في مساء ما كنت على موعد والفنان التشكيلي العراقي "عمر مصلح"، إلتقيته في مرسمه وكان مشغولاً برسم لوحة تعبيرية وقفت على بداياتها وشاركته في أماسٍ أخرى تالية وهو يضع بصماته الأخيرة عليها، وما أن أنجزها حتى كتبت في وحيها شعراً أسقطه عليها.. وكأننا قد أنجزنا عملاً مشتركاً كلوحة في قصيدة أو قصيدة في لوحة، وهذا ما أثار بي حماس الكتابة عن موضوع شاعرية اللوحة أو (شعرنة الفن) كما يؤول التعبير عنه الشاعر سلمان داود محمد عند هذا الفنان المبدع حيث لا توجد ولا لوحة واحدة له إلا وتحمل الشعر روحاً وحساً وفي مخيلة خصبة تصيِّر الألوان مهمازاً للإفصاح عما يريد التعبير عنه . فحين يؤسس لعمل ما يضع الهندسة الشعرية شاخصاً له قبل الشروع بمنجزه من خلال ما تركه الشعر عليه من ظلال .. وبفعل موهبته الفنية أحال إفرازات الشعر بما ينطوي عليه من جمال ولذة الى ألوان ناطقة تفضي الى موضوعات متشعبة تفصح عن نفسها وتعبر عن روح الفنان الذي صير المجرد الى معنى والطاريء الى مكرَّس في الكلمة واللون . إن المواضيع التي يثيرها "عمر مصلح" في لوحاته تبعث على الإثارة حيث تستفز المشاهد لا بمعنى التحدي لمشاعره ، بل بمعنى تثوير الهواجس وإشاعة حالة التذمر والخروج على كل ما هو نمطي ورتيب لتبعث فيه روح التجاوز في إسقاط المفاهيم البالية والسعي الى الخلائق الإنسانية الرفيعة التي تجعل من الإنسان قيمة عليا ويكون الإبداع فيها أعلى درجات الرقي .. وهنا ثمة حقيقة كبيرة أؤمن بها تماماً.. هي أن (النص في المحتوى التشكيلي - والتشكيل في الرؤية النصية) هما تجسيد واحد لحقيقة التعبير الناضج .. لكون النص كائن حي واللوحة كذلك ، وهما تجسيدان إبداعيان يبغيان المعنى ويعبران عنه وفي حالة تحقيقه يتجاوزانه إلى تجسيد الذي لا يراه القاريء بشكل مباشر وبرؤية بصرية عادية ما لم يحيل مشاهداته الرؤيوية الى مخيلته لكي يستقريء ويحلل ويستنتج ، لذلك قد تتغير قراءة اللوحة من زاوية الى أخرى وهذا ما يتعمده المبدع في تكريس ما يريد بشكل رمزي لكي يبقى المعنى قائماً وبشكل حي.
إن أخطر الأعمال تلك التي تحمل معنيين أو تفسيرين ، فكيف إذاً إذا كان المعنى يتجاوز المحددات ، وأعني إذا كانت إشكالية التعبير تتجاوز التفسيرات وتشظي المعاني ويصبح لكل معنى له تجسيده على صعيد الكلمة واللون وهذا لوحده له أكثر من تأويل وتفسير وهذا ما أراه يكمن في شاعرية اللوحة حين يبوح الفنان عما في قلبه من خلال ألوانه الساخنة.
إن حالة التجاوز التي يسلكها الشعر ويعمقها كظاهرة ما تعبر تماماً عن المتجاوز الذي يبحث عنه الفنان التشكيلي ويطارده من أو ضربة فرشاة تلامس قلبه الذي يحسها ويتحسس بنبضاتها أي بمعنى التمرد الذي يلغي القواعد ويتجاوزها حينما لا تعبر إلا عن زمانها وبخلق ينتمي الى روح العصر الذي يرنو الى آفاق بعيدة تخلق عالمه الجديد الذي يتمناه أن يكون ولو بمسحة لون معبرة لكون حياة الفنان ملغومة بأستار وخفايا يبقى اللون عاجزاً أحياناً عن تجسيدها ، لذلك يكون كالذي يطفيء النار بالحطب .. فحين تكون أحطابه ثقيلة فأين يلقيها.؟ وحين تكون ناره جائعة فماذا يطعمها.؟، في زمن يكون الماء فيها حبيس جرفين ولا سبيل له إلا أن يسقط مطراً بعد أن تستحيل الأشياء الى ضرام ومن ثم الى رماد حيث لا ينفع فيها درأ لحطاب ولا لحامل عود ثقاب والفنان من يلقي السبب برقبة مجهول في لوحة تحمل صفاته وسماته.
إن الفنان "عمر مصلح" حين يتحدث في لوحته بمرارة ممزوجة بأقسى حالات اليأس والمتندرة على ما يحدث من غرائب وشواذ، فكأن الأمر في غاب تتصارع فيه الكواسر للفوز بمزيد من الطرائد الضعيفة التي ليس أمامها إلا خيار الموت والتمزق .. وهو تلخيص لحالات الإحباط التي تحكم الأشياء وما من خلاص أو فسحة أمل لإغاثة الفجر من قبضة الدجى وسطوته .. وفي ضوء ما تقدم أرى في اللوحة التي أكتب عنها.. إن الفنان "عمر مصلح" له من قدرة المزاوجة بين الشعر واللون ما يمكنه بلغة أشبه ما تكون بلغة المتصوفة المجذوبين الذين لا يعي أحد بسهولة ما يرمون اليه.. وله قدسية كبيرة لما يؤمن به من موضوع ويسخّر لما يؤمن كل المملكات لكي يظهر منجزه بشكل راشد تحمله روح معذبة ومتشظية في كائنات ضبابية لا تكتشف بسهولة، لأنه قلق من مجهول محموم لكأنني أشم أنفاسه المشتعلة في ضوع ألوانه المتصارعة والتي تبث روحه في جسد اللوحة ناهيك عن أنه ومن خلال اللوحة أيضاً يلخص ندمه في رهبة الماء ويحاول كسر المألوف في ريشته والخروج على رتابة القديم المنسوخ .. وقد يبدو حطاباً ونستقرأ عذابات الغصون ونخشى سطوته في اللون كما يخشى المطارد قصاص القانون. وانطلاقاً من حالة الحزن التي تنهش قلبه وتقلعه من حالة المباهج الى خرائب الأطلال حيث ذئاب المدن تطارده بين الأزقة والحارات .. وعلى الرغم من أنه لم يغفل رماح الغدر المتجهة صوب صدره ظل الأمل معطلاً تحيطه الطلاسم والرموز وهذا هو حال المبدع المضمخ بالهموم والحامل لروح المفاجأة المشاكسة .. وأجده حين يبحر في عالم لوحته كالذي يبحر في غياهب بحر لا تشرق الشمس عليه ولا يبدو له من بصيص فنار ينقذه كمرفأ قريب ، إذاً هو يعلن الأحتجاج في عين دامية وأخرى باكية ترثيان السكون والسكوت على الجرائم التي ترتكب بحق الملايين على الأرض وفي كل أرجاء العالم .. وفي استقراء تشريحي مبصر لما تفصح عنه اللوحة تبرز أمامنا أولاً التشققات في أعلى مقطع للرأس حيث تعبر عن الأزمات والكوارث التي مني بها الإنسان وتفشت في سائر ملامح الجسد لتنال البنى التحتية وتصيبها بالتهرؤ والعفن .. وفي الجانب الأيسر للوحة هناك ثلمة كبيرة تشير الى طغيان يد الحطاب ومن خلالها الجرائم التي طالت الحياة على أيدي أعداء الحياة .. لكن الكبرياء ظل أكبر من عظمة المأساة ولها في موت الأشجار وقوفاً دليلاً على تحدي الإنسان لقوى الطبيعة رغم الحرمان والبؤس وفي صبر تجاوز جلد وأناة العظماء على تحمل ظمأ الحياة، وهذا الإصرار الخرافي لا يمكن التعبير عنه إلا إبداعياً.. ولنا أن نتأمل القيء الذي يخالط انهمار الدموع لتصوير حالة الانهيار بشكل مخيف .. وإذا دققنا بشكل مبصر نجد أن (الباك راوند) الذي ينبيء عن خراب كامل لسماء الحياة .. فما هذا العنفوان المعبر في زمن مليء بالعتمة والمعميات .. من جانب آخر لنا أن نقرأ في اللوحة صورة أخرى هي صورة (المرأة - الشجرة).. فكما توصف المرأة بأغصانها التي تميل وتميس في هبوب الريح فما هذه الأزمة التي جعلت من جذع الشجرة يابساً مفطراً كي تقف وتغادر أنوثتها رغم انتمائها جنسياً الى الجسد الطري كما إن اللون الأحمر فوق العين اليسرى هو بقدر ما يعبر عن الموازنة اللونية إلا أنه يفضي معنى الى مظاهر الدماء التي سفكت وتسفك في كل هجمة تترية تصيب بني البشر، ولماذا تقصد الفنان في رسمه بشكل مستطيل فهو أولاً انعكاس للون باطن الجفن والمنتزع أساساً من فوق العين ، وثانياً يعبر عن انهمار الدماء الذي سيستطيل ويبقى مرافقاً للحياة طالما هناك قيود وأزمات وحروب.
وأخيراً وليس آخراً.. أقول هذا هو عالم "عمر مصلح" الإنسان - الفنان تلخصه لوحة تنتمي الى المدرسة التعبيرية لكنه يبقى منفلتاً في أسلوبه لا ينتمي الى أية مدرسة أو تجربة بل ويتجاوز كل المسميات .. لأن القضية التي يؤمن بها أكبر وأكبر بكثير .. أما الألوان الساخنة التي استخدمها فهذه سطوة تفرضها عليه الظروف الساخنة والتي لا بد وأن تترك ظلالها التأثيرية على نفسيته حيث لا يستطيع الهروب من وطأتها أبداً .. لأنه يبقى أسير ما يؤمن به .. وهذا هو قدر الفنان
آخر تعديل شاكر السلمان يوم 07-26-2011 في 09:13 PM.
وهنا ثمة حقيقة كبيرة أؤمن بها تماماً.. هي أن (النص في المحتوى التشكيلي - والتشكيل في الرؤية النصية) هما تجسيد واحد لحقيقة التعبير الناضج .. لكون النص كائن حي واللوحة كذلك ، وهما تجسيدان إبداعيان يبغيان المعنى ويعبران عنه وفي حالة تحقيقه يتجاوزانه إلى تجسيد الذي لا يراه القاريء بشكل مباشر وبرؤية بصرية عادية ما لم يحيل مشاهداته الرؤيوية الى مخيلته لكي يستقريء ويحلل ويستنتج ، لذلك قد تتغير قراءة اللوحة من زاوية الى أخرى وهذا ما يتعمده المبدع في تكريس ما يريد بشكل رمزي لكي يبقى المعنى قائماً وبشكل حي.
ألأستاذ مصطفى السنجاري المتألق
تحية بحجم نبلك وبهاء إبداعك
للشاعر والناقد الأستاذ فائز الحداد باع طويل ورؤية خارقة
بمتابعة واصطياد الشاردة والواردة
وهو أسم لامع وكبير في الوسط الثقافي
وشكراً لك على هذه النسائم التي عطرت المكان
وما كلماتك إلا مراود كحل تزيد العيون بريقاً
ووجودك هنا نص ياذخ الثراء الجمالي
ولوحة زاهية