أبو نواس
أنا الحسن بن هانئ بن صباح بن عبد الله بن الجراح بن هنب بن ددة بن غُنم بن سليم بن الحكم بن سعد العشيرة بن مالك بن عمرو بن الغوث بن طي بن أدد ابن شبيب بن عمر بن سبيع بن الحارث بن زيد بن عدي بن عوف بن زيد بن هميع بن عمر بن يشجب بن عريب بن قحطان بن بن عامر بن شالخ (متوشلخ) ابن أرفخشد بن سام بن نوح . ((هذا ما جاء في تاريخ بغداد عن عبد الله بن سعد الورَّاق))
قال ابن خلكان :
روي أن الخصيب صاحب ديوان الخراج بمصر سأل أبو النواس عن نسبه فقال:
"أغناني أدبي عن نسبي فامسِك عنه".
جاء في مختار الأغاني لابن منظور :
(..وكان أبو نواس في دعاويه يتماجن و يعبث ويخفي نسبه واسم أمه لئلا يُهجى وذلك مشهورٌ عنه).
وتعليقاً على هذا القول بالذات جاء في كتاب الدكتورة أحلام الزعيم
(أبو نواس بين العبث والاغتراب والتمرُّد) ص 29:
(إننا نرى في حرصه الشديد على إخفاء كل ما يمتُّ بصلةٍ إلى زوجه وأسرته خوفاً من الهجاء والتشهير ما يجعلنا نرجِّح عدم جديته في مجونه وعبثه واستهتاره فالمستهتر الحقيقي عادةً لا يبالي بما يقال عن أهله وذويه).
وقد قلت عن نفسي أرد على من يتهمونني بالمجون:
لـــــذو حيـــــاءٍ وذو محافظـــــــةٍ = مبتاع حمد الرجال بالغـالي
فإن دنَّس المال عرض ذي شرفٍ = فـإن عرضي يُصان بالمال
"كنيتــــــي"
أكنَّى بأبي علي ولكن غلب عليّ لقب أبي نواس، و ورد في سبب التسمية آراءٌ كثيرة اخترت لكم منها التالي:
سُئلتُ مرَّةً من كنَّاك بأبي نواس ؟ ، فقلت: أنا كنَّيتُ نفسي لأني من قومٍ لا يُشتهر فيهم إلاَّ من كان اسمه فرداً وكانت كنيتي لسبعة فكنيت بأبي نواس .
"مولــــدي"
ولدت في الأهواز جنوب غربي إيران لأمٍ فارسية الأصل و المرجح أن والدي كان من جند مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.
"حياتــــــي"
توفي والدي فانتقلت بي أمي من الأهواز إلى البصرة في العراق، و أنا في السادسة من عمري، و عندما أيفعت وجهتني إلى العمل في حانوت عطار. ثم انتقلت من البصرة إلى الكوفة، ثم إلى بادية بني أسد فأقمت فيهم سنةً كاملةً آخذاً اللغة من منابعها الأصيلة. ثم عدت إلى البصرة و تلقيت العلم على يد علمائها أدباً و شعراً.
و لم يقتصر طلبي العلم على الشعر و الأدب بل كنت أدرس الفقه و الحديث و التفسير، حتى قال فيّ ابن المعتز في كتابه ’طبقات الشعراء‘ :
"كان أبو نواسٍ عالماً فقيهاً عارفاً بالأحكام و الفُتيا ، بصيراً بالاختلاف ، صاحب حفظٍ و نظرٍ و معرفةٍ بطرق الحديث، يعرف محكم القرآن و متشابهه ، و ناسخه و منسوخه."
ثم ذهبت إلى دمشق ثم إلى مصر متجهاً إلى الفسطاط، عاصمتها يوم ذاك، و اتصلت بوالي الخراج فيها الخصيب بن عبد الحميد فأحسن وفادتي و غمرني بالعطاء فمدحته بقصائد مشهورة.
وقد اختُلِفت الأقوال في تاريخ مولدي وتاريخ وفاتي ولكنها محصورة بالآتي:
مولدي: ما بين عامي 136 و149 هجرية في الأهواز أو البصرة .
وفاته: مابين عامي 194 و201 هجرية حيث داس بنو نوبخت في بطني حتى مت لأنني هجوتهم – وقيل أن إسماعيل بن أبي سهل دسَّ لي السمّ لأنني هجوته .
ودفنت في مقابر الشونيزيه على شاطئ نهر عيسى في بغداد.
"أوصافـــــي"
قال ابن منظور:
"كان أبو نواس حَسَنُ الوجه رقيق اللون أبيض حلو الشمائل ناعم الجسم ألثغ بالراء حيث يجعلها غيناً وفي حلقه بُحَّة لا تفارقه وكان ظريفاً ولطيفاً لا ينـزع العمامة عن رأسه".
"نشأتـــــــي"
قال ابن منظور:
"نشأ أبو نواس بالبصرة وقرأ القرآن على شيخ القرَّاء (يعقوب الخضرمي) فلما حذق القرآن رمى إليه يعقوب بخاتمه وقال له:
(اذهب فأنت أقرأ أهل البصرة)
وجاء في كتاب طبقات الشعراء لابن المعتز ص201:
"... وقد تأدَّب في البصرة وهي يومئذٍ أكثر بلاد الله علماً وفقهاً وأدباً، وكان أحفظ الناس لأشعار القدماء والمخضرمين وأوائل الإسلاميين والـمُحدَثين".
وجاء في كتاب أعيان الشيعة ج5 ص 336:
"... ولكنَّ أبو نواس بفضلِ فطنتهِ وذكائه وجدّه في طلب العلم وروايته الحديث وأخذه عن مشاهير علماء البصرة وغيرها ومعاناته اللغة والأدب والشعر وعلوّ الهمَّة بخروجه إلى البادية وإقامته بها يتعلَّم اللغة هذا وهو فقير يتيم لا مُربِّي له و لا مرشد انتقل من أجير عطَّار إلى تلميذ علماء وأدباء وشعراء ثم إلى أستاذ علماء ونبلاء ثم انتقل إلى معاشرة الخلفاء والملوك والأمراء والوزراء أمثال: هارون الرشيد والأمين والبرامكة والخصيب والي مصر وغيرهم.
حقيقةً إن رجلاً كهذا لَهُوَ الرجل العصامي الفذّ، وهكذا العلم والفضل يرفع الوضيع، والجهل يضع الرفيع".
وجاء في كتاب طبقات الشعراء ص149:
"فلما ترعرع خرج إلى الأهواز فانقطع إلى والبة بن الحباب الشاعر، وكان والبة يومئذٍ مقيماً بالأهواز عند ابن عمه (النجاشي) وهو واليها فأدَّبه وخرَّجه، ولما مات والبة، لزم (خلف الأحمر) وكان خلفٌ هذا أشعر أهل وقته وأعلمهم فحمل عنه علماً كثيراً وأدباً واسعاً فخرج واحد زمانه في ذلك".
"شاعريتي "
أعتبر سلطان الفصاحة والبيان في عصرهdفعبقريتي ظاهرة ومعاني شعري باهرة وأنا مقدَّم على جميع الشعراء المحدَثين بشهادة أكابر الأدباء والعلماء وفحول الشعراء والنقَّاد .
فأنا رقيق اللفظ بديع المعاني والخيال ساحر الأفكار بعيد المنال شعري من السهل الممتنع آخذ بمجامع القلوب وأؤثِّر في النفوس تأثير الخمرة التي اشتهرت أوصافها بي، فقد قال الشاعر المطبوع العباس بن الأحنف:
" شعر أبي نواس أرقُّ من الوهم وأنفذُ من الفهم وأمضى من السهم".
حدَّث يحيى بن الجون وهو راوية الشاعر بشار بن برد فقال:
"جاء أبو نواس إلى بشار فأنشده قصيدته اللاَّمية التي يصف فيها النخيل فاستحسنها، فلما خرج قال بشار: لقد حسدتُ هذا الغلام".
جاء في كتاب معاهد التنصيص، قال أبو الغيث ابن الشاعر البحتري:
"لقد سألتُ والدي لما حضرته الوفاة من أشعر الناس ؟ فقال:
يا بني لو قُسِّم إحسان أبي نواس على جميع الناس لوسعهم".
وجاء في كتاب أعيان الشيعة ج5 ص 334 :
"إن الرشيد لما اختار الكسَّائي ليعلِّم ابنه الأمين النحو اختار معه أبا نواس لينشد الأمين الشعر النادر ويحدثه الغريب.
ولقد حلف أبو تمام الشاعر المشهور حبيب بن أوس الطائي أن لا يُصلي حتى يحفظ شعر أبي نواس ومسلم بن وليد الأنصاري الملقَّب بـ(صريع الغواني) فمكث شهرين كذلك حتى حفظ شعرهما، ودخل ابن خلكان عليه فوجده يقرأ أشعارهما فسأله ما هذا ؟! فأجاب:
أنهما الَّلات والعزَّى وأنا أعبدهما من دون الله، وفي ذلك إشارة لعكوف أبي تمام لحفظ أشعارهما وترك الصلاة مدَّة شهرين".
وقال المكِّي:
"مازالت المعاني مكنوزة في الأرض حتى جاء أبو نواس فاستخرجها".
وقال ابن منظور عني:
"كأن المعاني حُبِسَتْ له فأخذَ منها حاجتهُ وفرَّق الباقي على الناس".
قال النظَّام وهو من أئمة المعتزلة:
"كأن هذا الفتى جُمِعَ له الكلام فاختار أحسنه".
- قال أبو العتاهية: قال لي المأمون:
أنت أشعر أم أبو نواس؟ فقلت:
"أنا قد علمت و وددتُ أن أبيات أبي نواس لي فأستعلي بها على شعراء أهل الأرض، قال وما هي ؟ قلتُ قوله:
ومســـتـعبدٍ إخوانـَـــــــه بثـرائــــــه = لبـستُ لــــــــه كبـراً أبرَّ على الكبـرِ
إذا ضمَّـني يومـــــاً و إيـــاه محفِـلٌ = رأى جانبـي وعراً يزيد على الوعــــر ِ
أخالـفـــــــه في شكلــه، و أجـِــرُّه = على المنـطق المنذور و النظر الشـــــزر ِ
و قد زادني تيهـاً على الناس أنني = أرانيَ أغنـاهــــــم و إن كنتُ ذا فقــر ِ
فوالله لا يـُبدي لســـــانيَ حاجـــــةً = إلى أحــــــــدٍ حتـى أٌغَيـّبَ فــي قبري
فلا تطمعنْ في ذاك مـنيَ سُوقــــــةٌ = ولا ملكُ الدنيـا المحجبُ في القصــــــــرِ
فلـــو لم أرث فخراً لكانت صيـانتي = فمي عن سؤال الناس حسبي من الفخر
"
من أقوال بعض العلماء فيّ بغير الشعر
"
عن ابن خلكان قال: قال إسماعيل بن نوبخت:
"ما رأيت قط أوسع علماً من أبي نواس و لا أحفظ منه مع قلة كتبه".
جاء في كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة:
"كأن النواسيُّ متفنناً في العلم قد ضرب في كل نوع منه بنصيب ونظر بعد ذلك في علم النجوم".
قال الجاحظ:
"كان أبو نواس عالماً راوية ...الخ".
قال ابن خالويه:
"لولا ما غُلب عليه من المجون لاستشهدتُ بكلامه في كتاب الله تعالى".
قال الإمام الشافعي:
"لولا ما ظهر على أبو نواس من المجون لأخذتُ عنه".
من قرأ في كتاب "الفتوحات المكية" لمحي الدين بن عربي يرى أبياتاً كثيرة منتثرة فيه وهي من شعري ، وقد استشهد بها الشيخ الأكبر عند الصوفية وهذا ما يؤكد تأثره بأشعاري وإعجابه بها.
فقد روى أبو إسحاق " إبراهيم الرفاعي" في مصنفه عن عبد الله بن محمد الرقي- وكان من حجَّاب هارون الرشيد- قال:
"كان هارون يوماً جالساً ومولانا الإمام علي الرضا جالساً معه، فتذاكروا الشعراء فقال الرشيد: يا أبا عبد الله أخرج إلى الباب فانظر هل ترى من الشعراءِ أحداً؟!
فخرجتُ فرأيتُ أبا نواس فعدتُ إليه وأخبرته، فقال: أدخلهُ إلينا،
فأتيتُ إليه وقلتُ له: أدخل، فقال لي : إليكَ عني لقد قلتُ في الرشيد ثلاثينَ بيتاً في يومنا هذا ما مدحه بمثلها عربيٌّ ولا عجميّ، فقلت له: أدخل وانشده ما قلتَ فيه فإنه يوم غناك وهو يوم سعادتك،
قال أبو نواس: فدخلتُ على الرشيد فلما سلَّمتُ عليه قال لي: هاتِ مديحنا يا خبيث، فلما رأيت مولاي الإمام علي الرضا(ع)جالساً إلى جانبه جهدتُ لأذكر مما مدحته بيتاً واحداً فلم أقدر عليه لِمَا تداخلني من هيبة مولاي وخوفي من أن أمدح الخليفة بحضرته، فقلت: فيك أو في ابن عمِّك جليسك ؟! فقال: بل في ابن عمي، فقلتُ فيه:
قيل لي أنت أمدحُ الناس طرّاً = في فنونٍ من الـمقالِ النبيهِ
لكَ من محكمِ القريض بديـــــهٌ = يثمرُّ الدرّ في يديّ مجتنيهِ
فعلامَ تركتَ مدحَ ابنِ موسى = والخصالُ التي تجمَّعنَ فيهِ
قلتُ لا أسـتطيعُ مدح إمــــامٍ = كان جبريلُ خادماً لأبيهِ
قصُرَت ألسنُ الفصاحة عنــهُ = ولذاك القريضُ لا يحتويهِ
فقال الرشيد: هاتِ الآن ما مدحتنا فيه، فتذكرتُ ما كنتُ عملتُ فيه أولاً فارتجَّ عليَّ مدحه فلم أذكر منه بيتاً، فقلت: فيكَ أو في ابن عمك ؟!
فعلم أنه قد لحقني الحصر وكلَّ خاطري عن مدحه، فقال: قل في ابن عمي، فقلتُ فيه:
شَرِبَ النبوَّةَ في ذُرى بطحائها = مـــاء الرسالةِ لم يُشَبْ بمزاجِ
نـــــــورٌ عـلى نورٍ تـلألأ نــوره = مصباحهُ في ذروةِ الـمعراجِ
فقال الرشيد: يا أبا عبد الله امْضِ بأبي نواس إلى متولي الخزانة وقل له أن يدفع له خمسين ألف دينار، فلما صرنا بالباب قلتُ: صِرْ بنا إلى الخزانة لتأخُذ صِلَتكَ فقد صحَّت لكَ بُشرايَ،
فقال لي أبو نواس: مالي فيها حاجة، فقلتُ: لما يا أخي وهذه جائزة سنيَّة وقلَّما يُنفَق مثلها ؟!!
فقال لي: إليكَ عني إنما مدحتُ مولاي الإماماحتساباً وما مدحته اكتساباً، والله يا أبا عبد الله لقد دعا لي مولاي دعوات هنَّ آثَر عندي وأحبّ مما طلعت عليه الشمس.
جاء في كتاب " المعالم " لابن شهر آشوب:
"أبو نواس من شعراء أهل البيت المقتصدين ومن أصحاب الأئمَّة عليهم السلام".
وقد قال مديحاً في أحد الأئمَّة أيضاً:
فهو الذي قدَّر الله العليُّ لـــــــهُ = أن لا يكون لــه في فضله ثانِ
وهو الذي امتحن الله القلوب به = عمَّا يُجمجمنَ من كفرٍ وإيـمانِ
وإنَّ قومـاً رجوا إبطال حقِّـكمُ = أمسوا من الله في سخطٍ وعصيان
لـم يدفعوا حقَّـــكم إلاَّ بدفعهم = مـــا أنزل الله من آيٍ وقرآنِ
وجاء في كتاب المناقب قولي:
يا رب إن عظمت ذنوبي كـــثرةً = فلقـد علمتُ بأن عـفوك أعظمُ
إن كـــان لا يرجـوك إلا محسـنٌ = فبمن يـلوذ و يستجيـر المجـرمُ
أدعوك رب كما أمرتَ تضرعـاً = فـإذا رددتَ يدي فمن ذا يـرحمُ
مالي إليك وســــيلةٌ إلا الرجـــا = وجـــميل عفوك ثم إني مسلمُ
متمسِّـكاً بـمحمدٍ وبـآلـــــــــــه = إنَّ الـموفَّقَ مـن بـهم يستعصمُ
ثم الشفاعــة مــــــن نبيِّكَ أحمدٍ = ثم الحمايــة مـــن عليٍّ أعلمُ
ثم الحســــــــــين وبعده أولاده = ســـاداتنا حتى الإمام الـمكتَّمُ
وقلت أيضاً:
مالي وللناس كم يلحونني سفهاً = ديني لنفسي ودين الناس للناسِ
وقد جاء في العيون وفي رياض العلماء وفي فرائد السَّمطين:
خرج أبو نواس ذات يومٍ من داره فبصرَ براكبٍ قد حاذاه، فسأل عنه ولم يرَ وجهه، فقيل له: أنه عليّ بن موسى الرضا، فأنشأ يقول:
إذا أبصرتكَ العين من بعد غايــةٍ = وعــارض فيـــــكَ الشَّكُّ أثبتكَ القلبُ
ولـو أن قومــاً أمَّموكَ لقادهـــم = نســيمك حتى يُستدلَّ بــــــكَ الرَّكبُ
جعلتكَ حسبي في أموري كلِّها = وما خابَ من أضحى وأنت لهُ حَسْبُ
شاهدني الرشيد مرة وفي يدي زجاجة من الخمر , فسألني : ماذا في يدك يا أبا نواس
فأجبت : زجاجة لبن يا أمير المؤمنين .
فقال الخليفة: هل اللبن أحمر اللون؟
فقلت : أحمرت خجلاً منك يا أمير المؤمنين .
فأعجب الخليفة من بداهتي , وعفا عني
قيل: بينما كان أمير المؤمنين هارون الرشيد في مجلسه وعن يمينه ويساره الوزراء والعظماء من أهل مملكته وأصحاب الرأي عنده.
دخل عليه حاجبه معلنا قدومي, فقال الخليفة : دعه ينتظر قليلاً.
ثم نظر الى جلسائه وقال : هذه فرصة سانحة نضحك فيها على أبي نواس ويجب أن أستحضر لكل منكم بيضة تخبؤونها في طيات ثيابكم ،حتى أذا دخل أبو نواس , يتكلم كل واحد منكم بكلام فيتكلم أحدكم كلمة أغضب عليكم عند سماعها , وأقول : يا لكم من ضعاف مثل الفراخ ، تالله إذا لم تفعلوا مثل الدجاج ويبيض كل منكم بيضة لاقطعن رقابكم .
فقالوا : سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين
وعندئذ طلب الخليفة الحاجب وقال له : اذهب فاستحضر ست بيضات , ولا تدع أحدا يراك , خصوصاً أبو نواس , فخرج الحاجب .
وعاد منفذاً أمر الخليفة وأعطى لكل من الجالسين بيضة, خبأها بين طيات ثيابه , وجلسوا ينتظرون ...
ودخلت فسلمت على أمير المؤمنين سلام الخلافة , وأظهر الرشيد انتباهه الى حديث جلسائه , ونطق أحدهم بكلمة غضب منها الرشيد غضبا شديدا فصاح بهم : ويحكم أيها الجبناء إنكم مثل الدجاج , ولاأجد فرقاً بينكم وبينهم والله إن لم يبض كل منكم بيضة لاقطعن رقابكم.
فأظهروا الاضطراب والخوف , وأخذوا يفعلون كما تفعل الفراخ . وبعد قليل مد الاول منهم يده الى مؤخرته, فأخرج بيضة وقال: هاهي بيضتي ياأمير المؤمنين
وأعقبه الثاني والثالث الى السادس , وكان الخليفة يقول لكل من يقدم بيضة : قد نجوت.
ولما جاء دوري وقفت على قدميّ ومشيت حتى توسطت الجميع , وصرت أمام الخليفة وجهاً لوجه , ثم رحت أقول: كاك , كاك, كاك . كما يفعل الديك بين زوجاته الدجاج , ثم ضربت ابطيّ على بعضهما , وصحت بأعلى صوتي كما يفعل الديك تماما , وقلت: كوكو , كو.
فقال الخليفة: ما هذا يا أبا نواس .
فقالت: عجباً يا أمير المؤمنين , هل رأيت دجاجاً تبيض من غير ديك؟
هؤلاء فراخك وانا ديكهم. فضحك الخليفة حتى كاد يسقط عن كرسيه , وقال لي : يالك من خبيث ماكر, تالله لولم تكن فعلت ذلك لعاقبتك ,
ثم امر لي بهدية ومال معجباً بذكائي
من أشعاري
حامـل الهوى تَعِبُ = يســـــــتخفّه الطربُ
إن بكى .. يحقُّ لهُ = ليس ما به لَعِــــــــبُ
تضحكينَ لاهيـةً = والمحبُّ ينتحـــــــبُ
تعجبين من سقمي = صحّتي هي العجبُ
كلما انقضى سببٌ = منكِ عاد لي سببُ
وقلت أيضاً:
إن متُّ منكَ، وقلبـي فيه ما فيهِ = ولم أنل فرَجَا مما أُقاسيهِ
ناديتُ قلبـي بحزنٍ، ثم قلتُ له = يا من يبالي حبيباَ لا يبـاليهِ
هذا الذي كنــتَ تهواهُ، وتمنحهُ = صفو المودةِ قد غالت دواهيـهِ
فردّ قلبــــي على طرفي بحرقتهِ = هذا البلاء الذي دليتني فيه
أرهقتني في هوى من ليس يُنصفني = وليس ينفكّ من زهوٍ ومن تيهِ
ولي أيضاً
الله مولـى " دنانيـرٍ " ومـولائـي = بعينه مصبحـي فيهـا وممسائـي
صَليتُ في حبّها ناريـن : واحـدةً=بين الضلوع , وأخرى بين أحشائي
وقد حَمَيْتُ لسانـي أن أبيـنَ بـه = فمـا يُعبِّـر عنّـي غيـرُ إيمائـي
يا ويحَ أهلي .. أبلى بيـن أعينهـم = على الفراش , وما يدرون ما دائـي
لو كان زُهدُكِ في الدنيا كزُهدِكِ فـي = وصْلي , مشيْتِ , بلا شكٍّ على الماءِ
ولي ايضاً
أضرمتَ نارَ الحب في قلبـي = ثم تبـرّأتَ من الذنبِ
حتى إذا لججتُ بحر الهوى = وطمّتِ الأمـواجُ في قلبي
أفشيتَ سرّي، وتناسيتني= ما هكذا الإنصافُ يا حبّي
هبني لا أستطيع دفع الهوى = عنّي، أما تخشى من الرّبِّ؟!
ولي أيضاً
أظهرَ بعد الوصلِ هجرانا = وصيّرَ العلاّت أعوانا
يعدُّ إحساني ذنوباً كما = أعدُّ منه الذنبَ غفرانا
يا مظهراً في النوم هجرانا =حسبكَ ما تفعلُ يقظانا
لو كنتَ في حبّيكَ لي منصفاً = جازيتَ بالإحسانِ إحسانا
ولي أيضاً
لما جفاني الحبيبُ وامتنعت=عني الرسالاتُ منه والخبرُ
واشتد شوقي فكاد يقتلني=ذكر حبيبي والهمُ والبكرُ
دعوتُ إبليس ثم قلتُ له=في خلوةٍ والدموعُ تنهمرُ
أما ترى كيف بليتُ وقد=أقرح جفني البكاءُ والسهرُ
إن أنتَ لم تُلقِ لي المودة في=صدر حبيبي وأنت مقتدرُ
لا قلتُ شعراً ولا سمعتُ غناً=ولا جرى في مفاصلي السّكرُ
ولا أزالُ القُرآنَ أدرسُه =أروحُ في درسِهِ وأبتكرُ
وألزمُ الصومَ والصلاةَ ولا=أزال دهري بالخير آتمرُ
فما مضتُ بعد ذاك ثالثةٌ=حتى أتاني الحبيب يعتذر
ويطلب الود والوصال على=أفضل ماكان قبلَ يهتجرُ
فيا لها منةً لقد عظمتُ=عندي لإبليس ما لها خطرُ
ولي أيضا
منع الصوم العقارى = وزوى الليل فغارا
وبقينا في سجون الصوم = للهم أسارى
نشرب الليل إلى الصبح = صغارا وكبارا
إسقني حتى تراني= أحسب الديك حمارا
ولي ايضا
تفكر في نبات الأرض وانظر = إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات = بأبصار هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات = بأن الله ليس له شريك
ولي أيضاً
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة= فلقد علمت بأن عفوك أعظم
أدعوك ربي كما أمرت تضرعاً = فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
إن كان لا يرجوك إلا محسن = فمن الذي يرجو المسيء المجرم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا = وجميل عفوك ثم أني مسلم
ولي أيضاً في الفخر
ومستــعبـدٍ إخوانـَه بثـرائــه= لبـستُ له كبـراً لأبرَّ على الكبـرِ
إذا ضمَّـني يومـاً و إياه محفِــلٌ= رأى جانبـي وعراً يزيـد على الوعر ِ
أخالـفـه في شكـلـه، و أجـِرُّه على =المنـطق المنـزور و النظر الشزر ِ
و قد زادني تيهاً على الناس أنني= أرانيَ أغنـاهم و إن كنتُ ذا فـقـر ِ
فوالله لا يـُبـدي لســانيَ حاجــةً =إلى أحـدٍ حتـى أٌغَيـّبَ في قبـري
فلا تطمعــنْ في ذاك مـنيَ سُوقـةٌ= ولا ملكُ الدنيـا المحجبُ في القصـر ِ
فلو لم أرث فخراً لكانت صيـانتي= فمي عن سؤال الناس حسبي من الفخر ِ
وفي المديح
مديح الأمين:
تتيه الشمـس و القمـر المنيـر= إذا قـلنـا كـأنـهـمـا الأميـر
فإن يـــكُ أشبـها منه قـليلاً= فـــقد أخطاهــــما شبهٌ كــثيرُ
وقلت أمدحه أيضاً:
ملكتَ على طير السعادة واليمنِ= و حزتُ إليـكَ الملكَ مقتبـل السن ِ
لقد طـابت الدنيـا بطيب محمدٍ= و زيـدتْ به الأيـامُ حسناً إلى حسن ِ
ولولا الأمين بن الرشيد لما =انقضت رحى الدين، والدنيا تدور على حزن ِ
لقد فك أغـلال العنـاة محمـدٌ =وأنزل أهل الخـوف في كنف الأمن ِ
إذا نحن أثنيـنا عليـك بصـالح= فأنت كما نـثني، وفوق الذي نـثني
وإن جرت الألفـاظ يوماً بمدحةٍ= لغيـرك إنسـاناً، فأنت الذي نعـني
ولي أيضاً
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء=وداوني بالتي كانت هي الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها=لو مسها حجر مسته ســراء
من كف ذات حر في زي ذي ذكر=لها محبان لوطي وزنـــــــاء
قامنت بإبريقها،و الليل معتكـــر=فلاح من وجهها في البيت لألاء
فأرسلت من فم الإبريق صافية=كأنما أخذها بالعين إعفــــــاء
رقت عن الماء حتى ما يلائمها=لطاقة،وجفا عن شكلها الماء
فلو مزجت بها نورا لماجزهــا=حتى تولــد أنوار و أضــــــــوء
دارت على فتية دان الزمان لهم=فـا يصيــــبهم إلا بما شاؤوا
لتلك أبكي ، ولا أبكي لمنزلــــــة=كانت تحل بها هند و أسمــاء
ولي أيضاً
بالله عليكِ يا من أطلتِ هجري=وجعلتِ الدمع دماً في العين يجري
سألتكِ بالله وليلة القدر=هبيني الأحرف الأولى من كل شطرِ
من نوادري
قيل أنه كان لدى هارون الرشيد جارية تسمى خالصه و كان الرشيد يحبها كثيرا ومن فرط حبه لها اهداها عقدا من الجواهر يساوي الكثير الشيء العظيم من المال ، فعلمت بتلك الحادثه و كنت أبغضها وأكرهها (اي لخالصه) كرهاً شديدا لما كانت تفعل بي أمام الخليفه من ذمّ و شتم و من ذلك و تلك التهم ، فكان لي يوماً أن تحايلت و وصلت إلى مقصورة خالصه و كتبت بكلام واضح فاضح على باب مقصورتها هذا البيت :
لقد ضاع شعري على بابكم =كما ضاع عقد على خالصه
و بعد ان كان لي ما فعلت عمدت إلى الاختباء بمكان قريب من المقصوره . فجاءت خالصه لتدخل المقصوره فرأت بيت الشعر ذاك وغضبت حتى نكبت و علمت أن هذا من عملي و كان لها أن ذهبت الى الخليفه تشكو له ما فعلت و قالت له أن يأمر بقتلي ، غضب الرشيد من ذلك و قال لها هيا بنا ننظر ما فعل أبو النواس . فاذا كان ما قلته لي صحيح و كان المكتوب ذلك أمرت بضرب عنقه.
و لكنني نهضت من مخبئي حين ذهبت خالصه تشكو للخليفه ، و عمدت على حك ذنب العين في كلا الشطرين حتى باتت كأنها همزة و ذهبت إلى بيتي .
و عندما وصل الخليفة الى باب المقصورة وجد مكتوباً عليه:
لقد ضاء شعري على بابكم =كما ضاء عقد على خالصه .
و لما رأى الخليفة المكتوب قال : إن ابي النواس يمدحك و لا يسبك .
فكان لخالصه أن تقدمت إلى الباب و قرأت الشعر مرة ثانيه فعلمت حيلتي و قالت: يا مولاي هذا البيت قلعت عيناه فأبصر .
فنظر الخليفة إلى بيت الشعر متأكداً وأخذ يضحك و علم أنني قمت بحك ذنب العين حتى أصبحت همزة .
فأمر بجائزة لي وعقد آخر لخالصه .........
وأيضاً................
جاء رجل إلي وأنا أحتضر , فقال لي : متى تموت يا أبا النواس ؟
فقالت: ولماذا هذا السؤال ؟
أجاب الرجل : لأن والدي توفي منذ ثلاثة أشهر و أريد أن أرسل اليه رسالة....
فنظت إليه وقلت :يؤسفني أن لا يكون طريقي على جهنم . فابعث رسالتك لأبيك مع غيري.