بانوراما ليبية
ليس ببعيد على ذاكرة الجميع، مقولة الشرق الأوسط الجديد، التي عملت على تنفيذها علنا سيئة الذكر، وزيرة الخارجية الأمريكية "كوندليزا رايس"، في عهد غير المأسوف عليه، الرئيس الأمريكي "بوش" الإبن. اعتمد تنفيذ هذه السياسة التفتيتية على ما يسمى؛ بنظرية الفوضى الخلاقة، وهي بمعناها الحقيقي تقتضي من أمريكا خلق فوضى في أي بلد يراد تفتيته، وترك هذه الفوضى تخلق حالات جديدة، لا بد أن تفتح لأمريكا العديد من المنافذ، كي تدق إسفين التفريق والتفتيت براحة وسهولة.
والغاية من هذه السياسة خلق دول فسيفسائية ضعيفة وصغيرة حول إسرائيل، التي تستطيع بكل يسر، وفي أي وقت وظرف، شد أذن أي منها، بل وصفعها ودوسها إذا اقتضى الأمر.
لا شك أن روح التحرر قد دبت في الشباب العربي من المحيط إلى الخليج، حين جرب الحرية في حياته الافتراضية، التي عاشها على صفحات الإنترنت. من غير المقبول ظلم الشباب، في ربط ثورتهم نحو التحرر بمخططات خارجية، أمريكية أو إسرائيلية، بل من المؤكد أن دوافع الشباب نحو الثورة، لا تخرج عن توقهم للحرية، وسعيهم في طريق التحرر المنشود. وربما تفاجأ الغرب بثورة الشباب في تونس البداية، كما تفاجأ العالم العربي نفسه، والجميع تساءلوا متعجبين، كيف لصفعة واحدة من يد شرطية، على خد الجامعي بائع الخضار المتجول "البوعزيزي"، أشعلت لهيب الثورات في هشيم العرب! بينما أدمن العرب صنوف الضيم والذل قرونا عدة، بصبر الجمال، وتحمّل العبيد!
كعادتها بحثت الدول الغربية برفقة أمريكا، عن الاستفادة من كل ظرف جديد، فتضاربت المصالح بعض الشيء، لكنها التقت جميعها في العمل على إضعاف الدول العربية وخاصة البترولية، وتفتيتها. لاقت أمريكا ما تصبو إليه، في توافر الإمكانية بيسر لتنفيذ سياستها في إقامة شرق أوسط جديد. وهنا مربط الفرس.
جرت أحداث ثورة الشباب في ليبيا متواترة، وغير خارجة عن الإطار العام للثورات في تونس ومصر، لكن تحول التظاهرات السلمية إلى صدام مسلح بين المتظاهرين المسالمين من جهة، وبين السلطة، التي حملت في نفس قائدها الصفة الإلهية من جهة أخرى، فلم تكن مستعدة لقبول أية معارضة لأوامرها، مهما كانت هذه المعارضة. كل ذلك قد فتح أمام أمريكا خاصة، باب تقسيم ليبيا على مصراعيه. فسعى الفرنسيون والبريطانيون سريعا للإفادة من الصراع، وتريث الأمريكيون يدرسون مصلحتهم، وإمكانية تطبيق سياستهم، على ضوء جهلهم لهوية الثوار الليبيين، ووضع خارطة طريق، تمنهج سياستهم في المراحل والظروف المحتملة. فتحقق نتيجة لذلك قرار مجلس الأمن رقم 1940/، ثم القرار 1943/، بعد أن اكتملت نظرية أمريكا لسياساتها المستقبلية في ليبيا، وتمت مقايضة المصالح بين القائمين الثلاثة على استصدار القرار، وبين دول الفيتو الأخرى؛ الصين وروسيا. ولا عجب أن السياسة الدولية تسير بطريقة البيع والشراء، بعيدا عن المثل والقيم والأخلاق.
كان الدرب الأسهل لاقتسام ليبيا، ونهب ثرواتها مدة من الزمن، هو درب التدخل المسلح على الأرض، لكن المجلس الانتقالي الليبي والجامعة العربية، وقفا حجر عثرة أمام تدخل قوات أرضية للتحالف، فغيروا سياستهم بما يوصلهم إلى غايتهم من زواريب خلفية ملتفة. ولقد تجسدت هذه السياسة في أمرين اثنين:
الأول؛ السير في تأمين الغطاء الجوي، موضوع قرار مجلس الأمن 1940/، وهو عمل مأجور ستدفع ليبيا كلفته فيما بعد أضعافا مضاعفة.
والثاني؛ القيام بإجراء توازن في القوى على الأرض بين الثوار وبين كتائب القذافي، استنادا إلى القرار 1943/، بذريعة حماية المدنيين.
فالأمر الأول سمح لطيران وأسطول التحالف بتدمير جميع الأسلحة الليبية الجوية والمضادة للطيران والمطارات، والتي دفع الشعب الليبي حياته ثمنا لها، وكان عليه أن يدفع ثمن تدميرها أيضا. تلك الأسلحة التي سيعود الشعب الليبي فيما بعد لشراء بديل عنها من نفس القوى التي دمرتها، فيكون ربح دول التحالف لا يقدر بثمن!
وعلى هامش ما سبق، دعونا نتساءل:
لقد تم تدمير أسلحة ليبيا بالكامل، دون أن تخسر الدول المدمرة جنديا واحدا أو طائرة واحدة، أللهم إلا طائرة سقطت بسبب عطل فني، فأية أسلحة تلك، وما نفعها للدولة التي اشترتها برهن ومبيع ثرواتها!؟ ولماذا نقوم بشراء أسلحة، لا تسطيع الدفاع عن نفسها، فضلا عن الدفاع عن الشعب الذي اشتراها بقوته ورفاهيته وتقدمه؟! لماذا نشتري أسلحة يستطيع عدونا تدميرها في أية لحظة ودون أية خسارة؟!
أما الأمر الثاني، فقد سمح لقوى التحالف بتوجيه ضربات جوية لبعض الأهداف الأرضية، بحيث تحقق التوازن بين القوى المتصارعة، كي تبقى ضمن حدود التقسيم المطلوب، وتضمن كذلك دوران عجلة الصراع.
إذن، لقد وظفت دول التحالف الطلعات الجوية لمصلحة سياستها في التقسيم، فحدت من طلعاتها أو كثفتها، بما يضمن استمرار الصراع دون حسم، قبل وضوح الحدود التقسيمية على الأقل.
لست أفهم كيف يتسنى لقوات القذافي المدرعة السير في صحراء مكشوفة، مسافة مئات الكيلومترات، دون غطاء جوي، بل وبوجود غطاء جوي من قبل طيران التحالف، المفروض أنه معاد للقذافي وقواته! وذلك حين تقدمت قواته بعد انسحابها، من مدينة "سرت" شرقا نحو "اجدابيا"، واحتلت في طريقها الميناء النفطي الهام "رأس لانوف"، ومن بعده "البريقة"، التي يتمركز حولها القتال الآن، في حين تقف قوات التحالف متفرجة على الحرب الضروس، التي تدور هناك!
ثم ما لا نفهمه أيضا، هو الاتفاق الدولي على رحيل القذافي وعدم مشروعية حكمه في جانب، وبين رفض هذه القوات قصف مقر القذافي وأمكنة تحشد قواته، بينما يتمّ الحديث الأمريكي عن إمكانية تسليح الثوار الأغرار، لقيامهم بالتضحية بأرواحهم في مواجهة الجيش المدرب للقذافي!؟
كذلك لا نجد تبريرا أو جوابا لسؤالنا: لماذا يتم التركيز من قبل قوات القذافي، على قصف وتدمير القرى والمدن في الجبل الغربي و"مسراطة"، تحت نظر وعدم تدخل طيران التخالف!؟
وبرأينا أن ما يعيق قوات التحالف عن تكريس التقسيم والعمل به، هو بقاء بعض أجزاء المنطقة الغربية الهامة تحت سيطرة الثوار؛ ك"زواره: و"الزنتانة" و"الزاوية"، إضافة إلى "مسراطه".. وهي مناطق تعيق التقسيم المطلوب، إلى غرب ليبي عاصمته "طرابلس"، تحت حكم القذافي، يمتد من حدود "تونس" شرقا إلى حدود الهلال النفطي، وبين شرق ليبي عاصمته "بنغازي"، تحت سيطرة الثوار، يمتد حتى الحدود المصرية. ونعتقد أيضا أنه حالما يتم فرز القوات على الأرض، سيعلن عن وقف لإطلاق النار، وفق الحدود التقسيمية الجديدة، وبهذا تتهيأ لأمريكا سياستها التفتيتية في ليبيا، كي تنتقل بثقلها إلى اليمن، كي تقوم بتقسيمه أيضا إلى نصفين؛ شمالي عاصمته "صنعاء" وجنوبي عاصمته "عدن".
3/4/2011
نبيه محمود السعدي