المقهى
كسائر على سطح القمر ,, خرج ابن السبعة عشر ربيعا مترنحا من المقهى البغيض القابع على ناصية الشارع , بزحامه , وروائح الشيشة التي تلوث المكان بدخانها اللزج , وصخب الجالسين ,,,بلاء وحلّ على سكان حيّنا الهادئ , ذلك المقهى,, فبابه المشرع على طرفي الشارع, والكراسي المبعثرة على الرصيف وهي تسدّ الطريق على المارة, وعبارات التحرش السمجة التي تتعرض لها طالبات المدرسة ذهابا وايابا من قبل الحثالة,, وما زاد الطين بلة :تعوٍّد شباب الحي وإدمانهم التواجد فيه من غير رادع ولا رقيب,, أطفال بعمر الزهور ينخر دخان الشيشة صدورهم, وما خفي كان اعظم ,حيث انتشرت مؤخرا ظاهرة الحبوب المخدرة مذابة في الشاي بحجة زيادة التركيز للطلبة , وبأسعار لا تكاد تذكر في بادئ الامر.
الآباء , اين هم الآباء ؟ إنهم يخرجون صباحا ولا يعودون الا في المساء, وقد هدهم كدح النهار, لا يكادون يتناولون ما تيسر, حتى يغطّوا في سبات عميق ليواصلوا الكدح من وقت مبكر في اليوم الثاني ,,فمن ورائهم افواه لا تعرف القناعة,, اما الامهات فلا حول لهن ولا قوه, سوى التهديد بوالد حولّه الزمن الى مكوك حائك من غير شعور ,, والمدرسة لم تعد من ضمن اهتمامات الكثير من الطلبة فما الجدوى برأيهم من شهادة تلصق على الحائط ,وطوابير من الخريجين تنتظر فرصة تعيين مستحيلة ,, حتى التجأ الكثيرون الى مساطر العمال التي اكتظت بدورها بأفواج العاطلين.
استوقفته في تلك الساعة المتأخرة من الليل , انه ابن جاري العزيز وهو يحمل رأسه بكلتي يديه من شدة الصداع ,لأسأله ذلك السؤال المعهود(ما الذي يسوقك الى هذا السم يا بني؟), وليتني لم اسأله فقد اجابني بسيل من الاسئلة هو الآخر, احترت عن ايّها اجيب , وكأنني شتمت العنب الأسود (من انت؟ وبأي حق تحاسبني؟ وفي اي عالم تعيش؟ هل انت من سكان المريخ؟ الا ترى ما يدور حولك يا رجل, ام انك نائم؟ الا ترى الارض وهي تدور بالمقلوب؟ وهل تريد ان تحبسني في البيت كالمخنثين؟ او تفهمني انكم في شبابكم لم تقعوا في الخطأ؟
اذهلني ذلك الصبي , سبحان الله من اين اتى بهذا الكم من القبح؟ فبالأمس القريب كنت ادرّسه قواعد اللغة العربية,, ذكيا , ناعما لا يجرؤ حتى على النظر في وجهي,, وها هو اليوم يجادلني وبكل وقاحه بصوته المرتفع, بل ويحاول ان يثبت لي ان كل ما علمته من افكار ومبادئ: كان كذبة سمجة, ومجرد اوراق ذابت سراعا في ماء الشيشة في أول جلسة له مع رفاق السوء , على مقاعد ذلك المقهى القذرة.
الحق اقول:- اقتلعني ذلك الصبي المسطول من الجذور, وادركت حينها ان كل طرقنا في التربية والتوجيه كانت فاشلة ,ومثالية تفتقر الى الواقع كشجرة زينة من غير جذور,, تقتلعها الريح من أول هزة .
وهو يسترسل بخطبته العصماء ,, بدأ يسطّر لي اسماء اشخاص كنت الى وقت قريب اعتبرهم مثلي الاعلى في الحياة,, اساتذة ورجالات مجتمع بل ودين ,, ركعوا اذلاّء امام اغراء المادة وسطوة المال, حيث بلغ بهم الانحطاط ان يمدوا ايديهم صاغرين لدراهم معدودات, مقابل اسئلة الامتحانات , او التوقيع على شهادات مزوره لأبناء الاغنياء,, عجبا كيف يستطيع الانسان ان يبيع نفسه هكذا؟.
وبدل ان اصفّق له كما كان ينتظر مني , بادرته بتلك الصفعة التي كانت ذات يوما تعيد لأمثاله صوابه ,, دار حول نفسه لكنه لم يسقط بل ضحك ضحكة طويله يقطّعها كنغمة نشاز,, وكأن عشرات الكؤوس تتكسر في صدره , لكثرة ما خرب الدخان ذلك الصدر الفتي ,, ابتعد عني وهو يمسح فمه, فرفعت صوتي مهددا طيب غدا سيكون لي كلام مع والدك ,, ها ها ها الم اقل لك يا أستاذي انك من اصحاب الكهف؟,, واين هو والدي برأيك , الم تسمع بزواجه قبل ايام من سكرتيرته الشابة حيث ترك البيت ولم يعد يحتمل دخول زقاقنا الضيق بسيارته الفارهة .
وكيف تعيشون اذن؟ لا هذه اخر همومنا ,,فالسيد الوالد يبعث بمتطلبات البيت والمصروف مع ساعي الدائرة ,, وقبل ان تتحول تلك الضحكة الى شهقات تشبه البكاء ,, أدار وجهه عني قاصدا باب منزله المجاور, مترنحا كمن يسير على سطح القمر