الخضر الأخضر (ع)
بقلم: حسين أحمد سليم
يُروى الكثير الكثير على ذِمّة المؤرّخين للسّير الشّخصيّة التّاريخيّة و الإفتراضيّة... و يُنقل ما هبّ و دبّ عن الإخباريين النّاقلين للأحداث و المستجدّات على ما هي عليه أو كما يحلو لهم التّبخير و الزّيادة و النّقصان أو التّعديل المزاجيّ و التّزوير... و ترهقنا متابعة المجتهدين في قراءة الطّوالع و الرّجم في الغيب و السّياحة في متاهات التّبريج و التّنجيم... و يصيبنا الملل من مراجعة المتفقّهين في إستنباط الأحكام و ما شابه من المرويات و السّرديات...
و يُقال على ما وصلنا منها و على رأي أصحابها, بأنّ الخضر الأخضر (ع) هو حيٌ لا يموت إلاّ مع الملاكِ جبريل و بعد موت الملاك عزرائيل و نهاية العالم, و قد حباه الله تعالى بعلم لدنّيّ و وعيٍ باطنيّ و عرفان ذاتيّ, يعلم أسرار النّاس و يشفي المرضى بإذن الله, و عنده حافظة روحانيّة مكرمة له من ربّ العالمين و التي تحوي أسرار علوم الأوّلين و الآخرين...
للخضر الأخضر (ع) العديد من التّشريفات و المزارات و المقامات المنتشرة في لبنان و فلسطين و سوريا و العراق و الأردن و بعض الأقطار المحيطة بالبحر المتوسّط, بحيث يُصنّف في الطّليعة لما له من مزارات و مقامات و تشريفات و مصلّيات و مساجد و كنائس و أماكن عبادة تمّ تشييدها على إسمه, عدا عمّا يُنسج من حكايات و روايات و حتّى إجتراح العجائب و الغرائب عنده, بحيث تُحاكي الأساطير و الخرافات لإفتقادها الموضوعيّة في تدبيجها لدى الذّاكرة الشّعبيّة و الموروثات التي تتناقلها الأجيال عن السّلف...
فأين يمّمت بصركَ في بلادنا فثمّة للخضر الأخضر (ع) معلمًا بسيطًا و متواضعًا يُطالعك بغرفة صغيرة و قبّة خضراء لا ضريح فيها أو ضريحًا رمزيّا, تحيط به الأشجار المعمّرة في سهلٍ أو وادٍ أو على جبل أو تلّة أو عريض أو قرب مجرى نهر, بحيث ينتصب أمامك للخضر الأخضر (ع) نقطة إشراقيّة تتكوكب لتبحث عن الحقيقة في كنه أسرار موقعها الإفتراضيّ...
و حيث يوجد مقام للخضر الأخضر (ع) في مكان جغرافيّ ما, بوقاره و تأثيره على وجداننا الشّعبي و إلتزامنا الرّوحي, تجذبك شجرة عملاقة من السّنديان أو اللزّاب أو العرعر أو السّرو أو الأرز لاتزال صامدة تقاوم الأنواء و الأعاصير و الطّواريء و الكوارث الطّبيعيّة, و غالبًا ما تكون قد تركت فيها الأيّام و الليالي تجويفاً واسعاً يتّسع لدخول إنسان في جذعها, و غالبًا ما يُقال لك إذا ما تجرّأت و سألت عن عمرها لخادم المقام و المستفيد من حركة الزّيارات له, إنّ هذه الشّجرة من عصر النّبي آدم (ع), و هي لن تموت ما دامت الأرض و السّماء, و إذا ما راودتكَ الشّكوك بالجواب و تسأل متجاوزاً على وقار معلومات من تسأل و التي لايرقى إليها الشّكّ, كيف عرفت يا هذا أنّ هذه الشّجرة من عصر النّبي آدم (ع), و كيف عرفت أنّها لن تموت؟!... نِلتَ الزّجر مِمّن تسأله كما يزجر شيخ القبيلة أتباعه و يوصمك فورًا بالكفر و العهر و الإنحراف عن الجادة الوسطى...
و تستدرك بالقول لمن سألت: لا لا أبداً أنا مؤمن كثيراً و إنّي أقسم بالخضر الأخضر (ع) يا هذا على صدق إيماني...
و يردف من تسأله بإنتصار منطقه و معلوماته المطلقة و علمه اللدنيّ و وعيه الباطنيّ و عرفانه الذّاتيّ... قائلاً لك بلغة العارف لما لم و لن و لا تعرف؟!...
فإذا تجرّأتَ على مقام الخضر الأخضر (ع) فسوف يأتيك في الليل بشكل حنشٍ أسودٍ و أنت تغطّ في النّوم فترتبك و تصارع أضغاث أحلامك, و حين تموت فسيكون هذا الحنش ممدّداً في قبرك ينتظر قدومك إلى لحدك و لا يستطيع أحد إخراجه من قبرك أبداً...
يُروى أنّ للخضر الأخضر (ع) مقام فوق تلّة خضراء في مكانٍ جغرافيّ ما في بلادي, و إزاء ضريحه الإفتراضيّ الرّمزيّ توجد شجرة دهريّة من العرعر أو اللذّاب, يُقال أنّ عمرها الممتدّ لا تحصيه حقب السّنوات, جوّفتها الرّياح العاتية و جنون الأعاصير, حتّى تكوّن في جذعها الضّخم فتحة واسعة على شكلِ كُوّةٍ تتّسع لأكثر من رجل, و في جانب الشّجرة هذه يوجد بئرا عميقة و في قعر البئر يوجد حنشًا أسود يتربّص للأشرار الذين يحاولون سرقة محتويات مقام الخضر الأخضر(ع)...
و جرت العادة في القرى المجاورة لمقام الخضر الأخضر(ع) أنّ القرويات اللواتي ينذرن نذرًا للخضر الأخضر (ع) أن يُشعلن السّراج التّراثيّ القديم و الموضوع في مشكاة في الجدار الجنوبيّ لمقام الخضر (ع), و هذا السّراج يعتبر مقدّسًا لأنّه من بعض أسرار الخضر الأخضر(ع) أن يبقى مشتعلاً في جميع الليالي من غروب الشّمس و حتّى شروقها, و الذي تُحدّثه نفسه على سرقة زيت الخضر الأخضر (ع) يقع في حالات الإرتباكات المزعجة و لا يستطيع النّوم, و قد يُصاب بأضغاث الأحلام و عذاباتها و يرى الحنش الأسود راقدًا في فراشه بإستمرار, و عيناه تقدحانِ شررًا, يلتفّ حول جسده و يمارس لدغه و قد يُصاب بعلّة لا يبرأ منها أبدًا...
أمّا صاحبات النّذر للخضر الأخضر (ع) من العجائز و النّساء و الصّبايا فتستجاب نذورهنّ إذا كُنَّ مؤمنات و ذوات نوايا طيّبة, و يتمتّعن بالمصداقيّة من دون تكايد و لا تداه, و بعضهنّ ينذرن لإزالة العقم عنهنّ و الإبتهاج بمجيء مولود صالح لهنّ, و بعضهن تقدَّمَ بهنّ العمر و أصبحن من العوانس و يردن عرساناً كيفما كان الحال, و بعضهنّ يُنذرن لعودة غائب طال غيابه و البعض الآخر ينذرن لشفاء مريض نال منه المرض و أسقمته العلل...
و تروي جدّتي أنّ الخضر الأخضر (ع) تأتيه الغزلان ليلاً لتتشرّف بأن تكون طعاماً له, و الغزلان تشتكي عنده كسائر الوحوش في سنوات المحل و العِسرة... و للخضر الأخضر (ع) جوادًا مُسرَجًا دائماً بسرج مرصّع بالعقود و الأساور من اليواقيت و الزّمرّد و العقيق, و هو يحرس القرية من الزّلازل و الكوارث, و يصدّ عنها الأعاصير العاتية... و حصان الخضر الأخضر (ع) شرب من ماء عين الحياة, و لذلك شارك الخضر الأخضر (ع) في الشّرب من ماء عين الحياة, و سيبقى يصهل في تلّة الخضر الأخضر (ع) ما دامت الأرض أرضاً, و السّماء سماء, و صهيله يمتدّ في كلّ الجهات ليعمّ المدى مع الخوافق, و يجيء أطفال و صبايا القرى و يجمعون دندنات صهيله في كلمات حانيات و أغنيات و أناشيد و ترانيم و تجاويد و موشّحات و أغاني طربيّة...
و يروي جدّي العجوز أنّ الخضر الأخضر (ع) دبّج الرّواة أسطورة خياليّة له و هو ذاته القدّيس جرجس الذي قتل التّـنـِّين عند شاطيء مدينة المستقبل بيروت, رغم فارق الزّمن بين الخضر (ع) الذي عاصر النّبي إبراهيم (ع) و النّبي موسى (ع) و وجود القدّيس جرجس في القرن الميلادي الثّالث, و هو ما يجتهد به جدّي فلسفة التّقمّص على أبواب و مراحل عديدة, بحيث تتشعّب السّيّالات الرّوحيّة بين فسخ و مسخ و نسخ و رسخ... و يُؤكّد جدّي بما لا جدل فيه أنّ الخضر الأخضر (ع) هو النّبي إلياس الحيّ (ع) الذي أرسله الله تعالى لأهل بعلبك ليهديهم للحقيقة و يرشدهم لعبادة الواحد الأحد, و يروي جدّي أيضًا أنّ الخضر الأخضر (ع) هو ذاته النّبي أيلا (ع) الذي حملت أسمه بلدة النّبي أيلا البقاعيّة قرب مدينة زحلة مركز محافظة البقاع في لبنان...
و يعزو جدّي أنّ الخضر الأخضر (ع) هو من جرّ الماء الصّالحة للشّرب للنّجمة القدريّة في قريتنا التي تتماهى في شريط هلال بلدات و قرى غربي مدينة الشّمس بعلبك, لتُغذّي عين القرية و أبارها و بركها, كي يشرب منها جميع سكّان القرى المجاورة لقريتنا الرّيفيّة... و يُصرّ جدّي وفق إجتهاداته و إستقراءاته و تحاليله وما يستنبطه في جدليّاته أنّ الخضر الأخضر (ع) سكن قريتنا لفترة زمنيّة سالفة و أقام فيها بعض صلواته, فأجمع أهل القرية على بناء مقام للخضر الأخضر (ع) حيث تراءى لجدّي أنّ الخضر الأخضر (ع) سكن و إرتاح في قيلولة و صلّى...
و يقول جدّي أنّ من يومها أعطى الخضر الأخضر (ع) الإذن للجنّ المؤمنين أن يقيموا أعراسهم و حفلاتهم و أفراحهم في قريتنا الرّيفيّة البقاعيّة كُلّ مساء من كل خميس, و كان القرويّون في ذلك الزّمن يسمعون عزف الجنّ و غناءهم حتّى الفجر, و لايزال بعض المسنّين في القرية يؤكّدون ذلك, و يقسمون أغلظ الأيمان على ما يقولون...
هذا و تقول جدّتي إذا زار مقام الخضر الأخضر (ع) رجلٌ أو إمرأة في جنابة أو نجاسة أو بلا طهارة, فسيصاب بمرض مزمن, و تحلّ عليه لعنة أبديّة إلاّ إذا أشعل سراج الخضر الأخضر (ع) لسبع مرّات متتالية كلّ ليلة خميس على مدار أسبوع كامل, لأنّ الخضر الأخضر (ع) في تلك الليالي يستقبل الأصفياء و الأولياء و الأتقياء, و بعض المؤمنين من المشايخ و رجال الدّين و الصّوفيّين...
و الخضر الأخضر (ع) إذا أراد أن يعطي كرامة أو يغدق عليه بعضًا أو شيئاً من علمه لإنسان ما, تفل في حلقه فأصبح يمتلك ما تيسّر من أسرار, ثمّ يترقّى هذا المُكرّم إلى أن يصبح قطباً و مرجعًا ينجذب النّاس إلى مجالسه وحلقات ذكره...
الخضر الأخضر (ع) جسد شفّاف يعرف أمور النّاس قبل حدوثها بإذن الله, و تلك كرامة كبرى خصّه الله بها كما في قصّة الخضر (ع) و النّبي موسى (ع) في سورة الكهف بالقرآن الكريم, و طمعاً في شفافيّته حفظت أوّل ما حفظت من القرآن الكريم سورة الكهف و أردّدها صباح مساء, و كم أتمنّى أن أكون من أولئك الذين يكرّمهم الله تعالى و يُنعم عليهم و يدخلهم الجنّة الفردوسيّة المُوشّاة باللينوفار المقدّس بلا حساب...
و أنا أتلو ما تيسّر لي من آيات سورة الكهف في القرآن الكريم كُلّ صباح و مساء, تتراءى لوجداني قصص الأنبياء و المرسلين الأوائل, سيّما قصّة النّبي موسى (ع) و العبد الصّالح الخضر الأخضر (ع) و المعجزات التي حدثت للنّبي موسى (ع) و منها إنتعاش الحوت بالحياة, إضافة لمعجزات الخضر الأخضر (ع) فب السّفينة و مع الطّفل و الجدار... و تتراءى لي كذلك تشكيلات الدّواب للعبرة و التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم, مثل كلب أهل الكهف, و هدهد النّبي سليمان (ع) و نملته, و عجل النّبي إبراهيم (ع), و ناقة النّبي صالح (ع), و بقرة النّبي موسى (ع), و حوت النّبي يونس (ع), و كبش الفدية للنّبي إسماعيل (ع) , و غراب إبنيْ آدم (ع), و دابّة الأرض التي أكلت منسأة النّبي سليمان الحكيم (ع)...
و القرويّون في بلادي لا يزالون يقسمون الأيمان بالخضر الأخضر (ع) لحضوره الدّائم في ضمائرهم و وجدانهم و تفكيرهم و خيالهم و أحلامهم... أوليس هو الذي نبـّأ النّبي موسى (ع) بتأويل ما لم يستطع عليه صبراً؟!... و هو الذي تجلّى في عالم الأحلام لأحدهم طالبا منه بناء مقام على إسمه في ربوع قريته...
و الخضر الأخضر (ع) يحمل الإنتماء الرّوحي و الدّيني حيث له مقام أو مزار أو تشريفة أومسجد أو معبد أو كنيسة, ففي قريتنا الخضر (ع) مسلم شيعي و في قرية أخرى هو مسلم سنّي و في ثالثة هو مسلم درزي موحّد و في رابعة هو مسلم علوي و في بلدات المسيحيين هو مسيحي و في بعض الدّول هو شفيعهم و هو رمزهم...