كنّا ثلاثة في إحدى الجلسات, وقد ضمّتنا غرفة ً فارهة بنمارقها المصفوفة وزرابيّها المبثوثة.. وموائدها الملآى بأصناف من الحلوى وأنواع مختلفة من المشروبات.. كان مضيفنا سخي اليد كثير الثرثرة ... يطيل الحديث عن مآسي غزة وحصارها في تكرار مملّ... يجترّ معه كلّ الأحزان من اغتصاب النساء في البوسنة مرورا بكافة المحن حديثه مزيج من إجترار الحزت والبكاء على الأطلال والحسرة المريرة... ضاق صدري ولم ينطلق لساني ظل في سكون وصمت... وقد أطبق عليّ الكمد..من نكد نكش الجراح... شعرت بالضيق وكنت أضيق من الأماكن المغلقة... أشعر بأنّها بوابة سوداء تلتهمني....
خرجت من الغرفة ووصلت في هدوء إلى حديقة الفيلا الفارهة.. ثم ّ ابتسمت....
وأنا أحادث نفسي بصوت مكتوم داخلي
ـ.... عندما نتحدُّث عن المبادئ ولا نعيشها ... نكون في واد والمبادئ في واد
وإن ضجت جنبات المكان بحديث عن المبادئ...
حتما سيكون حديثا بلامعنى فارغا من كلّ محتوى... لأنّنا حينها نكون في المكان القصي البعيد عن واقعنا.. حتّى إن واصلنا الحديث عن احزاننا وآمالنا....
صدمتنا أننا سنحوّل الشعارات إلى مجرد كلام بلا معنى
كان بي جوع للكلام ... فقد طال صمتي ووجدتني انسحب مع تأملاتي بعيدا في المكان القصي..
بعد خروجي من الغرفة ذات الزينة و الأبّهة... سمعت مضيفنا يقول لمرافقي في الداخل....
ـ لوكان الأمر بيدي لطلبت منهم الخروج من الحصار ... وليتركوا تلك الارض لهم إنّها لاتعدو أن تكون مثل قطعة"الفروماج".... فأرض الله واسعة.......
إزداد ضيق صدري.. وقرفي من المكان... فالحزن رفيقي....
يومها تناهت لنا تفاصيل الأحداث الأليمة للاجتياح... كانت غزة تحت لهيب النار ... وفوّهة البركان
إنّها تحترق وتغرق في الظلام البهيم.........
أوّاه ... ليتني هناك محاصرا من اليهود في البر والجو
ذلك الحصار خير من حصار نعيشه يوميا....
في الفراغ بلا معنى تتابعت زفراتي
ـ ما أشبه اليوم بالبارحة... نفس هاته الكلمات سمعتها في مجزرة البوسنة والهرسك
كنت احاور احد الوجوه البارزة في بلادنا عن تلك المآسي ودورنا في ادارة الصراع... قال بلا تردد ليتهم يخرجون من البوسنة ونتنهي المشكلة البلاد العربية قادرة على استيعاب الجميع........
يومها انسحبت وقد إمتلأت بالحسرة المريرة..
ابتعدت عن المكان وصوته يرنّ في أذني كالناقوس
ـ لو خرجوا منها لكان خيرا لهم.......
للأرض ملح وللحبّ ملح وللامل ملح
فمن يصلح الملح إذا الملح فسد........
المجذوب
لم أمكث في الحديقة إلاّ هنيهة ... فقد طاردتني لحظات القرف, حاولت تجاوزها واهمالها... وجدت نفسي في الطريق العام.. حاولت أن أستنشق نسائم الهواء النقية ولو للحظة... أحسست أنّني أستعيد إنتعاش نفسي الملآى بدكمات وجراحات اللسان...... تحول لسانه الى لكمة تهوي على قفاي ... أفقد معها توازني...
كانت كلماته لا تزال ترنّ في أذني
ـ لو خرجوا منها لكان خيرا لهم..........
وقفت أمام شجرة امتدّت فارعة في السماء... وفي خاطري تجول الكثير من الافكار كأنّها أمواج بحر مبعثرة ومتلاطمة ... تخيّلتها كامرأة عجوز شمطاء .. تلطم وتولول ...و إحساس غريب بالغربة يعتريني...........
فجأة وجدت قبالتي رجلا بمنظر مخيف.. لا ادري من أين خرج وأي أرض لفطته لينتصب كالثمثال في وجهي.... خلته عفريتا يتنطط أمامي ... أو هكذا خيّل لي وقتذاك... لا ريب أن الارض إنشقّت فطلع منها.... جسدا بل عجلا له خوار....
كان قميئا نحيلا منكوش الرأس وعليه أسمال رثة بالية
تقدّم نحوي بخطى متثاقلة وقال لي باستعطاف
ـ إعطني درهما... "الفتوح"...
أشحت بوجهي عنه وقلت له عبارة كان يرددها صديقي ـدائما ـ وجدت هاته الكلمات تنبعث من لساني تلقائيا
ـ إنّني لا أتميّز عنك سوى بالصّبر
ابتسم الرجل فبدت اسنانه الفجة في منظر مرعب.. ثم مدّ يده نحوي ليصافحني... لم أتردّد لحظة واحدة في مصافحته... فقد احسست في أعماقي أنّني ازدريته فشعرت بالندم ...
أمسك يدي بقوّة وحرارة وقال وهو ينظر إليّ بحدّة
ـ إنّها تسكن في اعماق وجدانك
هي في العمق ... لن تتخلّص منها إلا بالموت...
إنّها والموت شيء واحد... ستظل معك ترافقك...
أحببت امرأة واحدة من بين النساء
متأسفا قال.....
ـ انت مسكين.... فارس بلا جواد
لذت للصمت فاسترسل في هذيان الكلام
جال بخاطري احساس بالغيظ والقرف لقد فررت من ذلك الثرثار فطلع لي هذا الدجال ... ابتلعت في اعماقي ذلك الغيظ وسكنت ملابسي
عمّق النظر في صفحة وجهي وابتسم ابتسامة باهتة
ـ أنت مسكين... أنّها سجنك وسجانك
ستظل في رق الحب والى الابد
ضجرت منه.. فأحسّ بما يعتمل في صدري فقال قبل أن يختفي
ـ إنّها نبيهة ونبيلة وللنباهة من اسمها نصيب
ولكنّك ستموت برصاصة هنا
أشار بيده نحو قلبه
فقاطعته بضجر
ـ لا أؤمن بالشعوذة...
قال بفتور
ـ اين صاحبك....
اعترتني الدهشة ولم ابدها له في صفحة وجهي
رفعت رأسي لأجد أمامي فراغا... لامتناهيا لقد اختفى الرجل المكدود ...
طال بي التأمل في الحديث الذي دار بيننا وهذا المشهد الغريب ماثل امامي.....
في هاته اللحظة اطلّ صديقي من الحديقة وقال لي مبتسا وكأنه أحس بالغيظ الذي خلفه في قلبي مضيفنا الثقيل
قال بابتسامته العريضة وهو يحاكي صوت المضيف
ـ لو خرجوا منها لكان خيرا لهم.........
عانقني صديقي وسرعان ما اختفينا لقد فشلنا في هاته الزيارة وجدنا الباب مغلقا وبشدة.. أحساس راودني وكتمته بين جوانحي
قلت لعليّ بأسف
ـ لقد أغلقت الابواب أمامي وعبد المعين الذي ذهبنا له ليعيننا على الخروج من البلد ... لم يعنّا ...
أنه يفكر في اخراج الناس من ارضهم التي يتشبتون بها وبقائهم فيها مسألة وجود... بينما يوصد الأبواب امامنا ونحن نريد الخروج من قفص الوطن هربا من عضة القهر ... وسياط الاضطهاد والاعتقال
يالها من مفارقة
قال لي أنّ وساطته لا تجدي ملفك اكبر من امكاناته ووساطاته
قلت بتأفّف :
لقد قضيت في السجون زهرة عمري ولا بد من الخروج
قال علي وهو يقلّد الرجل
سوف تغاذر.... فلا تكترث
مغاذرتك انت أولى لك ... ومكثهم في الارض المباركة كذلك أولى لهم
كتمت ما بي من لواعج وذكرى... بادلته الابتسامة بضحكة خجولة ثم انصرفت لقد أزف الرحيل
الملح ملح البلد ملح هنا وملح هناك
قبل الرحيل
في الغد قال محدّثي بحزم
ـ انتبه ... انت ستغادر البلاد غداا وإلى الأبد
اعتصمت بالصمت وقد حلّقت في فضاء التأمل يا لها من مفارقات غريبة ... رجل مخرف يرى حلّ القضية في خروج الفلسطينيين من غزة حتى لا يراود ه احساس بالندم والعجز ... بينما في الضفة الاخرى مقاومون يرابطون في ارضهم والى آخر نفس... مهما اشتد الحصار وألهب القهر صدورهم ... بينما أنا أحزم حقائبي هربا من آلة القمع وتكميم الافواه....في بلدي.
يا لملح الأرض
نكش محدّثي في العمق وقال بعاطفة دافئة
ـ لا بد أن تنساها... إنّني احترم تلك العواطف النبيلة التي تختزنها في اعماقك ... أنت إنسان نبيل ولكن لو تاخرت ستبقى هنا وستختفي وراء الشمس... إنهم يطلبونك... ولم يتبقّى لنا الاّ الليلة
بأسى قلت له وأنا استحضر كلمات المجذوب
ـ إنّها حمى تستنطق هلوساتي تحاصرني لأستخرج بوح أعماقي في هذيان يكشف فيض المشاعر التي انحسرت في الظل.. وتقهقرت إلى الثلث الخالي في وجداني....
ران الصمت بيننا كالعادة ـ دائما ـ الوذ للصمت والسكون
تاملت مليّا في الأفق كانت قهوتي السوداء على الطاولة ارتشفت منها آخر جرعة ثم انتفضت قائلا لصديقي بعد صمت طويل ارتفع كجدار قاس في ظلام قاتم
ـ إنّني على مشارف هذيان العمق أرغب في البوح ولكن أشعر بانفاسي مكتومة محاصرة أنّها تطاردني في أحلام الغفوة والصحوة
اتسعت حدقتا صديقي وقال في حياء
ـ من اختفى عنك وراء ستارة او خيط رفيع فلتداريه حتى لاتراه بجدار سميك
اثارتني كلماته فضحكت ملئ فمي كنت في حاحة للتنفس فتركت لضحكتي العنان ... كانت صورة مضيفنا والمجذوب منتصبة امامي
و أنا استغرق في الضحك...
يا لها من مفارقات في الزمن الرديء
في فجر اليوم الموالي غاذرت الوطن لأستقر في جوف سفينة تمخر عباب البحر كان كلّ شيء من حولي هادئا وكان مخيالي خصبا وقويا أقلب من خلاله كل صفحات الماضي القريب.. وأتذكّر بين الفينة والاخر الرجل المجذوب والمضيف المهووس باخراج الناس من ارضهم... وابتسم في سخرية وأردد بيني وبيني
ـ ما لي وللمجذوب ما لي وللمجاذيب
في الأفق هناك ملح الأرض ... ملح البلد ..ملح الحب
فمن يصلح الملح اذا الملح فسد.............