قوله تعالى: { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أي يرشدني إلى الدين.
{ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أي يرزقني.
ودخول { هو} تنبيه على أن غيره لا يطعم ولا يسقي؛ كما تقول : زيد هو الذي فعل كذا؛ أي لم يفعله غيره.
{ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} قال { مَرِضْتُ} رعاية للأدب وإلا فالمرض والشفاء من الله عز وجل جميعا.
ونظيره قول فتى موسى { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ[1]}.
{ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } يريد البعث وكانوا ينسبون الموت إلى الأسباب؛ فبين أن الله هو الذي يميت ويحيي.
وكله بغير ياء { يَهْدِينِ } { يَشْفِينِ} لأن الحذف في رؤوس الآي حسن لتتفق كلها.
وقرأ ابن أبي إسحاق على جلالته ومحله من العربية هذه كلها بالياء؛ لأن الياء اسم وإنما دخلت النون لعلة.
فإن قيل : هذه صفة لجميع الخلق فكيف جعلها إبراهيم دليلا على هدايته ولم يهتد بها غيره؟
قيل : إنما ذكرها احتجاجا على وجوب الطاعة؛ لأن من أنعم وجب أن يطاع ولا يعصى ليلتزم غيره من الطاعة ما قد التزمها؛ وهذا إلزام صحيح.
قلت : وتجوز بعض أهل الإشارات في غوامض المعاني فعدل عن ظاهر ما ذكرناه إلى ما تدفعه بدائه العقول من أنه ليس المراد من إبراهيم.
فقال { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أي يطعمني لذة الإيمان ويسقين حلاوة القبول.
ولهم في قوله { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وجهان :
أحدهما : إذا مرضت بمخالفته شفاني برحمته.
الثاني : إذا مرضت بمقاساة الخلق، شفاني بمشاهدة الحق.
وقال جعفر بن محمد الصادق : إذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة.
وتأولوا قوله { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } على ثلاثة أوجه: فالذي يميتني بالمعاصي يحييني بالطاعات.
الثاني : يميتني بالخوف ويحييني بالرجاء.
الثالث : يميتني، بالطمع ويحييني بالقناعة.
وقول رابع : يميتني بالعدل ويحييني بالفضل.
وقول خامس : يميتني بالفراق ويحييني بالتلاق.
وقول سادس : يميتني بالجهل ويحييني بالعقل؛ إلى غير ذلك مما ليس بشيء منه مراد من الآية؛ فإن هذه التأويلات الغامضة، والأمور الباطنة، إنما تكون لمن حذق وعرف الحق،
وأما من كان في عمى عن الحق ولا يعرف الحق فكيف ترمز له الأمور الباطنة، وتترك الأمور الظاهرة؟ هذا محال. والله أعلم.
قوله تعالى: { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} { أَطْمَعُ } أي أرجو.
وقيل : في حقه، وبمعنى الرجاء في حق المؤمنين سواه.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق {خطاياي} وقال : ليست خطيئة واحدة.
قال النحاس : خطيئة بمعنى خطايا معروف في كلام العرب، وقد أجمعوا على التوحيد في قوله عز وجل { فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ[2]} ومعناه بذنوبهم.
وكذا { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ[3]} معناه الصلوات.
وكذا {خَطِيئَتِي } إن كانت خطايا. والله أعلم.
قال مجاهد : يعني بخطيئته قوله { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا[4]}
وقوله { إِنِّي سَقِيمٌ[5]}
وقوله : إن سارة أخته. زاد الحسن وقوله للكوكب { هَٰذَا رَبِّي[6]}
وقال الزجاج : الأنبياء بشر فيجوز أن تقع منهم الخطية؛ نعم لا تجوز عليهم الكبائر لأنهم معصومون عنها.
{ يَوْمَ الدِّينِ } يوم الجزاء حيث يجازي العباد بأعمالهم.
وهذا من إبراهيم إظهار للعبودية وإن كان يعلم أنه مغفور له.
وفي صحيح مسلم عن عائشة؛ قلت يا رسول الله : ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟
قال : لا ينفعه إنه لم يقل يوما { رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين} هو بمعنى اليقين