ربما لأننا أدمنا الهزائم، فما عاد يعنينا، الدفاترُ، والحبرُ، والكتب، ولا حتى أي شيء يحاولُ استنهاض العزيمةِ فينا، ولان الكتابة ليست درباً من الهوى، ولا طريقاً للتسليةِِ، أو حتى العبث، فبالكتابة يمكن أن تواجه النفس بحقيقتها، ويمكن لك أن تكتبَ التاريخ الذي هو محصلة أحداث تراكمية شكلت الوعي الأول لفئة أو عرق في بقعةِ ما، فيكون الحبر الذي خُطَتْ به عوالم الزمان والمكان هو الأثر الباقي لمن سيأتي من بعدهم، ترى بأي عين سيقرأ الأحفاد سيرة الأجداد ؟! بلا شك حروف التاريخ سوف تكون مفتوحةً على كل الاحتمالات، إما أن يتفاخرُ الأبناء بسيرة ناصعةٍ ، أو يدفنون رؤوسهم كالنعام بين الحفرِ خزياً، ولأننا عَربٌ – بفتح العين- فينا من الشهامة، والنخوة، الكثير، فان أحفادنا، وأحفاد أحفادنا، سيحاولون بكل السبل أن يسخروا مننا على الأقل عبر القرن الماضي، وبداية هذا القرن الذي لا تلوح في افقه أي بوادر تغير في الحال، إذ لا يمكن أن تدون إلا النكبات والنكسات، والهزائم، والتراجع، والتخاذل، وكل ما يبعثُ في النفس الغصة، والاشمئزاز، فعذراً يا كاتبَ التاريخ هذه هي الحقيقة الواضحة التي يجبُ أن يعيها الجميع..!! في كتابة التاريخ الحديث وأقصد - قرناً من الزمان مضى ونيف- محوران للحديث، محورٌ يتعلقُ بالذات العربية التي لم تسعَ إلى التغير، وفضلت بسلبيتها وجبنها أن تكون متفرجةً، وكأنها ليست عنصراً في المشهد المكون لتراكمية الأحداث، ومحورٌ ثانٍ يتعلق بآخر، هو العدو، الغريب الذي دخل وتسلل إلى أوطاننا، فهجرَ وقتلَ، واستباح كل القوانين الإنسانية، يحاول أن يصنع تاريخاً بشعاً، على أطلال أهل الحق وأصحاب الأرض، وفي المحورين مشهدان مختلفتان بكل " كيميائهما "، أراهما في مخيلتي مشهدُ " صاحب الحق المتخاذل " ومشهد " الدجال الظالم " إنها مفارقةٌ صعبةٌ، فالعقلُ الآدمي بتعقيداته بكل ما أُوتي من فطنةٍ وذكاء، لا يمكن له الولوج إلى أعماقهما للتحليل أو الربط بينهما، لأن الفطرة الإنسانية لا تقبل الاثنين باختصار .
فالآخر العدو الغريب، الصهيوني، الحاقد، الدخيلُ على هذه الأرض، يحاول بالقهر والقتلِ، وبكل البشاعة والقذارةِ ، أن يشكلَ هالةً من البراءة على سلوكه كي يكون مقبولاً على أرض لم يكن يوماً فيها مولده، يحاول أن يجعلَ من آلة ترهيبه عنصراً أساسياً ليكتب بوسائل إجرامه المنظم تاريخاً مزيفاً لشعب لقيط ..!! كيف يمكن ذلك ؟ ورائحة الأرض المجبولة بدماء الشهداء فلسطينية خالصة، وعرق الفلاحين يروي ذرات ترابها الكنعانية، وعجين الفلاحات، ورائحة خبزِ الأمهات يشهد، وزيتوننا، وزيتنا، وقدسنا، وساحلنا، يشهد، يا كاتب التاريخ مهلاً ففي الصفحات ما زال متسعٌ ..
ولأن التاريخَ هو الأهم فقد حاول الآخر الغريب أن يقتلع الزيتون، ويحرق الأرض، كي لا يكون لنا قمحٌ وخبزٌ، كي لا يشير ذلك إلى فلسطينيتها، حتى نرحل ونتركها فارغةً له، حاولَ أن يأتي، بالروس، والبلغار، والفلاشا ووو، وكل الذين ضاقت بهم السبل في بلاد الثلج، أو بلاد الجوع، كي يكونوا أهلاً لهذه الأرض، لكن ذلك لم يكن، لأن الزنود السمراء، المعجونة في رحم الأرض الطاهرة كذبت كل نبوءاتهم، فوجه الأرض، وسماؤها، وهواؤها، لا يقبل إلا فلسطينيناً خالصاً، دماً، وروحاً، وشكلاً، لأن العناصر غير الأصيلة تحدثُ خللا في التركيب " الفسيولوجي " وبالتالي عناصر الدفاع في الجسم تطردها خارجاً.
بقيت العمليةُ صعبةً عليه فكل محاولاته أخفقت في تدجين الإنسان الفلسطيني وترويضه، ليكون عبداً يعملُ بالسخرة، يأكلُ كي لا يشبع، ويعملُ كي يموت، فلجأ إلى تسخير أقلام الضلال، كي تكون يده الأخرى في اغتيال كل شيء فلسطيني، لذلك ظهرت العديد من الأدبيات تحاول أن تربط بين شعب لقيط، وأرض لا تقبل إلا بالطهر في رحمها، تسابقَ الساسةُ، والأدباء، والتجارِ، والفجار، وكل أصحاب الذمم الخراب منهم كي يزيفوا التاريخ، ويضيفوا " هرطقات " تدلُ على البلاهة، لم يعرفوا أن الدجل، والدهاء، الذي مورس لم يفلح في جذب أنظار يهود العالم إلى هذه الأرض، فالمعطياتُ المتوافرةُ عن دوائر هجرتهم تفيد بان أعداد المهاجرين اللقطاء في تراجع مذهل، وأن المهاجرين الذين حاولوا جذبهم مؤخراً يفكرون بالعودة من حيث جاءوا، فلا المناخُ مناخهم، ولا السماء سماءهم.
صورت كل الأدبيات الصهيونية التي كتبت قبل قيام حركتهم الصهيونية بأنها حركة إنسانية، تسعى للم شمل شعب تشتت في المنافي، ومن أبرزها ما كتبه " بنيامين نتنياهو " في كتابه " مكان تحت الشمس " حيث حاول أن يقلب المسميات ويغير في طرفي المعادلة، لذلك غير اسم فلسطين إلى " ارض إسرائيل الموعودة " ممارساً احتيالاً وتزييفاً تاريخياً ليثبت بأن هناكَ رابطاً زائفاً بين الأرض الفلسطينية الخالصة واللقطاء، ويتمادى في هذيانه ليقول بأن الفلسطينيين الموجودين على هذه الأرض هم " أقلية " برغم الملاين المهجرة والمشتتة في دول الشتات، يبدو انه تناسى قاصداً..!! بان الميزان الديمغرافي في أي اتجاه يميل..؟! محاولة " نتنياهو" ليست الأولى ولا الأخيرة، فأقلام الافكِ واحدة، وأصوات الحق كثيرةً، وبالتالي فان كل ما كتب لم يخرج عن هذا الإطار، هرطقات تحاول الربط بين الخرافة والواقــع.
يبدو أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفنُ، فكاتبُ التاريخ لم يستطع الربط بين الخرافة والواقع، الواقع المبني على الحقيقة الراسخة، والخرافة المبنية على التأويل غير المنطقي، لذلك كان لا بد من رؤىً أخرى تحاول جسر الهوة بين التصورين، فهم بمنطق الجبابرة، ونحن بمنطق الضعفاء، حاولنا أن نسير في مركبٍ يجمعنا، متجاوزين كل الخسارات، والهزائم، كي نعيش معاً، دولتان، يجمعنا مستقبلٌ، لذلك تسابق أنبياء السلام ليوجهوا بوصلة المركب استعداداً للانطلاق، فلم ينطلق المركب لأن أشرعته الورقية لا تتناسب ورحلة السفر، ولن تصمد في وجه الريح القوية، والقناديل الهلامية التي كانت تتموج على وجه البحر نضب زيتها، ولم يعد بالإمكان المسير متراً واحداً إلى الأمام، لأن كاتب التاريخ يأبى أن يكتب مستقبلاً واحدا لنا ولهم ..!!
يخطئ من يظن أن الطبيعة تقبل بالضعفاء، أو المهزومين، فالتاريخ لا يرحم عاجزاً، ولا يسترُ عورة ً مكشوفةً في العراء، حتى لو حاولنا أن نلون بعض سطور التاريخ، فهناك شواهد لا يمكن أن يغيبها مداد السطور، حكايا الجدات، وتضحيات الأمهات، ودروب الشهداء، هي من ستكشفُ عوراتنا في وجه الريح، ونبقى في العراء عراة، ويخطئ من يظن بأن كاتب التاريخ سيكتبُ عن الفلسطينيين وحدهم، كاتبُ التاريخ سيكتب عن أمة بعدد رمال الصحراء، تخاذلت وتهاونت في استرداد حقها، وغضت الطرف عن نصرة المقهورين في أرض هي لهم أولى القبلتين وثاني الحرمين الشريفين، وأما قارئ التاريخ فسيلعن أمة تجاوزت المليار بقيت صامتةً صمتاً تجاوز قرناً من الزمان .
مساؤك خير ...عندما قرأت المقالة تداعى إلى ذاكرتي تلك الرسالة التي أرسلها محمود درويش لسميح القاسم والمعنونة بِ ( هناك شجرة خروب ) اسمح لي أن أنقلها هنا :
عزيزى سميح
… وعلى ذكر " الحق " الذي يمد لسان السخرية فى رسالتك ، والحق بالحق يذكر او ينكر فضحتنى دمعتى منذ ايام ، عندما كنت اسجل حديثاً تلفزيونياً فى مدينة هلسنكي …
إنقض على احد المحاورين ، وهو كاتب فنلندي شهير ، بهذا السؤال المدهش : هل تعرف كيبوتس " يسعور " ؟
اجبت : نعم، اعرف مكانه لانى اعرف انقاضي . ولكن لماذك تحرك فى هذا العطش ؟
قال : انا من هناك . اعنى : عشت هناك عشر سنين ، ومن حقى أن أعود الى هناك فى أى وقت أشاء …
قلت : فى أى وقت تشاء ، لماذا ؟
قال : لأنني يهودى …
قلت له ، وقد تحول إلى مرآة : ياسيد دانيال كاتس ، يبدو لي انك تعرف اننى ولدت هناك تحت غرفة نوك وتعرف ان لا " حق " لى فى العودة الى مكان ولادتى ، بينما انت الفلندى ، صاحب العشرين الف بحيرة ، تملك " الحق " فى العودة الى بلادى في أى وقت تشاء …
قال : اعرف هذا الظلم . ولذلك ، اعددت لك هذه الهدية ، هذه الأغنية القصيرة :
" انظر الى البلاد التي تسميها وطنك – قال لى توفيق او محمود / عيناك تحدقان في التراب ولا تصلان الى ما تخبئ الارض / القرية التى ولدت فيها عارية وباكية / متحررة من خاصرة أمى / وأنت … ها انت ترفع باعتزاز / كوخاً من الصنوبر " …
وروى لى دانيال ، يا عزيزى سميح مسيرته فى طريق العودة – فهم دائماً عائدون – كما يرويها من يملكون الحق ، اينما كان ، والضمير عندما يشاؤون . اذ ليس على التاريخ الا أن يتمرن على حساب مصالحهم وعواطفهم وينضبط ! كان مثل جميع المهاجرين لا يعلم . لا احد منهم يعلم على ما يبدو – ان في بلادنا شعباً . وحين يواجهون عقبات الاندماج فى الارض فى المؤسسة فانهم سرعان ما يعلمون ، ويستخرجون احتياطى الضمير ليختاروا " عودة " اخرى الى " حة " آخر.
من علمك يا دانيال ان تحت كيبوتسك قريتى ؟
قال : شجرة الخروب الضخمة … سألت احد زملائى فى الكيبوتس عمن غرس هذه الشجرة ، فقال : نحن المهاجرين . ولكننى ادركت من عمر الشجرة أنه يكذب ، ادركت ان احد اجدادك هو الذى غرسها . فحملت ضميرى المعذب وعدت الى وطنى فنلندا لم أقل له ، يا عزيزى سميح ، انه محظوظ بامتلاكه حقين ، ووطنين وعودتين قلت له انه عادل ، لانه يمتلك ميزة انسانية اكبر هى : الضمير ، يحركه ، يستعمله ويشهره مى يشاء فى وجه أية مشكلة . فى وسعة ان يتوج قاضيا مادام يتمتع بهذه القوى الانسانية . له حق الكلام والمصداقية . أليس هو الشاهد الذي لا يدحض ؟
ونحن الذين نحتاج اليه نتكلم عبره عما يصيبنا . فهل يحق للعربي ان يتحدث في الغرب بلا شاهد يهودي ؟ لا حظ على سبيل المثال ، كيف يناقش الاسرائيليون قضايا الاحتلال ونتائجها السكانية . انهم يبكون كما لو كانوا هم الضحية ، ونحن الضحايا نصفق لمتانة الدليل !
ولكننى اعلق بطريقة أخرى تشبه معانى الكلمات التالية : وهكذا تدلنا شهادة دانيال على ان السلام فى الشرق الاوسط ما زال قابلاً للتحقيق ، ما دام دانيال يصاحفنى ، ويرضى ان يكون صديقي ، ويكتب لى هذه الأغنية !
وبالاغنية ذاتها التى تخدع ذاتها لتكون ذاتها يقف الواقع على رأسه ، ويعتذر عن وعى شقي ووعى زائف معاً . ماذا يريد الشعر من المستوطنين اكثر من الاشارة الى طفولتنا التى تنسب جماليتها الى المكان ذاته ؟ ليكونوا هم المعبرين نيابة عنا . هل يعبر عنى حاييم نحمان بياليك حين يغنى للطائر العائد من بلاد الشمس الى نافذته المطلة على الجليد الروسى ؟ وهل يعبر عنك حاييم غورى فى وصف الجليل العائد الى اهله الغائبين ؟ وهل تعبر عن هشاشة قلوبنا تلك الاغنية الرائجة : يا بحيرة طبريا ، يا بحيرة طبريا ، لقد هبت الريح ؟ وهل نستعيد جمال القدس ، كما استعادوه ، فى أغنيتهم التي حطمتنا : يا اورشليم من ذهب ، ومن نحاس وضياء ؟
ليس هذا سؤالا ، يا سميح ، بمقدار ما هو نزيف. وهل انتبهنا الى شراسة استيطان الارض ومحاولة استيطان الذاكرة ، وظل استيطان لغة الحنين والعودة والتيه مجالاً لعواطف مشتركة ممكنة ؟ طالما ان سكان " يسعور" يستمتعون بذهب الذرة الصفراء ذاته ، وبالتفاح ذاته ، وبالدوالي ذاتها، ويرفعوون اكواخاً من الصنوبر كما كنا نرفع ويغنون – كما كنا نغني – هب النسيم على الحقول ؟
لا تصدقنى ، فأنا لا أسأل ، بقدر ما أشير الى " حياد " الطبيعة الجارح .
ولكن شجرة الخروب اياها التى دلت المستوطن الاجنبى " البرى " على وعلى اجدادى، هى غلاف هويتى وهى ايضا جلد روحى اذا كان للروح جلد هناك ولدت … هناك ولدت وهناك أريد ان أدفن . ولتكن تلك وصيتى الوحيدة !
شجرة الخروب – أغبطك لأنك تراها كل يوم فى طريقك من الرامة الى حيفا ، ومن حيفا الى الرامة . سلم عليها اذا كانوا لم يجدعوها بعد . شجرة الخروب – اختبأت فى جذعها العملاق المجوف من المطر ومن الاهل عندما كنت العب مع السحالى والزيز والزواحف ، وعندما كنت اتبع خط الاسفلت الساطع الى عكا ، لأشرب بالطاسات .
ويا سميح ، يا سفير قلبي الى الشجر كله ، لماذا اشعر بكل هذه العطش . والعطش الذى لا يرويه غير امتصاص قطرة من الماء على جناح قبرة عندكم ؟ ولماذا يتجمد الزمن عند السنين الاولى … لينفتح السهل امامى فى امتداد لا ينهيه حتى البحر ، وأرى جنود نابليون فى حقولى عاجزين عن اقتحام القلعة على السور . الذي حولته شركات السياحة الاسرائيلية الى سوق تجارية وملاه لليل طوليل ؟
… وينفتح الشرق امامى لغابات الزيتون التى تصعد ، وتصعد بلا تعب وبلا ملل الى تعرجات جبال كثيرة ، متناثرة ، لتصل قريتى بقريتك العالية ، عبر عشرات من القرى المتناثرة ، كالمجاز السهل ، فى نشيد شديد الصعوبة ؛ يدخلنا فى متنه شهداء أو شهداء ، وهكذا تتحول شجرة الخروب الى مرتكز جهات ، والى علامة الفارق بين الارض والسماء . ومن على غصونها أقطف ، حتى الآن حبات الهواء الطازجة .
لم يكن للشهور اسماء لا تذكر متى انقصف حبق الطفولة . ولكن الليل لم يكن بارداً كما هو الآن . ولم تكن للقمر أغان عبرية معاصرة . ولكننى اتذكر ساحة الدار التى تتوسطها شجرة التوت التي تشد البيوت لتحولها الى دار هى دار جدى تركنا كل شئ على حاله : الحصان ، والخروف ، والثور ، والابواب المفتوحة ، والعشاء الساخن ، وآذان العشاء ، وجهاز الراديو الوحيد لعله ظل مفتوحاً ليذيع اخبار انتصاراتنا الى الآن . هبطنا الوادى الحاد المؤدي الى الجنوب الشرقي المفتوح على بئر يشرق من سهل يقودنا الى قرية " شعب " حيث يقيم اقارب أمى وأهلها القادمون من قرية " الدامون " التى سقطت تحت الاحتلال … وهناك – بعد ايام قليلة – تنادى فلاحو القرى المجاورة الذين باعوا ذهب زوجاتهم ، ليشتروا بنادق فرنسية الصنع لتحرير " البروة " … حررها فى أول الليل . شربوا شاي المحتلين الساخن . وباتوا ليلة النصر الاولى . وفي اليوم التالي تسلمها " جيش الانقاذ " بلا ايصال ، ليعيد اليهود احتلالها وتدميرها حتى آخر حجر … ونحن ننتظر العودة على مشارف الوطن .
تعرف السيرة كلها ، يا سميح لقد طالت " نزهة " المهاجرين واختصرت الحرب . وتعرف كيف " تسللنا " من لبنان حين أدرك جدي أن الرحلة ستطول ، وان عليه أن يلحق بالأرض قبل أن تطيرر وحين وصلنا لم نجد غير الخراب . فقدنا حق الاقامة وفقدنا حق الأرض . وحين مارست طقس الحج الاول الى قريتي الاولى " البرودة " لم اجد منها غير شجرة الخروب والكنيسة المهجورة، وراعي ابقار لا يتكلم العربية الواضحة ولا العبرية الجارحة : من انت يا سيد ؟ . فأجاب : أنا من كيبوتس " يسعور " . قلت : اين كيبوتس " يسعور" ؟ قال : هنا . قلت هنا البروة . قال : اين هى ؟ قلت : هنا . تحتنا . حولنا . فوقنا . هنا فى كل مكان . قال : ولكننى لا أرى شيئاً ولا حتى حجارة . قلت : وهذه الكنيسة … ألا تراها؟. قال هذه ليست كنيسة . هذا اصطبل للابقار . هذه بعض آثار رومانية ؟ . قلت : ومن اين اتيت يا سيد ؟ قال : من اليمن . قلت : وماذا تفعل هنا ؟ قال : عائد الى بلادى . ثم سألني : ومن أين انت ؟ قلت : من هنا … عائد إلى بلادي …
هكذا ، يا عزيزى سميح ، يجرى الحوار منذ اربعين عاماً تقريباً . لاحظ المعانى العكسية الانقلابية ، الاستبدادية ، للكلمات ! ونحن فى احسن الاحوال حراس آثار رومانية لذلك ، كان علينا ان نعيش فى " دير الاسد " قريباً منكم ، لاجئين فى وطن محفوظ ، بقرار الهي ، منذ ألفي سنة لعودة راعي ابقار من اليمن !
فكيف نعيد تركيب هذا التفكيك ، فى البداية ، بغير الشعر؟ كنا – انت وانا – نتسلح بالمعلقات ، وبخلاصات المتنبي ، ورهافة الاندلسيين ، ورخاوة المهجريين . وكنا نخدع انفسنا ، فى شبق البحث عن اختلاف ، بتقمص صعاليك وخوارج وبكل ما يبدو لنا انه خروج عن المؤسسة . لم يكن اختلافنا كله مع تاريخنا . لان هذا الاستيطان الصليبي يعارض كل تاريخنا . لذلك ، لم نجد النموذج الجاهز فى مرحلة وعي أكثر تطوراً وتشكلاً . كان علينا ان نبحث عن اصفارنا ، وكان علينا أن نخطئ . اذ ليس لمصيرنا ، ومفارقتنا الانسانية ، ومأساتنا فى اطار مرجعي . وليس لنا من معبر . وليس لنا أن نستعير دموع عاشق اندلسى يبكي الخروج . ليس وطننا اندلسيا ألا في الجمال والاندلس ليس لنا .
وإذا كان لا بد من اندلس ، بتداعيتها الجمالية ، فان فلسطين هى الاندلس القابلة للاستعادة.
سلام عليك يا عزيزى ، يا حارس الخروبة من أغانى الآخرين . ارجوك … ارجوك أن مررت بها غداً ، ان تعانقها وان تحفر على جذعها اسمك واسمى … ولا تتأخر !
أخوك محمود درويش
( باريس – 3/6/1986 )
- مقالة شدتني حتى النهاية لأهمية موضوعها وسلاسة عباراتها ، دعنا نقول : سرقوا الأرض واغتالوا التاريخ ، حسبنا الله ونعم الوكيل.
اشكرك
تقديري واحترامي
مساؤك خير ...عندما قرأت المقالة تداعى إلى ذاكرتي تلك الرسالة التي أرسلها محمود درويش لسميح القاسم والمعنونة بِ ( هناك شجرة خروب ) اسمح لي أن أنقلها هنا :
عزيزى سميح
… وعلى ذكر " الحق " الذي يمد لسان السخرية فى رسالتك ، والحق بالحق يذكر او ينكر فضحتنى دمعتى منذ ايام ، عندما كنت اسجل حديثاً تلفزيونياً فى مدينة هلسنكي …
إنقض على احد المحاورين ، وهو كاتب فنلندي شهير ، بهذا السؤال المدهش : هل تعرف كيبوتس " يسعور " ؟
اجبت : نعم، اعرف مكانه لانى اعرف انقاضي . ولكن لماذك تحرك فى هذا العطش ؟
قال : انا من هناك . اعنى : عشت هناك عشر سنين ، ومن حقى أن أعود الى هناك فى أى وقت أشاء …
قلت : فى أى وقت تشاء ، لماذا ؟
قال : لأنني يهودى …
قلت له ، وقد تحول إلى مرآة : ياسيد دانيال كاتس ، يبدو لي انك تعرف اننى ولدت هناك تحت غرفة نوك وتعرف ان لا " حق " لى فى العودة الى مكان ولادتى ، بينما انت الفلندى ، صاحب العشرين الف بحيرة ، تملك " الحق " فى العودة الى بلادى في أى وقت تشاء …
قال : اعرف هذا الظلم . ولذلك ، اعددت لك هذه الهدية ، هذه الأغنية القصيرة :
" انظر الى البلاد التي تسميها وطنك – قال لى توفيق او محمود / عيناك تحدقان في التراب ولا تصلان الى ما تخبئ الارض / القرية التى ولدت فيها عارية وباكية / متحررة من خاصرة أمى / وأنت … ها انت ترفع باعتزاز / كوخاً من الصنوبر " …
وروى لى دانيال ، يا عزيزى سميح مسيرته فى طريق العودة – فهم دائماً عائدون – كما يرويها من يملكون الحق ، اينما كان ، والضمير عندما يشاؤون . اذ ليس على التاريخ الا أن يتمرن على حساب مصالحهم وعواطفهم وينضبط ! كان مثل جميع المهاجرين لا يعلم . لا احد منهم يعلم على ما يبدو – ان في بلادنا شعباً . وحين يواجهون عقبات الاندماج فى الارض فى المؤسسة فانهم سرعان ما يعلمون ، ويستخرجون احتياطى الضمير ليختاروا " عودة " اخرى الى " حة " آخر.
من علمك يا دانيال ان تحت كيبوتسك قريتى ؟
قال : شجرة الخروب الضخمة … سألت احد زملائى فى الكيبوتس عمن غرس هذه الشجرة ، فقال : نحن المهاجرين . ولكننى ادركت من عمر الشجرة أنه يكذب ، ادركت ان احد اجدادك هو الذى غرسها . فحملت ضميرى المعذب وعدت الى وطنى فنلندا لم أقل له ، يا عزيزى سميح ، انه محظوظ بامتلاكه حقين ، ووطنين وعودتين قلت له انه عادل ، لانه يمتلك ميزة انسانية اكبر هى : الضمير ، يحركه ، يستعمله ويشهره مى يشاء فى وجه أية مشكلة . فى وسعة ان يتوج قاضيا مادام يتمتع بهذه القوى الانسانية . له حق الكلام والمصداقية . أليس هو الشاهد الذي لا يدحض ؟
ونحن الذين نحتاج اليه نتكلم عبره عما يصيبنا . فهل يحق للعربي ان يتحدث في الغرب بلا شاهد يهودي ؟ لا حظ على سبيل المثال ، كيف يناقش الاسرائيليون قضايا الاحتلال ونتائجها السكانية . انهم يبكون كما لو كانوا هم الضحية ، ونحن الضحايا نصفق لمتانة الدليل !
ولكننى اعلق بطريقة أخرى تشبه معانى الكلمات التالية : وهكذا تدلنا شهادة دانيال على ان السلام فى الشرق الاوسط ما زال قابلاً للتحقيق ، ما دام دانيال يصاحفنى ، ويرضى ان يكون صديقي ، ويكتب لى هذه الأغنية !
وبالاغنية ذاتها التى تخدع ذاتها لتكون ذاتها يقف الواقع على رأسه ، ويعتذر عن وعى شقي ووعى زائف معاً . ماذا يريد الشعر من المستوطنين اكثر من الاشارة الى طفولتنا التى تنسب جماليتها الى المكان ذاته ؟ ليكونوا هم المعبرين نيابة عنا . هل يعبر عنى حاييم نحمان بياليك حين يغنى للطائر العائد من بلاد الشمس الى نافذته المطلة على الجليد الروسى ؟ وهل يعبر عنك حاييم غورى فى وصف الجليل العائد الى اهله الغائبين ؟ وهل تعبر عن هشاشة قلوبنا تلك الاغنية الرائجة : يا بحيرة طبريا ، يا بحيرة طبريا ، لقد هبت الريح ؟ وهل نستعيد جمال القدس ، كما استعادوه ، فى أغنيتهم التي حطمتنا : يا اورشليم من ذهب ، ومن نحاس وضياء ؟
ليس هذا سؤالا ، يا سميح ، بمقدار ما هو نزيف. وهل انتبهنا الى شراسة استيطان الارض ومحاولة استيطان الذاكرة ، وظل استيطان لغة الحنين والعودة والتيه مجالاً لعواطف مشتركة ممكنة ؟ طالما ان سكان " يسعور" يستمتعون بذهب الذرة الصفراء ذاته ، وبالتفاح ذاته ، وبالدوالي ذاتها، ويرفعوون اكواخاً من الصنوبر كما كنا نرفع ويغنون – كما كنا نغني – هب النسيم على الحقول ؟
لا تصدقنى ، فأنا لا أسأل ، بقدر ما أشير الى " حياد " الطبيعة الجارح .
ولكن شجرة الخروب اياها التى دلت المستوطن الاجنبى " البرى " على وعلى اجدادى، هى غلاف هويتى وهى ايضا جلد روحى اذا كان للروح جلد هناك ولدت … هناك ولدت وهناك أريد ان أدفن . ولتكن تلك وصيتى الوحيدة !
شجرة الخروب – أغبطك لأنك تراها كل يوم فى طريقك من الرامة الى حيفا ، ومن حيفا الى الرامة . سلم عليها اذا كانوا لم يجدعوها بعد . شجرة الخروب – اختبأت فى جذعها العملاق المجوف من المطر ومن الاهل عندما كنت العب مع السحالى والزيز والزواحف ، وعندما كنت اتبع خط الاسفلت الساطع الى عكا ، لأشرب بالطاسات .
ويا سميح ، يا سفير قلبي الى الشجر كله ، لماذا اشعر بكل هذه العطش . والعطش الذى لا يرويه غير امتصاص قطرة من الماء على جناح قبرة عندكم ؟ ولماذا يتجمد الزمن عند السنين الاولى … لينفتح السهل امامى فى امتداد لا ينهيه حتى البحر ، وأرى جنود نابليون فى حقولى عاجزين عن اقتحام القلعة على السور . الذي حولته شركات السياحة الاسرائيلية الى سوق تجارية وملاه لليل طوليل ؟
… وينفتح الشرق امامى لغابات الزيتون التى تصعد ، وتصعد بلا تعب وبلا ملل الى تعرجات جبال كثيرة ، متناثرة ، لتصل قريتى بقريتك العالية ، عبر عشرات من القرى المتناثرة ، كالمجاز السهل ، فى نشيد شديد الصعوبة ؛ يدخلنا فى متنه شهداء أو شهداء ، وهكذا تتحول شجرة الخروب الى مرتكز جهات ، والى علامة الفارق بين الارض والسماء . ومن على غصونها أقطف ، حتى الآن حبات الهواء الطازجة .
لم يكن للشهور اسماء لا تذكر متى انقصف حبق الطفولة . ولكن الليل لم يكن بارداً كما هو الآن . ولم تكن للقمر أغان عبرية معاصرة . ولكننى اتذكر ساحة الدار التى تتوسطها شجرة التوت التي تشد البيوت لتحولها الى دار هى دار جدى تركنا كل شئ على حاله : الحصان ، والخروف ، والثور ، والابواب المفتوحة ، والعشاء الساخن ، وآذان العشاء ، وجهاز الراديو الوحيد لعله ظل مفتوحاً ليذيع اخبار انتصاراتنا الى الآن . هبطنا الوادى الحاد المؤدي الى الجنوب الشرقي المفتوح على بئر يشرق من سهل يقودنا الى قرية " شعب " حيث يقيم اقارب أمى وأهلها القادمون من قرية " الدامون " التى سقطت تحت الاحتلال … وهناك – بعد ايام قليلة – تنادى فلاحو القرى المجاورة الذين باعوا ذهب زوجاتهم ، ليشتروا بنادق فرنسية الصنع لتحرير " البروة " … حررها فى أول الليل . شربوا شاي المحتلين الساخن . وباتوا ليلة النصر الاولى . وفي اليوم التالي تسلمها " جيش الانقاذ " بلا ايصال ، ليعيد اليهود احتلالها وتدميرها حتى آخر حجر … ونحن ننتظر العودة على مشارف الوطن .
تعرف السيرة كلها ، يا سميح لقد طالت " نزهة " المهاجرين واختصرت الحرب . وتعرف كيف " تسللنا " من لبنان حين أدرك جدي أن الرحلة ستطول ، وان عليه أن يلحق بالأرض قبل أن تطيرر وحين وصلنا لم نجد غير الخراب . فقدنا حق الاقامة وفقدنا حق الأرض . وحين مارست طقس الحج الاول الى قريتي الاولى " البرودة " لم اجد منها غير شجرة الخروب والكنيسة المهجورة، وراعي ابقار لا يتكلم العربية الواضحة ولا العبرية الجارحة : من انت يا سيد ؟ . فأجاب : أنا من كيبوتس " يسعور " . قلت : اين كيبوتس " يسعور" ؟ قال : هنا . قلت هنا البروة . قال : اين هى ؟ قلت : هنا . تحتنا . حولنا . فوقنا . هنا فى كل مكان . قال : ولكننى لا أرى شيئاً ولا حتى حجارة . قلت : وهذه الكنيسة … ألا تراها؟. قال هذه ليست كنيسة . هذا اصطبل للابقار . هذه بعض آثار رومانية ؟ . قلت : ومن اين اتيت يا سيد ؟ قال : من اليمن . قلت : وماذا تفعل هنا ؟ قال : عائد الى بلادى . ثم سألني : ومن أين انت ؟ قلت : من هنا … عائد إلى بلادي …
هكذا ، يا عزيزى سميح ، يجرى الحوار منذ اربعين عاماً تقريباً . لاحظ المعانى العكسية الانقلابية ، الاستبدادية ، للكلمات ! ونحن فى احسن الاحوال حراس آثار رومانية لذلك ، كان علينا ان نعيش فى " دير الاسد " قريباً منكم ، لاجئين فى وطن محفوظ ، بقرار الهي ، منذ ألفي سنة لعودة راعي ابقار من اليمن !
فكيف نعيد تركيب هذا التفكيك ، فى البداية ، بغير الشعر؟ كنا – انت وانا – نتسلح بالمعلقات ، وبخلاصات المتنبي ، ورهافة الاندلسيين ، ورخاوة المهجريين . وكنا نخدع انفسنا ، فى شبق البحث عن اختلاف ، بتقمص صعاليك وخوارج وبكل ما يبدو لنا انه خروج عن المؤسسة . لم يكن اختلافنا كله مع تاريخنا . لان هذا الاستيطان الصليبي يعارض كل تاريخنا . لذلك ، لم نجد النموذج الجاهز فى مرحلة وعي أكثر تطوراً وتشكلاً . كان علينا ان نبحث عن اصفارنا ، وكان علينا أن نخطئ . اذ ليس لمصيرنا ، ومفارقتنا الانسانية ، ومأساتنا فى اطار مرجعي . وليس لنا من معبر . وليس لنا أن نستعير دموع عاشق اندلسى يبكي الخروج . ليس وطننا اندلسيا ألا في الجمال والاندلس ليس لنا .
وإذا كان لا بد من اندلس ، بتداعيتها الجمالية ، فان فلسطين هى الاندلس القابلة للاستعادة.
سلام عليك يا عزيزى ، يا حارس الخروبة من أغانى الآخرين . ارجوك … ارجوك أن مررت بها غداً ، ان تعانقها وان تحفر على جذعها اسمك واسمى … ولا تتأخر !
أخوك محمود درويش
( باريس – 3/6/1986 )
- مقالة شدتني حتى النهاية لأهمية موضوعها وسلاسة عباراتها ، دعنا نقول : سرقوا الأرض واغتالوا التاريخ ، حسبنا الله ونعم الوكيل.
اشكرك
تقديري واحترامي
أستاذه لانا ..
سرقوا الأرض، واغتالوا التاريخ، ولملموا أنفسهم
من نفايات الأرض، ليسكنوا في قلب سيدة الأرض ..
فلسطين ..
وأمنا نحن فلم نصغ كتابة ذاتنا بشكل صحيح ..
لاننا مغرمون بعشق الذات الفارغة ..
الأهم في الموضوع .. ماذا سنتركُ للأجيال من بعدنا
أقصد للتاريخ .. !!