عقوبة الطغاة وأتباعهم
يقول أحد العارفين
إذا كان رؤوس الظلم من البشر هم أساس الفساد على وجه المعمورة, فإن أعوانهم وأتباعهم لا يقلون عنهم سوءا ولا ذما, فإنما انتشر الظلم في الأرض من خلالهم, وإنما مورس القهر والبغي على الناس بقوتهم و أيديهم, فمن هو فرعون لولا جنده وأتباعه وأعوانه كمثل هامان وأشكاله.
ومن هذا الباب جاء ذكر "الملأ" في القرآن الكريم بصيغة الذم والقدح والتوبيخ, نظرا لكونهم أعوان الظلمة وأتباعهم, قال تعالى على لسان قوم هود: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} الأعراف/66 , وقال تعالى على لسان قوم صالح: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ...} الأعراف/75 .
وفي العصر الحديث نشهد نماذج كثيرة ومختلفة لأعوان الظلمة, سواء كانوا من التجار والأغنياء ممن يدعمون المستبدين بأموالهم, أو من الإعلاميين ممن يروجون لأكاذيب الطغاة وأساطيرهم, أو من المفكرين والعلماء الذين يبيحون ظلم الظالمين ويشرعنون بغيه ويلبسون على الناس أمور دينهم ودنياهم.
وأمام تزايد أعداد هؤلاء وانتشار هذه الظاهرة, كان لا بد من بيان عظيم جرم هؤلاء أمام الله تعالى, وهول العقوبة التي تنتظرهم في الدنيا قبل الآخرة, عسى أن يؤثر ذلك في البعض فيرتدعوا ويرعووا, أو يكون على أقل تقدير من باب أداء الواجب في البيان والتبيان.
التحذير من موالاة الظالمين
نظرا لكون المنهج المسطور في كتاب الله تعالى منهج إلهي, فإنه متكامل ومتوازن وعادل, فلا يمكن أن يعاقب على فعل أو ترك مما يعتبر جريمة أو مخالفة, إلا بعد بيان الحق من الباطل والصح من الخطأ فيه, ليكون الناس على بينة من أمرهم, ولتقوم الحجة عليهم أمام الله في الدنيا قبل الآخرة.
ومن هذا الباب جاء التحذير الإلهي من موالاة الظالمين أو تقديم أي عون أو دعم لظلمهم وبغيهم في الأرض, منبها على العقوبة المترتبة على ذلك, ولعل أوضح آية في هذا الباب قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} هود/113.
قال الجوهري وغيره من أهل اللغة: الركون السكون إلى الشيء والميل إليه, وقال البغوي: هو المحبة والميل بالقلب, فإذا كان الميل بالقلب للظالمين منهي عنه ومحذر من شدة عقوبته, فمن المؤكد أن مساعدتهم ومؤازرتهم وتقديم الدعم لهم داخلة في النهي من باب أولى,
وقد نقل ابن كثير والقرطبي وغيره من المفسرين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر "الركون" بالميل إلى الذين ظلموا, أو الركون إلى الشرك, أو المداهنة, وقال السدي: لا تداهنوا الظلمة, وقال أبو العالية: لا ترضوا بأعمالهم, وعن عكرمة: هو أن تطيعوهم أو تودوهم أو تصطنعوهم, وهي جميعها معان للموالاة بكافة أنواعها, بدءا بالميل القلبي مرورا بالرضا بأفعالهم ومداهنتهم, وانتهاء بمساعدتهم وتقديم الدعم لهم.
وإذا كانت موالاة الظالمين والطغاة محرمة في القرآن الكريم بشكل عام, فإن موالاة اليهود والنصارى محرمة ومنهي عنها بشكل خاص, قال تعالى مخاطبا المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} المائدة/51.
عقوبة موالاة الظالمين
إذا كانت عقوبة الظالمين في القرآن الكريم شديدة فإن عقوبة أتباعهم لا تقل قسوة و شدة, وإذا كانت نهاية العتاة والجبابرة والمتكبرين في القرآن الكريم وخيمة, فإن نهاية أعوانهم ومواليهم لا تقل سوءا, فهم شركاء في الجريمة, فلا بد أن تكون العقوبة شاملة لهم تبعا لذلك.
ولا تقتصر عقوبة أتباع الظلمة وأعوانهم على الدار الآخرة, بل تطالهم في الدنيا قبل يوم القيامة.
أهم العقوبات الدنيوية لأتباع الظلمة
1- الذل والمهانة والعبودية لغير الله تعالى: ولعل هذه العقوبة من أشد وأقسى العقوبات الدنيوية لأتباع الظلمة, فهم في الدنيا عبيد أذلاء لبشر مثلهم, استعبدهم وأذلهم وأخضعهم لخدمته وخدمة شهواته, واسمع للتعبير القرآني عن هذا الذل والهوان لهؤلاء الأتباع من خلال قول الله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} الزخرف/54
كما يظهر هذا الهوان والذل في ملأ فرعون أيضا من خلال استعباده لهم: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} القصص/38, فهل هناك ذل أشد من أن يعبد الإنسان بشرا مثله؟!!
2- اللعنة وسوء الذكر والسمعة في الدنيا: فلا يذكرون إلا بالسوء والقبيح, وذلك عكس مقصودهم من مداهنة الظالمين وموالاتهم, إذ كانوا يبتغون رفعة الذكر والسمعة والمكانة بالتقرب إليهم ومساعدتهم على الظلم في الدنيا, فكانت عقوبتهم بنقيض هدفهم و مقصودهم, قال تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} القصص/42.
3- الميتة السيئة القاسية: فجميع أعوان الظلمة وأنصارهم ماتوا شر ميتة, وكانت نهايتهم قاسية وخيمة, بدءا بأتباع فرعون الذين غرقوا معه ولاقوا نفس المصير: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} القصص/40, وصولا إلى أتباع الظالمين والطغاة في العصر الحديث, ممن يلقون أسوء مصير وأبشع ميتة.
لقد وصف لنا القرآن الكريم شدة انتزاع الروح من الظالمين وأعوانهم, والهوان والكرب الذي يلاقونه عند سكرات الموت, قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} الأنعام/93.
عقوبتهم في البرزخ والقبر:
ذكر القرآن الكريم أن لأتباع الظالمين وأنصارهم عقوبة في الحياة البرزخية في القبر, وذلك من خلال قوله تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} غافر/45-46.
والحديث في الآية ليس عن فرعون وحده , وإنما عن فرعون وآل فرعون من أتباعه وأعوانه ومن والاه, وقد ذكر القرطبي وغيره أن جمهور العلماء عَلَى أن هذا العرض في البرزخ, واحتج بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَثْبِيتِ عَذَابِ الْقَبْرِ بهذه الآية, وقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ فِي الدُّنْيَا، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ عَنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ :" وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ" . الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 15/319 .
عقوبتهم يوم القيامة:
أما عقوبتة موالاة الظلمة في الآخرة فهي نفس عقوبة الظالمين, والتي تعتبر العقوبة الأشد والأبقى والأعظم, وهذه العقوبة لا تقتصر على الدخول في نار جهنم – والعياذ بالله - فحسب, وإنما تأخذ أشكالا وألوانا من العذاب غير ذلك.
1- العذاب الأشد يوم القيامة: قال تعالى: { ...وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} أي: أشده ألما وأعظمه نكالا كما ذكر ابن كثير في تفسيره.
2- شدة الأهوال يوم القيامة: فقد خص الله تعالى الظالمين وأعوانهم بأهوال كيفية قيامهم من قبورهم ومجيئهم إلى قيام المحشر, فقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} ابراهيم42-43, فهم يخرجون من قبورهم مسرعين رافعي رؤوسهم, وأبصارهم طائرة شاخصة يديمون النظر لا يطرقون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحل بهم, كما ذكر ابن كثير.
3- العذاب المستمر الذي لا فداء ولا خلاص منه: فقد ذكر الله تعالى أن عذاب الظالمين وأعوانهم مستمر سرمدي لا نهاية له, قال تعالى: { ...أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} الشورى/ 45, أي: دائم سرمدي أبدي، لا خروج لهم منها ولا محيد لهم عنها.
كما أن هذه العقوبة لا فداء منها, قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} الزمر/47, فالظالمين وأعوانهم الذين أكلوا حقوق الناس بسيف سطوة وقوة بغيهم, يتمنون لو يفتدون عذاب يوم القيامة بأضعاف ملئ الأرض ذهبا ومالا, ولكن لا فداء ولا افتداء.
4- براءة الظالمين من أتباعهم عقوبة أخرى: حيث يتبرأ الطاغية والظالم من أتباعه وأعوانه, مما يعتبر عقوبة معنوية إضافية لأتباعه, لأنهم كانوا يعتقدون أنه سيغني عنهم شيئا يوم القيامة, أو أنه يمكن أن يخفف عنهم العذاب الأليم.
والآيات في هذا المعنى كثيرة منها قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} البقرة165-167.
ومنها قوله تعالى أيضا: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} سبأ/31-33.
بل إن الشيطان الذي يعتبر أظلم الظالمين يتبرأ من أتباعه وأعوانه يوم القيامة, بل ويدعي إيمانه بالله وكفره بمن أشرك به سبحانه, {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ابراهيم/22 .
إنه الجزاء من جنس العمل الذي وعد الله به الناس أجمعين, فمن كان عونا للأنبياء والصالحين ومواليا لهم ومتبعا لهداهم, نال السعادة والذكر الحسن في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة, ومن كان تبعا وعونا للظالمين والطغاة والمتكبرين, ألبس ثوب الذلة والمهانة في الدنيا, والعذاب والهوان يوم القيامة.