قَوْله: (بَاب الْحَرْب خَدْعَة) أَوْرَدَ مِنْ طَرِيق هَمَّام بْن مُنَبِّه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا وَمِنْ حَدِيث جَابِر مُخْتَصَرًا وَفِي أَوَّل الْمُطَوَّل ذِكْر كِسْرَى وَقَيْصَر, وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَى هَذَا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة.
وَقَوْله " خَدْعَة " بِفَتْحِ الْمُعْجَمَة وَبِضَمِّهَا مَعَ سُكُون الْمُهْمَلَة فِيهِمَا وَبِضَمِّ أَوَّله وَفَتْح ثَانِيه. قَالَ النَّوَوِيّ: اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأُولَى الْأَفْصَح, حَتَّى قَالَ ثَعْلَب: بَلَغَنَا أَنَّهَا لُغَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو ذَرّ الْهَرَوِيُّ وَالْقَزَّاز. وَالثَّانِيَة ضُبِطَتْ كَذَلِكَ فِي رِوَايَة الْأَصِيلِيِّ. قَالَ أَبُو بَكْر بْن طَلْحَة: أَرَادَ ثَعْلَب أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَعْمِل هَذِهِ الْبِنْيَة كَثِيرًا لِوَجَازَةِ لَفْظهَا وَلِكَوْنِهَا تُعْطِي مَعْنَى الْبِنْيَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ, قَالَ: وَيُعْطِي مَعْنَاهَا أَيْضًا الْأَمْر بِاسْتِعْمَالِ الْحِيلَة مَهْمَا أَمْكَنَ وَلَوْ مَرَّة وَإِلَّا فَقَاتِل ; قَالَ: فَكَانَتْ مَعَ اِخْتِصَارهَا كَثِيرَة الْمَعْنَى.
وَمَعْنَى خَدْعَة بِالْإِسْكَانِ أَنَّهَا تَخْدَع أَهْلهَا, مِنْ وَصْف الْفَاعِل بِاسْمِ الْمَصْدَر, أَوْ أَنَّهَا وَصْف الْمَفْعُول كَمَا يُقَال: هَذَا الدِّرْهَم ضَرْب الْأَمِير أَيْ مَضْرُوبه. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا مَرَّة وَاحِدَة, أَيْ إِذَا خُدِعَ مَرَّة وَاحِدَة لَمْ تُقَلْ عَثْرَته. وَقِيلَ: الْحِكْمَة فِي الْإِتْيَان بِالتَّاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْوَحْدَة؛ فَإِنَّ الْخِدَاع إِنْ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَأَنَّهُ حَضَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ مَرَّة وَاحِدَة, وَإِنْ كَانَ مِنْ الْكُفَّار فَكَأَنَّهُ حَذَّرَهُمْ مِنْ مَكْرهمْ وَلَوْ وَقَعَ مَرَّة وَاحِدَة, فَلَا يَنْبَغِي التَّهَاوُن بِهِمْ لِمَا يَنْشَأ عَنْهُمْ مِنْ الْمَفْسَدَة وَلَوْ قَلَّ؟
وَفِي اللُّغَة الثَّالِثَة صِيغَة الْمُبَالَغَة كَهُمَزَة وَلُمَزَةٍ, وَحَكَى الْمُنْذِرِيُّ لُغَة رَابِعَة بِالْفَتْحِ فِيهِمَا, قَالَ: وَهُوَ جَمْع خَادِع أَيْ أَنَّ أَهْلهَا بِهَذِهِ الصِّفَة, وَكَأَنَّهُ قَالَ: أَهْل الْحَرْب خَدَعَةٌ.
قُلْت: وَحَكَى مَكِّيّ وَمُحَمَّد بْن عَبْد الْوَاحِد لُغَة خَامِسَة كَسْر أَوَّله مَعَ الْإِسْكَان, قَرَأَتْ ذَلِكَ بِخَطِّ مُغَلْطَايِ.
وَأَصْل الْخَدْع إِظْهَار أَمْر وَإِضْمَار خِلَافه. وَفِيهِ التَّحْرِيض عَلَى أَخْذ الْحَذَر فِي الْحَرْب, وَالنَّدْب إِلَى خِدَاع الْكُفَّار, وَأنَّ مَنْ لَمْ يَتَيَقَّظ لِذَلِكَ لَمْ يَأْمَن أَنْ يَنْعَكِس الْأَمْر عَلَيْهِ, قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَاز خِدَاع الْكُفَّار فِي الْحَرْب كَيْفَمَا أَمْكَنَ, إِلَّا أَنْ يَكُون فِيهِ نَقْضُ عَهْد أَوْ أَمَانٍ فَلَا يَجُوز. قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ: الْخِدَاع فِي الْحَرْب يَقَع بِالتَّعْرِيضِ وَبِالْكَمِينِ وَنَحْو ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيث الْإِشَارَة إِلَى اِسْتِعْمَال الرَّأْي فِي الْحَرْب: بَلْ الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ آكَد مِنْ الشَّجَاعَة, وَكَذَا وَقَعَ الِاقْتِصَار عَلَى مَا يُشِير إِلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيث, وَهُوَ كَقَوْلِهِ " الْحَجّ عَرَفَة ".
قَالَ اِبْن الْمُنِير: مَعْنَى الْحَرْب خَدْعَة أَيْ الْحَرْب الْجَيِّدَة لِصَاحِبِهَا الْكَامِلَة فِي مَقْصُودهَا إِنَّمَا هِيَ الْمُخَادَعَة لَا الْمُوَاجَهَة, وَذَلِكَ لِخَطَرِ الْمُوَاجَهَة وَحُصُول الظَّفَر مَعَ الْمُخَادَعَة بِغَيْرِ خَطَر.
(تَكْمِيل): ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ أَوَّل مَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الْحَرْب خَدْعَة" فِي غَزْوَة الْخَنْدَق.