حازم خليل
تتعدد الأقنعة والحب واحد
تمتزج أحاسيس هذه المرأة الشاعرة رحاب حسين الصائغ في ديوانها" حفلة تنكرية" تارة بالحب وتارة بالجمال والعشق، مستطرقة الظنون والصور والشجر... بين الواقع والخيال تتقلب تارة بشدة، وأخرى باليقين، متأملة الطبيعة البشرية، مستجلية إياها، سابرة غورها...هي تهتف:
(( رغبة المرأة ... جموح كالرياح... تبتلعك قطرةً، قطرة))
فهل رغبة المرأة الجنس فقط؟
إنها تردد مرة أخرى:
(( دع لونك الغامق يتجول في عالمي... ويجدد الأنين))
وثالثة:
(( حرباء هذه الساعة، عقاربها رجل وامرأة... تعد بالفرح، وتوهب الأحزان))
حتى تعود للقول:
(( الحب خرافة أسكرتني... إن طاردتها هربت... إن تركتها راودتني))
ثم تقول:
بحضورك يكون الضياع جميلاً، فالبس خرافة الشعراء، وأغفوا على أجفانك))
هي تقرر أن للحب جناحان لا يمكن أن يحلق دونهما...جناحان من لذة وشوق...
كان العقاد يردد في فجر شبابه الباكر، مالحب؟ مالحب، إلاّ أنه بدل من الخلود، وما أحلاه من بدل!
وأرى أن شاعرتنا رحاب حسين قد ترسمت خط العقاد كفكرة مجددة وليس كصناعة شعرية، ما بينها وبين العقاد أجيال، تخطى فيها الشعر أشواطاً بعيدة عن عمود الشعر... فأصبح الشعر حراً على أيدي الرواد الأوائل السياب/ البياتي/ نازك..
لقد تبنت رحاب حسين فكرة العقاد عن الحب على ما يبدو، فقد أصدرت ديوانها الصغير المكثف الموسوم ب(( حفلة تنكرية)) وفي إهدائها تقول أو تخاطب القارئ: (( إلى من يؤمن أن في الحب خلوداً، لا يوازيه سواه))
مثيرة تساؤلات القارئ: هل في الحب خلود حقيقي للذات الإنسانية أم هو خلود مجرد للحب ليس إلاّ؟!
هكذا تقول في إحدى التمويهات:
(( أيها الحب ... أيّ غولٍ أنت... في ظلك تسقط المسافات))
وفي موضع أخر(( أحبَّ بعدد حروف الهجاء...ومات قبل الخطيئة بحرفين))، أي مات حباً... وفي تمويه آخر(( ذاب في حلم ليلى... صاغ من جنونه فساتين لعصافيرها...لكن ليلى لم تدفئها كل المعاطف... فظلت تنظر إليه من خلال الأوراق))
وفي كل هذه المواضع يكون الحب خالداً موحياً وجميلاً رغم عذاباته...أقول خالداً، وليس المحبين، فالمحبون الخالدون متماثلون بهذا الحب الخالد.
((قالوا عدي للرحيل... قلت لن أرحل... زادي الحروف والكلمات..قالوا تشهدي...قلت لن أموت... ما دام الصبح في قلبي يخلق)) وهي بالطبع تعني الحب؟!
فالحب يتجدد في قلوب البشر، وقد تموت القلوب وتتخلى عن النبض، ولكن المشاعر تبقى أبداً..
الحب قوة تمتلكنا، كأعمارنا، كتسلسل الأمن فينا، ومن خلال ... الحب قوة تأسرنا دون أن نستطيع أسرها مطلقاً، إلاّ بتجليات العاشفين وتسابيح المحبين وشطحات المتفوقين وتمويهات المتيمين...
وفي محاولة منها لفلسفة الحب تقول:
(( أنت والحب فلسفتي... لذلك لن يفهمنا الآخرون))
وفي هذا لمحة وجودية كأنها تقول على لسان سارتر ((الجميع هم الآخرون)) وحبذا لو قالت (( الحب فلسفتي...,أنت حبيبي)) فارتداء القناع الوجودي هنا لا يخدم العملية الشعرية بكثير أو قليل حسب رأي المتواضع، وفي هذه الإضافة الشعرية تحاول الشاعرة الوصول إلى الخلود متخطية أو محاوِلة أن تتخطى عالم السراب والخرافة متعلقة بالأمان عبر (( الإنسانية.. كلمة خلقت نفسها، فوضعت في مصاف الآلهة)).
وعلى ما ينطوي هنا عليه القول من معاني تسقط في حيز الوحدة والخيال المفرط الذي تجاوزه إنسان العصر، فلم تعد أسطورة كلكامش وسواها سوى نبراساً على طريق الإنسانية وصولاً إلى إنسانية أمثل...والسفر عندمايكون رمزاً يجب أن لا يتردى إلى الغموض، وعندما يكون غامضاً يجب أن يتحول إلى شيء ممتع جذاب...دون أن يفقد واقعيته.. وهي عندما تقرر أن تلبس قناع نيتشة الذي كان يردد دائماً (( أحداق واحتراق... تلك كانت حياتي)) تقول شاعرتنا(( علاقتي حميمة بسكارتي ...أحرقها خوفاً من موت الزمان ... تسبق انفعالاتي... وكلانا يحتفل بحرق الثاني)). هكذا تتعدد الأقنعة لكن يبقى الحب واحد.. الحب الذي تزكيه الكلمة الصادقة والالتفاتة الأدبية، واللقاء الحميم والخصام الشديد... وبالرغم من ذلك يبقى الحب دون تفسير، فلماذا الحب ولماذا يحبنا الآخرين... لا ندري.
فالأشياء التي تتراءى لنا إنها سبباً فب حينها للآخرين أو حبهم لنا قليل بالقياس إلى الأسباب التي لا تعرفها...
وهذا الديوان المكثف الصغير، محادثة جادة وصادقة ومحاولات عميقة نابعة من قلب عاشق كبير يؤمن بمصداقية الحب، ودوره العظيم في بناء الحياة، (( أقتل الهدهد... فلا تعرف بلقيس طريقكَ )) هكذا تقرر أن قتل
-الهدهد- ليس طريقاً للوصول إلى أي مبتغى أو هدف..وهكذا هي الحقيقة
في خلود هذا الحب وفي أنه القيم الحقيقية لبناء حياة الإنسان والمجتمع.
أتمنى للسيدة الشاعرة أن تضئ لنا الطريق الطويل بمزيد من الإيضاحات الشعرية ومزيد من المصابيح لكي يتبدد الظلام.