تلك هي ليالي الشتاء عندنا في الهضاب العليا ، باردة و ممطرة ، يكشف البؤس فيها عواراتنا وتجاهرنا أيامها بالحرمان ، على ارتفاع 800م عن سطح البحر، كأننا نتصعد الى السماء ، وسط الجبال الشامخات التي أقسمنا بها في نشيدنا الوطني ، الأودية الموسمية ، كالوشم الجميل على جسد الحسناء و الغابات الجميلة التي تتحدى حرائق البحث العبثي عن الارهاب ، هجرتها القواطع و الأوابد.، و فرضت النزوح على الأهالي ، في هذه الولاية التي أهملت معالمها التاريخية و تجاهلت صانعيها ببديهية حمقاء ، لما تسيس البدو فيها و تحكم الأعراب في رقاب التاس و زمام الأمور، تقود أعراف الموالين القافلة ، و يعرفنا جغرافيوها بأننا في منطقة رعوية لا تجمعنا الا القرى الاشتراكية في المناطق النائية ، حيث يغتال التمدن و تنتهك قيم الحضارة بمفهومها العصري ، و تحول العصرنة المستوردة الى شريط الساحل و الى ولايات تسلط أبناؤها على الرقاب و احتكروا التاريخ و استعبدونا بشرعيات مختلفة ...اما بالحديد و النار ، و اما بالدين ، و اما باللغة ...هكذا تعددت أربابنا لنعيش مسخ الخلاف و الاختلاف تحت لواء الشعب العظيم الذي قتلوه بتهمة الرجعية ، ثم بتهمة الكفر ، و سيقتلونه بتهم آتية كسواد الليل المدلهم ...
فقلت له : سودتها يا صاحبي ، و كاد الكبد أن يتفجر فعد بنا الى بيت القصيد
فقال: ان مأساة خضراء ، صنعها هؤلاء الوحوش ، حتى الصدف كانت ضدها ، أصبر ستتمزق أكثر يا صاحبي ....
سميت ولايتنا ...شقية ..، نسبة الى عاصمتها المدينة الشقية ، أحداث هذه المأساة تجري في ..عين القسوة ..قرية من قرى هذه الولاية ، و ما أكثر العيون في بلدنا ، بداية من عين الفوارة الشهيرة ، وحدها هذه العين التي لا يرتوي منها هذا الشعب ،انها رمز الحضارة و التفتح ، و شهادة مرور التاريخ من هنا ، هكذا يقدس الفن عندنا و يتغير المفهوم الأخلاقي ، هكذا يجب أن نمارس الحضارة و التفتح و نخلد القيم الانسانية و آثارها مآثرها...هكذا يجب أن نكون... أو لا نكون ...
عين القسوة منطقة زراعية رعوية ، كانت اراضيها كلها تحت مزارعي الاستعمار الفرنسي اخصب الأراضي و أجملها ، يسكنون القرية و لهم في كل مزرعة مساكنا على الطراز الريفي الأروبي أنذاك ، مزينة بأشجار السرو ،زمز الخلود و البقاء و التحدي و فرض الذات ، و كان الأهالي كلهم اما يعملون من طلوع الفجر عندهم الى غسق الليل ، على فرنكات البؤس و الفقر ، أو رعاة تبتلعهم السهوب و الفيافي طوال السنة ، هؤلاء هم من أسس بعد الاستقلال لنظام حول قاطرة النتائج كلها، لتصب في هاوية بعيدة عن كل هوية ، سكنوا مساكن المعمرين و سلكوا مسلكهم في تسيير الريع بعصيهم و عفيون جديد..الشقاء يا صديقي لا يصنعه شيء واحد ...هي ذي الظروف التي تترعرع فيها معاناة خضراء ، ضحية هذه القصة بحوادثها المؤلمة ، و قدر أريد له أن يسقي الضعفاء المرارات ، و تدفع الذاث البشرية ثمن بقاءها ، و بقاءها فقط ، آلاما و آهات ، و دموعا ، ذنبها الوحيد أنها جاءت الى الحياة في الوقت الغير مناسب ..هنا في هذا البيت الذي كان يسكنه المسيو صونديرو ، بدأ الشقاء يوما يؤسس لمعاناة انسانية يعجز اللسان عن وصفها ...
كان الليل حينها قد غمر الكون و خيم السكون و هجعت الحياة ، و في مثل هذه الساعة دائما ، ساعة مولد خضراء ، يرتفع ذلك النداء الذي ينبعث من أدغال الصمت ، من عمق ظلام النفس ،يتشكل منه سواد شبح قادم من كل جهة ، كأنها مقيدة فوق هذا السرير الموحش ، المسكون بلعنة شرسة تترصدها ، لا تمل و لا تغفل و لا تيأس ...منكمشة تحت الغطاء تحاول اسقاط تلك السنوات من العمر ، حديدية الأطراف ، في صراع مع هذا الأرق ، يحول الآرهاق زفراتها الى أنين ، يخرجها من الخيال الى مصرح الاحتمالات الرهيبة ...فتحت عينيها ، تنفست الصعداء ، نبضات قلبها تكاد تطغى على دقات المنبه التي تطارد الزمن لبلوغ ساعة الاستنفار ، كانت الغرفة مظلمة ، ترد جدرانها صدى الآيقاع بطريقة عجيبة تثير الأعصاب ، مزج فيها السكون بضوضاء النفس اللوامة و حركات العقارب التي تطوي المسافات من العمر في عجالة مفرطة ، تخفي سذاجتها الحدث بالحدث و تنتقل من حال الى حال ، يتداول كل شيء في نفسها و تتعاقب الزوابع ...النقاط اللامعة المضيئة و سط الظلام على شكل دائرة مفرغة ، ينبعث من مركزها شعاعان ، تشير بهما الى الساعة الثانية صباحا ، انها لم تنم أكثر من ساعة واحدة ، و لم يتخلف ذلك الكابوس الذي يطاردها في النوم مثل اليقظة . و بدأت من جديد ساعات العذاب و التأنيب ، يمزق الندم بمخالبه المفترسة الطوية الكتوم ، تتقلب يمينا و شمالا ، تدس رأسها تحت الوسادة ، تتوسدها ، تشد رأسها بين يديها ، تعض على شفتها ، محاولة بذلك أن تدفع تلك الفكرة الجنونية بعيدا بكل ما تملك من قوة ، تصاعدت وتيرة تنفسها وامتزج خفقان القلب بريبة سكون المحيط الذي يحرك النوابض في كل شيء ، استحودت الروح الشريرة على مجمع الحواس، فانسلت من فراشها كأنها حية انسلخت ، و تسربت من غرفتها الى المطبخ ، حملت خنجرا و خرجت تشد بين أنيابها على ارادة كانت تخونها دائما ، ارادة تكاد تنفلت من حين الى حين ، تمشي على دقات قلبها و الدموع متحجرة في عينيها التي تكاد ان تتفجر من شدة الاختناق ، تشق الرواق تحت ضوئه الشاحب في اتجاه غرفة خضراء ...و لما وصلت أمام الباب التفتت يمينا و شمالا ، انتظرت قليلا ، ثم دخلت و أغلقت باحكام ، أسندت ظهرها اليه تتحسس و تستجمع قواها ، وهي تحدق فيما حولها بدافع غريب وقع بصرها على صورة لخضراء في عيد مولدها الأول ، تحفة فنية صغيرة من متاحف أفريقيا السوداء وسط اطار مذهب على طاولة السرير ، يعكس زجاجه الضوء المتسرب من فجوات النافذة ، فتقدمت و هي ترتعش ، تطوي بخطوات مترددة خمسا و عشرين ستة من العمر في لحظات ، تريد القضاء على ذلك الكابوس الذي يطاردها ، تريد أن تجعل له نهاية في هذه الليلة...أشاحت بوجهها عن الصورة لتقطع شريط الذاكرة ، فوجدت نفسها أمام واقع يتحدى ...انها ممدودة تتوسد دراعيها ، تعانق ببراءة حلم الحياة ،على ضوء الشارع الذي يتخلل الفجوات و ينعكس على بياض السرير ، تظهر صورة من الظل الأسود ،انها مستلقية على الفراش ...أروع ما أبدعت يد الخفاء في رسم غرفة نوم لملكة الجمال عند الزنوج ، و أمام هذا المشهد المستسلم الآمن الذي تزينه الطمأنينة ، صرخ الواقع في وجه سترة ، صرخة البراءة يتحدى القدر المزيف الذي أريد له ، فبدأ مفعول القلب يحل محل تفكير العقل ، و كأن جسدها تلقى حقنة من منبع العاطفة ، فأحيا مشاعر الأمومة الصادقة التي أريد لها الاغتيال ، و رفضت اليد الانقياد ، فشلت و سقط الخنجر ، وارتشق النصل في قدم سترة فصرخت ، انه سهم الحقيقة التي تستيقظ دائما في آخر لحظة للحسم حتى لا تكون ضحية التزوير ، وانتشلت خضراء من نومها ، و هبت واقفة مستجمعة تستر جسدها باللحاف و تزلزل بصرختها أركان كل البيت ، سقطت سترة على الأرض و قفزت خضراء نحو الزر فأوقدت المصباح ..
خضراء: أمي ؟!!! ماذا حصل ؟.. ما بك ؟..
سترة لا شيء ...لا شيء ، ناوليني الكحول ،أسرعي بعلبة الدواء ...انها في الحمام ..أسرعي ..
استيقظت كل العائلة على هذا الصراخ الذي مزق الصمت المطبق و تناسقه مع سكون الحركات ، هبوا جميعا نحو غرفة خضراء التي كانت دائما مسرحا للشغب و المناوشات .... هكذا بدأ النزيف يوما في هذه الأسرة ، أحدثته الحقيقة التي ترفض الاغتيال و لا تؤمن بالموت حتى تقتل الافتراء...
التف حولها الجميع ، وجلست خضراء أمامها ، مرتبكة ، تنظف الجرح و تضمده ،محاولة عبثا ايقاف النزيف ، و لما أغمي عليها حملوها على السرير ، واكتشف الجميع الخنجر الذي كان تحتها ، وساد الموقف نوعا من الريبة و الاستياء ، فأحست خضراء بأنها محل شك و محط نظر، فانتبهت لنفسها ، حملت ملابسها و ذهبت الى الغرفة المجاورة ، و لما عادت و جدتهم قد نقلوها الى المستشفى...
حملت سفطها و خرجت ، وانصفق الباب وراءها ،كأنه طبل قرع للاعلان عن نهاية فصل من عمرها و بداية فصل آخر ...
كانت الشوارع خالية ، تمتد أمامها نحو المجهول ، نحو الضياع الذي تصنعه الليالي الموحشة ، متعبة تتقدم و هي تلعن نظام التبني الذي يصطنع الأمومة و الأبوة الكاذبة، تلعن المنطق الفلسفي الذي يؤمن بالأصل في الأشياء كلها ، و يفرضه حتى على الذات التي ترتكب الجرائم و الحماقات و تتنصل منها ...و خرج من عمقها السؤال الملعون ، السؤال الخزي ، سؤال العار ، سؤال البؤس ...من أنا ؟...كأنني ليلها المظلم ، انها تكرهني لأنني لقيطة !.. لأنني سوداء !.. انها تمارس علي زمن النخاسة و العبودية ...أم لأن ابنها كريم أحبني و يريد أن يتزوجني ؟..ما أتفهني و قد صدقت ...
التفتت ، عبوسا كان الشارع ، تتقدم وسط لسعات البرد القارص ، و زخات المطر اللاذعة ، شارع معظم مصابيحه احترقت ، برك الماء على الرصيف تتلألأ ، تعكس أشعة الضوء الشاحب ، غمامات من الضباب تسوقها ريح القر نحوها ، قالت في قرارة نفسها ..حتى أنت ؟..عندما تأتي أيها الشقاء تأتي بالكل ..
تحاول خضراء اختراق مخازن الذاكرة و ملامسة ما وراءها ، لعلها تسترجع ذلك اليوم الذي صنع بؤسها مقابل لحظات متعة ، ربما بثمن بخس ، أو بدافع حب غموس ، يوم النزوة التي قذفتها في رحم عاق ، جعلها الرقم المجهول في معادلة خبيثة و دنيئة ...و لكن ..
تودع بعيون همعة تلك القرية الهاجعة التي كانت تحتضنها فيها الجدران برفق انبجاس الحجر ، امام اجحاف البشر .. هنا كانت تأوي حينما تكتسحها رغبة البكاء ، أو تعاقب لآتفه الأسباب ، هنا كانت تخفي دميتها لما كانت صغيرة خشية عليها منهم ، هنا دفنت قطتها لما سمموها لأنها سرقت عظما سقط من المائدة ، في هذه الحديقة أشياء كثيرة لا تزال تتذكرها ...و هذه دار عمي مبارك الأسود ، يلقبونه ببامبرا ، ذلك الرجل الرحيم ، آآآه ، عمي بامبرا و هذا السواد الحاني الذي كان يجمعنا ، وكلبه ركس صديقي الوفي ، كلما دخلت عليهم يصعد معي و يلعقني ، يلعب معي كأنه طفل مشاغب ، من هنا كنت أمر الى المدرسة ، زجاجها مكسر و بدون مدفأة يعلمنا جلاد لا يرحم ...المدللة الوحيدة كانت بنت رئيس البلدية ، الحاج قادة ، لا يعرف حتى المكان الذي يجب ان يمضي فية على الوثائق الادارية ... تذكرت عامر، كانوا ينادونه بابن السوداء ، تصحك ، آآآه منه كان هو كذلك ماكر و شيطان ، مغامراته مع المعلم لا تعد و لاتحصى ، صديقاتها البدويات كن يقضين أوقات الفراغ أمام المدرسة ،يأكلن الخبز و اللبن ، كانت تتمنى أن تأخذهن معها الى البيت ولكن ...في بعض المرات تفقد شهيتها رحمة بهم .. m هذا دكان السنوسي مغلق بخمسة أقفال ، مسكين عمي السنوسي رغم كل هذا الحرص و اليقظة و سرقوه عدة مرات ، دائما أبناء الشافي ، حياتهم كلها سجون ، يقودون جماعة أشرار ، و يا ويح من يبلغ عنهم ، و حتى اذا دخلوا السجن ، هم أول من يخرج..فقدت قدرة مقاومة البرد ، و جرى في جسدها دم بارد ، و بدأت ترتعش من الخوف ، تلتفت يمينا و شمالا ، راودتها فكرة الرجوع الى البيت ، لكن الجرح كان أعمق من معالجته بالعودة ، بالعكس المجهول أرحم ، و من يدري ... تذكرت و هي التي أفنت عمرها في خدمتهم ، تطبخ ، نغسل ، و تنظف ..حملت شقاء البيت منذ طفولتها ، هكذا نشأت ، يحبونها أفرادا و يمقتونها جماعات ، تعرف كل شيء عنهم و لا تعرف عن نفسها شيئا ، يلقبونها باليابسة و هي أخصبهم بدنا و أجملهم رسما ، تضحك غير مبالية بهم ، يكرمهم الأهالي خوفا من أذاهم و لنفوذهم ، يأتونهم بالسمن و الصوف و اللبن و الخضر و الفواكه و خرفان المناسبات ، يتوسطونهم للرشاوي و قضاء حوائجهم ، كان أبوها بالتبني رئيس قسمة الحزب الحاكم ، وحده في القرية تصحو على يديه و تمطر ، انه من قبيلة اولاد سيدي ساد ، التي تمثل الأغلبية في هذه المنطقة ، تعصب الآباء و تشيع الأبناء بالشيوعية الحمراء التي لا ترحم حتى من يخالفهم في اللباس ، اسسوا لعقلية فرنسية بمراس أعرابي ، ظاهره رحمة و باطنه عذاب ، و طال عليهم المثل القائل ..فارس من ركب اليوم ..
انها الآن في بوابة القرية تنتظر القدر الآتي متحدية كل الأعراف ، تتصور مغامرتها مشاهد مختلفة من فصول هذا المجتمع المعوق ، حين يمثل مسرحية اختفائها، و هي كذلك حتى أيقضها ضجيج محرك شاحنة لشركة سوناطراك، شركة البترول الذي يراه الجميع والغاز الذي لا تراه العين المجردة ، أشارت الى السائق فتوقف ، فأسرعت تتسلق السلم ...ألقت نظرة أخيرة على قرية القسوة السائق : الى أين أيتها الجميلة ؟
خضراء : الى مدينة أروان .. وتوقفت تنتظر الاذن ..
السائق : أدخلي ، وأغلقي الباب جيدا .. مرحبا بك في عالم الطريق
خضراء : شكرا
كان السائق ضخما ، يتجاوز الأربعين من العمر ، أبيض بشنب أسود كثيف ،و شعر طويل ، عريض الوجه صغير الأنف بمناخر الثعلب و دقيق الشفتين ، يرتدي معطفا أسود من الجلد الخالص ، تحته قمص أزرق بمربعات سوداء ..
أنطلقت الشاحنة تنتفظ من عالم السكون و قيود المكان ، كأنها وحش يهاجم الزمن ، مقارنة بالذات البشرية بدت لها الشاحنة كبيرة جدا و مدبر أمرها صغير جدا ..كانت رائحة التبغ الممزوجة برائحة المازوت تعكر الجو الداخلي ، ففتحت خضراء الزجاج دون اذن ، و فتح السائق الراديو..
السائق : القرآن ..صح نومكم في المحطة..
أطفأه ، و أشعل سيجارة ، كثرت حركاته و نظرات و فهمت خضراء أنه يبحث عن رأس حبل للثرثرة ، فبادرته قائلة
خضراء : هل عندك أولاد ؟..
السائق : لست متزوجا ، أفضل حياة العزوبية ، لأنني وجدت في تنقلي هذا عبر هذه المسافات الطريلة متعة ما بعدها متعة ، و الزواج مسؤولية والتزام كبير ، و قيود لآ أتحملها ، الحرية عندي أغلى من أن أتقيد برابطة لست واثقا من نجاحها ..
في هذه الأثناء كانت خضراء قد غادرت الشاحنة ، متحدية سرعتها ، تحوم تلك النفس كاليرقاء في عمق التفكير الذي يحاول عبثا اختراق الماضي ، لم تتوصل الى شيء ، سراب و ضبابية ، و لا نهاية تمتد من كل جهة ، تدفع الى الضياع .. و بدت للسائق على تقاسيم وجهها تغيرات الصراع الذي تعيشه فقال
السائق :هل أنت مريضة ؟..
الا أن تناسق اجترار المحرك الذي كان يأكل بعضه بعضا ، و احتكاك الأفكار المتصارعة في نفسها حال دون وصول السؤال الى مداه.. فهمزها..
السائق : هل عندك مشاكل ؟..
خضراء: لا ، لا شيء ، مجرد غفوة من حزن الفراق ..
و حتى تبعد الحديث عن نفسها ، تابعت تقول
خضراء: ما هي الأماكن التي تعجبك في وطننا الحبيب ؟
السائق : تعجبني زيتونة سيق ، و وردة البليدة ، و مياه سعيدة ، و ملأة قسنطينة ، و سروال العاصمة ، و جلباب تلمسان ، و حايك وهران ، و وشم الصراء ، انني وطني محافظ حتى النخاع ...أهوى كل شيء يربطني بالماضي بالأصل ، بالتاريخ ، حتى الأسطورة أعشقها ...
خضراء : الماضي ؟.. الأصل ؟.. التاريخ ؟.. هذه كلمات عجزت معاجم العالم عن شرحها ،و اثبات حقيقتها و شرعيتها ، أنا لا أومن بها ، لأنها مزورة ، مفبركة ...الحياة هي المستقبل و الماضي هو متعة الحلم عند الأقوياء والكابوس المزعج عند الضعفاء ، المزعج ، نعم المزعج و المفزع السائق : رغم هذا أ،ت تسأليني عن الماضي ، و كل حاضر وليد ماض معين ، و حاضرنا تاريج المستقبل ، هكذا علمتني مدرسة الحياة ، مدرسة السفر ، مدرسة الطريق الطويل الذي يصل الزمان بالمكان ..
خضراء : الطريق ؟.. الطريق مدرسة المشردين ، و المنبوذين ، و بقايا هذا المجتمع الذي لا يرحم ..
السائق : أظن أن النكران و الجحود قد أصاب منك حضه و أصابك في الصميم ، لا يتعفن الماء الا في البرك ، أما المياه الجارية تمخر الأرض و تشق طريقها في الصخر و منثنى الرابية ،تبقى دائما أطهر و أنقى ..
خضراء: يذكرني كلامك بسبخة وهران و واد الحراش ، انها فضلات أهلها لا غير ، انهما التاريخ الحقيقي لمخلفات البشر ، لأمة تبلع دون هضم ، أمة متنكرة لأفعالها و أقوالها ، هكذا التاريخ الذي تمجده أنت أيها المحافظ ، لا تحاول لن يصلك صافيا نقيا ، التاريخ يا سيدي فضلات الأمم الحية ، تقتات منها الأجيال الميتة ، و صدق من قال ، ان صدق التاريخ فأنا أكذوبته الكبرى ... خيم الصمت من جديد و انقطع تيار الكلام ، وانفرد كل منهما باجترار كلام صاحبه ..
و قال السائق في نفسه ...ان هذه القلعة السوداء شرسة في النقاش ، لا أظن أنها تفتح أبوابها الحقيقية لأحد ، ذكرته بزنوج أمريكا ، يقال أنهن يتميزن بالأنفة و الزهو ، و الافراط في الكبرياء ...لا شك أنها في حالة متوترة ، أو أنها تعاني من عقدة نفسية ..
السائق: موظفة أنت أو طالبة ؟..هل لي أن أعرف أسمك ؟
خضراء : اسمي بنية ، أعمل ممرضة
السائق: عمل انساني مشرف
خضراء : في وسط الوحوش ، بل أفظع من ذلك ، انها انسانية آلية تطورت فيها آليات الظلم و الجحود ، و..
فقاطعها قائلا
السائق : كفى ، كفى ..توقفي قليلا ، ما هذا التشاؤم يا سوداء الباطن ، انك تعانين من عقد كثيرة ، و كأني بك في عهد النخاسة و العبودية...ألست كالريح المرسلة ، حرة طليقة ، لا يقيدك مكان ولا يحاصرك زمان ؟..
خضراء : آه لو كنت ريحا ... لعصت بهذه المجتمعات ، و قذفت بها الى الجحيم ، أي حرية هذه التي تتكلم عنها ، حرية الذباب و الحشرات و البهائم ، هذا المفهوم للحرية هو الذي صنع نخاسة العصر واستعبد الجميع ..
السائق : هذه فلسفة و كلام لا يعكس الواقع ، لو كنت فلاحة لمات الناسجوعا ، تشاؤم وانهزام كلي ، أمام تحديات بسيطة و طبيعية يصادفها الجميع و في كل المجتمعات
خضراء : لست فلاحة والناس يموتون جوعا ، و لست حاكمة والناس يموتون مئات المرات ظلما ...و الناس ...و الناس...أما أنت لا شك أنك ابن ما وراء العصر ، أرجوك لا تجعلني أسجل أسفارك في سجلات العبثية ، بالله عليك بأي عين تنظر أنت الى هذا المجتمع ؟..أبهرتكم السطحيات ... خنقها الدمع فسكتت...
و عاد الصمت ليخيم من جديد و يترك المجال لسمفونية الاجترار ،اجترار النفس و الحديد ...يستوي الطريق أمامها و يمتد حتى يدرك الأفق ، ثم تأتي المنعرجات ، الأشجار تمر كأنها تقتلع و يرميها الزمن الى الوراء بكل ما أوتي من قوة ...هكذا تنظر خضراء الى الأشياء ، الزمن في نظرها لا تقهره الا القوة ، قوة السرعة ، و سرعة الحركة ، رغم أنها تقدمنا الى الموت ، و تحدث الاصطدامات و الانكسارات ، الا أن الانسان عازم على الوصول بسرعة على حساب العمر ...هكذا التحمت نفس خضراء بالمسافة و شجون السفر، و دون سابق انذار قفز تفكيرها الى حادثة البارحة ، ماذا سيقولون بعدها ، سيقولون هربت المجرمة ، و يقول آخرون اراحنا الله منها و يقول ...آآآه ،كريم هو الوحيد ، نعم هو الوحيد ... و بدأت مراسم الندم تتشكل في كل مدارك ذاتها ، اغرورقت عيناها و كادت تنهار بالبكاء ، تصارع فكرة العودة الى البيت بأيد فارغة وقلب جريح ...حينها كان البيت مسرحا للتساؤلات ، و حقلا للظنون و الاتهامات ، الكل في الغرفة حول سرير الأم الطريحة ،رؤوس منحنية أثقلتها التساؤلات ، و شفاه تأكلها أسنان الغضب الذي تغذيه الكلمات الملتهبة ، التي تتطاير كالشظايا من كل جهة ...
كانت حينها نونة الشبح ، هكذا ينادونها ، هذه العمة العانس ، واقفة أمام الباب ، تطارد بنظراتها عيون الأم ، كأنها تريد أن تقول لها شيئا ... امرأة طويلة ، بوجه عريض تملأه عيون البوم ، تتابع مجريات الحديث في صمت مريب ، كأنها تخفي وراءها منبع الحدث ، فضولية الى أقصى درجة ، لا تفوتها صغيرة ولا كبيرة ، تساعدها شساعة البيت وكثرة أجنحته على تحركاتها المريبة ، تجدها دائما حيث لا تتصور أن تكون ، وحيث لا يجب أن تكون ، كأنها السراب ، تتصرف ببرودة ، تمر أمامك مر الكرام ، أينما كانت يثير تواجدها اسئلة الشك ، لا تتكلم كثيرا ، عندما تنظر اليها تشعر وكأنك أمام شبح تتصارع في عمقه أرواح متناقضة وملامح الوعيد ، تزرع في نفسك رهبة ممزوجة بنوع من الشفقة والحذر ، ليلة الحادث شاهدتها خضراء في آخر الرواق ، واختفت فجأة ، ولما خرجت كانت تراقبها من شباك الطابق العلوي ... لا يعرف عنها سوى أنها العمة الشقيقة ، كانت هي اللبنة الأولى في تشكيل هذه الأسرة ، تحتفظ بجميع أسرار البيت وماضيه ، لا تقوم بأي شغل ، كأنها السيدة الشرفية للعائلة ، لا يدخل غرفتها أحد ، تعيش في عزلة وهي محور البيت ، تظهر وتختفي بسرعة ، لا يحدد أحد مكانها ... في هذا البيت لا تستطيع أن تجزم أنك وحدك الا وهي معك ، الجميع يتحفظ ، صورة لظل ليس له جسد ...
ثورة : هذا أقل ماكنت أتوقعه ، ان لعنة اللقطاء تطاردها حتى الموت ، سترون ذلك ..
الأم : لقد انتهى كل شيء ، لن يكون لها المكان بيننا أبدا ، قالها الأولون ًالمربي اليه ربي ً هي ذبحت الكلب لا تسلخيه أنت .
ثورة : كنا نحنو على أفعى ، لم أكن أكرهها الا لسواد أفعالها ، انظرو الى ذلك الأبله ، أراد أن يتزوجها ، كم كنت غبيا وساذجا ، وهكذا يعيرون أبناءك بأولاد اللقيطة
الأب : يتزوج من ؟
ثورة : يتزوج خضراء
الأب : خضراء ؟! .. هذا هراء كيف يحصل هذا في بيتي ؟! لماذا أنا آخر من يسمع في هذا البيت ؟
الأم : هون عليك يا حاج مجرد كلام أطفال ، لم يكن من الأهمية بمكان ، وأنت يا ثورة كفى !..لا تزيدي .. كفي عن أذى أخيك
كريم : سأبحث عنها لعلها تكون عند عمي بامبرا
الأم : لا تحاول يا بني ، انها كابوس العائلة وانزاح ، دعنا منها ..فقط لا أريد أن يسمع أحد بهذه الفضيحة ... خضراء سافرت
ظهر نوع من الارتياح على وجه الأم ، كأنها أحطت رحلا ثقيلا ، نسيت جرحها وهمت بالوقوف ، فأعادها الألم الى وضعيتها ، تنهدت وهي تنظر الى السقف وهمهمت ، وأخيرا جاءت النهاية وبتكلفة أهون ...
كريم : ماذا تقولين ؟
الأم : لا شيء أراحنا الله منها
نظر اليها كريم مستغربا كيف تحولت أمه بين عشية وضحاها الى وحش لا يرحم ، ماكان يظن أن أمه تحمل كل هذا الكره لخضراء
الأب : اتركوها ترتاح قليلا ، لقد تعبت كثيرا ، أما تلك اليابسة ، يعني بها خضراء ، فالى الجحيم
انصرف الجميع وبقي كريم ، ولما استوت أمه على فراشها ، وضع على صدرها الغطاء ، وهمس في أذنها قائلا ...
لماذا كل هذه القساوة يا أمي ؟!.. لماذا كل هذا البغض ؟! لماذا ؟ لماذا ؟
الأم : كم أنت طيب يا كبدي ، ليت الناس كلهم كريم ، يسامحون مثلك ، ولكن هيهات هيهات يا بني الدنيا آكل ومأكول ...
خرج كريم يجر الخطى ، وهي تنظر اليه بعين الشفقة ، تنهدت وقالت .. من أجلك ، ومن أجلها ، ليس لي خيار آخر ، لعل هروبها يكون قد حمل معه كل الافتراضات المأساوية التي كانت من المحتمل أن تصيب هذه العائلة ..
وصلت الشاحنة الى محطة الوقود ، تزودت ثم انطلقت ولا يزال السائق يلتزم الصمت وأحست خضراء بنوع من الحرج وهي تنظر الى صاحب المعروف الذي وضعته في قفص ، وبدى على وجهه الانهزام وشعرت في نفس الوقت بقوة تدفعها الى خوض المغامرة بكل ثقة ومواصلة الطريق ، لعلها تكون قد تزودت هي كذلك بعزيمة أقوى ..
الآن انهما على مشارف مدينة أروان ، هذه المدينة الساحلية التي سلبت بشوارعها ومحلاتها وساحاتها ، ومآثرها التاريخية ومراكزها الثقافية وشواطئها الذهبية ، سلبت بهذا الارث الذي تركه الاستعمار الفرنسي عقول مريديها ، هنا ، في هذه المدينة كل منشغل بنفسه ، هنا تذوب كل الفوارق الا فوارق العلم والمال ، لكي تعيش هنا يجب أن تندمج ، ويبقى هذا الوجه الظاهر لهذه المدينة العريقة التي تعاقبت عليها عدة حضارات واحتوت مختلف الثقافات
من هنا تبدأ رحلتي ، هكذا قالت في قرارة نفسها .. لا يزال شيء من الخوف يدفعها الى التردد ، الا أن الأمر قد تجاوز حد التراجع ..
سأعيش الغربة ، أستنجد بالعيادات ولا شك سأجد عملا ، ولا ربما في المستشفى ، لا أحتاج الى سكن .. المهم سأكافح من أجل البقاء ولو بالانحراف ، ليس لي من ألام عليه ، لا ، لا يا خضراء ، سيحميك الرب وليس لك سواه ، ومن بعد ، ذنبي على من أوجدني وضيعني ، سأحاول ..
السائق : ها نحن في مدينة أروان ، مدينة اللهو والطرب والخمر والنساء ، هنا يا آنستي يتنفس التاريخ بثقافاته المختلفة ، ترين موزايك من البشر حسب الأصول ، الروماني ، والبربري ، والبيزنطي ، والتركي ، والعربي ، والفرنسي ، والاسباني ، واليهودي ، و ، و ... كلهم محسوبين على العرب الا القبائل لا يزالون رومان وانظري الى فيزيولوجيتهم بالمقارنة ، الأفارقة يتميزون بالشفاه الغليظة و أنوف عريضة ، المصريون مثلا رغم أنهم بيض الا أنهم أقرب في الوصف الى أغلبية الأفارقة ، أما القبائل هم من بقايا الضفة الأخرى ، ولا يزالون لأنهم لم يندمجوا ...
كثيرة هي الأشياء التي ستكتشفينها خلف الممارسات الغريبة ، مثلا العبيد لايزالون في رقصاتهم الفولكلورية يستعيدون ظاهرة الجلد ، سجلها التاريخ بهذه الطريقة على شكل شطحات روحانية الى يوم الدين ...
دخول البيض معهم تكفير عن هذا الذنب واقتصاص
انها مخلفات الأمم التي مرت من هنا وشكلت النواة الأولى لكيان جديد ، يجمعهم في آخر أعمارهم عند سن التقاعد الاسلام ، انه العربة الأخيرة في قطار الحياة التي تنقل الى القبر ، فلا تتعجبي ، ربما ترين أشياء أخرى وتكتشفين عوالم خفية وطقوس أغرب من الخيال ، فلا تتعجبي ، انك في مدينة أروان ....
خضراء : لأول مرة آتي الى هنا
السائق : اذن كوني حذرة ، هنا يعروك والبوليس ينظر ولا ينقذك أحد ، لأن ماوراء نجاتك فائدة ، واذا كانت باريس مدينة الجن والملائكة ، فمدينة أروان مدينة الجن فقط ، منهم ومنهم وقليل ما هم ...
ستتذوقين التاريخ وتستلذين معانيه وتتحولين من المحافظين ، فاذا كنت من أصول افريقية هنا تستمتعين بذلك ، فأنا مثلا من أصول تركية ، لا نزال تركيبة أساسية في هذا البلد .
على كل حال اسمي سلطان ، تحصلت على شهاد الليسانس في التاريخ من جامعة الجزائر ، وأعمل سائق في سوناطراك لأنني أحب السفر ، وأحب المال ... ربما يجمعنا الطريق مرة أخرى ونعزف حينها على وتر واحد .
توقفت الشاحنة وقال السائق : لا يسمح لمثل هذه الشاحنات بالدخول الى المدينة ، لا بد أن تنزلي هنا ، هذا أقرب مكان لوسط المدينة ، هناك النقل بأنواعه لكل وجهة تريدين .
لم تجد خضراء ما تكافئ به السائق ، فأهدته ابتسامة خاصة جمعت فيها كل معاني الشكر والامتنان ، نزلت ولما استوت واقفة على الرصيف ، نزعت خاتمها ومدته اليه
خضراء : خذ ، انه من الذهب الخالص
فنظر اليها ، هز رأسه ، ابتسم وتحركت الشاحنة بكل قوة ، أعادت خاتمها في اصبعها ومسرعة ارادت أن تمر الى الرصيف الآخر ، وبمجرد ما ظهرت خلف الشاحنة ، فاذا بسيارة قادمة بسرعة جنونية ، اراد السائق أن يتحاشاها فاصطدم بسيارة اسعاف قادمة من الاتجاه المعاكس وارتطمت بهم سيارة الشرطة التي كانت تطاردها ... كوم من الحديد ولحوم البشر ، لم ينجو في الحادث الا خضراء ، نقلت الى المستشفى في غيبوبة تامة ، وضعوها في غرفة منعزلة تحت حراسة مشددة ...
كان النوم برزخيا عميقا ، فضاء أزرقا ، لا بداية له ولا نهاية ، مجرد من الاتجاهات ، ضياع ، سباحة في عمق الماء دون مقاومة ، سكون مطلق حيث يتوقف مفعول الشعور واللاشعور ، يندمج فيه الأنا والذات بالفراغ ، انه اللاشيء ، انه الذوبان والفناء ، كأن هذا الجسد وجد ضالته ، اغتسال وتطهير من الماضي وموت السؤال ...
فجأة هبت نسمة هواء ، ثم أخرى ، وبدأت الأشياء تتشكل ، تتركب ، والحواس تستعيد وظائفها ، وقد تلقى الجسد البارد نفحة من دفء الحياة ، انه يعود من بعيد ، من عمق السفر الآخر
خضراء : آآه .. آآه .. آآه
الشرطي : ألو .. ألو .. سيدي المحافظ ، لقد استيقظت المتهمة
الممرضة : لم تستيقظ بعد ... لقد خرجت من الغيبوبة فقط ، ولا تزال تحت تأثير الصدمة ، لا ندري كيف تكون حالتها النفسية ، على كل حال لن يراها المحافظ قبل الطبيب .. أنصحك أن تبقى أمام الباب
الشرطي : أبدا ، عندي أوامر ، لن أبرح هذا المكان
خرجت الممرضة ، وبعد هنيهة عادت ومعها الطبيب ، جص نبضها ، تفقد الأجهزة ، ابتسم ونظر الى الممرضة ، ابتسمت ، ولما هم بالانصراف دخل المحافظ
المحافظ : آه ، دكتور .. خرجت من غيبوبتها ؟
الطبيب : لا ، لا تزال تحت تأثير الصدمة ، لم تخرج بعد من مرحلة الانعاش
المحافظ : اني في سباق مع الزمن يا دكتور ، والوضع لا يخدمني
الطبيب : لا أسمح لكم بأي سؤال قبل نهاية مهمتي واخراجها من دائرة الخطر
المحافظ : لن نكون ثقلاء ، سؤالين أو ثلاث
الطبيب : أبدا ، انها تحت مسؤوليتي
المحافظ : أي مسؤولية هذه التي تخدم المجرمين
الطبيب : تعالى معي الى المكتب ونتحدث
فراغ كبير يحيط بها ، كأنها ريشة تسبح في الفضاء ، دوران في الرأس ودافع للقياء ، وأوجاع مع كل نابض ، رائحة غريبة تملأ المكان كأنها تخرج من جوفها ، شبح أبيض تتشكل ملامحه وتختفي خلف الضباب ، رويدا رويدا ، تقوم بمجهود أكثر ، تقاوم ، بدأ يتبدد ، ينقشع ، ويظهر وجه امرأة تبتسم ، نعم انها شابة جميلة بلباس أبيض ، يحول الدمع بينهما ، أغمضت عينيها من شدة الألم ، أرادت أن ترفع يدها ، آآه .. آه ..ماء .. ماء
سقطت قطرات على شفتيها الذابلتين ، تلعقهما وتبتلع بصعوبة ، قطرة أخرى ، ثم أخرى ..
خضراء : أين أنا ؟
الممرضة : أنت في المستشفى ، لا تخافي لقد تجاوزتي مرحلة الخطر ، لا تتكلمي كثيرا حبيبتي ، ولا تتحركي حتى لا ترهقي نفسك أكثر ، أغمضت عينيها من جديد واختفت ملامح الحياة ، في نوم عميق .. جصت نبضها ، الأجهزة تعمل عاديا ، ليس هناك أي اشارة لخطر ما .. انه الارهاق فقط..
أغلق الطبيب الباب ، وجلس ودعى ضيفه للجلوس فأبى قائلا
المحافظ : ليس وقت للجلوس والحديث ، أنا بحاجة الى تصريحات ، الوقت يداهمني يا دكتور ، تعقل قليلا
الطبيب : عندما تنتهي مهمتي وتخرج المريضة من دائرة الخطر
المحافظ :المجتمع كله في خطر ، هذه العصابة ان تمكنت من الفرار ستكون ضحاياها بالآلاف ، يستحيل الانتظار أكثر
الطبيب : هب أنها ماتت
المحافظ : كنا نحول اهتماماتنا الى اتجاه آخر ، وحتى الآن هي أقرب الى الحقيقة من غيرها
الطبيب : أنت يا سيدي لا يهمك الا التحقيق ، انها مهمتك ، تريد أن تقوم بها على أكمل وجه ، ورغم كل الصعوبات يبقى لك هامش التحرك واسعا ، أما نحن فليس لنا الخيار تهاون بسيط وينتهي كل شيء ، اننا نتحدى الموت يا سيدي ، أرجوك لا تحاول ... ومن يدري لعلى المتهمة بريئة
المحافظ : ينظر اليه بازدراء .. سآتيك بأمر من النيابة ، مهما كانت نتيجة عملك ، لن تنجو من حبل المشنقة ، وسأتشرف على ما يبدو أن أضعه حول عنقها ، وان ماتت قبل ذلك ، ستدفع أنت الثمن غاليا ..
الطبيب : ستكون مهمتك صعبة للغاية ، يمكن مستحيلة
المحافظ : سنرى ، سنرى ..
خرج المحافظ وقبل أن يغلق الباب ، نظر الى الطبيب ، تبسم وانصرف بكل هدوء ..
الشرطي: سيدي المحافظ لقد تكلمت مع الممرضة
أدخل يده في جيبه ، ينظر الى الممرضة وهو لا يزال يبتسم
المحافظ : تكلمت ؟
الممرضة: نعم .. تكلمت
ولما رفعت بصرها كأنها تراه لأول مرة ، كان وسيما ، تتطاير شرارات الرغبة من عينيه وهو يقترب ، انه فارس الحلم الذي كان يجوب أفق أحلامها منذ زمن بعيد ... سحرها واستسلم كل شيء فيها كأنها سادية
المحافظ: تكلمت ؟ ماذا قالت ؟ ..
لا تزال تنظر اليه ، خدرها بنظرته الثاقبة وانتصرت خشونته الممتزجة بالرقة المصطنعة على تلك الرقة والروح الملائكية ، تنظر الى شفتيه وهي تتحرك ، انها تقول لها ما تريد وبدأت ابتسامة الاستسلام تكتسح وجهها وترسم على المحيا الشغف والاعجاب ، تنبه المحافظ لذلك وحول ذلك التيار الى عمق الشجون الرومانسية فبهتها .. وقال : أتعبناك معنا أيتها الجميلة ، تحملي خشونتنا ، هي الظروف فقط ، لسنا كما تتصورين ، فقط نخفي مشاعرنا ورقة قلوبنا وراء نصوص القانون ، وأحيانا أمام مثل هذا الجمال تخترقنا الابتسامة وتدرك العمق .. نحن ملزمون برفع التحديات .. ساعديني أرجوك .. وضع يده على كتفها فارتعشت وهمت أن ... ثم قالت :
طلباتك أوامر ، سأخرجها من هذا السكوت عن قريب .. كان صوتها قد عشيقة بحوحة وارخت حباله..
الممرضة : أرجوك ، لا تخبر الطبيب ، هذه من أسرار المهنة ..
أخرجت هذه كلمة من عمق المكر ،نظر اليها و ابتسم من جديد
المحافظ : هذا رقم هاتفي الخاص ، انني في انتظارك ، شد على يدها بكل قوة ، نظر اليها بعمق ، أكد في سريرتها موعدا ، وانصرف كعادته بكل هدوء ، كانت الممرضة تتبعه بنظرتها كأنه الشمس نحو الغروب ، ترسم في أفق عمرها كل معاني الرومانسية ودخل قلبها في غيبوبة تامة وما هي الا لحظات حتى دخل الطبيب
الطبيب: كيف حال المريضة ؟
الممرضة: آه .. نعم .. نعم .. إنها .. لا تزال ...
الطبيب: لا تخشي شيئا ، عمل الشرطة مروع ، ومعاملتهم خشنة ، ولكن علينا أن نعلمهم كيف يحولون خشونتهم وعنفهم رحمة في خدمة الإنسانية ، عند الأمم المتحضرة ، الشرطي أرحم وأرق من الطبيب ، الشرطة يا بنيتي في الأمم المتحضرة هو ذلك الجراح الماهر وهو يعالج مجتمعه ، لا جلاد سعيد يقطع الرقاب، والقانون عند الأمم المتحضرة يشرع للمساعدة على العيش الكريم والسلام والحرية والأمن والأمان ، ليس موادا لاضطهاد الأمة وذلها واستعبادها ، ان غاية القانون صنع الجنة فوق الأرض ، ولا يعذب بالنار الا رب النار ... نحن نحيي الناس ونمنح لهم الحرية هنا تنتهي مهمتنا ومهمتهم تنتهي في السجن أو تحت المقصلة ، نمنح الحياة وهم يمنحون الموت ، وما أكثر أخطاؤهم والتاريخ يشهد .. القانون لا يرحم إلا الأقوياء ، والا كان كتابا مترلا ...
فالنكن مدرسة لهؤلاء الذين يلهفون وراء الدرجات على جثث البؤس ، انهم بحاجة الى جرعة عاطفة وكثير منهم نشأ محروما من أدنى لمسة ... وأنت أعرف بهؤلاء ...
الممرضة: بحكم عدم التجربة كان الامتحان اليوم عسيرا ، لم أتعود على هذا النوع من المعاملات ، على كل حال المحافظ يظهر عليه طيب ومتفهم
الطبيب: الا معك أنت ، أما معي فكان العكس تماما ، مثل الوحش الذي حيل بينه وبين فريسته ، انهم يتدربون على ذلك ، لا يتركون للعواطف مكانة في نفوسهم ، الذي يعمل في الأمن يبيع أمه وأبوه من أجل ترقية أو رتبة أو حتى كلمة شكر ، لو تعلمين كيف يتعامل الشرطي السويسري والانجليزي والسويدي مع مواطنيه لا تصدقين .. وشتان ما بين يد انسانية حتى اذا ضربت تضرب برفق ، ويد من حديد ..
سكت الطبيب بعد أن تنهد وكأنه يجتر في كلماته ، هز رأسه وقال :
ستخرج الليلة من غيبوبتها نهائيا ، بدأت تتحسن بسرعة ، ابقي بجانبها ، سأتغيب الليلة ، يخلفني دكتور آخر ربما الدكتور مراد ، ذلك الشاب الوسيم ...
الممرضة : حسنا ، سأفعل
انصرف وعاد الوضع في نفسها على ما كانت عليه ، ترتبت الأمور ولم يبق سوى هيامها بالمحافظ ، فقررت أن تعمل كل ما في وسعها لإرضائه ... كان الهاتف في الرواق فأسرعت
الممرضة: ألو ، أنا الممرضة ، ستخرج من غيبوبتها الليلة ، أنتظرك بعد منتصف الليل ، كل الظروف مهيئة ..
غربت شمس ذلك اليوم بصعوبة ، أرهقت يد الأمل التي كانت تدفعها .. كان المحافظ في الموعد متبوعا بمساعديه
المحافظ: كيف حالها ؟
الممرضة تكلمت معي ، شربت الماء ، وسألتني أين هي وماذا حصل ، وعادت الى نومها ولا تزال
المحافظ: هل تجاوزت مرحلة الخطر ؟
الممرضة: على ما يبدو ، ستخرج نهائيا من غيبوبتها الليلة ، هكذا قال الطبيب الذي سيكون غائبا كل الليل ، يخلفه طبيب آخر جديد .. وطيب ، تخرج منذ عدة سنوات وعانى ما عانى من البطالة ، انه طيب فوق اللزوم .. يمكنك أن تبقى بجانبها انها فرصتك
المحافظ : لا أنسى لك هذا أبدا
قال هذا وهو ينظر الى خضراء وكأنه ينقش صورتها في ذاكرته ... لم تعثرو ا على أي بطاقة أو ورقة تثبت هويتها ؟
الممرضة: لا ، لا أظن
جاءت بجانبه تزاحمه المكان وتؤكد النفي
المحافظ: هكذا تعمل هذه العصابات اللعينة ، انها من احتياطاتهم الأولية
الممرضة: بدأت أعيش القصص البوليسية التي كنت أقرأها في الكتب وأراها في الأفلام
المحافظ: الواقع أكثر استغرابا وأفضع ولهذا يجب معالجة المرض بالسم
الممرضة: كل الأمراض ؟ حتى مرض القلوب ؟!! انني أتصور دائما الشرطي بدون قلب ، مجرد من العواطف ، بل أكثر من ذلك ..
المحافظ: قولي آلة
الممرضة : حاشاك ، يقولون أنكم تعتمدون على النظرية التي تقول أن المتهم مجرم حتى تثبت براءته ، أما عند الأمم الأخرى فالمتهم بريء حتى تثبت ادانته ، وحتى في القانون الفرنسي القديم الذي هو المصدر الأساسي للمشرع عندنا ، المتهم بريء حتى تثبت ادانته ، و بهذا ما أخذتم من القانون الفرنسي الا ما تجاوزه العصر ، و ما اسقطته التطورات
المحافظ :هذا فيه شيء من الحقيقة، نحن اليوم نعيش تقريبا المرحلة التي كانت تعيشها فرنسا بعد ثورتها ، و بنفس العقليات ، لا نستطيع أن نسابق الزمن و نتعدى الوضع الراهن ، لكل زمن نصوصه ، و اجراءاته ، شعبنا لم يصل درجة الوعي و النضج الذي يفرض علينا أن نشرع له ما تشرع فرنسا لشعبها اليوم مثلا ، جرعة واحدة من الحرية و يبتلعنا بنكرانه و جحوده ، و تجربة التسعينيات أكبر دليل ، ان مجتمعنا يحتاج الى مدة طويلة تحت قيادة قوية تسيره بالوصاية حتى يبلغ رشده ... لا زلنا نعيش نقصا فضيعا و رهيبا في ثقافة العصرنة و و التفتح و قبول الآخر واحترام الحرية الفردية و الحرية الجماعية ، فالجماعة عندنا أشرار ، و الحرية مقيدة ، و الحكم شمولية و استبداد تحت أسماء و مصطلحات الغواية و الغرار ، هذا هو مفهوم المعارضة عندنا ، فكيف يمكن أن نحكم شعبا بهذا التفكير ؟..عندما تزول هذه الظواهر تزول معها هذه القوانين ، لأنها تظهر بحق أنها جائرة ، أما اليوم لا أظن ذلك ، والثورة الفرنسية حررت كل الدول الأوروبية ، و كانت نموذجا عملت به هذه الدول واستطاعت أن تخرج من دائرة التخلف و الانحطاط ، فلماذا لا نعمل به نحن ، هل نحن مثلا أفضل من هذه الدول ؟..
الممرضة: انكم وبكل احترام تحسنون فلسفة المراوغة و الفخوخ لاسقاط طريدتكم ، أكثر من ذلك أنتم متميزون ، فلماذا يقال أن السجون مليئة بالأبرياء و لا يدخلها أصحاب المال و الجاه و النفوذ ، بالعكس ألغيتم الجرائم الاقتصادية التي حطمت البلاد و فتحت الأبواب على مصرعيها للسلب و للنهب و التبذير و احتكار المناصب والتعسف في استعمال السلطة ...
المحافظ: أتريدين من أن نقطع أيدي الجميع ؟
الممرضة : عندما نسمع بسرقة 3200 مليار دينار مثلا بعقوبة سبع سنوات ، لا نرى أشرف من مهنة السرقة و أرحم من السلطة..
المحافظ :نحن لا ندعي الكمال ، و هذه أشياء موجودة في كل الدول ، و المثل الفرنسي يقول ...ليس الممنوع أن تسرق و لكن الممنوع أن يكتشف أمرك ..
قالها و هو يضحك ، و كأنه يريد أن يضع حدا للنقاش ..
الممرضة : أنا لا أصدق أن الشرطي يحب بصدق ، القلب الرحيم لا يملك يدا من حديد
ألمحافظ: هل هذه عقدة أو حساسية اتجاه الشرطة ؟..
الممرضة بكل خبث : انك تؤكد نظريتي
المحافظ : ماذا تعني ؟
الممرضة : أنظر ، انها تتحرك ، انها تريد أن تقول شيئا ...
وضعت يدها على جبينها و قالت بلطف : انها تتحسس
المحافظ : يجب أن تستيقظ ، يجب ..
الممرضة: لا تقلق ، ستفعل ، فقط التزم الهدوء ، انك في مستشفى
المحافظ: لا أحسن الانتظار في مثل هذه المواقف
الممرضة: عقولكم تشتغل ليلا و نهارا ، لا وقت للقلب عندكم ، جردوكم من كل المشاعر الانسانية .
المحافظ: لولا هذه الآلات البشرية كما تسمينها ، لما وجدت لحظة واحدة للعاطفة ، ولعاد عهد النخاسة و أنت الآن في الأسواق نشتريك بثمن بخس
الممرضة : كلمة حق تجاوزها الزمن..
المحافظ : حكم عاطفة
الممرضة: المرأة أنانية في الجانب العاطفي أكثر من الرجل ، آلية في الحب لا شعورية ، انها تقهر العقل لتحظى بالمستحيل ، في بعض الأحيان تدوس كل القيم لبلوغ ما تريد ، بل لبلوغ المستحيل
المحافظ: لو كنت في الجهاز الأمني لغيرت رأيك
الممرضة: هو الكبد والمكر ، انها الوجه الآخر للعصى والعفيون ، ألم يقال أن المرأة ملاك يسكنه شيطان ؟
المحافظ: هكذا نفيت وجود الرجل في كل المجالات
الممرضة: الرجل خلق من أجل المرأة ، وكل عظيم وراءه امرأة
المحافظ: وكل فاشل وراءه امرأة
الممرضة: بمكرها ودهائها ، وهذا جانب من الذكاء
المحافظ: العمل الأمني لا يميز بين الرجل والمرأة ، الذي يهمه هو النتيجة ، الحقيقة ، ولا تهمه حتى الطريقة
الممرضة: أعظم القضايا ماتت مع أصحابها والمجهول المصطنع لا يزال يفرض نفسه ، أنتم من حول الحقيقة الى قضية فلسفية مبنية على النسبية ، هكذا حولها رجال القانون مثلك ...
يقال اذا أعدت بناء بيتك وجدتها لا تزال مجرد كلمات متراصة في جدران
المحافظ: لا تزالين في النظري
الممرضة: انه مجال العقل والحقل العذري
المحافظ: مجرد فلسفة
الممرضة: أم العلوم يا سيدي
المحافظ: كانت أما ، أما اليوم الكمبيوتر بدأ يفكر
الممرضة: وهكذا فرضت الآلة نفسها على المشاعر .. انها نهاية الروح الانسانية
المحافظ: انها السيطرة المطلقة على الأشياء ، وتسخيرها للوصول للحقيقة المطلقة ، الحقيقة التي أتعبت الانسانية عبر أحقاب التاريخ
الممرضة: نتمنى أن لا تجردنا هذه الحقيقة من عواطفنا
المحافظ: لا تخشي شيئا ، قريبا سيصل العلم الى صنع الآلة التي تبكي وتضحك وتحزن في مكان الانسان
الممرضة: وتحب وتكره ، وتنام .... أليس كذلك ؟
هيا يا سيدي هناك غرفة في الخلف باستطاعتك أن تمتد فيها قليلا ، الليل لا يزال طويلا والكلام لا ينتهي ، فاذا حدث جديد أيقظتك ... اتبعني ..
فتحت الباب أوقدت المصباح وقالت :
تفضل سيدي ، النوم أفضل مهدئ للأعصاب
المحافظ: نصف ساعة فقط
امتد على السرير ، وقفت أمام الباب ويدها على الزر ، أطفأت الضوء ثم أوقدته ، أغلقت النافذة ، وقفت على رأسه
المحافظ: لست مريضا
ضحكت وقالت بمكر .. ما فحصتك بعد ..جلست على حافة السرير ، مالت عليه ... لم يحرك ساكنا ، قامت ، أطفأت المصباح وأغلقت الباب وذهبت ... هل خفق القلب في غير محله ؟ هكذا قالت ، ما أبشع الخطأ العاطفي وما أتفه العبثية ...
كانت حينها المريضة قد فتحت عينيها ، تحاول أن تتعرف على هذا المحيط الذي بدى لها غريبا ، لا تستطيع أن تتذكر شيئا ، تترادف عليها الأسئلة ، وبدأت الحيرة تتشكل على ملامح وجهها وهي تنظر الى الممرضة ...
الممرضة: سلامتك
المريضة: ماذا حدث ؟
الممرضة حادث مرور
المريضة: حادث مرور ؟.. لا أذكر !
الممرضة: ما اسمك ؟
المريضة: اسمي ؟ .. اسمي ؟
بهتها السؤال ، انفتح فمها ، وأخذت تنظر اليها ، فاضت عيناها ، انها تختنق ، كانت يدها مقيدة في السرير ، بدأت شفتها ترتعش ، أرادت أن تصرخ وخانها النفس ، فحولتها أنين
الممرضة: أنا ممرضة ، لست شرطية ولا محققة ... يجب أن تقولي ما اسمك وعنوانك حتى نبلغ أهلك ...
تركتها وذهبت لتوقظ المحافظ ، وقف عند رأسها ، رسم بسرعة ابتسامته الماكرة ، وضع يده على جبهتها وانحنى عليها بكل حنو ، يصطنع الرفق ,قال :
أنت الآن أحسن
المريضة: تهز رأسها
المحافظ: ماهي الا أيام وتعودين الى بيتكم ، بالمناسبة أعطينا عنوان بيتكم حتى نتصل بأهلك
أخرج كناشا وقلما واستوى قاعدا أمامها ينتظر الاجابة
ما اسمك ؟
تنظر اليه المريضة بعيون الحيرة ، غريب انها لا تعرف اسمها ، تتساءل يستحيل أن لا يكون لي اسم ، تنظر الى الأجهزة الطبية ،أشياء كثيرة مبهمة تدور في خلدها
المحافظ: نحن نعلم أنهم أقحموك وغرروا بك .. وما أنت الا ضحية أولئك الأشرار ، ولهذا نعول عليك لمساعدتنا للقبض على هؤلاء المجرمين ، الذين أفسدوا البلاد والعباد ، تعاونك معنا يمكن أن يكسبك البراءة ، فحاولي
المريضة: أين أنا ؟ ومن أنتم ؟ لماذا هذا العذاب ؟ ماذا فعلت لكم ؟
انه الضياع ، انه التيه والاحباط ، تحاول فك يدها ورجليها ، تريد أن تنتفض وتقطع هذه الخيوط التي تربطهما بحبل الحياة ... لا تقدر .. تستسلم ...
أتوسل اليكم ، اقتلوني ، أريحوني ، أرحموني ، أرجوكم ، لماذا تعذبوني ... ماذا فعلت لكم ؟
وبدأت الأجهزة تسجل الاضطرابات والتأثيرات السلبية ، و إشارات الخطر تتزايد
الممرضة: أرجوك سيدي ، كفى ...
مذعورة ، تترجى المحافظ وتتوسل اليه للخروج
المحافظ: هذا الانكار الكوميدي لا يخدمك يا آنسة ، من الأفضل لك أن تعترفي ، الأمر ليس بالبساطة التي تتصورينها ..
فاضت عيناها بالدمع وخنقتها العبرات وأنين الوجع ، تمتخض وكأنها تحت صدمة كهربائية ، وتيقنت الممرضة أن المريضة دخلت مرحلة الخطر ، فبدأت تترجى المحافظ كي يتوقف ولكن أسر على متابعة الاستجواب وكأنه يدفعها الى الموت
فقالت : سيدي المحافظ ، اما أن تخرج واما أنادي الطبيب ، ما اتفقنا على هذا أبدا ، الرحمة يا سيدي
- ماذا يحدث هنا ؟
المحافظ : أنا محافظ الشرطة
- مرحبا بك ، وماذا تفعل هنا ، وفي هذا الوقت ؟
المحافظ: أستجوب المتهمة
-هل أذن لك طبيبها بذلك ؟
الممرضة: لقد خرجت من غيبوبتها وقد تجاوزت مرحلة الخطر ، لا أظن أن هناك مانع ...
-هل أذن الطبيب بذلك ؟
الممرضة: لا ، يا سيدي
- سأحيلك على مجلس التأديب وأنت موقوفة عن العمل ، وأنت يا سيدي المحافظ ، عليك بالانصراف حالا ، أنظر المريضة تعاني من وعكة خطيرة ، اتركوني أقوم بواجبي ... هيا ، أرجوك سيدي ..
المحافظ: هذه سابقة خطيرة ، ستكلفك الكثير
-يا سيدي مهمتنا انسانية نتحمل بكل مسؤولية تبعياتها ، عودة المريض الى الغيبوبة أخطر
المحافظ: لا يهمني ، هذه مجرمة تنتظرها المشنقة ، ستعترف بالرغم عنها ، أما أنت ستدفع الثمن غاليا
-أنظر الى حالتها تتدهور شيئا فشيئا .... من فضلك اتركنا نقوم بواجبنا .. موتها لا يخدمك ، أعرف ذلك .. فكفى أرجوك
المحافظ: ولا كلمة ! .. رفع يده في اتجاه الطبيب ، ثم أنزلها وخرج يسب الرب والدين
ولما اختلى بها ، أغلق الباب ، وجلس أمام سريرها يسألها :
ما اسمك ؟
المريضة تنظر اليه
-أنا صديقك ، كيف دخلت الى العصابة ؟ أين الحقيبة ؟ لا تزال المريضة تنظر اليه ، كانت الصدمة أكبر من أختها ، وضع الخنجر في رقبتها وقال لها :
من أنت أيتها اللعينة ؟ قولي والا قطعت رقبتك ، تنظر اليه ، تهز رأسها يعني افعل ، تترجاه بعينيها ، افعل ... هو كذلك موتها لا يخدمه
-سأعود اليك في وقت آخر ... لن تفلتي من يدي ، احسبي لي ألف حساب ...
خرج ، وكأن الأرض ابتلعته ، وماهي الا دقائق حتى عادت الممرضة يتبعها رجال من أمن المستشفى
الممرضة : ماذا قال لك ؟
المريضة : نفس الذي قاله لي الطبيب الأول ، ما اسمك ؟ كيف دخلت الى العصابة ، وأين الحقيبة ؟ وأراد أن يذبحني بخنجر كان في جيبه
الممرضة : ماذا قلت له ؟
المريضة : أقتلني ، ستريحني ، فانصرف ، وقال سيعود في وقت مناسب ، هددني
خرجت تجري الى الهاتف
الممرضة : سيدي المحافظ ، لقد خدعنا ذلك الرجل الذي ادعى أنه طبيب ، انه شخص مجهول .. ألو .. ألو .. سيدي المحافظ .. هل أنت تسمعني ؟
كان المحافظ حينها يعيد قراءة المعادلة ويرتب احتمالاته الجديدة ..
المحافظ : اني أسمعك ، انتظريني ...
قطع المكالمة وقصد النستشفى
المحافظ : اذن ذلك الرجل ليس الطبيب ، ومن تتوقعين أن يكون ؟
الممرضة : أنا ؟ أتوقع ؟ وكيف لي أن أعرف ؟
المحافظ:أنا ما قلت تعرفين ، قلت تتوقعين
الممرضة : هل أنا متهمة بالتواطؤ مثلا ؟
المحافظ: انك تقولين أشياء خطيرة يا آنستي
الممرضة : أقسم ..فقاطعها قائلا ..
لا ، لا ، أبدا .. فقط ، لا يعقل أن أقدم ممرضة في المستشفى لا تعرف كل الأطباء ..المهم ، سنعود الى حديثنا هذا في الوقت المناسب أما الآن ... ماذا قال لها ذلك المجهول ؟
روت له كل التفاصيل وتأكد من المريضة التي كانت ترد بالاشارة ، كانت حالتها متدهورة جدا ... نظر الى الممرضة ابتسم وخرج ..
الممرضة : أرجوك ساعديني ، أنا الآن في ورطة ، قولي أي شيء ، على كل حال لن تخسري شيء ، لأنه لم يبق لك شيئا ، الشرطة تعرف عنك كل شيء ، تعرف أنك تابعة لعصابة خطيرة ، وأنك عضو فاعل ونشيط ومتميز ، أفحمتيهم نجوت عدة مرات من الاعتقال بأعجوبة ، ولولا الحادث ما كان يكشف أحد عنك شيئا ... لا شك أن نهايتك حبل المشنقة ... نعم المشنقة ... أنت مجرمة ... مجرمة ... مجرمة ..ماذا ستستفيدين من سكوتك ؟
حينها كانت المريضة في طريقها الى غيبوبة أخرى ، فأرادت أن تهزها ولكن يد الطبيب كانت أسرع ، فأمسكها وأخرجها من الغرفة بكل هدوء ، وعاد يتفقد المريضة ، فحص عادي ، أمر ببعض الحقن ، أعادها الى وضعيتها العادية بمسكنات ولما هم بالخروج دخل المحافظ
المحافظ: أظن أن مهمتك انتهت يا دكتور ، ها قد جئت بأمر من النيابة لاستجوابها
الطبيب : هي لك ، تفضل
تقدم المحافظ فوجدها في غيبوبة تحت رحمة الأجهزة الطبية ، تراجع بغيظه يصبه على الطبيب ، ترك له استدعاء رسمي وخرج
نظر الطبيب باشمئزاز الى الممرضة ، أمر بأخرى لتمريضها وخرج ، بعد نهاية الدوام مر الى القسم ، سمعوه وحرروا له محظر وذهب ، في اليوم الموالي أتى بامرأة سوداء من قسم الولادة ، دخل على المريضة وقال لها :
أمك تريد أن تراك
المريضة : تنظر اليه والحيرة تملأ وجهها
دخلت المرأة تبكي وكأنها هي ، حضنتها برفق وهي تسألها :
ماذا جرى لك يا بنيتي ، ماذا جرى ؟ من فعل بك هذا ؟ وكيف ؟
لماذا لم تخبريهم ليتصلوا بنا ، بحثنا عنك في كل مكان ..
لا تزال المريضة تنظر الى المرأة ، في حيرة ... وتنظر الى الطبيب
الطبيب : انتهت الزيارة من فضلك ، عودي اليها في المساء أوبعد الدوام ، المهم أنك تعرفت عليها ... لا تزال تحت الصدمة ..
المرأة : سنأتي جميعا في المساء ، هوني على نفسك يا بنيتي ، ارتاحي ...
خرجت المرأة السوداء ، ولا تزال المريضة في عالم آخر ، في غربة ، في دنيا أخرى ليس لها أول ولا آخر ، كأنها ولدت من جديد ...
الطبيب : ماذا بك ؟
المريضة: لا أعرفها يا سيدي ... وانفجرت بالبكاء .. أنا لا أعرف هذه المرأة ... لا أعرف أحدا .. بل لا أعرف حتى نفسي !!! أرجوكم ارحموني
تيقن الطبيب من الأمر الذي كان يشك فيه ، هز رأسه بأسف ، تنهد ، و لما هم بالآنصراف تذكر..
الطبيب : تابعوا نفس العلاج ، بعد أسبوع سنحولها الى القسم المختص ،اذا جاء المحافظ اتركوه يستجوبها ، لقد تجاوزت مرحلة الخطر..
دخل كريم الى غرفة خضراء ، لا تزال صورتها فوق الطاولة تحتفظ بتلك الابتسامة النابعة من عمق البراءة ، تتحدى الراهن ،تملأ بنظرتها فضاء النفس ، أخذها ينظر اليها بعيون الشوق الهمعة ، تعيده الى سن الطفولة ، الى قهقهتها ،غنجها ،دلعها ، صوتها الجميل و هي تنشد ، رقطاتها ،تمايلاتها و هي تمشي ، كيف كانت تجري و تختفي خلف الأثاث و تحت الأسرة ، كانت تملأ البيت بالحياة ،حتى العمة نونة اخترقت سكونها ، و كانت تقطف من ثغرها الابتسامات ، عندما كان يضربها ، تبكي ، فاذا صاح كالديك وانفظ بدراعيه غلبها الضحك ، فتمتزج في محياها الدمعة بالسرور ، لترسم أجمل و أروع صورة للبراءة و التسامح ، فاذا سألوها من ضربها تقول باستحياء و خبث ...ضربني زوجي ...فيضحك الجميع ...
يتبع...
لا يزال يذكر كل التفاصيل ، كانت تكبر بسرعة ، تشكلت فيها مظاهر الأنوثة الحالمة ، كأنها وردة تتفتح كل يوم أكثر و تزداد جمالا ...بعد المراهقة بدأ يكتسحها الشرؤد من حين الى حين ، و أمست تحب الاعتزال ، ازدادت جمالا واختفت حيويتها واندثرت قهقهتها و غارت بسمتها ...لا تعرف الفراغ ، من الثانوية أو معهد الشيه الطبي الى المطبخ ، أول من يقوم من النوم هي و آخر من ينام ، تخدم الجميع ، تهتم بالجميع ، و لا يذكرها أحد ، ما رأى أمه يوما حضنتها أو أرفقت بها ، في حين كانت أخته ثورة مثل الأميرة ، الآمرة في كل شيء ، أطيب الأكل اليها و أجمل اللباس لها ، وحدها لها الحق في النزهة و السفر و الذهاب الى البحر و المخيمات الصيفية ...خضراء لا تطلب شيئا ... الغريب في الأمر أنها لا تشتكي أبدا ، حتى عندما تمرض تختفي ، ولا من يسأل عنها ، وحده هو يذهب اليها و يشتري لها الدواء ، في عيد ميلادها هو وحده أيضا الذي يقول لها عيد ميلاد سعيد ، و يقدم لها هدية ، كان بهذا يستعيد لها شيئا من بسمة زمان ممزوجة بدموع أخرى ، تأخذها و تجري كالطفلة الى غرفتها ، الشيء الوحيد الذي كانت تحافظ عليه هو مظهرها ، رغم بساطة ملابسها ، كانت تظهر كعارضة أزياء ، تؤجج نار الغيرة في ثورة التي كانت مثل السلك ،بيضاء بلقاء و حديدية الوجه ، صورة طبق الأصل للأم بلسان أطول و أحد ، توقفت عن الدراسة في الطور الابتدائي لغياباتها المتكررة و تستر ألأم عنها فطردوها ...
الصمت هنا سيد الموقف ، لأن السكون يروي قصيد مآثر خضراء ، ينشدها الوجدان و يعزف لحنها ألم الفراق على ايقاع الزفرات المتتالية ...آآآه و آآآه ..لقد أخذت معها كل معاني الفء و نبضات الأمل ، حتى الساعة توقفت متحدية مسيرة الزمن لتسجل أثر ما كان هنا . لم تأخد من أمتعتها شيئا و هي في مقام العزاء ...فتح الدولاب ،ملابسها مطوية على الرفوف و معلقة ، كانت خياطة بارعة و طباخة ماهرة ، يتصورها في كل بدلاتها ، رشيقة القد ممشوقته ، واسعة العينين ، طويلة الرقبة ، ناهدة الصدر ، ضيقة الخصر ....يوم جاءت بها أمه ، كان لا يزال طفلا ، استغرب لكونها سوداء ، يهز بها المهد و يشد لها الرضاعة ، يساعده على ذلك عمي المبروك بامبرا ، صديق العائلة ، يمزح دائما و يقول ، أنا اليوم شريك معكم بخضراء ، كان هذا الكلام يربك الأم ويتلون وجهها ، ما شعر بانسحابه من العائلة وانقطاع زياراته التي كانت يومية أنذاك ... و تبادرت الى ذهنه فكرة ..و من يدري لعلها تكون عنده ، أو يكون عل علم مكان وجودها ، فخرج مسرعا ...
عمي المبروك رجل أسود ،طويل ، عريض الصدر ، بيضاوي الرأس ، أبيض العينين ، و اسع الفم ، عريض الأنف ، صغير الأذنين ...اجتمعت في وجهه علامات الشقاء ، تغطيها الطيبة و براءة الأطفال ، سهل المراس ، لين الاندماج، طليق اللسان كثير التنكيت ، بارع في رواية الأساطير و كرامات الأولياء و الصالحين ، هكذا كان ريحا مرسلة بكلماته الطيبة طوال حياته ، عندما يتكلم عن نفسه كأنه يسلخ ذاته أو يجلدها و هو يبتسم ، انه الهم الذي يضحك ...
لما دخل كريم عليه كان جالسا ، فقام اليه و أجلسه في مكانه و هو يغمره بالترحيب و يحتويه بتلك الابتسامة اللطيفة التي تبعث في النفس الارتياح و الأنس ، كان عمي المبروك يحضر شاي المساء ، تراه و كأنه الفنان أو الساحر ، يمارس حركات تحت تأثير الهام روحاني لصناعة متعة الفرجة في تحضير الشاي ...
جلس أمام ضيفه و واصل عمله بنفس الوتيرة دون اهمال حفاوة الاستقبال و كرم الضيافة ، هذا الهدوء زرع في نفس كريم بدرة أمل ، فأسرع يفرغ جعبته مرة واحدة و دون مقدمات ...
كريم : هربت خضراء يا عمي مبروك ..
المبروك و بكل هدوء : أعرف ذلك
كريم: أين هي ؟..
المبروك : أردت أن أقول لك ، كنت أنتظر ذلك ، كثر عليها الضغط ، مسكينة خضراء ، لا ظهر لها و لا عصا ، كأنها غصن طفيلي في شجرة وجب قطعه ، صدق أبوك لما يسميها اليابسة ، لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي جاءت بها أمك ، حز في نفسي سؤال و لم أجرأ ، لماذا جاءت بهذه السوداء المسكينة ، كان يظهر لي انذاك تافها ، قالوا أنها وضعت مخلوقا مشوها و مات ، فعوضوها بهذه السوداء ، وكتموا عنها ذلك حتى استعادت عافيتها فاخبروها بالحقيقة ، لم تتقبل في أول الأمر ، الا أن معاملتها لها كانت عكس ذلك ، و الأغرب كانت تحضنها برفق الامومة الحانية ، كنت أحب خضراء كثيرا كأنها ابنتي ، أحن اليها و أذهب اليها كل يوم ، و من كثرة اهتمامي بها شعرت بنمو بذرة البغض و الكره عند سترة أمك اتجاهي ، و لم يهدأ لها بال حتى دبرت مكيدة ، و أحدثت ، سامحها الله القطيعة بيني و بين الحاج ، فأسمعني ما لم أكن أتوقعه منه ، عيرني و هددني ، فانقطعت صيلتي بكم .. كبرت خضراء و توظفت في المستشفى حيث كنت أعمل بوابا ، و تجددت صلتي بها ، فكانت لا تفارقني ، تمنيت أن أخطبها لابني رابح ، لكنني خشيت ردة فعل الحاج ، و صارحتني بتعلقها بك ...كانت تحبك كثيرا ،بقاؤها الى اليوم كان بسببك ، تحملت من أجلك الكثير ولكن ...
كان كلامه يقرع قلب كريم قرعا ، و حف المجلس بهيبة الاخلاص و عظمة الوفاء و صدق التضحية ... كان العطاء كبيرا حتى أعجز الوفاء على مجاراته ، واستصغر كريم كل مواقفه ،و طابت الجلسة واشتد الحنين ، و تدفقت الذكريات كمياه الشلال الباردة تغسل الظن من الشك ، وكانت جرعات الشاي تنزل ساخنة ، تشق في طريقها مهجة الصدر ..
كريم: كأني غريب في هذا البيت ، يحدث كل هذا و لا أحد يعلم !!...
المبروك: انها أرسرار البيوت يا بني ، للنساء فيها شؤون و للرجال خلفيات ...وفي رأي لا تحاول ، لن تصل الى شيء أبدا ..خضراء عقدة القدر لا يعرف حلها الا الله
كريم: لا أستطيع يا عمي ، البحث عنها أصبح بالنسبة لي ضروري و أكيد ، ينتابني شعور غريب و أريد أ، أكتشف هذا المجهول الذي يدفع الحدث ، أتمنى فقط أن لا تكون قد انتحرت
المبروك: لا أتوقع هذا ، انها أقوى بكثير
كريم: هل يمكنها ان تذهب الى الخارج مثلا ؟
المبروك : الذي أعرفه أن ذهابها لم يكن ارتجالي
كريم: استسمحك ، أتركك بخير
المبروك: ماذا حدث ، لا بد و أن هناك قطرة أفاضت الكأس
كريم: نعم يا عمي المبروك ، ضربت أمي بخنجر
المبروك : لا !!.. أبدا غير ممكن ، لم تفعلها ، و لا أصدق ..
كريم: انها الحقيقة رأي العين
المبروك: أبدا ، هناك سر خلف الحدث ، خضراء لا تقتل حتى الذبابة ..
كريم: انها الحقيقة المؤلمة يا عم ، و لهذا أنا مقيد و لا أستطيع أن أغامر الآن ، أرجوك لا تفشي هذا السر حتى لا يسمعه أهل القرية فينقلب كل شيء
المبروك : أبدا ..أبدا .. ليتني أستطيع أن أفعل شيئا ..
ذهب كريم و عاد المبروك يبحث عن الحلقة المفقودة ، يسترجع تفاصيل الماضي و مكائد سترة ، حتى ما تساقط منها على هامش المواجهات ...كانت الغرفة واسعة ، مفروشة بالزرابي الصحراوية الحمراء ، بعض الوسائد من الصوف بيضاء كأنها خراف جميلة هنا و هناك ، على الجدار صورة للكعبة الشريفة ، حلم ما أستطاع تحقيقه ، فوقها ساعة قديمة من عهد والده ، تنبهه كلما مر من العمر نصف ساعة ، تتزاحم الذكريات في عمقه و تصارع الابتسامات الكآبة على وجهه ، هو كذلك ذهبت زوجته مرغمة ،توفيت منذ أربع سنوات نرغم هذا لا يزال يصنع لأحفاده الفرحة من ألمه و وحدته ، يحكي لهم همومه المضحكة ،أراد أن يقول لكريم الحقيقة ، الا أنها اليوم قد تجاوزها الزمن ، ربما تفسد أكثر مما تصلح ، فكتمها ، و من يدري ربما يأتي القادم بنفخ في الحدث جديد ..شق عليه وضعه .
في طريقه الى البيت ، كان كريم مبعثر الأفكار ، يهدده اليأس من جهة ، و يدفعه العزم الى خوض المغامرة ، يحاول أن يجمع ما استطاع من حصى لتمهيد الطريق الذي يوصله الى ما وراء الحدث...ما أقساك يا أمي خلف ذلك الستار .
دخل يجر ذيل الخيبة ..
الأب : أين قضيت يومك ، ما رأيتك طوال النهار
كريم: أبحث عنها
الأب : تتحداني يا كريم ؟..أم هي السذاجة التي ستورطك ...كم أنت أحمق و مغفل ، يا بني لو كانت اليابسة تحبك كما تدعي ما كانت لتفارق البيت أبدا ، و حتى لو عثرت عليها اليوم ، كيف تثبت براءتها أمام الناس ؟..أين هي الآن ؟.. لقد أصبحت من بنات الشارع
كريم في نفسه : و متى كان للبائسة أب أو أم ، منذ عرفتها و هي تدفع ثمن خطيئة الآخرين ..
ثم قال : الغائب حجته معه ، و من يدري يا أبي يمكن أن يكون قد أصابها مكروه أو انتحرت ...الغضب أوله جنون و آخره ندم
الأب : لا زلت تعيش بالنية الحسنة ، بنات الليل كألسنة الحمير يأكلن الشوك بلذة
يتبع...
رواية جميلة تحاكي الماضي وتربطه بالحاضر فما زال هناك عبيد ولو بمعنى اخر والحب ليس له مكان بين الغنى والفقر والعائلات المتباينه
ننتظر نهاية الروايه بشوق
مع التقدير
نظر كريم الى أبيه وكأنه يراه لأول مرة ، يحاول الولوج أكثر الى ذخيرة الشر في ذاته ...
كريم : لا علاقة للزمن بهذه الأمور
الأب :المرأة كالدجاجة تطعمها كل العام ولا تشبعك ليلة ، هكذا قال جدك يرحمه الله
كريم : على كل حال ، أمي ليست كذلك
الأب: أمك من نساء زمان ، كن أمانة في أعناق الرجال ، أما اليوم المرأة حبل في عنق الرجل ، هذه الأصيلة ، أما اللقيطة مثل اليابسة فحدث ولا حرج
كريم: رغم هذا لا تزال المرأة هي الأم والأخت والزوجة و.... وليست خضراء كل النساء وليست النساء كلهن خضراء
الأب: أشغل نفسك بما هو أهم ، واترك هذه التفاهات ، أستاذ مثلك على أبواب المستقبل ومحامي في مقتبل العمر ينتظره الكثير : لما كنت في سنك رغم جهلي ..
وبدأ يعيد سرد حكايات مغامراته وتحايلاته وحيله ، حينها كان كريم قد انتقل الى عالم الافتراضات يحاول الوصول الى المجهول في كل طرح ، وفهم الأب أن ولده لم يعد يستمع اليه فسكت ..وساد الصمت ، فتنهد كريم ، وقام مستترا بابتسامة مجزاة ، وترك الوالد يجتر في نفسه أيام شبابه وزهوه ، يلعن كعادته شيبته وضعفه وهوان أمره ونواهيه ، يلعن وجوده على الهامش بدعوة الحفاظ على صحته ، وهو يعرف أنه لم يبق فيه الا اللسان السليط ، ولكن لا يهم كما يقول المثل ، أقلقهم فقط حتى لا ينامون .. وقبل أن يخرج التفت اليه قائلا
كريم : عمي المبروك يبلغك السلام
الأب : المبروك ؟!
كريم: نعم ، عمي المبروك بامبرا
الأب: أسود القلب لا يتحرك الا في الظلام ... خفاش ، لاشك أنه هو من أفسدها
كريم : ما علاقته بها ؟ ولو كان الأمر كذلك لذهبت عنده
الأب : أنت لا تعرف هذا الصنف من البشر ، يحرقون البيت ، ويبكون مع صاحبه
كريم: هكذا اذا ، هي علاقة أطفال ؟ هذا كان صديق الأسرة ، كنا نعده عما لنا ، شاركنا المسرات والمكاره ، أنا لم أر فيه ما ينافي الأخلاق الفاضلة ، وقد استقبلني بحفاوة بالغة ، كان أطيب ما يكون
الأب: طيب الله لحمه بالنار ، كاد يحطم أسرة بكاملها لولا فطنة أمك
كريم : ماذا فعل ؟
الأب : لا تحاول
كريم : عمي المبروك ؟!
الأب: لا بارك الله فيه وأعماه
كريم: لم نسمع بهذا
الأب: قلت لك لا تحاول
خرج كريم وهو يحاور الأنا ولاتزال خيوط الماضي تتعقد ، وهذه الأسرار جزأها القدر وعسر جمعها ، وفكك الحدث ووضع في كل منعطف نفسي سببا يبرر خلفيات سكوت ضاعت دوافعها ، ولا أظن أن السؤال هو مفتاح هذه الأبواب الموصدة .. ينظر الى أخته ثورة من بؤر الذاكرة بقدر ماضاقت عينيها بقدر ما ضاقت بصيرتها تتطاير منها شرارات الكره محرقة ، الأم كأنها تمثال نحت من الصم لا تؤثر فيه فصول الذوات ، باطنه كظاهره ، يتعامل مع الجميع برطوبته وبريق ظاهره ، العمة حية تسكن دهاليز البيت تتلون بلون الحدث ولا تقول شيئا ، انها العلبة السوداء ، حتى ترتيب الأثاث وألوان والستائر والصور على الجدران كانت تصنع نوعا من القلق وكأن اليد التي مرت من هنا كانت تخفي وراء كل لمسة سر ، ووراء كل شيء ظن ، هذا البيت العتيق من عهد المعمرين تجاوز المائة سنة تظنه لا يزال يحتفظ بظل أصحابه الى اليوم ، تزرع التنافر لتفرض وجودها في وسط هؤلاء الأحياء لتنتقم ، كأننا لسنا نحن ، كم من مرة تحدث بعض الخوارق يستحي أحدنا أن يعيدها ، خوفا من اتهامه بالجبن أو الجنون ، نسر بها الى بعضنا البعض حتى يعرفها الجميع ولا يذكرها أحد .. عندما ننزل الى القبو وكأننا في قبر ، يشعر الداخل كأنه يعيش تلك الأفلام المرعبة التي تسيل العرق البارد في البدن ، نستعجل الخروج متسائلين ماذا حدث هنا ؟ .. غريب ، كثيرة هي خبايا الحدث بين أفراد أسرة لا يتجاوز عددهم أصابع اليد ، رغم كل الفضول ، لا نزال نجهل الكثير ... هكذا حتى وجد نفسه أمام غرفة مكتبه ، كانت العمة نونة في آخر الرواق فاختفت ، لم يراها منذ ليلة الحادث ...
دخل ، جلس على حافة المكتب ليواصل ذلك المنولوج ، الا أن الحبل الذي كان يربطه بفلسفة هذا الاكتظاظ انقطع مرة واحدة ووجد نفسه يدور في دائرة مفرغة حلقاتها من صنع الصمت الذي يحاصر هذا البيت ، الشيء الوحيد الذي يخشاه الانسان عندما يخوض أي مغامرة أو يريد أن يرفع أي تحد هو عامل الصمت ، لأن وراء كل سكون عاصفة كما يقول المثل ...
يعود الى حديث أبيه عن المبروك وعن خضراء ، يستحظر تلك العدوانية التي تمكنت من نفسه اتجاههما
-ماذا تريد أن تجني من امرأة أنتجتها الخطيئة ؟
-ماذا سيقول الناس عنا ؟
-ماذا تنتظر من امرأة خبيثة الا ثمار خبيثة !
-المفروك ، لابارك الله فيه وأعماه !
-ذلك الأسود ، أسود القلب !
-انها اللعنة التي لا تزال تطاردنا !
كانت هذه الكلمات تتردد في عمق كريم كأنها انفجارات لألغام قديمة زرعتها النيات المبيتة لتفجير ما تبقى من الحقيقة ... تذكر العمة نون فقام يبحث عنها ، في آخر الرواق كان سلم الطابق العلوي ، صعد ، في آخره نافذة تطل على الحديقة ومدخل البيت ، حيث كانت تقضي العمة أكثر وقتها ، هنا لا يأتي أحد ، لا الأب ولا الأم ، مرض الروماتيزم وأوجاع الظهر تحول دون المغامرة ، وثورة لها كل ما تريد في الجناح الأرضي ، بل أكثر من ذلك هي من سمت العمة نونة بالشبح ، انهما لا تتواجدان في مكان واحد أبدا ، تقول لهم دائما لو يموت أبي سأطردها شر طردة ، عندما تسمعها نونة تضحك ملأ فاها ، ثم تنظر اليها بمقت قبل أن تنصرف ، تقول لها دائما. . سنرى من ؟ ..
ذهب الى غرفتها يدق ، لا أحد يرد ..
كريم : عمتي ! عمتي .. ! عمتي ..!
ولما هم بالانصراف ، هاهي ذي قادمة من هناك ، من منعطف الرواق المظلم ، لعلها تكون قد تعمدت هذا الظهور المفاجئ من حيث لا ينتظرها أحد ، فتحت دخلت ، شرعت أبواب النافذة وعادت ، أشارت اليه فدخل ... كانت صورة الجد بين النافذتين أمامه ، بشنبه الطويل وعمامته المبرومة كرزمة حبل فوق رأسه ، برداء قياد فرنسا والسوط في يده ، جوارب حمراء ووسام الشرف الفرنسي على صدره تزينه الأعلام ...
تدفع شفته السفلى العليا ، ترفعها كهامته في كبرياء وعزة ،بجانبه كلب صيد أبيض ، هناك واحد يشبهه ، يا سبحان الله ، كأنه هو ، و لكن لا يذكره ، يحاول ...غير ممكن ،على كل لا يهم ، سيفكر فيه من بعد ..
نسي أنه رأى هذه الصورة بالذات ، على اليمين طاولة من خشب اللوز منقوشة ، أمامها مقعد خشبي بني ، فوقها مرآة كبيرة جميلة ، على يساره سرير ، فوقه صورة صياد بكلابه وبندقيته ينظر الى سرب من الطيور ، ثورية من نحاس ، دولاب كبير يملأ الجدار نقش على الطراز القديم ، هذه الأثاث كلها ، لا يزال يذكرها ، جمعتها العمة نونة في هذه الغرفة ،تركها المعمر الآسباني و كانت في غرفة جده ، صندوق عرائس من الطرازالعربي القديم قيل أنه للجدة يرحمها الله ، متحف يطيل عمر الذاكرة ، جلس على الكرسي ، نظر اليها ويبتسم ..
كريم : لا تزال عمتي تعيش على الزمن الماضي دنيا زمان ، لا شك أن جدي كان يحبك كثيرا ، فأنت الآن تعيشين على ذكراه ، يقول المثل .. عز البنت الا مع أبيها وعندما تفقده عيشها يمرار ... منذ عرفتك وأنت في عزلة كم أتمنى أن أعرف وصية جدي لك ، قال أبي أنك على هذه الحال منذ قتل جدي ، قتله أعراب من أولاد جرجر أمامك من أجل الجزية لفرنسا ، قاتله هجر الى المغرب ولم يعد .. لا زلت تحتفظين بآخر كلماته.. لا يشبهه منا أحد ، اني لأستحي لما أتذكر أن جدي كان عميلا لفرنسا ، خائن أمته ...
قامت ، وقفت أمام الباب وأشارت اليه بالخروج ، ولما قام أدارت وجهها ، خرج وترك الباب مفتوحا ، أحس أنه وضع أصبعه على الجرح .. وقف أمام السلم قليلا ، لم تغلق الباب بعد ... نزل ولا شك أنها لا تزال واقفة في مكانها ، هل هي بداية تدفق الذاكرة ؟! ومن يدري ؟!
عاد الى الصالون وجلس ، أحس بالتعب ، استوى ... ارتخى ، يستمع الى نبضات جسمه ، أغمض عينيه ، فنام .. فتح عينيه ... وجدها قادمة
ثورة: تنام نوم النملة ، أجهدت نفسك يا أخي ولا تزال ، العرق دساس كما يقولون ، والعار عيب على الوجه، يتحدى أيام العمر كلها ، فماذا تريد من دخيلة السوء ، ألا تدري من أي معدن صنعت ، هذه أشياء لا يتسامح فيها الناس ، بهذا تثبت أنك ناقص مروءة
كريم: هل هي التي اختارت أن تكون كذلك ؟
ثورة : وأين ذنبنا نحن ؟
كريم : مادامت هكذا لماذا جاءت بها أمك ؟
ثورة:قال أبي كانت ظروفها قاهرة ، وكادت أمك تفقد صوابها عندما منعوها من رؤية ما أنجبت ، فكانت خضراء الحل الأسرع والأنسب
كريم: فسروا لها التشوه بالسواد
ثورة: هكذا قال أبي ، رغم هذا تأسفت و أصابها احباط ، عاشت مرحلة خطيرة جدا ،رامتها
بصعوبة، و من الفاجعة ما وجدت في ثديها حليب ، لأن الصدمة كانت كبيرة ولم تصدق ، وبعد أن صارحوها كانت خضراء كابوسا ولعنة تطاردها في النوم واليقظة ، زادت حدتها مع مرور الزمن .
كريم: اختلط عندها الحب بالكره ، هكذا كانت تقول دائما ، حسبي الله في المفروك ، تريد المبروك ،كأنه هو من نصح بها ، ثم كانت أمك عنصرية يا ثورة ، هل تعرفين السبب ؟ لأن أجدادك الأوائل كانت خادماتهم سودوات ، كانوا يعاملوهن بقساوة ، انه تواصل الباطل بين الأجيال ...
ثورة : أبدا ، ليس في الوجود أرحم من أمي ، تبكي لأتفه الأسباب ، طيبة تحاصرها الشفقة من كل جهة ، ولولا تسامحها وطيبتها ما كانت تحملت خضراء الى هذا الحد
كريم: أين العيب في خضراء ؟
ثورة : أمي تعرفها أكثر منا جميعا ، هي أقرب الناس اليها ، لا يمكن أن تكرهها بدون ذنب ، مستحيل ، وهل كل شيء يقال ؟
كريم : أكاد أكره كل النساء بما فيهن أمي ، فقد بدأ الشك يساورني حتى في نزاهتها وصون شرفها ، ألا يمكن يا ثورة أن تكون خضراء ...
فقاطعته ثورة : اياك ، واياك ، لا تحاول ، أمك أشرف من كل نساء العالم
كريم: لا ، لا ، أنا أقصد ، بل أريد أن أقول أن وراء خضراء هذه سر كبير ، اني أحاول أن أجمع الشتات والمعلومات حولها ، الا أن لبنات القصة تتنافر وتتناثر قبل بلوغ المراد ، كلما اكتشفت شيئا تعمق معناه والسر لا يزال يخفي السر فأين الحقيقة ؟
ثورة: لا تحاول يا أخي ، هذه طفلة معقدة الأطوار والماضي ، انها لغز منذ ولادتها وستبقى كذلك ، لا تحاول ، لقد عقدها القدر ، من الأفضل لك أن تهتم بما يستحق منك الاهتمام ، انك تضيع وقتا ثمينا من حياتك
كريم: لن أرتاح حتى أصل الى حل عقدة هذا اللغز
ثورة: أنت وشأنك ، لكن ما هو مؤكد أنك لن تجد ما يسرك ، ان مزبلة الماضي انتن مما تتوقع
كريم: هل أنت خائفة ؟
ثورة: ولماذا أخاف ؟ يكفي أني متيقنة أنها ليست أختي
ضحك كريم وقال : تخافين على الميراث ، ذهب أمك ومجوهراتها ، والأرض والمحلات و ...
ثورة : لم أكن أتصور أنك تافه الى هذا الحد ، وبتصرفك هذا ستدفني الى اغتيالك في نفسي ... أنت .. أنت ..
كانت الشرارات تتطاير من عينيها ، وتصلبت أطرافها وظهرت أسنانها كأنها تشد بها على رقبته ...
فقام ، نظر اليها جيدا وكـأنها تحمل كل عيوب الدنيا ، ثم عاد باشمئزاز الى مكانه وقال لها :
هيا ، اذهبي ...
ثورة: وبعد ، لا أريد أن تشاركني في أمي وأبي لقيطة سوداء
كريم: قولي ، في مال أبي و أمي ، هيا انصرفي خير لي ولك ....
فذهبت بغصتها ، تذكر جده والسوط في يده ، انها لا تشبهه الا في الخلق ، الشيء الذي هو متأكد منه أنه رأى شبيه جده ، ولكن أين ، لا يذكره ، كان جميلا جدا حتى تقول أن أمه من جميلات فرنسا ، يقال عنه أنه كان زير نساء ، يمكن أن يكونوا قد قتلوه من أجل امرأة ، ولم لا ، ماضي عائلتنا مليء بالتناقضات وأول ضحية هي الحقيقة ، ومن كانت ترد طلب القائد آنذاك ، وأي قائد ...
شغلته قصة خضراء عن التحضيرات لفتح مكتبه الجديد ، لقد أدى القسم الأسبوع الماضي وتم تعيينه محاميا لدى المحكمة ، انه الآن الأستاذ كريم .. العباءة السوداء والمحفظة ، انه الآن من المدافعين عن الحق ، المنقبين عن الحقيقة ... يبتسم ، ما أعظمها مهمة لو لم يشوهوها ... كان كريم طويلا لا يعاب وعريضا حد البسطة ، ليس بالجميل الذي يفتن ، ولا بالغليظ الذي ينفر ، اجتمعت في شخصيته الهيبة والطيبة وحسن السلوك ، يعرف كيف يقول الحق وكيف يزهق الباطل بعيدا عن التكلف والتلفيق ، جديته في الدراسة ساعدته على التحكم في سير النقاش ، أبهر اللجنة يوم ناقش رسالته ، يتميز بثقة كبيرة في نفسه ، وقرر أن يذهب بعيدا ربما الى منظمة حقوق الانسان العالمية ، ولم لا ... انه العلم والطموح ... هل خضراء هي البا الأول الذي سيدخل منه الى عالم التحريات ومطاردة الحقيقة ؟ ربما .. انه الآن وسط الدوامة وهو عامل فعال من عواملها ، الى أن يصل اليه أول موكل ، وهذا ليس غدا فسيتفرغ كليا لذلك ، والسؤال المحوري الذي لم يجد له جواب ، لماذا تريد أمه التخلص من خضراء ؟ ولا تريد أن يتذكرها أحد ، نشر صورتها في الجرائد وتبليغ الشرطة عنها هي فضيحة لكل العائلة في وسط هذا المجتمع الذي لا يرحم ، انه شرف العائلة الذي ولا شك ان انتهك ستقتل العصبية العمياء الأب الذي يعاني من عدة أمراض ، السكري ، والقلب ، انها الصفعة التي تضع النهاية له ، وسيقول الجميع وخاصة الأعراب من قبيلتهم ، ذل الحاج ، وقتله ابنه بكلام المدارس ، فماذا أنت فاعل يا كريم ؟ قال الأب ، خضراء سافرت ، هكذا يجب أن يطوى الملف نهائيا ، انها أعظم جريمة يفتتح بها مسيرته القانونية ، ويخون قسمه ، فأين الضمير يا كريم .. ذلك هو الحق يجب أن نضحي من أجله بالباطل حتى ولو كان النفس والنفيس ، مثله مثل الحرية لا يقبل الشريك ولا يحتمل التزوير ... أصبحت خضراء همه الوحيد ، يهيم بها شوقا ، يدخل الى غرفتها كل ليلة ، يجلس ، يستمع الى حديث أشيائها ،ويحمله معه حيثما أرتحل وحل ، وبدأت غمامات الحزن والأسى تغمر البيت ، وكيف لا وكريم هو الولد الوحيد ، ولي عهد الحاج وحامل اسمه والمحافظ على بقائه وخلود ذكره ، وبدأ يعتزل ، ويغيب عن مواعيد الطعام وموائد والسهرات ، مقيد لا يستطيع أن يفعل شيئا ... غارت ابتساماته يقاوم تدفق العبرات وتصلبت عضلات وجهه ، لأن البكاء في عرفهم للنساء ، ونحيب الرجال آهات وتأوهات ، الشيء الوحيد الذي كان يشغله هو تفانيه في عمله ودفاعه عن المظلومين ، أولئك الذين وكلوه للدفاع عنهم ، فكان يرافع ليرفع عنهم ما استطاع من جور وظلم وهضم الحقوق ، يجد راحته في ذلك ، ويتدمر عندما يخسر قضية وراءها رشوة ،أحيل عدة مرات أمام لجنة التأديب لانتفاضه أمامي القاضي عندما تنتهك حرمة القانون ، وتمر بعض الأحكام تحت ابتسامات القضاة ، لحماس هذا الشاب وايمانه بقداسة القانون ، يعجبون به كثيرا ويتمنون له مستقبلا زاهرا ، وذاع صيته واشتد القيد على معصميه أكثر وعندما تعاوده الذكرى ، يذهب الى عمي المبروك لعله ينتزع منه بعض الخفايا ، الا أن المبروك يعرف ذلك ، فكان يتحفظ كثيرا ويحول دائما مجرى الحديث ...
كان في غرفة المكتب دائما كعادته يسهر الى ساعة متأخرة من الليل ، وقبل أن ينام ، يمر على غرفتها تنتعش الذكريات ويتجدد الحدث في ذاته ...
دخلت دون اذن ، جلست أمامه ، لم يرفع رأسه ، لا يزال منهمكا في ترتيب ملفاته ، قال:
مرحبا أمي ، لم تنامي بعد ؟
الأم: وكيف لي أن أنام وأنت في هذه الحالة ؟ هجرتنا ، وجردتنا من الفرحة بك وافتخارنا بك ، وألزمتنا الحزن والآه ، أبوك يئن تحت وطأة تصرفاتك ، يخشى عليك ويخشى أن تتهور وتكشف المستور ، فتضيع هيبتنا ويزدرينا الناس ونتحول أحاديث دنايا القوم وأراذلة القبائل وصعاليكها ، واليوم أنت في العلا يحسب لنا بك ألف حساب ، ما وجدت من وسيلة أواسيك بها سوى أن أعرض عليك فكرة الزواج ، يمكن أن تجد فيها البديل ، بل الأفضل ، ألا تظن أن خضراء انتهى أمرها وأصبحت ذكرى وأثرا لشبح مر من هنا ؟ .. ارحم نفسك يا بني ، أنت لأفضل منها أفضل ، لماذا تريد أن تنزل بالسلالة الى هذا الحضيض ، ما ركع جدك ولا أبوك أبدا ولا ركب الدنايا ، قتل جدك لتصلبه وأنفته وعزته وتحديه الجميع ، وأنت اليوم أكبر ، فأعرض عن هذا واترك الزمن كفيل بتغيير مجاري الحياة ، ان ما نحن عليه اليوم ما توقعناه من قبل أبدا ، كنا نراك وأنت صغير سيد القوم وحكيم الديار ونافذا في السلطة وابن النظام ، فاذا أنت اليوم محام تملأ القضاء همة ، حتى قالوا ، عندما يتكلم الأستاذ كريم وكأن الطير على رؤوس الجميع ، وهذه الهيبة ماصنعتها لك دراستك فقط ، بل هي ميراث وتواصل الأجيال ، كلهم يعرفون ابن من أنت يا كريم ، وما فائدة هذه القراية التي لا تعرفك بنفسك وتنزلك منزلتك ، هؤلاء كلهم أكلوا وشربوا من خيراتنا ، أكرمنا الجميع وساعدنا الجميع ، أينما يدخل أبوك يرفع في الباب وتفتح له الصدور ، يقضي حوائجه ويخرج معززا مكرما ... هناك في البادية لا يتحرك الأعراب الا باشارته ، كل القبيلة تدين له بالولاء ، هو الذي لم يجلس يوما على مقعد ، باستثناء ما قرأه من قرآن في الكتاب وحفظ بعض الأحزاب ، وكان يرافق جدك لكتابة بعض تقارير الأهالي ، فتعلم الكثير ، انها العزة التي نشأت فيها ، فكن في المستوى ...
كان كريم يستمع الى أمه وهي تعيد للمرة الألف مغامرات زوجها ومآثره
كريم: يا أمي ، يا أمي ، كل شيء تغير الا أنت وأبي ، الناس يطيعونكم لأنكم اشتريتم ذممهم ، واكتشفتم أسرارهم ، وتعرفون عنهم مالا يعرفه غيركم ، انه ولاء الخوف يا أمي ، الخوف من الفضيحة ، الخوف من السجن ، الخوف من تصفية الحسابات ، ان نفوذ أبي هو الذي صنع له هذا المجد المزيف وسيزول يوما ونظهر جميعا على حقيقتنا .. المهم لقد تأخر الوقت يا حبيبتي ، غدا نتكلم في الأمر ، أما الآن فهيا بنا الى النوم ، أرافقك الى غرفتك ، ادخلي بهدوء حتى لا يستيقظ أبي
الأم: لا .. أبدا ، لن أخرج من هنا الا بكلمة فصل ! .. يا بني ، يا بني ، أحرقت كبدي والقلب ينزف جرحك ، غير ممكن يا كريم أرتاح وأنت في هذه الحالة ! وكأنك لا تعرفنا ولا نعرفك ، أغيرتك السوداء الى هذا الحد ؟ ، حتى أصبحت تكرهنا !! ، أمن أجل امرأة يا كريم تعاقب والديك وتنتقم منهما ؟ عيب يا كريم ، انها خوارم المروءة وابتذال الشهامة ، أم أنت تمثل علينا لنرحم زلتها ؟ أبدا يا كريم لا تحاول ، خضراء هجرتنا هجر السوء ، لا نريد أن نجاهر به حتى لا نفضحها ونفضح أنفسنا ، وأقول لك أحسن ما فعلت ، و أكيد أنها لن تعود حتى لو وجدناها وحاولنا ذلك .. فابحث عن غيرها ..
كريم: سأفكر يا أمي ، ارتاحي الآن ، زواج الدوام يجب التفكير فيه عام ، كما يقول المثل ..
قامت ، دارت حول المكتب ، وضعت يدها على كتفيه تعانقه ، وفاضت العبرات تتكركب كحبات البرد وهي تقول :
أرجوك يا كبدي ، لا تخذلني ، أتمنى أن أرى ولدك قبل أن أرحل ، انني أقاوم للبقاء والمرض هتك حرمة صحتي ، اني أعاني .. نعم أعاني .. سأموت يا كريم ، وستذكر هذه اللحظة بالذات ...
استوت واقفة ، نظرت اليه ،أراد أن يقوم فأشارت اليه فرجع ، انصرفت ، وغلقت الباب وراءها
أحس كريم بقشعريرة في كامل جسده ، سأموت يا كريم .. سأموت يا كريم ... فزعت كل المدارك ونفخ شعور غريب في نفسه .. فداك نفسي يا أمي ، فداك نفسي ...