قراءة سريعة في" أمواج على شاطئ الحلم للشاعرة القديرة سفانة" :
بقلم : جميل داري
البيت الأول فيه براعة الاستهلال حيث الانتقال من هدوء الهيام إلى هدير موجه .. فالصدر والعجز كأنهما قوس قزح لا انفصام بينهما إلا شكلا.. لكنهما جوهرا تعبير عن حالة شعورية تبدأ هادئة وتنتهي صاخبة.. تماما كمن يجهش في البكاءهادئا هادئا ثم عاليا عاليا.. وهذا الأمر انتبه إليه القدماء... فجرير يقول:
إن العيون التي في طرفها حور .............قتلننا.. ثم لم يحييـن قتلانـا
فقد انتقل الشاعر من سحر العيون وجمالها إلى مجزرة ارتكتبتها تلك العيون الحور.. فالشاعر مقتول ولا حياة له بعد اليوم...
كما فعل شوقي الأمر نفسه في مستهل نهج البردة:
ريم على القاع بين البان والعلم ..........أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
هذا الريم الوديع في الشطر الأول يتحول إلى سفاح أشر في الشطر الثاني.. حيث سفك الدم وفي الشهور المحرم فيها القتال والقتل..؟
ويقول الشريف الرضي:
وتلفتت عيني فمذ خفيت ............عني الطلول تلفت القلب
تلفت العين السطحي في صدر البيت وخيبته في رؤية الحبيبة أدى إلى تلفت القلب بكل ما فيه من نبض وشوق وحرقة..
والشعر العربي غني بمثل هذه الأمثلة........
سافرت دهرا في بحور حرائقي
هنا بالإضافة الى اجتماع النقيضين: الماء والنارهناك تعبير عن سعة وعمق هذه الحرائق.. وقد جاء في القرآن الكريم: وإذا البحار سجرت أي أشعلت... فاشتعال البحر صورة تراثية حداثية في آن واحد... وهي أعمق بكثير من:معذبي ومشاعري... لأن كلمة" البحر" فيها من الإيحاء ما فيها... ومن هنا وصف حافظ إبراهيم اللغةالعربية بالبحر فقال:
أنا البحر.. في أحشائه الدر كامن
ونزارقباني قال:
لو تطلب البحـر فِي عينيك أسكبـه
............أو تطلب الشمس فِي كفيك أرميهـا
و ركِبتُ أشواقَ الرَبيعِ فشدَّني سهمٌ تعَفَّر بالهَـوى فأصابـا
هنا تعفر فيه إيحاء قوي.. فهو سهم ممرغ بالهوى ومخصص له ..غير كل السهام التي ترمى .. عدا ما في: رمى وأصاب من تقليدية يأباها الشاعرا لذي دائما يسعى إلى اصطياد" لزوم ما لا يلزم" إذا صح التعبير.....
عتَّقتُ حرفي في جِرارِ مَوَدَّتي
..............و حَضنتُ حُلمًا فتَّحَ الأبوابـا
هنا شتان بين الجرار والكؤوس... فالخمور تعتق عادة في الجرار والخوابي وأثناء الشرب فقط تسكب في الكؤوس... كما ان احتضان الحلم صورة مبتكرة ومشرقة وفيه من الحنان والدفء ما ليس في ثملت المكررة كثيرا في الشعر قديمه وحديثه
هنا لو قالت الشاعرة: وارتحل بحرائقي لتغير المعنى رأسا على عقب كما سيحدث حشو سمج بين: ارحل وارتحل... أما اكتحل ففيها قسوة العتاب والمعاناة... فالحبيب هش بارد يتكحل ويتجمل غافلا عنها .. غير مبال بحرائقها المزمنة... لذا تخيره بين الخروج من حياتها راحلا إلى غير رجعة أو البقاءمعها علاجا لروحها المعذبة....
القصيدة ملأى ببلاغيات كثيرة... فلا يكاد يخلو بيت من خيال مجنح أو لون من ألوان البديع بدءا من البيت الاول:
يحكى بأن القلب هام عذابا
.............وعلى هدير الموج ثار عبابا
هذه االبداية بالفعل المبني المجهول"يحكى" تأخنا إلى عباب النص وأغواره السحيقة فالقلب هام: استعارة مكنية.. ومراعاة النظير بين: الموج والعباب... والتصريع بين عذابا وعبابا وتكرار حرف المد الألف: يحكى.. هام.. عذابا.. ثار.. عبابا.. يضفي جوا من الدهشة والإعجاب على البيت شكلا ومضمونا....
كما إن التنويع بين أسلوبي الخبر والإنشاء أضفى حركة وحيوية على النص... فلا شيء مثل الإنشاء يعبر عن النفس التواقة إلى التجديد والتغييروارتقاء مدارج الكلام
النداء والاستفهام والأمر: هذا التنوع الإنشائي جاء عفو الخاطر... مما يؤكد على أن شاعرتنا سفانة تغرف من بحر ولا تنحت في صخر .......
أمواج على شاطئ الحلم
نص قابل لأكثر من قراءة واختلاف ..وهذا برأيي الشعر الأرقى والأبقى ..وقديما قال المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها ............ويسهر الخلق جراها ويختصم