أرق من نـوع خاص
مـن شرفة قصره المشنشل , أطل من علياء الطابق الثاني . بيته يحاذي شارع واسع ممدد بين بيوت سكنية . يفرش ظلاً صباحياً , نشوة برودته تغري عمّال تنظيف الشوارع بالنوم تحته متوسدين أي شيء , قطعة حجر , مكنسة , ومرات يكرههم النعاس أن يتوسدوا أحذيتهم , فتلك فرصة للراحة لم تنعم بها زنزانات ( الجنكو) .
راقب الرجل يوماً سطوة البؤس التي تحتل أجساد هؤلاء المنعمون بالعوز . احتشدت برأسه تساؤلات ساخنة ضختها إليه سني عمره المتخمة بأموال يسيل لها اللعاب .
استنسخ جسده استجابة لرغبة تساؤلاته . أصدر أمراً لرأسه المستنسخ أن ينظم عنصراً آخر لدائرة جلوس رجالات النكد المفروشين تحت الظل . حمّله طلاسمه المكدسة منذ زمن بعيد حتى أضحت عفونتها تهدد عقلانيته بشكل فاضح .
توجه الرأس للشاطئ الآخر الذي لا تؤمه أشرعة الترف . جلس بهيئة النشاز ضمن دائرة لا تمت إليه بأي صلة عدا الإنسانية . بدأ يسكب سيل أسئلته الصامتة فوق أسماع أصحاب الجلالة والسمو الذين شمخت بهم الفاقة والتعب لدرجات يجدر بهم أن يغفوا ولو على الرصيف .
شكا لهم الرأس وجع وسادات وفرش الحرير . قلّب أمام أنظارهم ترافة اعتلّ بها جسده جراء تعرضه الدائم للسعات أجهزة التكييف . حدثهم عن احتلال بيته بالعافية والهدوء منذ أعوام دونما بزوغ بارقة أمل لتحريرهم من هكذا احتلال مشين .
بكى وهو يريهم انتفاخ أجفانه بأرق خبيث يحاصره من عدة جهات . يتساقط إليه من كريستال ثريات معقدة الصنع تتدلى أصابع أضوائها الملونة لتلامس مرمر أرضية البيت . أو ارق يزحف إليه محملاً بدفء مفروشات الكاشان المخملية المطوية أو المفروشة في مماشي الحجر والصالات وال....
وقرف آخر يُهدى إليه من صناديق التجميد متشرباً بروائح المأكولات الغربية والشرقية وشرائح اللحم والمشروبات بكل ما لذّ وطاب . أنسام امتزجت بشذى ورود ونباتات تتقاطع كأحزمة ملونة في حديقة الدار هي الأخرى تصفع أنفاسه بعطرها الفوّاح . ووجع مميز آخر , وجع التلصص عبر بوابة خوفه إلى نظرات لصوصية تتوعد أمواله , التي استسلم أمام ضخامتها العد والاستهلاك بشيء ما . فظلت حبيسة خزانات الحديد دون معرفة مدة محكوميتها . فيتعامى على مضض عن عض الشفاه والأصابع والغمز .لا يدري متى ينفذ الطامعون حكم الإفراج بأمواله . وغير أرق لا ينمو إلا خلف أبواب الصاج والصندل في بيوت أذن للترف أن يرتديها على الدوام .
كرر توسلاته بتلك الأجساد الغارقة في النوم . حملته نزعة الحسد والغيرة لما هم فيه أن يسالهم عن طبيعة الأحلام التي تنتاب رؤوسهم الآن .
ـ كم أتمنى أن أغط معكم ببحر نومكم العميق هذا .. حتى ولو أخذتكم أحلامكم لساحة مزدحمة بالعمّال سأركض معكم وراء سيارة مقاول يطلب يد عاملة . أو أقف وسط سوق شعبي أو حراسة باب مدرسة أو في مسجد يؤم المصلين فيه شيخ يشحذ هممكم ويوصيكم بالصبر والصلاة . أو في مستشفى أمسح معكم بلاطه خدمة للناس . أو ازحف معكم وانتم تحثون الخطى إلى مكان مقدس . أو...خذوني لأمكنتكم تلك برغم درايتي بأنها أمكنة تعشقها الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة ولها أوجاع بطعم خاص لن يستسيغه إلا صنّاع الموت . أرجوكم ...أرجوكم...
أطال الرجل وهو في علياءه بهذيانه الصامت دون أن يتخذ أي قرار لصالح أمانيه تلك . غير أنه عمد إلى خزانة أمواله . فتحها وأجهش بالبكاء لأنه سيوّرث أولاده ذات الأرق..