عندما قررت الرحيل عن قريتنا ، سارعت إلى شجرة السنديان ،التي طالما كانت لي الملاذ الآمن
من أفكاري العقيمة ،مضيت إليها و أنا أعلم أنه اللقاء الأخير .. نعم إنه اللقاء الأخير -هكذا قلت لنفسي- و عندما وصلت إليها إنتابني شعورٌ غريب لم أعرف ما هو .. و لكن سرعان ما تيقنت أن
هذا اللقاء سيحمل في طياته الكثير من الغصة لكلينا .
إقتربت من الشجرة بضع خطوات ٍ ثم سمعت صوتها المتحدرج .. يصرخ بي : توقف ! إبتعد عني
فلقد قررت الرحيل .. إلى أين يا فتى ؟؟
حينها شعرت بالذهول .. كيف عرفت السنديانة أني راحل ٌ من هنا ؟؟ و لماذا كل هذا الغضب
الذي انتابها حينما حاولت أن اسألها الرحيل ؟؟
خيم الصمت للحظات ٍ على المكان .. و كأن العمر هرب في طريقه دون أن يسألنا الرجوع
لملمت نفسي من جديد و قلت لها : أيتها الشجرة الحكيمة ، أعلم أنك ِ غاضبة ٌ مني ، لكنكِ أردت مني دائماً أن اسعى للأفضل ، دائماً ما أردت لي الخير .. كنت ِ تحثينني دائماً على الصعود إلى القمة و أن لا أنظر للأسفل .. فهناك بين قمم الجبال تشرق شمس الصباح ، و هناك يعيش الحلم
منتظراً قدوم من يلتقفه - أليس هذا حديثك لي - ؟؟
عاد الصمت يخيم من جديد ، و انطفأت الأضواء و اصبح الجو بارداً و كأن الشتاء أقبل من جديد
لكننا لم نزل في فصل الصيف ... لا أدري من أين أتت هذه البرودة ؟!
و اخيراً تنفس المكان كلماً .. فلقد تحدثت شجرتنا بعد طول الإنتظار : بني ها أنا قد بلغت من العمر عتياً ، و لا أدري إن كنت سألقاك بعد يومي هذا أم سيكون العمر أقصر من ذلك
بني ، ها قد اصبحت قادراً على المضي قدُماً في معترك الحياة ، ابحث عن حلمك يا ولدي و اقرأ السلام عليه ، فها هو يبادلك الاشتياق ، أي بني ها أنت مغادرنا إلى بلاد الغرب فلا تحفل ببهارج و قشور حضارتهم و لتسلح نفسك بسلاح العلم و لتزودها بزاد المعرفة ، أي بني احمل وطنك في قلبك و لتقرأ السلام عليه ، فوطنك يا بني ينتظرك بفارغ الصبر .. كن طيراً يسافر إلى حدود الدنيا
و حلق بخلقك و دع الغرب يعلمون أننا الأجمل الأجمل .
بني ، أعلم أنك راحل ٌ رغما ً عنك ، أعلم أن الرحيل لم يكن مطلبك و مناك ... و لكن حلمك هناك يناديك و يعشقك مثلما أعشقك .. فبادله الحب و البحنان مثلما أعطيتك الحب و الدفء
ساعتها لم أعرف ماذا أقول و كأن البعد أضنى فؤادي منذ هذه اللحظة ، أيتها الشجرة الحكيمة
أنا أعرف أن الطريق إلى الحلم سيبقى صعباً ، لكنك ِ أردت ِ لي أن أكون جميلاً ..و لا بدَّ أن أكون كذلك .
و ها أنا أحاول المسير في طريقي قاطعاً كل الحدود و الأزمنة التي رسمتها تلك الأنامل الحجرية
التي تحاول دائماً أن تثنيني عن المضي قدُماً ... و ها أنا بعد كل هذه الاعوام آثرت الرجوع إلى شجرة السنديان .. لعلي أوردها ألمي و حلمي الكبير .
التوقيع
أحنُّ إلى خبز أمي
و قهوة أمي .. و لمسة أمي
و تكبر فيّأ الطفولة .. يوماً على صدر يوم
و أعشق عمري .. لأني إذا مت ُ أخجل ُ من
دمع ... أمي ...