زبد مازال يطفو على الوجه
((الفائزة بالمركز الأول في مسابقة القصة القصيرة))
الإهداء إلى : العم إبراهيم
والدي
الألواح المرمرية المضجعة باستطالةٍ على غرار الموت الأبيض في المبرد الخرساني ترفض الذوبان , تتحيّن ببرودٍ قاتلٍ لحظات المعاناةِ السرمديةِ ليومٍ جديدٍ, تتعافى على أكفِ الضراعة عند فجر الله, وأيادٍ علّمت عليها مطارق الدهرِ الملونةِ..
تتوسل بحنجرةٍ رخيمةٍ: يا رب..! تدججني السماء وألتحف بجمّار خديها الصابح, وتسبيحة طائرٍ صبحي تمر فوق سطحِ الدارِ:
الملك لك.. لك.. لك يا صاحب الملك يلاحقها صياح الديكةِ؛ رداً على بقبقاتِ أنثى تنتظر الأجنة .. أجذبني, ويشد بعضي بعضاً.. تتسمّر أنفاسي لوقع أقدامه الهابطة من أعلى الدرج وأعدها سلمةً.. سلمةً , يعلو سعاله المتحشرج كصهيلِ خيلٍ متعبةٍ.. أتدججُ أكثرَ وأكثرَ , وألضمُ رأسي في ثقبٍ صغيرٍ كخيطٍ حلزونيٍ .. أكشط الزبد الطافي على وجهه كدسامةِ الحليبِ ؛ لكن لو كف هذا السعال وترك صدره المصبوغ بأدخنةِ التبغ البرجوازي ؛ لطالما منعه عن "صباحِ الخيرِ" .. حتى و إن خرجت تكون غير مسموعةً.. تنزلق خرزات الطهور من لحيتهِ .. يركض في موضع ساقيها على سجادةٍ ما زالت محتفظةً بدفئها, ثم يُنهي كوب الحليب الخالي من السكرِ كما أمره الطبيب .
يرنو من النافذةِ.. يتأكدُ أولاً من صفاءِ السماءِ قبل أن يجنح إلى بابِ اللهِ .. تسبقه إلى الصالةِ الضيقةِ , وتبحث عن الفردةِ المفقودةِ للحذاءِ المتآكلِ .. تفتش تحت السلمِ المستندِ على الحائطِ المائلِ .. تلف حول نفسها : كانت هنا مع زميلتها .. يا فتّاح يا عليم ..! ثم تعود إلى الأرائكِ .. تجثو على ركبتيها .. تمد يدها وتتحسس الظلام.. تخرج بواحدةٍ , تضطرب و سريعاً تسقطها في حمّالةِ الصدرِ, تعود وتخرج بالثانيةِ , فالثالثةِ ..., أخرجت كل الأعقابِ التي خبئتُها أسفل الأريكة , خافت أن يراها, فدسّت كبشة يدها تحت الغطاءِ و تركت لي حفنةً من الأعقابِ الرخيصةِ.. كل الطرقِ كانت مصلصلةً لما استدار وخلف وراءه الجدران تتزلزل, وخرزات المرمر تقرع قفصه الصدري, فيزداد صهيله المشروخ .
دون وعيٍ تعودت سنابكه هذا الوحل الأوليّ, يقلع واحدةً و تنغرس الأخرى.. لا يهتم بضياعِ الحذاءِ؛ فلن يضاهي ضياع العمرِ المتآكلِ وتهلهل الملابس الداخلية؛ من أجل حصولي على البكالوريوس.. لا شيئ يهم و لا حاجة تساوي .. المهم أن ابن العم إبراهيم صار أستاذاً يملأ الدنيا ـ تلك الرخيصة ـ لم تدع له فرصةً لجفافِ عمامتهِ و التحام الشقوق المفحوتة في كفِ اليدِ و كعبِ القدمِ ..
بالكادِ وصل بآخرِ نفسٍ إلى المبرد الخرساني .. ساوى مقعدته بالكيبِ المفرودِ على يمينِ الكاتبِ .. مدد ساقيه وأسند ظهره المبلل إلى الحائطِ الخشبي لكن ترك صرة الزواد للشمسِ كعربونِ وفاءِ.. جاءت قطةٌ هزيلةٌ لم يحن لها الطلق.. سرقتها.. بعثرت كسرات الخبزِ في الوحلِ المعجونِ بعظامِ الأسماكِ الهاربةِ من الشِباكِ .. لم تجد ما يرضي بنانها .. اندفعت عربة الرحيل وفرملت على بطنها المتهدلةِ .. زمّرت مرتين .. انتصب فراؤها و ماءت كالملسوعةِ , ثم تشقلبت في الوحلِ تاركةً صغارها مطبوعةً في العجلاتِ .. لوّح له الكاتب من نافذة القيادة: شد حيلك يا إبراهيم قبل النوّه..! ثم انطلقت تجرف في الوحلِ و تأكل من طمي السكك ..
تكدست السماء بوجوهٍ مكفهرةٍ و جهامةِ أهدابٍ سوداء, بعثت أول إنذار ليوسف , فعافر مع الأمواج ووصل بصعوبةٍ .. سحب نصف دنقله على البرِ.. هاج البحر وماج .. كاد أن ينفلت منه .. ازداد الهطول و نفخت الريح ..استفزت الأمواج بزيادةٍ, وغدا الزبد كتلاً من أطوادٍ شامخةٍ .. تصلّبت يداه .. ماتت على مؤخرةِ الدنقلِ .. حاول أن يرفعه لكن تزمجر.. غزّ بطرف عينه إلى الداخل.. كان منشغلاً بالألواحِ, ناداه: بيدك معي يا إبراهيم.. جاءه رمحاً و لزوجة الطمى تحت أقدامهما كالصابون:
اجمد يا يوسف .
الله يعينك يا إبراهيم .
تكاتفا حتى رفعا النصف المنشود .. طرحاه براً, واختبئا حتى تمر العاصفة ..
ولجت الريح بين ألواح المرمرِ , فبدأ تماسكها يتذبذب .. تفاقمت برودتها في فقراتِ الظهرِ كغازِ الفريونِ .. لن يهدأ حتى ينقل الألواح قبل أن تأكلها الريح .. استلَّ الشوكة المعقوفة كي ينهي المهمة , أحس به يوسف .. نهض من غفوته .. ترك الكيب المجدول, ذكّره أن النوّة مستمرةً ثلاثة أيام متلاحمة .. صهل و لم يكترث: الله كريم يا يوسف.. غرس الشوكة داخل الصندوق, وسحب أول كتلة , طوقها على ظهره بجدائلِ الخوصِ المفتولةِ, وراح يتمايل بها نحو المبرد .. عاد وطوق زميلتها .. تسربت حبات المرمر إلى سرته و بين فخذيه .. احتبس أنفاسه و تحامل بمكابرةٍ .. انتفخت أوداجه .. و ازرورقت العروق .. شعر بفرقعةٍ في مكانٍ ما , و صرخ لما دفق الدم كشلالٍ جنوبي .. انزلقت آخر قطعةً فتناثرت الخرزات كنيزكٍ متفجرٍ .. نهض يوسف على صرخةٍ مدويةٍ : أبو خليل .. أبو خليل!!! وفي لمح البصر خلع قميصه وكتم العرق بجديلةِ الخوصِ, ثم انطلق في الوحلِ يزعق في البراح الخالي .
كان التنين الهائج على الحافة يضرب بذنبه كل الأوتاد المنتصبة كالمماليك .. تدحرج الدنقل و تفصصت جوانبه كالبرتقالةِ البكرِ, فتاهت ألواحه بين الأصداف و خشخشة الفقرات .. تكومت السدود وعمّ السواد في الأرجاءِ الفسيحةِ .. التحم البحر والسماء .. احترقت الأمواج .. تصاعد دخانٌ متكاثفٌ, فاكتست السحب بدكنةٍ .. طالت الأطراف البحرية من القريةِ وطوقت عمم القش الملبوسة فوق الأسطح .. تسرسبت الأقدام من كل فجٍ ؛ يبحثون عن الأطفال في البرك .. كانت بينهم .. تركت النول والمناقيش وراحت تضرب الشوارع غير مكترثة بوسخ المجاري البارزة كالشكمانات , لكن لمحها فحشر نفسه وسط الأولاد و راح يردد معهم: يا مطرة رُخي رُخي..! اشتد غيظها .. هجمت عليه وسحبته من أذنه كأرنبٍ شتوي .. سألته عن فردةِ الحذاءِ, فأخبرها أن تسأل بائع الحلوى .. شهقت و قرعت صدرها .. كادت أن تخلع أذنه .. توعدته أن ترسله البحر مع يوسف .. حاولتُ أن أجرده, لكن جاءت طرقات الباب كالرعدِ .. دخل يوسف منتحباً, عاري الصدر و الأكتاف .. ملطخاً بالطمي حتى مفاصله, أطحتُ بملزمةٍ كانت بيدي وسبقتهما إلى المستشفى .. لم أهتم بخرزاتِ المرمرِ المتساقطةِ, لكن ارتطمت برأسي الألواح و صوت الفرقعة .. اندفع الدم على وجهي .. ملأ ملابسي .. كان صهيله يأكل الصدفية , لعنتُ الجامعة و خواء الجيوب , جربتُ أن أرصده عبر نافذة مستديرة.. كان الزجاج معتماً من الداخل .. ارتضيت بالتصنت.. لم تدعني الألواح .. عدتُ إلى النافذة .. كانت منكشفةً هذه المرة .. رمقته ممدداً .. خارت قواي , و أدرتُ وجهي, تلاهثت أنفاسي .. شعرتُ بغثيانٍ و برودةٍ لسعت وجنتي .. أسندتُ جبهتي إلى الزجاج .. استدارت النافذة أكثر و أكثر .. طافت رأسي في الفضاء الواسع .. كانت الألواح تتطاير مع الدخان القاتم .. دنوتُ من البحر.. اقتربت القاع من رأسي.. جاءت مضيفةٌ ذات ألواح مرمرية.. كانت ترقبني من آخر الصف .. همست كصفصافةٍ حانيةٍ: حمد لله على السلامة ..! , فخفق قلبي و ارتجف بانتزاعةٍ؛ لما أعلن المذيع الداخلي عن وصول الرحلة رقم 80 القادمة من بلاد الله .