أوجه التعارض بين مسلمات المستوى الصوتي في القرائية
أوجه التعارض بين مُسَلَّمات المستوى الصوتي في القرائية
(1)
تتعدد مستويات اللغة لتشمل: المستوى الصوتي، والمستوى الصرفي، والمستوى النحوي، والمستوى الدلالي. وقد وازت القرائية هذه المستويات؛ فبدأت بالمستوى الصوتي، وتلته بالمفردات التي تمثل الصرف والدلالة لارتباطها بالدلالة في استراتيجيات المفردات المختلفة، والمستوى النحوي في الأساليب.
وإن نظرت إلى هذه المستويات في القرائية وجدت المستوى الصوتي أقلها متانة علميا.
لِمَ؟
لأن معلومات المستوى الصوتي في القرائية يتصادم مع مقررات علم الأصوات النطقي، وتتصادم فيما بينها أيضا.
كيف تتصادم مع مقررات علم الأصوات النطقي؟
يُدرس الصوت اللغوي من أكثر من جانب؛ لذا تتعدد العلوم التي تتناوله.
كيف؟
الجانب الأول هو الإنتاج ويعالجه علم الأصوات النطقي الذي يصف جهاز النطق، ويتتبع هواء الزفير بعد أن ينقبض الحجاب الحاجز فيدفع الرئتين، فتدفع الهواء ليخرج. وقد عالج سيبويه هذا الجانب في نهاية كتابه "الكتاب"، واختلف شيئا ما مع أستاذه الخليل بن أحمد الفراهيدي في بعض المخارج.
وعمدتا هذا الجانب هما المخارج والصفات، وقد تناقل اللغويون ما قاله سيبويه من دون إضافة جديد، لكن علماء التجويد طوروا تلك المباحث الصوتية وزادوها كما قال الدكتور غانم قدوري الحمد في كتبه التي اهتم فيها بتتبع التطور الصوتي عند علماء التجويد.
والجانب الثاني جانب الإدخال، ويعالجه علم الأصوات الاستماعي الذي يدرس جهاز الاستقبال الذي هو الأذن، وما يستتبع وصول الصوت من عمليات عقلية لترجمته وفهمه.
والجانب الثالث هو المرحلة بين الإنتاج والإدخال، ويعالجه علم الأصوات الفيزيقي، فيدرس الذبذبة والشدة وغير ذلك من مباحث تتصل بمرور الصوت في الهواء أو في أي وسيط آخر.
هذه هي جوانب دراسة الأصوات، فماذا يهم القرائية منها؟
يهمها الجانب الأول الذي يتناول الجهاز النطقي والمخارج والصفات، فهل يتدرب المتدربون على شيء من معطياته؟
لا.
لماذا؟
لا أدري.
وما نتيجة عدم هذا التدريب؟
نتيجته أن المستوى الصوتي يستند إلى مُسَلّمات لا أعلم مصدرها يُعْطَوْنَها إعطاء مباشرا، وقد تناولت شيئا منها قَبْلًا في مقالي "وهم بعض معلمي اللغة العربية وبعض مدربي القرائية في التحليل الصوتي للكملة المحلاة باللام الشمسية"، وكذلك في مقال "وهم تقطيع الكلمة إلى مقاطعها وتحليل المقاطع إلى مكوناتها"، وبينت أهمية هذا المستوى في مقال "الوعي الصوتي .. المرحلة التأسيسية في القرائية".
وقد أدت هذه المُسَلَّمات غير المستندة إلى مقررات "علم الأصوات النطقي" إلى أن يكون المستوى الصوتي من القرائية أضعف أجزائها علميا كما سبق في مقالّيْ الأوهام وأكثرها ملاحظات، وقد بلغ هذا الضعف مبلغا جعل تلك المُسَلّمات تتناقض وتتعارض فيما بينها.
(2)
كيف تتعارض مسلمات القرائية الصوتية فيما بينها؟
التعارض الأول بين تعريفهم الوعي الصوتي وبين عدم اتباع هذا التعريف في تحليل الكلمات المحلاة باللام الشمسية.
كيف؟
يُعرِّفون الوعي الصوتي بأنه "فهم أن الكلمة سلسلة من الأصوات المنطوقة"، ثم لا يراعون ذلك في تقطيعهم الكلمات المحلاة باللام الشمسية كما بينتُ في المقال الخاص بذلك الذي سبقت الإشارة إليه.
(3)
والتعارض الثاني هو التعارض بين تبيينهم أنواع المقاطع الصوتية وبين عدم اتباع ذلك في كتابة الحرف الساكن والحرف المشدد عند سردهم أصوات الحروف وكتابتها.
كيف؟
يسردون أنواع المقاطع كالآتي:
1- الحرف المتحرك بين متحركات مقطع.
2- الحرف الساكن مع ما قبله مقطع.
3- حرف المد مع ما قبله أي الحرف الممدود مقطع.
4- الحرف المنون مقطع.
5- الحرف المشدد يفك إلى حرفين أولهما ساكن مع ما قبله مقطع، والآخر متحرك يمثل مقطعا وحده.
هذه أنواع المقاطع، وهي صحيحة، وهي تستند إلى بديهيتين من بديهيات اللغة العربية:
1- لا تبدأ اللغة العربية بساكن لفظا ولا خَطّا.
2- لا تقف اللغة العربية على متحرك.
فهل راعوا ما قالوه في التطبيق عند كتابة صوت الحرف الساكن أو الحرف المشدد عند ذكرهم أصوات الحروف؟
لا.
كيف؟
عند استعراض أصوات الحرف التي يكتبونها نجدهم يكتبونها كالآتي:
بَ
بِ
بُ
بْ
بَّ
فهل هذا صحيح؟
نعم، هذا صحيح في الثلاثة الأُوَل، لكنه خطأ في الاثنين الآخرين، وهذا هو موضوعنا.
لماذا؟
لأن الساكن لا يكتب وحده؛ فلا بد أن يسبقه حرفٌ أيُّ حرف؛ لذا قالوا في أنواع المقاطع: الحرف الساكن وحرف المد مع ما قبلهما مقطعان.
وتعجب ويزداد عجبك عندما تجد المعلمين ومدربي القرائية ينبهون على ذلك تنبيها شفهيا، لكنهم لا يكتبون ما قالوه أبدا.
لماذا؟
لا أدري.
هل تساعدهم اللغة في ذلك؟
لا.
كيف؟
إن اللغة تعرف همزة الوصل التي هي حركة تأتي قبل ما يبدأ بالحرف الساكن حتى يتمكن العربي من النطق، مثل: اِفْهم، واُكْتب، وغير ذلك.
قد يقول قائل غير منتبه: هذا يخص الكلمات، وهم يعالجون الحروف!
وجوابه يسير جِدّ اليسر.
كيف؟
إن اللغة تعرف ذلك أيضا في الحروف.
في أي حرف؟
في حرف الألف التي توضع قبله اللام فيكتب "لا".
وقد عالج ابن جني هذا الحرف في كتاب "الخصائص" ناصًّا على خطأ تسمية هذا الحرف "لام ألف" في قوله: [واعلم أن واضع حروف الهجاء لما لم يمكنه أن ينطق بالألف التي هي مدة ساكنة؛ لأن الساكن لا يمكن الابتداء به دعمها باللام قبلها متحركة؛ ليمكن الابتداء بها فقال: هـ و لا ي. فقوله: لا- بزنة "ما، ويا".
ولا تقل كما يقول المعلمون: لام ألف؛ وذلك أن واضع الخط لم يرد أن يرينا كيف أحوال هذه الحروف إذا تركب بعضها مع بعض، ولو أراد ذلك لعرفنا أيضا كيف تتركب الطاء مع الجيم والسين مع الدال والقاف مع الطاء وغير ذلك مما يطول تعداده. وإنما مراده ما ذكرت لك من أنه لما لم يمكنه الابتداء بالمدة الساكنة ابتدأ باللام، ثم جاء بالألف بعدها ساكنة؛ ليصح لك النطق بها كما صح لك النطق بسائر الحروف غيرها. وهذا واضح.
فإن قال قائل: فلم اختيرت لها اللام دون سائر الحروف؟ وهلا جيء لها بهمزة الوصل كما فعلت العرب ذلك بالساكن لما لم يمكن ابتداؤه نحو "اضرب، اذهب، انطلق" وغير ذلك؟ فالجواب أن همزة الوصل لو جيء بها قبل الألف توصلا إلى النطق بالألف الساكنة لما أمكن ذلك ولأدتهم الحال إلى نقض الغرض الذي قصدوا له؛ وذلك أن همزة الوصل كانت تأتي مكسورة كما جرت العادة فيها، ولو كسرت قبلها لانقلبت الألف ياء؛ لانكسار ما قبلها، فكنت تقول: اي، فلا تصل إلى الألف التي اعتمدتها.
فلما لم يجز ذلك عدلوا إلى اللام من بين سائر الحروف لما أذكره لك إن شاء الله؛ وذلك أن واضع الخط أجراه في هذا على اللفظ؛ لأنه أصل للخط، والخط فرع على اللفظ. فلما رآهم قد توصلوا إلى النطق بلام التعريف بأن قدموا قبلها ألفا نحو الغلام والجارية لما لم يمكن الابتداء باللام الساكنة، كذلك أيضا قدم قبل الألف في "لا" لاما توصلا إلى النطق بالألف الساكنة، فكان في ذلك ضرب من المعاوضة بين الحرفين. وهذا بإذن الله غير مشكل].
(4)
وقد يقول قائل آخر غير منتيه: إن هذا يخص الألف؛ لأنه حرف مد، وحديث القوم عن الحروف الصحيحة!
وجوابه يسير جِدّ اليسر.
كيف؟
إن اللغة تعرف ذلك أيضا في الحروف الصحيحة.
ما الدليل؟
الدليل هو ذلك الحوار الذي جرى بين الخليل بن أحمد الفراهيدي وبين تلاميذه كما حكى تلميذه سيبويه نقلا عن المبرد في كتابه "المقتضب".
ماذا جرى؟
[قال الشيخ نصر الهوريني في كتابه "المطالع النصرية للمطابع المصرية في الأصول الخطية" بتحقيق الدكتور عبد الوهاب محمود الكحلة الذي أضاف "قواعد الإملاء" قبل العنوان السابق- مؤسسة الرسالة- ط1 1422هـ- 2001م- ص45-46:
إذا قيل لك: ما مسمى الجيم من "جعفر"؟ فتقول: جَهْ. أو ما مسمى العين من "عُمَر" فتقول: "عُهْ" بضم العين وزيادة الهاء؛ لبيان الحركة وعدم الوقف على المتحرك. أو قيل: ما مسمى الراء من هذين الاسمين؟ فتقول: "إِرْ".
قال سيدي علي الأجهوري في شرح منظومته: واعلم أن مسمى الحرف إن كان ساكنا أُدْخِل عليه همزة الوصل ونُطِقَ به، وإن كان متحركا زيد فيه هاء السكت مع الإتيان به متحركا بحركته. فإذا أريد النطق بالباء من "اضربْ" قيل: إِبْ، وكذا الضاد منه. وإذا أريد النطق بالراء منه قيل: رِهْ بكسر الراء.
قال المبرد في المقتضب (1/32- تحديد المحقق): قال سيبويه (3/320- تحديد المحقق): خرج الخليل يوما على أصحابه فقال: كيف تلفظون بالباء من "اضْرِبْ" والدال من "قدْ" وما أشبه ذلك من السواكن؟ فقالوا: باء ودال. فقال: إنما لفظتم باسم الحرف، ولم تلفظوا به. فرجعوا في ذلك إليه، فقال: إذا أردت التلفظ به أزيد ألف الوصل فأقول: إِبْ وإِدْ؛ لأن العرب إذا أرادت الابتداء الساكن زادت ألف وصل.
وقال: كيف تلفظون بالباء من "ضَرَبَ" والضاد من "ضُحى"؟ فأجابوا بنحو جوابهم السابق، فقال: أرى أنه إذا لفظ بالمتحرك يزاد هاء لبيان الحركة كما قالوا: ارمهْ، فأقول به: ضَهْ. وهذا ما لا يجوز في القياس غيره. انتهى كلام الأجهوري.
أقول: وأما الحروف المقطعة في كتب اللغة والصرف كما يقال مثلا: أصل مادة الاستعمار "ع م ر"- فكذلك لا ينطق بأسمائها بل بمسمياتها؛ لأنه يشار بها إلى المادة بقطع النظر عن كونها فعلا أو اسما وعن تعيين حركاتها كما نص الشنواني في تعليقه على الشافية وشرحها لشيخ الإسلام.
وعليه فينطق في مثل هذه الحروف بالعين مفتوحة؛ لأن الفتح أخف الحركات، وكذا بالميم والراء مفتوحتين من غير إلحاق هاء؛ لتقوي الحروف ببعضها. أو بسكون الراء، فلا تنطق بالضم ولا بالكسر ولا بالسكون مسبوقا بهمزة وصل مكسورة لا في الأول ولا غيره؛ لأن ذلك إنما يكون عند إرادة بيان مخرج الحرف].
(5)
وتأسيسا على السابق أرى وجوب كتابة حرف متحرك قبل الصوت الساكن والصوت المشدد عند كتابة أصوات الحروف، وليكن اختيارنا هو اختيار العرب واختيار الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ فنضع همزة الوصل كالآتي:
بَ
بِ
بُ
ابْ
ابَّ
وقد يقول قائل غير منتبه: أهذه الجزئية الصغير تستحق كل هذا الاستشهاد اللغوي؟
وأجيب قائلا: نعم؛ لأن ذلك خطأ لغوي نص العلماء على خطئه، وهم لا يغادرونه نبهتهم أم لم تنبههم؛ فلعلهم يراجعون موقفهم ويتقبلون ما هو صحيح وينفذونه.
(6)
والتعارض الثالث بين عدم كتابة الحرف المشدد حرفين عند تحليل الكلمات إلى حروف وبين نصهم أن الحرف المشدد حرفان، لكنهما أدغما- على الرغم من تدريسهم التلاميذ التشديد الذي هو علامة الإدغام.
كيف؟
لو طُلب من أحدهم تحليل كلمة "القمريَّة" بالياء المشددة إلى حروف لحللها كالآتي: (ا ل ق م ر ي ة)، ولئن سألته: أين ذهبت الياء الأولى؟ فسيقول: الحرف المشدد يكتب حرفا واحدا عند تحليل الكلمات إلى حروف، لكنه غير ذلك في تقطيعها إلى مقاطع.
ولئن سألته: من أين لك هذا؟ من أي علم من علوم اللغة اهتديت إلى ذلك؟ وما الفرق بينهما وكلاهما تفكيك للكلمة؟ أدرست هذا في علم الأصوات في أثناء تلقيك العلم في الجامعة أم أدرسته في علم الصرف؟- فلن تجد جوابا علميا، وحينها ستعجب من استجابة المعلمين الذين درسوا علوم اللغة لماذا لا يُعْمِلُون ما درسوه في قبول أو رفض ما يُدَرَّبُون عليه؟
إذا، ما التحليل الصحيح لهذه الكلمة"
إن الصحة اللغوية تقتضي أن يكون التحليل كالآتي: (ا ل ق م ر ي ي ة).
قد يقول قائل غير منتبه: كيف سأنطق الساكن؟
والجواب: هذا تحليل الكلمة إلى حروفها وليس إلى أصواتها، والذي سننطقه هو أسماء الحروف لا مسمياتها التي هي الأصوات، فيقال في نطق السابق: (همزة وصل، ولام قمرية، وقاف، وميم، وراء، وياء، وياء، وتاء مربوطة).
أما لو حاولنا نطق التحليل الأول فلن نستطيع.
لماذا؟
لأننا لن نستطيع تسمية الحرف المشدد الذي هو حرفان تسمية الحرف الواحد؛ فلو قلنا: "ياء مشددة"- لاندرج ذلك في الأصوات، والمطلوب أسماء الحروف بعيدا عن حركاتها التي تصنع من الحرف صوتا. ولو قلنا: "ياء"- لحذفنا حرفا من الكلمة من دون سبب ولا دليل لغوي صحيح.
وليست الاستحالة النطقية هي السبب الوحيد، فهناك السبب الصرفي.
كيف؟
لو طلبنا منه تحليل كلمة "ضَالِّين" التي وزنها "فاعلين" الذي يستوجب إفراد كل حرف ويمنع ضم حرفين كما يفعلون.