جَرير
28 - 110 هـ / 648 - 728 م
أنا جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي بن بدر الكلبي اليربوعي، أبو حزرة، من تميم.
أشعر أهل عصري، ولدت ومت في اليمامة، وعشت عمري كله أناضل شعراء زمني وأساجلهم فلم يثبت أمامي غير الفرزدق والأخطل.
كنت عفيفاً، وكنت من أغزل الناس شعراً.
كنت هجاءً من الطراز الأول، أتتبع في هجائي مساوىء خصمي، وإذا لم أجد شيئًا يشفي غلتي، اخترع قصصًا شائنة وألصقها بخصمي، ثم أعيره بها..
إتصلت بالخلفاء الأمويين، ومدحتهم ونلت جوائزهم،..
سلكت في شعري الهجاء والمديح والوصف والغزل..
وعشت حوالي ثمانين سنة.
اختلف المؤرخون في تحديد تاريخ وفاتي ، على أنني في الأغلب توفيت سنة 733م/144ه وذلك بعد وفاة الفرزدق بنحو أربعين يومًا، وبعد وفاة الأخطل بنحو ثلاث وعشرين سنة.
المديح
أكثرت من المديح ، وكانت نشأتي الفقيرة، وطموح نفسي، وموهبتي المواتية، وحاجة خلفاء بني أمية إلى شعراء يدعون لهم، ويؤيدون مذهبهم، كان كل ذلك مما دفعني إلى الإكثار من المدح والبراعة فيه. وكان أكثر مدائحي في خلفاء بني أمية وأبنائهم وولاتهم، وكنت أفد عليهم من البادية كل سنة لأنال جوائزهم وعطاياهم.
وكان مديحي لهم يشيد بمجدهم التليد ويروي مآثرهم ومكارمهم، ويطيل في الحديث عن شجاعتهم، ويعرض بأعدائهم الثائرين عليهم، وبذلك كنت أظهر اتجاهي السياسي في ثنايا مدحي لهم، وكنت إذا مدحت، استقصيت صفات الممدوح وأطلت فيها، وضربت على الوتر الذي يستثيره .
وفي الحق أنه ما كان لي من غاية غير التكسب وجمع المال، فلم أترفع عن مدح أي شخص أفاض عليّ نوافله، حتى أنني مدحت الموالي..
ذلك أن طمعي وجشعي وحبي للمال كانت أقوى من عصبيتي القبلية، ولم يكن لرهطي من الشرف والرفعة مثل ما لرهط الفرزدق، لهذا شغل الفرزدق بالفخر بآبائه وعشيرته، وقال أكثر مدائحه في قبيلته، وحتى في مدائحه لبني أمية لم ينس الفخر بآبائه وأجداده.
وتكثر في أماديحي لهم الألفاظ الإسلامية والاقتباسات القرآنية.. وقد كنت موفقاً حين قلت في الأمويين :
ألستم خير من ركب المطايا=وأنـدى العالمـيـن بـطـون راحِ؟
الفخر والهجاء
سبني مرة إبن الشاعر علد الراعي،فكانت قصيدتي (الدامغة) في سوق المربد أمام الفرزدق وعبيد الراعي ،وقد اعتبرت من أهجا ما قالته العرب :
أعـــــــد الله لـلــشــعــراء مــــنــــي =صواعقَ يخضعون لها الرقابا
أنـا البـازي المطـل علـى نميـرٍ= أتيح من السماء لها انصبابـا
فــلا صـلـى الإلــه عـلـى نمـيـرٍ=ولا سـقـيـت قـبـورهـم السـحـابـا
ولـو وزنـت حـلـوم بـنـي نمـيـرٍ=علـى الميـزان مـا وزنـت ذبابـا
فغـض الطـرف إنـك مـن نميـر=فـــلا كـعـبـا بـلـغـت ولا كـلابــا
إذا غضبـت عليـك بـنـو تمـيـمٍ =حسبـت النـاس كلـهـم غضـابـا
والهجاء عندي شديد الصلة بالفخر، فإن هجوت أفتخر، وجعلت من الفخر وسيلة لإذلال خصمي.
أما موضوع فخري فنفسي وشاعريتي، ثم قومي وإسلامي.
فإذا هجوت الفرزدق اصطدمت بأصل الفرزدق الذي هو أصلي، فكلانا من"تميم" ، وإذا هجوت الأخطل فخرت بإسلامي ومضريتي، وفي مضر النبوة والخلافة:
إن الذي حرم المكارم تغلبا=جعـل الخلافـة والنـبـوة فيـنـا
الغزل
لم يكن غزلي فناً مستقلاً في شعري، فقد مزجت فيه أسلوب الغزل الجاهلي بأسلوب الغزل العذري. فأنا أصف المرأة وأتغزل بها، ثم أتنقل من ذلك إلى التعبير عن دواخل نفسي، فأصور لوعتي وألمي وحرماني، كما أحاول رصد لجات نفسي فأقول:
يــــا أم عــمـــروٍ جـــــزاك الله مـغــفــرة!=ردي عـــلـــي فــــــؤادي مـثـلــمــا كـــانـــا
لـقــد كـتـمـت الـهــوى حـتــى تهيـمـنـي =لا أسـتـطـيــع لــهـــذا الــحـــب كـتـمـانــا
إن العـيـون الـتـي فــي طرفـهـا حـــورٌ=قـتـلـنـنـا، ثـــــم لـــــم يـحـيــيــن قــتــلانــا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به =وهــــن أضــعـــف خــلـــق الله إنـســانــا
رثاء زوجتي
الرثاء لديّ قسمان: قسم خصصتُ به أهل بيتي كامرأتي وابني، وقسم خصصتُ به بعض رجالات الدولة من الشخصيات الهامة..
ولما كنت عاطفيا، شديد التأثر، كان رثائي، بشكل عام، رقيقاً، صادقاً، نابعاً من القلب، ويؤثر في القلب..
وقد قلتُ في رثاء زوجتي:
لولا الحياء لهاجني استعبـارُ=ولــزرت قـبـركِ والحبـيـب يــزارُ
ولـهـت قلـبـي إذ علتـنـي كـبــرة =وذوو التمائم من بنيكِ صغارُ
صلـى الملائكـة الذيـن تخيـروا=والـطـيـبــون عـلــيــكِ والأبــــــرارُ
لا يلـبـث الـقـرنـاء أن يتـفـرقـوا = لــيـــلٌ يــكـــرُّ عـلـيـهــمُ ونـــهـــارُ
رثاء خاص
وقد رثيتُ نفسي حين رثيتُ خصمي الفرزدق وحاولتُ أن أقول فيه كلمة حلوة في أواخر عمره، ومما قلت:
لتبـك علـيـه الإنــس والـجـن إذ ثــوى =فتى مضـر، فـي كـل غـرب ومشـرقِ
فتى عاش يبني المجد تسعين حجة=وكـــان إلـــى الـخـيـر والـمـجـد يـرتـقـي
أسلوبي
1. سهولة ألفاظي ورقتها وبعدها عن الغرابة، وهي ظاهرة في جميع شعري، وبها أختلف عن منافسيّ الفرزدق والأخطل اللذين كانت ألفاظهما أميل إلى الغرابة والتوعر والخشونة.
2. الحس الموسيقي والموهبة العميقة، وقد ظهر أثرهما في هذه الموسيقى العذبة التي تشيع في شعري كله. وكان من طبعي الفياض خير معين للإتيان بالتراكيب السهلة التي لا تعقيد فيها ولا التواء...
خصائص شعري
1. كنت أجول في شعري في ساحات واسعة الأرجاء ، متعددة الجوانب ، فقد طرقت أكثر الأغراض الشعرية المعروفة وأجدت فيها، وأعانتني على ذلك طبيعتي الخاصة المواتية.
2. كانت المعاني في شعري فطرية، ليس فيها غور ولا تعمق فلسفي. ولكنها قريبة الحضور بالبال، ومع هذا القرب، كنت أعرضها في ثوب أنيق من اللفظ، تبدو به جذابة، شديدة التأثير.
3. إن الصور والأخيلة جاءت متصلة بالبادية التي ارتبطت بها حياتي أشد الارتباط، ولكنني مع هذا قد تأثرت تأثرا واضحا بالروح الإسلامي والثقافة الإسلامية، ولذلك يمثل شعري الحياة البدوية تمثيلاً صادقاً.
4. كانت تشيع في شعري، ولاسيما في الهجاء،روح التهكم والسخرية التي قربتني إلى قلوب العامة من الناس، وهيأت لي الظفر بخصمي.
5. لي قدرتي على انتقاء اللفظ الجزل، ومتانة النسج، وحلاوة العبارة، والجرس الموسيقي المؤثر... وخاصة في غزلي حيث العاطفة الصادقة التي تتألم وتتنفس في تعبير رقيق لين.