يخبر تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة حرم عليهم طيبات كان أحلها لهم، كما قال ابن أبي حاتم عن عمرو، قال قرأ ابن عباس: { طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } وهذا التحريم قد يكون قدرياً بمعنى أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم، وحرَّفوا وبدلوا أشياء كانت حلالاً لهم، فحرموها على أنفسهم تشديداً منهم على أنفسهم وتضييقاً وتنطعاً،
ويحتمل أن يكون شرعياً بمعنى أنه تعالى حرم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالاً لهم قبل ذلك، كما قال تعالى: { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [1]}
وأن المراد أن الجميع من الأطعمة كانت حلالاً لهم، من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها.
ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة، كما قال في سورة الأنعام: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [2]} أي إنما حرمنا عليهم ذلك لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغيهم وطغيانهم، ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه،
ولهذا قال: { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا [3]} ، أي صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق، وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه، ولهذا كانوا أعداء الرسل، وقتلوا خلقاً من الأنبياء، وكذبوا عيسى ومحمداً صلوات اللّه وسلامه عليهما.
وقوله تعالى: { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ[4]} ، أي أن اللّه قد نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه، وأكلوا أموال الناس بالباطل، قال تعالى: { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
ثم قال تعالى: { لَٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ } أي الثابتون في الدين، لهم قدم راسخة في العلم النافع، {َالْمُؤْمِنُونَ} عطف على الرسخين، وخبره { يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ }
قال ابن عباس: أنزلت في عبد اللّه بن سلام وثعلبة بن سعيه "" في نسخة الأميرية: تحريف في هذه الأسماء واعتمد في تصحيحها على ما في الإصابة وغيرها، وسعيه بفتح السين المهملة وسكون الياء التحتانية "" وأسد بن سعيه وأسد بن عبيد الذين دخلوا في الإسلام وصدقوا بما أرسل اللّه به محمداً صلى اللّه عليه وسلم .
وقوله تعالى: { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ } هكذا، هو في جميع مصاحف الأئمة وكذا هو في مصحف أبي بن كعب ، وذكر ابن جرير أنها في مصحف ابن مسعود { والمقيمون الصلاة} ، قال: والصحيح قراءة الجميع، رد على من زعم أن ذلك من غلط الكتاب، ثم ذكر اختلاف الناس، فقال بعضهم: هو منصوب على المدح، كما جاء في قوله: { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ[5]} ، قال وهذا سائغ في كلام العرب كما قال الشاعر:
لا يبعدن قومي الذين همو
أسد العداة وآفة الجزر
-
النازليـــــــــن بكل معترك
والطيبون معاقــد الأزر
-
وقال آخرون: هو مخفوض عطفاً على قوله: { بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } يعني وبالمقيمين الصلاة، وكأنه يقول: وبإقامة الصلاة التي يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم.
وقوله: { وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } يحتمل أن يكون المراد زكاة الأموال، ويحتمل زكاة النفوس، ويحتمل الأمرين واللّه أعلم،
{ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } أي يصدقون بأنه لا إله إلا اللّه ويؤمنون بالبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها،