شَلَلٌ ... فإذا به قد صَار شمالاً بلا يمين، فصعبتْ عليه حاله الجديدة الطارئة، وشق عليه أن يرى نفسه طريح الفراش أمَام عينيْ زوجهِ وأعينِ أولادِه الصّغار ...
إنها المرة الأولى التي يشعر فيها بزحف الضعف على جسده وحلوله فيه دُون سابق تنبيه أو إنذار، وهي المرة الأولى كذلك التي أيقن فيها بتراجع القوة عن جسمه وهجرانها له ...
كم سوَّد بيمينه من الأوراق مداعباً الكلمات، وكم صافح أيادي أقربائه وأصدقائه وكثير من الناس بذات اليمين، ثم كم وكم مسح بها رءوس أبنائه وبناته، وكم هدأ بها من روعهم وروع زوجه أوقات الشدائد وزمن الملمات ...
بالأمس فقط وقع كتابه الأول بيمينه في محفل بهيج، وفي يوم مضى غير بعيد من يومه هذا، أمسك بيدي والديه، فقبلهما قبل خروجه من البيت صباحاً متوجهاً إلى إحدى المكتبات التي اعتاد التردد عليها، وقبل ساعات من إصابته المفاجئة كان ممسكاً بيد ابنه البكر، وهو يسعى رفقته في نزهة جميلة ...
لم يطق رؤية نفسه جسداً ملازماً للفراش طويلاً، وآلمه كثيراً أن تحيطه زوجه بنظرات ممتلئة بمنتهى الشفقة عليه، وأدمى فؤاده أن يتحلق أولاده حوله بأعينهم الصغيرة الخائفة الحزينة، إلا أنه على الرغم من جثم هذا المشهد بجلموده الثقيل على قلبه، وخنقه بدخانه الكثيف لأنفاسه، لم يكن ليصبر على بقائه وحيداً في تلك الغرفة الضيقة في منأى عن أولاده وأمهم، وإن كانت أعماقه تحترق وروحه تذوب رأفة بهم جميعاً، وتضطرب أسى لما يجدونه من عناءٍ شديد في الذي ألم به بغتة ...
دافع الدمع السخين بكل ما فضل لديه من قوة، فلم يفلح في تحقيق مَا قصد إليه، وعندما غلبته العبرات أغمض يسراه، فظلت عينه اليمنى شاهدة على مبلغ تأثره، ثم إنه جاهد بحزم ارتعاشة فمه، إلا أنها ما إن تمكنت منه واستبدت به، حتى بادر إلى إطباق شفتيه وشدهما دون جدوى ...
نظرت إليه بعينين دامعتين، فنادته بصوت حزين تريد التخفيف عنه ومواساته، فما زادته مناداتها له إلا ألماً على ألم، ثم إنه مَا إن نظر إليها حتى أجهشتْ بالبكاء، وهي تردد قولها: لا حَول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وفجأة سمعَا طرقاً على البَاب ...