عاش حياته مرفها منعمّا لا يدخن إلا السيجار الفاخر ويؤمن بأنه من جذور تركية وأنه سليل الحسب والنسب من نسل الباشاوات ، وقد ترك له أبوه مالا كثيرا وأراضٍ وعقارات ، لكنه أقر نظاما مستبدا خاصا بأسرته ، فاشترط على بناته من أرادت أن تتزوج فعليها التنازل عن كل حقوقها في أن ترث، وتتخلى عن نصيبها في الإرث مقابل العريس! .ولأنانيته وصلفه تجنب الناس التقرب منه أو مصاهرته ، ولأن الناس تحب المال حبا جمّا امتنعت البنات عن الزواج طويلا ، وحين تقدم بهنّ العمر شعرت ثلاثٌ منهنّ بالخطر وقررن الزواج والتنازل عن كل شيء مقابل أن تكون لهنّ أسر وأبناء ،وهذا ما كان ، وبقيت اثنتان مع أموال أبيهما الذي مات ولم يترحم عليه أحد، وها هنّ قد بلغن العقد السابع من العمر دون زواج تنظر كل منهما للأخرى بحسرة في بيت خالٍ من الحياة ، وأمام كل منهما سلة مليئة بأدوية الضغط والقلب والأمراض المزمنة ، ولم ينفع مالُ أبيهما في أن يكون لهما حظ من الدنيا ولو قليلا .
***
اعتكاف
ذهب ثلاثتهم للاعتكاف في ليلة القدر المباركة ، آملين بالمغفرة والدعاء وحسن الثواب، وجدوا في المسجد القريب ضوضاء وعددا كبيرا من الأطفال يشوّشون الأجواء ولا يسمح ذلك بالخشوع والراحة مع الله عز وجل ، هربوا باحثين عن مسجد آخر ينعمون فيه بالهدوء ، فوجدوا مسجدا فارها جميلا ، وحين ترجلوا من السيارة وتوجهوا لباب المسجد وجدوا عددا من الناس يقفون ويتمتمون بكلام غير مفهوم ، عند المدخل تمترس أشخاصٌ يغلقون الباب ويمنعون الدخول للمسجد ، فسأل أحدهم: ما الأمر ، أتينا لنعتكف؟ ، فأجابه الحارس اذهب لمكان آخر فالمسجد ممتلئ بعدد كافٍ من الناس! ، أراد أحدهم أن يجادل فأخذه الثاني من يده وابتعد قليلا ليشير للسيارات الفاخرة الحديثة التي تقف مع حراسات خارج المسجد ليفهم أن الحجز درجات ،وهنا مسجد خمس نجوم لا ينعم به إلا أصحاب النفوذ ، فنظر الثالث لحراس الباب وقال: جاءت منك يا جامع ، وامتنع عن الاعتكاف تلك الليلة ، وعاد ليقاطع المساجد التي امتنع عن زيارتها أعواما منذ النكبة الثانية التي حلّت بالوطن .
***
السكير
تبوأ منصبا هاما في حزبٍ يساري ، لكنه في غمرة النشوة أصبح مدمنا للخمر ، وصار التعبير عن مواقفه السياسية من خلال رؤيته في الكأس ، وتصريحاته ربما تكون حسب نسبة الكحول التي يتناولها ، وكلما تواصل معه الإعلاميون برز للناس واعظا في الكفاح المسلح ، معلنا أشد المواقف وأغرب الطرائف حتى أصبح المتابعون يرون في كلامه بصاقا _ أجلّكم الله _ . لكن الرفيق المسطول كلما سخنت الساحة تقافز ليتحف المقاومة بأطرب الشعارات ، داعيا للموت والسلاح حلا وحيدا للقضية الفلسطينية. وحين يشتد القتال في ساحة الوغى يسافر ليختبئ في منزلٍ آمن ، ويشرب كأسين نخب الانتصار ، ويغط في نوم عميق في سريره الوثير ريثما تنتهي الحرب ،فإذا ما سمع أنباءً عن الهدنة أرغي وأزبد متوعدا العدو بأقسى الضربات ، معلنا أمام الشاشات أنه ما زال مستمرا في الحرب ولا يعترف بالتهدئة لأي سبب كان ، فالشعب الفلسطيني يجب أن يقاتل حتى يموت كل المستيقظين ويتولى أمورنا المناضل السكران .
***
شهيد الأنفاق
طرد ابنه الذي لا يجد عملا واتهمه بالفشل والتقاعس ، واعتبره بلا نخوة ولا رجولة ، فهو لا يساعد أباه في ظل الحصار ولا يوفر مالا لأسرته ، خرج الابن المقهور الذي ورمت قدماه من البحث والشقاء وتشرّد في الشوارع حتى التقاه أحد معارفه وعرض عليه العمل في الأنفاق بأجر مجزٍ ، فوافق على الفور دون تردد ليثبت لأبيه نخوته وقدرته على العمل وجلب المال، في الأسبوع الأول تقاضى مبلغا ممتازا بالنسبة له وعاد لأبيه رافعا رأسه ، جالبا معه غداءً شهيًا ، فأكلوا وتنعموا وأثنى عليه والده مخبرا إياه أنه الآن حظي باحترامه ، أعطى أباه المال الذي جناه ، وعاد إلى رفح مجددا ليواصل العمل، في تلك الليلة اجتهد فصيل لا وجود له في المقاومة الحقة وأطلق قذيفة على الأرض المحتلة حول قطاع غزة ، فكان قصف الأنفاق ردا مباشرا عليها ، فأصبح الابن في عداد المفقودين ، بعد يومين انتشلت طواقم الإسعاف جثته ، وحين استلمها أباه بكى وقال : أرسلتك للموت وقتلتك بيدي ، وانهار دون جدوى ، فالندم لا يعيد الذي يضيع أبدا .
***
أيتام
حظى أحد أبنائهم بكفالة من كفالات الأيتام من إحدى الجمعيات الخيرية النشطة في الوطن ، وكانوا يعرفون جيدا أن المبلغ الذي يستلمونه أقل بكثير من المبلغ الحقيقي الذي يصل باسمهم من الكافل الخيّر ، لكنهم كانوا يتغاضون عن ذلك رغم الظروف الصعبة لأنهم يدركون أن كلمة واحدة في هذا الصدد سوف تلغي الكفالة عن طفلهم تماما ،و هم في أمسّ الحاجة لما يصرف لهم .
وصلتهم دعوة من الجمعية إلى وليمة ضخمة تقيمها الجمعية كإفطار جماعي للأيتام وأسَرهم في شهر رمضان المبارك ، وحين وصلوا إلى المكان وجدوا أن الأيتام وأسرهم يجلسون كالمنبوذين في ركنٍ قصي وكأنهم يتسولون الطعام ، بينما خصصت قاعة فاخرة لضيوف الجمعية ذوي البدل المستوردة والكروش المنتفخة ، وكانت وجباتهم غاية في التنسيق والعناية ، بينما حظي الأيتام وأسرهم بالطعام في وجبات سريعة كان الموزعون يلقونها لهم دون اكتراث ، ناهيك عن الإهانات والصراخ على كل من يتحرك من مكانه ، مما جعل كرامتهم تؤلمهم ، فخرجوا صائمين مع أبنائهم رافضين طعاما يشعرهم بالذلّة والمهانة، متسائلين :أهناك رقابة من أي نوع على هذه الجمعيات التي تزعم رعاية الأيتام وتدعي أن عملها هو جبر خواطر هؤلاء الأطفال الذين ينتظرون ابتسامة أو كلمة طيبة فيلاقون وجوها كالبوم تنفر بهم وتنهرهم بكل فظاظة ؟.