولة يائسة للخروج من الفخ الذي وضعه فيه الغراب:
ـ ولكن هؤلاء الأفاقين لن يستطيعوا أن يثبتوا دعواهم.
ـ أمتأكد أنت من أن الكاهن الأكبر الذي هو الوحيد الذي يستطيع أن يبت في مثل هذه الأمور لن يحكم لصالحهم؟
اتّسعت عينا الملك من شدة الخوف لأنه كان يعرف جيدا أن الغراب هو الذي يحرك الكاهن الأكبر، فقال متمتما:
ـ و، و، لكـ، لكن!
فقال الغراب بنفاد صبر:
ـ هيا، فأنت تعرف جيدا أننا سننال في النهاية ما نريد، فلم لا تسهل الأمر علينا وعلى نفسك، وتستفيد من المنح الكريمة التي سنمنحك إياها.
بان الضياع على النسر وغاب في لجة عميقة من التفكير الطويل، كان الغراب إبان ذلك كنسر يراقب فريسته من دون أن تدري، وبعد مرور وقت طويل، قال ملك النسور:
ـ حسنا،
فكانت (حسنا) هذه هي توقيع ملك نسور الغابة على الوثيقة التي جعلت منه تابعا ذليلا، لا للنسر الأصلع كما قد يبدو من ظاهر الأمور بالنسبة لمن لا يعرفون بواطنها، بل للغراب، وزيره، وخادمه الأمين السابق!!!)
سكت الأفعوان قليلا ورفع رأسه ليتطلع إلى الشمس ليحدد من موقعها الوقت، ثم قال:
( وعودة إلى الدب الطائر أقول أنه عندما امتلك سر سحر "عش الغراب" فرض نفسه كقوة مقابلة للنسر الأصلع، الشقي القادم من الجبل فبدأ بذلك ما سمي فيما بعد بالسلم الحار والذي أسميه أنا بالحرب المؤدبة الذي كان ظاهرها هو التنافس والخصام وباطنها هو الاتفاق على اقتسام الغابة بين الدولتين الكبريين، دولة الجبل ودولة الدببة، أو بين حلفي العسل والنحل، ولكن هذا لم يمنع النسر الأصلع من إضمار الكره الشديد لحليفه اللدود وهو ما كان الدب الطائر يشعر به بالضبط تجاهه بالمقابل. ولكن ولقول الحق فقط، يجب أن نعترف أن الدب عامل الحيوانات الأخرى بشكل أفضل من النسر الأصلع بكثير، هذا إذا غفرنا له بعض الهفوات، أو بالأحرى الأخطاء الكبرى، وكان هذا الاختلاف تعبيرا واضحا عن الفرق في العقائد ما بين الدب والنسر، وأنا شخصيا أميل إلى البحث عن الأسس الاقتصادية للعقائد المختلفة التي تعمّ أنحاء الغابة, ولذلك أقول إن واقعية نظرية المقامرة التي اعتمدها الغراب الماكر وطبقها على مستوى دولة الجبل، والتي تتلخص في تحرير رأس المال من سيطرة الدولة وتوزيعه على مجموعة صغيرة من الحيوانات تكون هي القوى التي تسير الدولة من وراء الكواليس، تغلبت على مثالية نظرية الرؤى التي استنبطها الدب من معاناته الشخصية طوال السنين التي ظل فيها عبدا للنسور، والتي أجبرت الدب على تركيز الثروات في يده لكي يضمن عدالة توزيعها على الجميع من دون ظلم، في النهاية، رغم ضحايا الأولى الذين بلغ تعدادهم الملايين من الحيوانات المعدمة، وتأمين الثانية سبل الحياة للحيوانات ولو بالحد الأدنى!!! ولكن هكذا جبلت معظم الحيوانات التي لا ترى من الفكرة إلا جانبها المشرق، فتحلم بالعسل، وتُسقط لسعات النحل، المميتة أحيانا، من حساباتها!!!.
نعم، لقد سقط الدب لأنه خاطب عقول الحيوانات، فيما غازل الغراب غرائزها، فكان النصر له! ولم يقتصر تأثير الجانب الاقتصادي على الجو العام لمعركة البقاء الشرسة التي خاضها كل من النسر والدب فيما بينهما، وأنتهت بسقوط الدب وانتصار الغراب!!! بل كان هو الفيصل في النتيجة النهائية لها، بعدما ابتلع الدب طعم القبول بحرب الاستنزاف التي فرضت عليه!!! رغم استحالة انتصاره فيها لأنه كان مستهلكا للأموال، أكثر منه جامعا لها، فهو مثلا أستهلك معظم احتياطات الكمء الموجودة في بلاده مسبقا، لكي يتعلم الطيران، كما أنه ورغم محاولته حلب بعض الدول الغنية التي كانت تتعامل معه، كان يبادر إلى مساعدة الدول المحتاجة حتى لو كان ذلك على حساب الدببة!، ، أما دولة الجبل الغنية أساسا، فقد كان أساس علاقتها بالدول الأخرى، امتصاص خيرات تلك الدول، وبغض النظر عن كونها غنية أو فقيرة "ما عدا الدول التي كان تقيمها هي لأغراضها الخاصة، طبعا"، رغم حرص الخفافيش على تصوير ذلك الامتصاص على أنه تقديم مساعدات للآخرين! أو عملية تبادل تجاري في أسوأ الأحوال!!!.
بعد عصر سحر "عش الغراب"، ابتدأ عصر "سبر أغوار المحيط"، فقد اكتشفت الحيوانات بعد توقف الحرب أن ما كان يحيط جزيرتهم، لم يكن فراغا كما كانوا يتصورون سابقا، بل كان كتلة هائلة من الماء الذي تعوم جزيرتهم فوقه، فبادرت دولة الجبل إلى محاولة اكتشاف ما يوجد تحت سطحه، فأسست وكالة "سام" للقيام بذلك، مرسلة بذلك رسالة تحد ضمنية إلى الدب الذي قبل التحدي مرة ثانية فدخل بكل ثقله في السباق للوصول إلى أعماق أكبر من المحيط! ومرة ثانية أثبت أنه منافس يخشى بأسه، بل أنه كان سباقا في الكثير من مراحل ذلك التنافس المثير، ولكن المميت له!!! وعندما طال وقت ذلك السباق، وبدأ القلق يتسرب إلى نفس النسر الأصلع، أوحى له جده بطرح فكرة تسليح المحيط!!! فقد اكتشفت كائنات حية في أعماق المحيط! ولاحظ السحرة، النسريون والدب، أنها كانت عاقلة، وذكية! أسموها " حيوانات دول فانية" في إشارة إلى أنها كانت من بقايا دول الحضارات السابقة التي كانت تسكن الجزيرة في الماضي السحيق، والتي دفعتها كارثة ما إلى اللجوء إلى أعماق المحيط للهرب من الفناء!!! فخرجت إلى الوجود بذلك خدعة برنامج حرب المحيط! الذي يهدف إلى تجنيد هذه الحيوانات الدولفينية" كما أصبحت تدعى فيما بعد" وتسليحها للدفاع عن الجزيرة، وكأن عدوها سيأتي من وراء المحيط اللانهائي، لا من جبلها نفسه!!!.
عندها أسقط في يد الدب، وقبل التحدي مرغما هذه المرة، لا راضيا! لأنه كان قد وعى أخيرا أنه كان يسير نحو الإفلاس باضطراد، في الوقت الذي كان عدوه النسر الأصلع فيه يزداد غنى! ولكنه كان لا يستطيع إلا القبول لأنه كان متأكدا من أن ذلك البرنامج قد وضع لحصاره من جهة المحيط، وهو ما لم يكن يقبل به أبدا.
ويبدو أنه قد قرر أن يخوض معركته الأخيرة بشجاعة تخلد أسمه في تأريخ الغابة فأزعج وهو في قتاله اليائس هذا خصمه! فلجأ النسر الأصلع في ذات يوم إلى جده شاكيا، وقال له:
ـ بات جهاز أمن الدب ينافس وكالتنا بل ويتفوق عليها أحيانا حتى في أعماق المحيط!!!
ـ نعم، ولكن لا بأس لأن صديقنا الثعبان أصبح رئيسا له.
ـ ولكن! من أين تعرف هذا الثعبان؟!
ضحك الغراب وقال:
ـ ومن غيري درّب هذه الثعابين على ما أصبحت تتقنه من أعمال لا يستطيع غيرها أداءها. والآن هيا اذهب ودعني أرتح ولا تقرفني بأسئلتك الغبية، ألا يمكنك أن تدبر أمورك من دون الالتجاء إلي؟
فاجأت الكلمات المهينة النسر الأصلع الذي كان قد صدق أنه رئيس بالفعل فصاح بنزق:
ـ ولكن يا جدي ليس من العدل أن تغرز شهوة السيطرة في أعماقي ثم تتركني وحدي أعاني من الضيق الشديد بسبب هذا الدب اللعين الذي حرمني لذيذ المنام.
ـ شهوة السيطرة! أي سيطرة تعني يا ولدي؟!
ـ السيطرة على الغابة، أليس هذا هو هدفنا؟
عندها حكّ الغراب رأسه، ثم قال وقد علت ابتسامة رياء منقاره المهتريء:
ـ أتصور يا عزيزي أن الوقت قد حان لوضع النقاط على بعض الحروف.
فقال النسر الأصلع باستغراب:
ـ أيّة نقاط، وأيّ حروف؟!
فقال الغراب بلين مخيف:
ـ قل لي أولا، هل شعرت يوما بأنك ترغب في شيء أو تحتاجه ولم يوفر لك؟
ـ كلا!
ـ حسنا فلترض بهذا ولا تطلب أكثر منه.
ـ لم أفهم؟!
ـ يا ولدي، أنت مجرد موظف، وإياك أن تطمع بما هو ليس لك.
ـ ماذا؟! موظف!!! ولكني رئيس البلاد!
فنعق الغراب بحزم:
ـ ومع ذلك موظف، أتريد أن تقال من منصبك منذ الغد؟
عندها شعر النسر المسكين بحراجة موقفه فآثر السكوت لأنه أصبح يعرف جده الملعون إلى درجة تجعله متأكدا من أنه يعني ما يقول، فقال الغراب وقد هدأت ثورته بعدما رأى انصياع سبطه مداعبا:
ـ لم تريد أن تحرم جدك من متعة ممارسة هذه اللعبة المثيرة التي بدأت تستهويه؟
استغلّ النسر سكون غضب جده فطرح السؤال الذي لم يجرؤ على طرحه منذ لحظات:
ـ ولكنك تقول "موظف" يا جدي! موظف عند من؟!
ـ ألم أقل لك مرات عديدة أن هناك أشياء لن تستطيع فهمها مهما حاولت؟ فأعمل على تنفيذ الأوامر التي تصدر إليك ولا تكثر من طرح الأسئلة.
وعندما قال النسر بإلحاح:
ـ ولكن يا جدي،
رمقه الغراب بحنق فألجم لسانه على الفور، فقال الغراب:
ـ أتعرف؟ لقد أقلقني هذا الدب في البداية، بل أغاظني، ولكني بمرور الوقت بدأت أتفاعل مع هذا التنافس الذي هو سجال بيننا الآن، ولكنه لن يستمر كذلك إلى الأبد، فلنستفد من هذا الأمر أعظم استفادة وفي النهاية لن يبقى غيرنا للسيطرة على الغابة ومقدراتها، أنا أعدك بذلك، أما الآن فهلا تتركني فقد نبهتني بسؤالك إلى أمر يجب أن أستعد له، ليحفظك أسد يا ولدي، اذهب.
فخرج النسر الأصلع حانقا، ولكن صاغرا!!! ليأتي بعد ذهابه بقليل النسر الرهيب، كبير الكمّائين في الغابة جمعاء، حسب أمر الغراب، وقبل أن يدخل الغرفة نزع النسر رهبته ليرتدي ثوب الذل والخضوع ليقابل به رب نعمته! قال الغراب عندما رآه داخلا عليه:
ـ ها قد أتيت يا كمّاء، قل لي ما هي أخبار الكمء وأسعاره في الغابة اليوم.
فقال النسر بصوت كاد أن يرتجف من الرهبة:
ـ إنها مرتفعة لأننا أردناها كذلك بعد أن أمرتنا بإفراغ بعض المخازن منها ببيع الكمء الذي كان فيها إلى بعض الدول في أقاصي الغابة.
ـ آه، نعم، لقد أمرت بذلك لأن تلك الدول كانت قد اشترت منا بعض أسرار السحر البسيطة وستكون بحاجة إلى ذلك الكمء بكل تأكيد، ولكن لا تنسى أن تعوض الكميات التي بيعت على الفور لأن مخازننا يجب أن تكون مليئة بالكمء دائما تحسبا للطواريء كما هي سياستنا.
ـ أمرك سيدي، سنفعل ذلك حالما نخفض الأسعار بعد وقت قصير.
فقال الغراب بارتياح:
ـ ممتاز، ممتاز، أرى أنك أصبحت تعرف واجباتك جيدا، ولكن قل لي، أتعاني من عدم تعاون أعضاء إتحاد الكمّائين معك؟
ـ كلا يا سيدي، ولكن هناك تمردات بسيطة من قبل بعض الكمّائين من خارج الإتحاد، ولكن لا بأس لأننا نعمل بالتنسيق مع وكالة الثعابين المركزية وسنزيح هؤلاء من سوق الكمء في الغابة بطريقة أو بأخرى، أو على الأقل نؤمّن شرورهم.
ـ حسنا، فأسمعني بعناية إذا، منذ اليوم لا يباع الكمء في جميع أنحاء الغابة إلا بالنقد الأسوي، وكل صفقة تعقد بنقد غيره توقف فورا ولا تنفذ حتى لو بالقوة.
ـ أمر سيدي، ولكن أتسمح لي بسؤال؟
فقال الغراب بضجر:
ـ أنت تعرف بأني لا أحب أن أسأل عندما أصدر الأوامر، ولكن مع ذلك، أنا أعرف سؤالك، ستسألني ما الذي سنستفيده من هذا، وجوابا أقول، إن هذا سيجعلهم يشترون عملتنا التي لا تكلفنا شيئا بالسعر الذي نفرضه وهذا يجعل لنا ربحا في كل صفقة كمء تعقد، وفي نفس الوقت لن يضرنا هذا بشيء لأننا سنبقى نشتريه بسعر أوراق الشجر كما كنا نفعل دائما، أفهمت؟
فقال النسر بتعجب لم يكلف نفسه عناء إخفائه:
ـ يا لأسد! لم لم تخطر هذه الفكرة ببال أحد قبلك يا سيدي؟!)
وكان هذا هو آخر ما قاله لي الأفعوان في ذلك اليوم لأنه أشار إلي برأسه لأنصرف، وبقى في مكانه صامتا يتأمل!!!
في اليوم التالي أتى الأفعوان مسرعا ليلقي علي تحية الصباح مبتسما وليقول على الفور!:
( ذات يوم دخل الغراب صومعة السلحفاة اللعوب وهو متنكر بزي قط وحشي! لكي لا يعرفه أحد! لم يكن يهمه أن يثير شكوك الحيوانات عندما يرون قطا يقفز في الطرقات كالجندب! فالمهم هو أن لا يعرفوا بأنه هو!!! وما أن رأى السلحفاة الشمطاء التي كانت توزع الأوامر الصارمة هنا وهناك من دون أن تنتبه لقدومه، حتى صاح:
ـ مولاتي
كانت هذه السلحفاة الأثرية قد بدأت درب العهر قبل قرنين أو أكثر، ولم تعد تتذكر إن كانت البداية بسبب الظروف كما قد يحدث ذلك أحيانا، أم أنها بدأت الدرب لأنها عشقته، ولكن من المؤكد أنها شعرت بالندم في أحيان كثيرة لأنها اختارته، ولكنها مع ذلك استمرت فيه حتى النهاية، عهرا وسمسرة. و العواهر تكتسب خبرات كثيرة في حياتها لأنها تتعامل مع الجانب المظلم من حياة الحيوانات، وهناك تكون الأمور أقرب إلى الحقيقة مقارنة بالجانب الظاهر من حياتها الذي تغلب عليه عادة ارتداء الأقنعة، ولكنها ورغم خبراتها هذه تبقى مخلوقات هشة وسريعة العطب عندما تتعامل مع الحيوانات الطبيعية " رغم أنها تتعامل مع الكثير من السلوكيات المنحرفة والتصرفات الشاذة في حياتها، من قبل الحيوانات التي ترضخ لنزواتها لأنها تمتلك الأموال، جواز السفر التقليدي إلى جسدها!!!" وذلك لأنها تبقى حتى آخر لحظة من حياتها تعاني من دونية ساحقة بسبب إحساسها بأنها لا تستطيع أن تكون أنثى طبيعية كما كانت، مرة أخرى، فيبقى هذا الأمر يهصرها في كل مرة ترى فيها أنثى تسير في الدرب دون خشية من الآخرين!!! ويمنعها من الاستفادة من خبراتها التي تراكمت على مر الأيام. وعندما إلتقى الغراب بالسلحفاة تآلفا فورا لأنه كان يعرف جيدا معنى أن يشعر الحيوان بدونية ساحقة، عاملها منذ البدء كأميرة حقيقية فملكها إلى الأبد، ولأنه هو الآخر كان يتعامل دوما مع الجانب المظلم من الحيوانات فقد استطاع منذ البداية أن يشكل معها ثنائيا خطيرا يظهر التكامل بأوضح صوره ما بين الجنس والمال وما يمكن أن يفعلاه في مواخير السياسة وكواليسها!
عندما رأته السلحفاة اللعوب قالت بسرور ظاهر:
ـ سيدي الغراب! واخجلتاه، فأنا لم أتهيأ لك كما ينبغي بعد.
فقد كانت لا تستقبل الزبائن البارزين إلا وهي بكامل زينتها بحكم العادة فقط، لأنها كانت تعرف أن تلك الزينة لم يعد بامكانها أن تخفي آثار عنت السنين على وجهها! فقال الغراب:
ـ بل أنت رائعة كما أنت ولم تزدك السنون إلا جمالا.
شعرت السلحفاة بالمزيد من الامتنان له رغم تأكدها من كذبه فقالت برقة:
ـ ما حاجة سيدي؟
فقد كان كلاهما من النوع العملي الذي يفضل الدخول في صلب الموضوع مباشرة، رغم أنهما لا يفعلان ذلك دائما!!! ولذلك قال هو من دون مقدمات:
ـ أنثى نسر تمتلك سرّ معبودتنا الكلبة بعمق وصدق، لا يبدو عليها انتمائها إلى هذا المكان، ولكنها معجونة بماء الضباع.
فكرت للحظات قبل أن تقول وقد بان السرور على وجهها:
ـ لدي بغيتك، وهي طازجة وشهية، فمتى تريدها؟
فصاح بفرح وحبور:
ـ على الفور؟.
بان أثر المفاجأة على وجه السلحفاة وقالت غير مصدقة:
ـ هنا!!!
تمعّن الغراب في وجهها للحظات وهو لا يستطيع أن يفقه ما عنته، ولكنه سرعان ما أغرق في ضحك صاخب وقال:
ـ عذرا يا حلوتي، ولكنها ليست لي، ولو أني لا أخفيك بأني أتمنى لو كانت كذلك، ولكن، أنت تعرفين حقيقة الحال.
فضحكت السلحفاة لضحكه وقالت:
ـ آه، فهمت، فهمت.
فقال الغراب في سره:
ـ لقد آن أوان تعليمك درسا في الطاعة يا سبطي العزيز.
بعد ذلك، عندما دخل البلبل الأحمر رسول المهمات الخاصة والمبعوث الشخصي لرئيس الدولة المسؤول عن التبليغات الأكثر خطورة وسرية، على الأفعوان مدير وكالة الثعابين، قال هذا في سره:
ـ يا لنعثل، ماذا الآن؟ أقتل رئيس؟ أم تدبير مؤامرة؟ أم حرب مسرحية؟!.
ولكن البلبل قال له:
ـ السيد الرئيس يريدك في مكتبه على الفور.
فشعر بالخوف لأن الأمر يبدو أخطر من كل تلك الاحتمالات بكل تأكيد، فبدأ بالزحف من فوره لكي لا يتأخر على رئيسه.
وعندما دخل بعد قليل على الرئيس في مكتبه، ألفاه قلقا لا يكاد أن يستقر في مكان فقال وهو يغالب دقات قلبه المتزايدة:
ـ في خدمتك سيدي الرئيس،
فقال الرئيس بلهفة:
ـ ها قد أتيت أيها الأفعوان الأمين، هيا اتخذ لنفسك مجلسا وأستمع لي بإمعان.
اقترب الأفعوان من رئيسه مضطربا لأنه كان يتوقع الأسوأ وحائرا لأنه لم يعرف كيف يجلس، وحتى إذا ما جلس، فعلى أي جزء من جسده سيفعل ذلك؟!. لم ينتبه الرئيس لحيرته لأنه كان مشغول البال بأمر جلل فقال:
ـ هناك موظفة جديدة في مكتبي، هي أنثى نسر، فهل تحققتم من هويتها قبل أن تدخل المكتب.
لم يغص قلب الأفعوان عميقا في جوفه لأن ذلك كان مستحيلا وهو في وضعه الأفقي ذاك، على الأرض، ولكنه شعر مع ذلك بخوف شديد لأنه تصور أن ما يخاف منه كل من هو بمركزه قد حدث، وأقصد حدوث اختراق لأجهزته من قبل الأجهزة المعادية! فقال بصوت خرج بالكاد من فمه الكبير:
ـ ما، ما بها يا سيدي؟! فأنت تعرف أنها لا يمكن أن تدخل إلى هنا إلا بعد موافقة مجلس الأمن الأنثوي إياه.
قال الرئيس بنبرة غير رسمية هذه المرة:
ـ هذا صحيح، ولكن مع ذلك فأنا أريد أن أطلب منك خدمة شخصية، أريدك أن تتأكد لي منها، من جميع النواحي، وخاصة، أرجوك رجاءا حارا أن تتأكد من أنها ليست بازاً في الأصل.
فقد كانت عقدة بازا ناري لم تزل مسيطرة على عقول الكثيرين وغالبا ما كان طيف بازا يقتحم على حكام الطيور مخادعهم! ومجلس الأمن الأنثوي هذا لم يشكل للحفاظ على الإناث اللواتي يعملن في مكاتب الرئاسة، من تحرشات الرئيس كما تعود ذلك معهن وكما قد يبدو من اسمه! ولكنه تشكل بعد أن لوحظ تكرار اختراق أستار الحواجز الأمنية من قبل الإناث كثيرا، بعد فضيحة بازا المدوية!!!.
أما السبب الحقيقي الذي جعل النسر الأصلع يكلف أفعوانه الأمني بهذه المهمة، والذي لم يصرح به له بالطبع، رغم أن مثل هذه المهمة تكتسب في الظروف التي كلفه بها درجة قضية أمن دولة بالغة الأهمية والسرية! فهو أن هذا الرئيس المظلوم كان قد درج على ممارسة إغرائه الذكري على كل أنثى تدخل مكتبه، كما يمارسه على كل خادمة تدخل بيته!!! وأقول "مظلوم" لأنه لم يكن يتحرش بكل الإناث اللواتي يصادفهن في مكتبه أو بيته كما أشيع عنه، بل كان الأمر يقتصر على الإناث اللواتي يحملن توصية من جده الغراب للتعيين، فقد كان هذا هو التعبير الواضح للرغبة في الانتقام الذي ابتكره عقله الباطن للتعبير عن رغبته الكامنة هذه!!! كما أنه والحق يقال، لم يكن يتصرف بهذه الطريقة منذ البداية لأن الانغلاق التام الذي كان قد فرض عليه بسبب تربيته من قبل أنثى غراب جعله ينمو خجولا وغير واثق من نفسه، وخاصة في الجانب العاطفي، ولم يتخلص من سلبيته هذه إلا بعد أن أقنع من قبل بعض محبيه!!! أن الصلع إنما هو الدليل الأكيد على فحولة الحيوان وهو بالذات ما يجذب إليه الإناث المغرمات، وعندما تجرأ وجرّب سحره هذا على خادمة في بيته لأول مرة، استجابت له بدون تردد! فشعر بما لم يكن يشعر به مع زوجته، لأن معها لم تكن الخشية تتداخل مع اللذة بهذا الشكل السحري! فأدمن الأمر، ولكن مع الخادمات والمستخدمات فقط، لأن "لاوعيه" ربط اللذة القصوى بهن، فلم يحاول يوما أن ينوّع مجموعته أبدا!.
وعندما وصلته التطمينات المطلوبة من رئيس الجهاز الذي حرص على التحقق منها بنفسه، باشر بتطبيق خطته العتيدة التي لم تخب من قبل أبدا، والتي تبدأ بتركيز سحر عيونه على الضحية وهو يمسح أمامها في كل حين على صلعته بجناحه، لكي يثير انتباه لا شعورها إلى رمز فحولته بخدعة نفسية بارعة!!! وعندما حان وقت قطف الثمار، التي شاءت الظروف هذه المرة أن تنضج في عمق مكتبه الرئاسي! وفي لحظة تأريخية رائقة، لأنها توضح لنا كيف يكتب بعض أبطال التأريخ، أو من يبدون كذلك، أعمالهم البطولية في سفره! وضع سيجاره الفاخر في، أقصد بين منقاريه، وقال وهو منتش بخمر الفنون التي كانت النسرة الأصيلة تمارسها عليه:
ـ المزيد يا مليكتي، المزيد.
كان السيد الرئيس بارعا في إخلاء مكتبه والتأكد من عدم وجود أحد بقربه ساعة اللقاءات الغرامية تلك، ما عدا بعض مستشاريه الذين كانوا يساعدونه في تلك المهام الوطنية والذين كان يثق بهم ثقته بنفسه، هذا بالإضافة إلى الأوراق التي كان يمسك بها مسلطا إياها على رقابهم، للتهديد بالطبع! ولذلك عندما بدأت الأوساط القريبة منه تتحدث عن ذلك اللقاء الجامح أصيب بالرعب والارتباك الشديدين، فقد هاله أن تتسلل الخيانة إلى قلعته الحصينة!!! فحاول في البدء أن يلملم أطراف القضية هو ومعاونوه قبل أن تنتشر، ولكن الموجة كانت أقوى من أن توقف بغربال صغير، فأسرع إلى جده طالبا النجدة والعون، وعندما رآه، تصنع الغضب وقال له:
ـ ولكنها حياتي الشخصية وهذا بلد الحريات مثلما يقولون، ثم، ثم أنا الرئيس!!!
فقال الجد وهو يبتسم له ابتسامة ذات معنى:
ـ ولكن أكان يجب أن يتم الأمر في المكتب الرئاسي أيها الخبيث؟!
أسقط في يد الأصلع فقال بتضرع:
ـ رحماك يا جدي.
فتصنع الجد الحزن وقال:
ـ ولكن القضية وصلت إلى المحاكم يا ولدي، وأنت تعرف أن لا أحد فوق القانون في هذه الدولة.
فصاح السبط المضطرب:
ـ هه! أنظروا من يتكلم عن القانون وسيادته!
فتنحنح الغراب وقال:
ـ تقصد الثغرات الموجودة في القانون التي نستغلها أحيانا لأغراضنا الخاصة، نعم هي موجودة ولكنك في كل الأحوال يجب أن تذهب إلى المحكمة ولنر هناك ما سيكون.
فقال النسر بغيظ وحقد:
ـ فقط لو أعرف من الذي حرض هذه العاهرة التي كانت تتأوه كالـكلبة، على كشف تلك الأسرار، لخنقته بجناحي هذين.
مد الغراب جناحه إلى رقبته بحركة لا شعورية وقال:
ـ دعك منه الآن ولنركز على قضيتك.
فقال النسر بصورة مفاجئة:
ـ وأنت أيضا،
فأرعدت فرائص الغراب من شدة الخوف! ولكن النسر تابع قائلا من دون أن ينتبه:
ـ كل ما حدث لي بسببك، فأنت الذي كنت تعيرني دائما بعفتي وكأنها ذنب عظيم.
شعر الغراب عندها بارتياح وقال وهو يبتسم:
ـ ولكني كنت أريدك أن تتمتع بحياتك يا ولدي فهي في النهاية قصيرة وفرص الاستمتاع فيها ليست كثيرة.
أصبح أسم السيد الرئيس مضغة في أفواه غالبية الشعب وصار مادة للتندر بينهم، وبدا الأمر وكأنه في طريقه إلى الاستقالة قبل أن يحين موعد المحاكمة، ولكن الغريب في الأمر كان هو موقف زوجته "نسرة البلاد الأولى" من فضيحته! فقد جاهرت بأنه خير الأزواج وما أشيع عنه إنما هو مؤامرة ضد شخص الرئيس ولكنها موجهة ضد البلاد، وقبل المحاكمة بيوم خرجت في مظاهرة أقامها أنصار الرئيس وهي تسير جنبا إلى جنب مع الحمار الذي فاز في الانتخابات الأخيرة التي جعلت النسر اللعوب يحكم البلاد باسمه، كانا متلاصقين فسرت الإشاعات التي حاولت أن تبرر الموقف الغريب لهذه الزوجة التي بدلا من أن تثأر لكرامتها المهدورة، ساندت موقف زوجها اللاأخلاقي!!! ولكن المقربين منها ومن زوجها برروا الأمر بأن الحماسة والشعور بالخطر الداهم هما اللذان جعلا هذين الشخصين المهمين في البلاد يتضامنان روحا وجسدا في ذلك المنعطف الوطني الحاسم!!!)
صمت الأفعوان وراح يهز برأسه قبل أن يقول:
( أواه يا ولدي، لن أستطيع ومهما بلغت من فسوق أن أورد لك تفاصيل ما حدث خلال تلك المحاكمة العجيبة، كلا لا تطلب هذا مني فهو فوق طاقتي، ولكن المهم في الأمر هو أن النسر الأصلع وجد مذنبا في النهاية فأعفي من العقوبة لأنه رئيس البلاد التي كان ينوء كاهلها في حينه بأعباء قيادة الغابة لوحدها في ظل ظروف صعبة للغاية!!!
لم يُقَلْ السيد الرئيس ولم يستقل! ولكن جده قال له بعد انتهاء المحاكمة معاتبا:
ـ ها قد أنهيت أمل الحمار المسكين في الفوز بالانتخابات القادمة، فتحمل عملك مع الفيل، وباسم آخر مرة أخرى، كعقوبة لك على ما فعلت.)
ثم سكت مرة أخرى ليقول بعدها:
ـ وهو ما حدث بالطبع، وما يزال يحدث لحد الآن. آه، ما هذا الألم الفظيع في رأسي؟! عذرا يا ولدي، يجب أن أرتاح قليلا، وليكن موعدنا الغد مرة أخرى.
وفي الغد قال لي الأفعوان:
( ذات يوم سيبقى خالدا في ذاكرة الغابة انسلّ الثعبان، رئيس جهاز أمن الدب الطائر ليقف أمام جموع الدببة المحتشدة أمام قصره وقد حشد أقصى ما استطاعه من مظاهر الحزن على محياه، بعد أن مسح نابيه جيدا لكي لا تظهر عليهما آثار دماء!!! ويقول:
ـ رحم أسد اليوم قائدنا المحبوب، فاصطفاه ليكون إلى جانبه.
فقابلت الدببة إعلانه الحزين هذا بالتهليل والهتاف!!! فقال الثعبان في سره:
ـ يا لك من جماهير جاحدة! ولكن لا بأس لأنك سرعان ما ستتلقين حسابك.
ثم قال بفحيح جهير:
ـ ولقد طلب مني الوزير الكريم أن أكون القائد الجديد، ولكني لا أجرؤ على الحلول محل ذلك القائد العظيم، ولذلك اسمحوا لي أن أرشح لكم هذا القرد الحكيم لتنتخبوه بدلا عني.
ومع الهتافات التي بلغت عنان السماء، وبعد أن قدم القرد العجوز للجماهير الحالمة بالغد الأفضل!!! غادر المكان بهدوء ومن دون أن ينتبه أحد ليسرع إلى سيده الغراب في الجبل، ليتلقى منه مكافأته ويختفي، فقد كان قد تعب من العيش في الظلام!!!.)
سكت الأفعوان قليلا ليتابع بعدها قائلا:
( لم أكن يا ولدي أحب هذا الدب، بل كنت في الواقع آخذ عليه مآخذا كثيرة، ولكني أعجب لحال الدببة التي أنقذها هذا الدب من الظلم وآمنها من الجوع الذي ظلت طوال تأريخها قبله تعاني منه لتشبع سادتها النسور!!! لم لم تتوقع ما سيحدث لها من بعده؟! فهاهي الآن تنزلق إلى الهوة التي حاول جاهدا أن ينقذها منها وهي لا تملك لنفسها حلا!!! ولكن ما لنا ولهذا الآن؟ المهم هو أنه بعد هذا الحدث الجلل دخل الساحر الأعظم الذي هو الطير الوحيد ، بالإضافة إلى النسر الأصلع بالطبع، الذي يجرؤ على الدخول على الغراب من دون استئذان، وعندما دخل عليه في ذلك اليوم هبّ الغراب للقاءه بمظهر سرور وقال:
ـ أهلا بالصديق العزيز.
ومد له جناحا تلقاه الآخر بجناحه وهو يقول:
ـ أردت أن أكون أول المهنئين بهذا الحدث العظيم.
فقال الغراب برياء:
ـ لقد كنت دائما السبّاق في المبادرات ولم تزل، أيها الخلّ الوفي.
كان الساحر الأعظم نسرا ذهبيا لا يرى إلا في قمم الجبل الشاهقة، وكان الكثير من حيوانات الغابة يسمعون به ولكنهم لا يصدقون بوجوده، لأنهم لا يصدقون إلا ما يروه بأعينهم! ومن كان يصدق منهم، كان يتصور أنه يعيش في قصر بناه فوق الغيوم كما تقول الأساطير!!! ولكن، من هو هذا النسر الذهبي؟ هو في الحقيقة نسر عادي، وهناك من يقول أنه كان أصلعا هو الآخر، وصل إلى الجبل إبان الحرب التي دارت رحاها بين جرجي وعصبة النسر الأحمر وهو في مقتبل العمر، كان معدما لا يملك في هذه الدنيا شروى نقير، ولكنه كان يمتلك حيوية هائلة وطموحا لا تحده حدود، قبل بكل ما أوكل إليه من أعمال صغيرة كانت تدر عليه ولو أدنى الأجور، ولكنه كان يؤديها بإتقان ملحوظ حتى استرعى انتباه ساحر مغمور أعجب به، فعرض عليه أن يعلمه أسرار السحر الذي يعتمد على جهد وذكاء كل حيوان، وحالما اتّقن الحد الأدنى منه جربه على أقرب الحيوانات إليه بل الحيوان الوحيد الذي تربطه صلة به! ففقد الساحر المسكين الذي آواه وعلمه، عقله!!! وبعد ذلك انطلق في ميادين السحر، يتّقن المتاح من أسراره، ويبتكر الجديد منها، ويتصدى للمنافسين الذين يعترضون دربه بقلب لا يهاب وبضمير تجرد من الكوابح الأخلاقية، فيسحقهم بلا رحمة، حتى تجسدت له سراب التي كانت قد أمنت جبروت لباب بعد هزيمتها، فمنحته بعض أسرارها وبركاتها! فأصبح بذلك واحدا من سحرة معدودين في أنحاء الجبل! ولكنه عندما التقى بالغراب بعد أن ذاع صيته، فتح له الأخير خزائنه ليغرف منها ما شاء لابتكار المزيد من فنون السحر وتطويرها لكي يتسنى لهما تصدير القديم منه إلى الدول الأخرى التي كانت تتهافت عليه، وبعد أن أشرف بنفسه على مشروع سحر "عش الغراب" استحق لقب الساحر الأعظم ومنحته سراب لقب كاهن أكبر. ولا حاجة بي إلى ذكر أنه بعد أن امتلك كل ما ذكرت من إمكانيات أصبح بامكانه أن يبدل هيئته القديمة التي لم تكن لترضيه فأصبح بذلك نسرا ذهبيا!!!.
بعد أن تبادلا عبارات المجاملة التقليدية، وبعد فترة سكوت قصيرة، قال الساحر فجأة:
ـ ماذا بعد؟
فقال الغراب مبتسما:
ـ لا شيء، تستمر في تصدير ما لا تحتاجه من سحر قديم إلى الآخرين الذين يريدونه وتحرص على تطوير المزيد منه لكي نبقى نحن الأقوى. ولا تنس، يجب أن نفتعل الصراعات دائما لكي يتمكن سحرتنا من كسب المزيد من الأموال.
ـ ولكني لم أقصد هذا، بل ماذا بعد غياب الدب عن مسرح الغابة؟
ـ آه، نعم، في الحقيقة لقد حان وقت " الغبغبة"
فصاح الساحر متعجبا:
ـ الغبغبة! أتعني أن نحاول استغباء الحيوانات الأخرى أم نحولهم إلى أغبياء بالفعل؟!
فقفز الغراب مبتهجا وراح يصفق بجناحيه وقال:
ـ ما أخف دمك أيها الصديق العزيز عندما تريد أن تمزح! إن الغبغبة تعني أن نوسع حدود دولتنا حتى تشمل الغابة جمعاء.
ـ ولكن! حسنا يا عزيزي دعني أفشي لك سرا، فأنا رغم قوة سحري، إلا أني لا أفقه كثيرا في ألاعيب السياسة رغم كوني واحدا من راسميها على مستوى الغابة فأنا قد فوّضت أمرها لك أنت لكي تقرر عن نفسك وعني.
فقال الغراب بتفهم:
ـ وأنا أعرف ذلك ولكني مع ذلك سأحاول أن أشرح لك ما سنفعله في القادم من الأيام، فأنت تعرف بأننا كنا قد أقمنا المنظمة الغابيّة بعد انتهاء الحرب الغابيّة الثانية لكي نستطيع اقتسام الغابة وتوزيع أماكن النفوذ فيها بيننا وبين الدب لأنه كان القوة المنافسة التي لا نستطيع تجاهلها من جهة، ولكي نستطيع أن ننسق جهودنا مع حلفائنا من جهة أخرى لكي نكبح جماح هذا الدب الجامح حتى تحين لنا فرصة الإجهاز عليه وهو ما تحقق في النهاية بالفعل، وقد سننّا لأجل ذلك قوانين ثابتة كنا نتلاعب بتفسيرات نصوصها لأننا نحن من كتبها وبذلك كنا نستفيد منها حتى إذا مالت بروحها إلى جانب الخصوم، وفرضنا أعراف ثابتة على العلاقات الدولية لكي نرسم الوضع الذي كنا نسعى إليه، أما الآن وبعد أن خلت الساحة لنا فكل الذي نحتاجه هو قوانين رجراجة ننبذ منها ما نشاء ونختار منها ما نريد، وأعراف غامضة لكي نفسرها حسبما تقتضي مصالحنا، وفي الوقت الذي نريد.
فقال الساحر مستغربا:
ـ ولكن هذا سيربك عمل المنظمة الغابيّة ويهددها بالفشل والانحلال.
فصاح الغراب متحمسا:
ـ ولكن هذا هو جل ما نريد. ثم ألا تعرف أنه في غياب الوضوح تترعرع الذرائعية التي هي لعبتنا ومذهبنا وبها نزداد قوة يوما بعد يوم؟.
ـ ولكني لم أفهم! أنقيم المنظمات ثم نسقطها بعد ذلك؟!
ـ نعم إذا ما بدأت تعرقل مشاريعنا، وهذا على مستوى الغابة والجبل أيضا، لأننا بعد تجربتنا مع الدب يجب أن نستفيد من تجربته الخاصة ونقتدي به فيما يخص مكامن قوته.
ـ وكيف يكون هذا؟!
ـ لاحظ يا صديقي أنني أتكلم الآن عن جوهر الأشياء لا عن تفاصيلها، وفي الداخل كنا قد سننّا قوانينا وأقمنا أعرافا كانت هي السبب في تفوقنا على العدو، ولكنها منذ هذه اللحظة ستصبح عوائقا أمام سعينا في تحقيق حلمنا بالسيطرة على الغابة، فشعبنا الذي تعود على حريته سيرفض مخططاتنا المقبلة وسيطالبنا بالاكتفاء بما حققناه بالفعل لحد الآن، وهذا أمر مرفوض بالنسبة لنا كما تعرف ولذلك يجب أن تحدّ حرية الشعب بكل الطرق الممكنة، المشروعة منها وغير المشروعة.
فقال الساحر متسائلا:
ـ أو نستطيع ذلك؟!
فقال الغراب ضاحكا:
ـ ليس هناك ما لا نستطيعه من أجل تطبيق مبدأ "الترتيت" المهم.
ـ الترتيت؟!
ـ نعم، الترتيت، وهو مبدأ يحمل في طياته اتجاهين متعاكسين تماما، والنجاح في تطبيقهما بتوازن هو الضمان لنا بتحقيق أحلامنا الكبيرة. أولهما هو التر، كيز، على مظاهر قوتنا، أكرر مظاهر قوتنا، لكي نكسب معاركنا المقبلة قبل أن نخوضها على الأرض، وذلك اعتمادا على خوف الآخرين من هذه المظاهر التي سنجسدها بكل الطرق الممكنة، وأنت بتّ تعرف الآن أيها العزيز أن الاهتمام بالأخلاق لن يكون عونا لنا في هذا المسعى، وثانيهما هو تفـ، تيت جوهر قوى الأطراف المنافسة، وبغض النظر عن هوياتها، فأصدقاؤنا في المستقبل لن يكونوا غير أنفسنا، وهذا المبدأ هو روح الغبغبة.
ثم صمت ليضيف بعد قليل متابعا:
ـ في الحقيقة، نحن سندعوها "غبغبة"، ولكنها في حقيقتها "جبلنة"
ثم صمت مرة أخرى، ليقول بعدها وبصوت خفيض:
ـ وأنت تعرف من يدير الأمور في الجبل.
وكان يقصد بهذا الاشارة إلى نفسه والساحر والكمّاء، ولكن الساحر شعر فجأة برعب شديد، وكاد أن يصيح بلا وعي:
ـ أتقصد أنها ستكون "غربنة" في النهاية؟!ّ
ولكنه آثر السكوت لأنه كان يعرف الغراب جيدا، وكان ورغم قوته الشخصية، لا يفضل أن يكون عدوا له!.
وهكذا بدأت "الغبغبة" تلقي بظلالها على أشجار الغابة والحيوانات ما بين متقبل لها لأنه فهمها على أنها واقع الحال الذي لا بد أن يرضى به، وفرح بها لأنه تأثر بالصورة الجميلة التي ركزتها الخفافيش في عقله العاجز عن الفهم، عنها! ورافض لها لأنه يدرك جيدا ما هي؟ ولكنه عاجز عن فعل شيء إزاءها لأنه أضعف من أن يفعل شيئا لوحده وبقية الحيوانات مشغولة بهمومها وتطلعاتها الخاصة! وحذر منها لأنه لا يتوقع منها خيرا! ومن هؤلاء طيور الغابة التي نبذت الحروب فيما بينها، وراحت تسير في ركاب النسر الأصلع الذي كان يجبرها في كل حين على التصرف ضد مصالحها التي أصبحت ثانوية مقارنه بمصالحه الخاصة، لأنه هو القائد!!! فتململت في النهاية الطيور لتبدأ محاولات التوحد فيما بينها لكي تصبح بالوحدة قوة يمكن أن تقف في وجه الأصلع ومصالحه، ولكن، هيهات، فهي لا تستطيع أن تفعل ذلك ما دام ملك النسور قد بدأ ينفذ الدور الذي رسمه له الغراب البعيد النظر، والذي تحسب بإبقائه لمثل هذا اليوم، وها أنتذا ترى اللاجدوى التي تغلف محاولات طيور الغابة لاستعادة قوتها القديمة، فهي اليوم غائبة عن الحضور على مسرح الأحداث الذي بات النسر الأصلع هو ممثله الأوحد، وتأثيراتها عاجزة عن إحداث التغيير حتى في بلدانها نفسها!!!)
وبعد أن سكت قلت بتعجب:
ـ ولكن، ولكنك رسمت لوحة سوداء لمستقبل حيوانات هذه الغابة، أفليس هناك حل؟!
ـ حل؟! لحد الآن ليس هناك حل، بل تقف الغابة هذه الأيام على مفترق طرق، فإما أن تبادر الحيوانات إلى أخذ زمام المبادرة من أيدي حكوماتها، لا لكي تغير الوجوه فيها لأن هذا لن يغير من الأمر شيئا، بل لتعيد تنظيم الأمور بنفسها بعد أن تغوص فيها بعمق وتضع يدها على الأسباب الحقيقية التي أوصلتها إلى هذا الحد من السوء، ومن ثم تتواصل فيما بينها على أسس ومباديء جديدة، صدقني، إن الأمور ليست كما تبدو دائما، فالحيوانات تخاف من النسر الأصلع وصحبه، ولكن ضعف هؤلاء يكمن في قوتهم لأن الكمال لا وجود له فهم بقدر ما يبدون أقوياء من الخارج، ضعفاء من الداخل لأن الحرية التي أعطوها لشعبهم انقلبت وبالا عليهم أي أن السحر قد انقلب على الساحر في هذه المرة. ولكن الأهم من هذا وذاك، أن تمتلك حيوانات الغابة من الوعي ما يجعلها تفهم أخيرا إن الغربان هي سبب كل مآسيها فتبادر إلى اتقاء شرها ومنعها من تنفيذ مخططاتها على مستوى الغابة، فلم يزل في جعبتها الكثير من المخططات الرهيبة، واكتشاف ذلك أمر صعب جدا لأن السياسة الدولية ما هي إلا موازنات دقيقة ومعادلات معقدة جدا لا بعرف تفاعلاتها إلا المعنيين بها.
فقلت وأنا أكاد لا أخفي إعتراضي على ما كان يقول:
ـ وما الذي تقترحه لتنفيذ ذلك إذا؟ أبالقضاء على الغربان قضاءا مبرما؟!
فقال على الفور:
ـ كلا بالطبع فأنا لا أعني هذا، كما أن هذه الشعوب لن تفكر بهذا وهي لم تزل تدفع دينا قديما بسبب الباز الكاسر، أتذكر؟، ولكن،
فقلت مقاطعا:
ـ أبسحب ثرواتها منها إذا؟
ـ و لا هذا، لأنه لن يكون معقولا، ولكن، ولكن،
ثم صمت وقد بانت عليه علامات الحيرة قبل أن يقول:
ـ في الحقيقة، لقد فكرت في هذا الأمر كثيرا، ولكني لم أتوصل إلى تخيل الطريقة الملائمة لفعل ذلك، ولكن عندما تتوفر الإرادة وتتوحد الجهود فإن التوصل إلى ذلك يصبح ممكنا بكل تأكيد، وخاصة إذا ما استفادت الحيوانات من التناقضات ما بين الحلفاء، لأن الأمر ما دام هو اقتصادي ويتعلق بالمصالح في النهاية، فإن المخططات الرهيبة لتقسيم الغابة تثير الرعب حتى في نفوس بعض الذين بشاركون في إدارتها أحيانا، وهو ما قد يدفعهم إلى خوض صراع خفي ضد المخططين، ويجب على الرافضين للغبغبة أن يحاولوا الاقتراب من هؤلاء لتشجعيهم على المضي قدما في محاولاتهم الخجولة، عسى أن تثمر شيئا، أما الآن فيكفي أن يتبلور الوعي وتتوفر النية المخلصة الصادقة لإنقاذ الغابة، وبعدها ستعرف الحيوانات دربها حتما.
فقلت معترضا مرة أخرى:
ـ ولكني ورغم كل ما قلت لا أستطيع أن أتخيل أن كل مشاكل الغابة تأتي من الغربان!!!
فنظر إلي مليا وابتسم لي قبل أن يقول:
ـ أنا لم أقل ذلك، ولكني أصر على أن لهم يد في كل ما قد يواجه الغابة اليوم أو غدا من أحداث يكون لها أثر سيء عليها.
ثم سكت ليفكر قليلا وقال:
ـ اسمع، عندما أراد الغراب أن يجند الخفافيش في خدمته، استجابت له كل أصناف الخفافيش ما عدا صنف واحد، ولم يكن ذلك بسبب رفض ذلك الصنف لمبدأ العمل مع الغراب الشرير، بل لأنه كان يمتلك من الشر في داخله ما يجعله يأنف من العمل مع آخرين يحتقرهم ويرى أنه أفضل منهم، ولذلك كان يعتزلهم ويرفض الدخول في تجمعاتهم، لأنه كان مصاصا للدماء! كان هذا الصنف يتمتع بإمكانية الإبصار في النهار وهو ما كانت تفتقده أصناف الخفافيش الأخرى فعرف وآمن أن سر الحياة يكمن في الدماء، فأدمن امتصاصها من عروق الحيوانات الأخرى، ولأنه أدمنها إلى درجة أصبحت معها حياته مهددة بالخطر إذا لم يجد دماءا جديدة لامتصاصها، فإنه كان مضطرا للاختلاط، السطحي طبعا، معها لكي يتمكن من إيجاد الضحايا لامتصاص دمائها دائما، ولذلك زرع معتزلاته في أعماق تجمعاتهم، ولكنه حرص على عدم الجهر بما يضمر لكي يتمكن من العيش، وعندما يتمكن فإنه لا يرحم لأن أسلوب حياته يعتمد على إهدار حياة الآخرين. والغريب في هذا الصنف أنه ورغم وحشيته إلا أن الفرد منهم لا يسقط وحيدا، لأنه ما أن تهدد حياته عندما لا يجد دماءا ليمتصها خلال فترة معينة حتى يهب واحد من رفاقه ليتقيأ من جوفه بعض الدماء ينقذ بها حياة رفيقه! أتدري لم تفعل ذلك؟ أنا أقول لك، لأنها تعرف أنها قليلة في هذه الغابة، وتعرف أن حياتها مرهونة بالمحافظة على أعدادها التي لن تتزايد أبدا لأن ما تفعله لا يروق لبقية الحيوانات بكل تأكيد. هل فهمت ما أعني؟
فهززت رأسي بالإيجاب! وليلعنني أسد إن كنت فعلت! فابتسم لي برضا وقال:
ـ إما أن تفعل الحيوانات ما قلته قبل قليل، أو أن تبقى في غفلتها حتى يتسبب الثلاثي الرهيب، وأقصد بهم الغراب والساحر الأعظم، كاهن سراب، والنسر الكمّاء، في لحظة نزق، أو غفلة، في إشعال نار في الغابة لن يستطيع أسد بنفسه أن يطفئها قبل أن تلتهم غالبية الحيوانات لتقذفها وقودا لنار جحيم الضباع، وعندها لن تفيد الحيوانات صحوتها. ومن يدري؟ لعل تلك الأسطورة التي تتحدث عن تلك الحيوانات التي سترث هذه الغابة وجبلها، فتملأها عدلا وإنصافا بعدما ملأناها ظلما وجورا، تتحقق في النهاية، فيسود صنف جديد لا عهد لنا به، هو جميل الخلقة، ويقال أنه يسير منتصبا على اثنين، سمح الخُلق، طيّبه، قوّي بلا سطوة ورقيق بلا ضعف، لا يقتل إلا من أجل البقاء، ولا يأكل إلا عندما يجوع ، لا تسيّره أطماعه ولا تربك خطاه هواجسه، هو لا يستطيع الطيران لأن لا أجنحة له ولا يكسو جسده الريش، ولكنه بأصابعه يجترح المعجزات، وبعقله يطرق أبواب النجوم البعيدة، يصل رحمه ويغفر لأعدائه لأنه مبرأ من الأحقاد ومحصن من الكراهية التي لن تجد سبيلها يوما إلى وجدانه فيقضي بذلك حياته مستبشرا وسعيدا، ويموت وهو يتوق للقاء أسده الذي سيفرح بلقياه.
سحرتني طريقته في وصف هذه الحيوانات الغريبة فقلت مسلما بلا وعي:
ـ من يدري؟!
ثم أضفت بعد قليل متسائلا:
ـ ولكنك كنت تتحدث قبل قليل عن ثلاثي! فأين الحكومات إذا؟!
ـ ولكن هذه اللجنة الثلاثية هي حكومة الحكومات، ألم تفهم ذلك بعد؟!
ـ آه، نعم، ولكن! ماذا عنك؟
ـ وما بي أنا؟
ـ ألا تعني صحوة الحيوانات أنك ستصبح في خبر كان؟
ـ ثم ماذا؟ ألم أحاول أن أنهي حياتي بنفسي لولا أنك أجبرتني على العودة إليها واستعادة أطماعي فيها؟
ـ ما الذي تقصده؟ أتلومني أم تمدحني بكلامك هذا؟
ـ لا هذا ولا ذاك، بل أنا أجيب على أسئلتك فقط، أليس كذلك؟
فاجأني بجوابه هذا لأني شعرت فجأة بأنه على حق، ولكني كنت متعبا في تلك اللحظات ولم تكن بي قدرة على مواصلة النقاش، فقلت وأنا أتهيأ للانسحاب:
ـ قد تكون على حق، ولكني أشكرك لأنك نبهتني لبشاعة الأطماع التي قد تتملك الحيوان منا، سأعمل على أن لا أصاب بها.
فنظر إلي بنظرة غلّف الغموض فيها شعاع من شفقة وقال:
ـ أتمنى أن تتمكن من ذلك، ولكن يبدو أن السيف قد سبق العذل مرة أخرى؟!
أردت أن أسأله معنى قوله الأخير، ولكنه كان قد سحب قامته المديدة الممدودة ليبتعد عني ببطء، لم أحاول أن أستوقفه، بل قررت أن أرجيء السؤال إلى يوم آخر.
عندما عدت في ذلك اليوم وأنا أسير بتثاقل وبطء، لاحظت بسرور أن ألم لساني كان قد زال من دون أن ألاحظ! ورغم أن الشعور به بدا غريبا لي إلا أني كنت مرتاحا لأن الألم كان فظيعا في بعض الأيام.
بدا لي الطريق الذي كنت أقطعه بسرعة في الماضي طويلا جدا هذه المرة ولذلك رحت أستعيد كلماته التي قالها لي قبل أن نفترق، كانت فكرة الحيوان الغريب الذي تحدث عنه قد استحوذت على عقلي، فلكم يكون رائعا أن أكون أنا ذلك الحيوان؟! يا لأسد كيف سأبدو عندها في نظر الخلدة؟ بل في نظر جميع الحيوانات التي ستحترمني وتحبني، بل من يدري لعلها ستخشاني أيضا، آه كيف سينظر إلي ذلك الخلد المغرور؟ وأميمة، أميمة؟! عذرا يا حبيبتي فأنا لم أزل أحبك ولكن هذا الهوس، ولكن، ما هذا؟ عندما أراها سأشرح لها كل شيء وستفهم بكل تأكيد، آه لكم أنا مشتاق إليها؟ وإلى عينيها وتلك النظرات، النظرات! الألق! الغنج والدلال!!! فجأة فهمت معنى كل تلك الأشياء التي لم أفقهها في حينها!!! ياللهول! بل يا للغباء!!! كيف فاتني فهمها وهي عزّ المنى وغاية الطلب؟ لعن أسد الهواجس والأفكار التي تتملك الحيوان حتى تلهيه عن نفسه وعمّن يحب! أأخيب ظن حبيبتي في اللحظة التي تريد فيها أن تزيل برقع العذرية عن حبنا الكبير؟! يا لي من عاشق خائب؟ هيا، لأذهب للبحث عنها على الفور ولتذهب آلام أقدامي إلى الجحيم، سأسرع على قدر ما أستطيع لأني لم اعد أقوى على احتمال الحمى التي بدأت تجتاح جسدي منذ لحظة الفهم إياها.
سرت في أنفاق حبنا وهرولت في دهاليز هوانا بحثا عنها ولكني لم أجدها! تسرب القلق إلى نفسي فقررت أن أذهب للسؤال عنها في بيتهم وهو أمر ليس مقبولا في مجتمعنا! ولكنها حمى الحب كما تعرفون. وهناك استقبلت خير استقبال من أهلها!!! وعندما سألت عنها بخجل وتردد قال أبوها بكل حماس:
ـ إنها في غرفتها تعاني من وعكة ألمّت بها، هيا اذهب إليها على الفور فهي ستفرح كثيرا عندما تراك وهذا سيخفف عنها بكل تأكيد.
لم أصدق ما سمعته أذناي إذ لا يعقل أن تكون قد أخبرت أهلها بتفاصيل علاقتنا! مثلما لا يعقل أن تستقبل عائلة خلدية حبيب ابنتهم مثل هذا الاستقبال! وفوق ذلك يدعونه إلى الذهاب إلى غرفتها!، ولكني لم أتردد كثيرا بل ذهبت على الفور إلى هناك،
عندما دخلت ألفيتها متمددة على الأرض وقد ألصقت وجهها بالحائط البعيد! قلت بصوت متهدج:
ـ أميمتي، حبيبتي.
كنت أمني النفس بنهوضها والقفز إلى أحضاني، ولكنها قالت بصوت ضعيف ومن دون أن تلتفت:
ـ سامحني يا حبيبي ولكني لا أستطيع أن أجعلك تراني وأنا على هذا الحال.
ـ أي حبيبتي أيهون عليك أن ترديني خائبا وأنا لم آت إلا على أمل أن أرى وجهك الحبيب.
عندها اهتز جسدها إثر نوبة البكاء التي تملكتها فغارت أشواقي وفارقتني حمّاي اللذيذة! صحت بلوعة:
ـ يا لأسد ما الذي جرى لك؟!
ثم أسرعت إليها لأرغمها على الالتفات إلي عنوة وهي تحاول البقاء على الوضع الذي ألفيتها عليه، ولكني تمكنت من التغلب على مقاومتها، فلاحظت عندها البروزات الواضحة التي بدت في صدغيها، صرخت:
ـ رحماك يا أسد!
فقالت وهي تغالب دموعها:
ـ ليت الأمر اقتصر على ذلك فقط.
ـ وهل هناك ما هو أدهى؟!
لم تجبني، بل كشفت عن بطنها لتريني التقرحات التي أصابتها في جنبيها وتلك البروزات الغريبة التي بدت من خلالها، رأيتها، ولكن منظر البطن العارية هو الذي جذب كل انتباهي، فقلت وأنا أغالب بحة صوتي:
ـ يا لسواد هذه البطن الرائعة!
وكانت الابتسامة الضعيفة التي اغتصبتها من بين دموعها وآلامها هي كل ما كنت أحتاجه من إذن أزيل به ترددي، فأقتحمتها!!!.
عندما تسلل لساني إلى داخل فمها، اتسعت عيناها ولم أعرف في حينها إن كان ذلك من دهشة، أو رعب! لأني كنت مشغول البال بالإضافة إلى ما كنت فيه طبعا، بتلك الشهية المفاجئة إلى اللحم!!! لقد كنت طوال عمري حيوانا نباتيا وأكتفي بجذورها، فلم أشعر بنهم إليه ولو كان لحم حبيبتي نفسها؟! ما الذي جرى لي؟ ولكن من الذي يمكن أن يهتم بمعرفة الجواب في تلك اللحظات السحرية على أية حال؟! كنت أعرف أن تصرفي المفاجيء ذاك، قد جعلها في حال هو إلى الذهول أقرب! ولكني كنت على يقين من أنها ستبرر لي ما فعلت فيما بعد، ومن يدري؟ لعلها ستشكرني أيضا. ولكني تركتها بعدما بلغت وطري منها، مطروحة على الأرض ولم أكلمها، بل غادرت على الفور!.
عندما وصلت إلى بيتي في النهاية وبعد عناء كبير بسبب أطرافي اللعينة وعندما آويت إلى غرفتي لأستعيد ذكرى ما حدث قبل قليل على مهل، اكتشفت أن أطرافي كانت قد بدأت بالضمور من دون أن أنتبه!!! شعرت برعب كبير بسبب هذا الاكتشاف، ورحت أدور حول نفسي وأنا لا أعرف ما الذي يجدر بي فعله! وأثناء دوراني ذاك لاحظت أن ذيلي كان قد استطال كثيرا وقد ظهرت عليه حلقات هي أشبه، بالـ، حراشف!!!.
سعد سعيد رشيد
بغــــــــــــــداد
17/ 3/ 2003
الاثنيـــــــــــــن
خِلّي المعتق سعد سعيد
قرأت هذه الرواية أكثر من مرة , وفي كل مرة أجدني بحاجة إلى إعادة تنظيم أفكاري
كونك رسمت خريطة لعالم منظم تنظيما لا يجيده إلا مجرم خطير
وكوّنت علاقات يعجز عن خلقها إلا من هو برتبتك فكراً
لك بيادر ورد أيها الحبيب.