قراءة في قصيدة ( صهيل الشمس )
للشاعر العربي الكبير / صبحي ياسين
يا ساكنين َ ثرى ــ اليرموك ــ معذرة ً
هل يُشعل ُ الشمسَ منْ باعوك َ واعترفوا !!
هذا البيت يحمل ُ لوحتين ، اللوحة الأولى فيها نداء وإعتذار ، وهنا نقف عند الصورة البيانية المدهشة ، حين ذكر الشاعر الثرى وأراد الحالّين َ بالثرى ...ونستشهد بقوله سبحانه وتعالى في سورة العلق : ( فليدعُ ناديه ) فذكر النادي وأراد الحالّين بالنادي ...وهنا الشاعر يعتذر من شهداء معركة اليرموك ...
والسؤال : لماذا أراد الشاعر شهداء اليرموك تحديدا ؟
ربما لأن العدو في تلك الفترة هو ذاته العدو في هذه المرحلة ، ولأن تلك المعركة كانت فيصلا هاما ، وضحّى المسلمون بأرواحهم الزكية وارتقى العديد منهم شهداء ...
ويقدم لوحة ثانية في عجز البيت ، وفيه تساؤل استنكاري ، وصورة بيانية جميلة ، من يشعل الشمس ، استعارة مكنية جاءت تخدم المعنى المنشود ...
وأحسن الشاعر في تقديم هذه القفلة لهذا البيت ( بيع / اعتراف ) ...وكلاهما وجهان لعملة واحدة ، ولو أسقطنا هذا القول على الواقع نجد أن من باع الأوطان لم يكتف بالبيع بل ذهب إلى أبعد من البيع بالإعتراف بالمشتري ( الغاصب ) ، وربما مرارة الإعتراف أشدّ وطأة على النفس من البيع ، فكيف تعترف بغاصب !!
هل يدفق ُ النهر ُ إن ْ جفّت منابعه
أم ينبض ُ الرحم إن ماتت به النطف !؟
مَن أطلق َ السهم صوب َ الشمس فانكسرت ْ
من أغرق َ البدر في أحداق من نزفوا ؟؟
تساؤلات يُطلقها الشاعر بمرارة وحزن ، مرارة الحر الأبي الذي يرفض الهوان
ويرفض الذل ...أسئلة استنكارية ، فكيف للنهر أن يتدفق وقد جفت منابع إمداده بالماء ؟ وموت النطفة في الرّحم في مهدها ...وهنا نجد الشاعر يطلق إشارات عميقة في تساؤلاته ...لن نتطرق لها حتى لا نُسهب في هذا الصدد .
نتأمل الصورة المدهشة ، لشمس تنكسر من سهم رماه أحدهم ...وقمر ( بدر ) يغرق في عيون النازفين ...
للشمس / للبدر دلالات ...لكن لماذا قال الشاعر ( البدر ) ولم يقل : ( القمر ) دون الخوض في الضروريات العروضية ، فشاعرنا يستطيع موسقة كلماته فهي طيّعة في يديه ... البدر هو قمر كما الهلال قمر ، لكن البدر هو قمر في مرحلة التمام ...
فالشمس التي تشير للحرية والعطاء قد أصيبت بسهم فانكسرت ، ومفردة انكسرت تُشير إلى الهزيمة والإنتكاس ، والبدر يغرق في بحر عيون ينزف أصحابها ..ما أعمق َ الجرح َ !! .
وانكسار الشمس وغرق البدر هو امتداد للبيت التالي الذي يقدمه لنا في ثوب الحكمة ..وجاء نتيجة للصور التي سلفت ...
زيف ُ الحضارة أن نغتال َ جوهرها
ونركب البحر َ لا دُرّ ولا صدف ُ
جميل هو توظيف ( جوهر / در / صدف ) ، حيث يرى الشاعر أن الحضارة الزائفة تلك التي تقضي ونقتل على أساسها من قيم ومباديء ..أن نتخلص من عنوان الحضارة والهدف الذي قامت من أجله ، ويتبع ذلك بمثال : ما قيمة ركوب البحر دون ان نجني الدر والصدف والمعادن النفيسة منه ....
كالتبر ِ يلمع ُ في قاعاتنا ترَفا ً
وفي العقول ِ يقيم ُ الطين ُ والخزفُ
لم يكتف ِ الشاعر بالصورة الجميلة في عجز البيت السالف بيانه ( ونركب البحر ....) بل قدم صورة أخرى تُحاكي واقع الأمة المُتردي ، فالذهب في القاعات والقصور كدلالة على البذخ ، في الوقت الذي حلّ التخلف في العقول ، وأشار لذلك بالطين والخشب ...وأراد الشاعر ياسين أنّ القاعات والقصور التي يدل ظاهرها على الرقي في حين يحكم أمورنا التخلف ، توصيف دقيق لواقعنا الأليم .
لا تصهل ُ الشمس ُ إلا حين يخطبها
مُهر ٌ تألق َ في أحداقه الشغف ُ
حكمة رائعة جميلة ، وتوظيف هذه الحكمة بعد هذا الكم من التساؤلات وإنكار الواقع يدل على أن الشاعر صبحي ياسين لا يعمد لرصف الكلمات ، بل يعنى بالمعنى وتوظيف البيت الشعري بصورة بديعة في صورة متنامية مع بناء النص دون أن يُشكلّ ذلك انزياحا عن الفكرة الرئيسة والموضوع الذي تعالجه القصيدة .
لا تصهل الشمس ... جميل هو تنطيق الجماد وتحريك السكون ، يشبه الشمس بالحصان الجامح وحذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه على سبيل الإستعارة المكنية ...
هنا المُهر ُ لفظ ٌ أراد به الفارس المقدام ، الفارس الشاب الذي يحمل الآمال ويكون قادرا على امتطاء صهوة الحرية والمجد ...وهذا الفارس من صفاته الشغف والرغبة التي تسكن في عيونه ...
من يعشق ُالشمس يوما سوف تعشقه
أفتى بذلك من ْ ذاقوا ومن عرفوا
والذي ينشد المجد ويقدم له ويسعى سوف يجني ذلك ، وهذه مقولة ساقها الشاعر على لسان الذين حملوا راية العز وتذوقوا المجد والنصر ...
وهنا نجد الشاعر صبحي ياسين ينأى بنفسه ، ويجلس في مقعد الراوي وينقل لنا على لسان السلف الذي قاد أمجاد الأمة .... .
الشاعر الرائع صبحي ياسين ، يغرف من بحر الإبداع ، ويقدم القصيدة كعقد نضيد ، ينتقي مفرداته من خلال ثقافته الواسعة ، يسعدني أن أقدم لقاريء يعشق النشيد الجميل والشعر المتميز برقيه ورفعته هذا الجزء الثاني من هذه القراءة ....
على أمل اللقاء بحول الله في الجزء الثالث والأخير