وقفات تأملية مع نصوص "نفخة في ناي الحنين" للأديبة الشاعرة حنان الدليمي
أدس النبض في ناي الحروف
النبض الذي جمع مؤنة الحب من خلاياي
ليقدمها لقلبك على صحن من قلق
كلما كتبت عن عينيك.. شلّت مفرداتي عجزا
واحترفت الهروب صمتا
لايملك الزائرُ حدائق الجمال الأدبي، بروعتها المعنوية، وسبكها اللفظي الماتع، إلا أن يحمل في جعبته منها نثاراً ما!
يكتنزهُ الشعورُ مثالاً تطيب به الذائقة، وتتراشقهُ الأعماقُ حلاوةً بيِّنةَ المذاقِ، حينَ تأملٍ واستغراقٍ تفكُّريٍّ هادئ..
وبما أنَّ أهل الحرف والأدب، تميَّزوا بسلطانهم التعبيريِّ الشاسع المضامين، دون غيرهم من أصحاب المواهب الأخرى،
إذ أنهم خَلقوا من الحرف أمداءً لا متناهيةً من البديع التصويري الفاتن، وعوالمَ قائمة بحد ذاتها!
حتى قيل عن صنعتهم: إن من البيان لسحرا!
تأكيداً على اختصاصهم الأرقى مطلقاً في كافة المجالات، بلغة كان القرآن العظيم وتدها الأثبت وساحها الأفسحَ رقيَّاً وتنوعا..
عدنا على حرفٍ متألق، لشاعرة موهوبةٍ مقتدرة، وانتقينا من نصوصها لوحاتٍ جميلةٍ -والكل جميل-
عرفاناً وتقديراً للصنعة الأدبية، واهتماماً منا نوليه أولئك النجوم الوامضة في سماوات الأدب.. نتشرف بهذا ونسعد بتذوقه.
فلو سألنا أديبتنا الحنان بدايةً؛ كيف وأنَّى تخامركم هذه القريحة المائزة، لتتحفونا بهذا البديع؟!
لجاءنا الجواب عبر نايها الشجي عزفاً بأناملها الوجدانية الأورف حروفاً نيرةً، تقول:
فوق أغصان الحديث
تحط فراشات تغازل لغتي
تحفر عميقاً في أرض الذاكرة
تستخرج جراراً مترعة بالعطش
فيطوقني عزف اللهفة للبوح
حينها فقط
أنبش صندوق الأبجدية.. لانتقاء أجود المعاني
وأفخرها
لن يشكَّ المتذوق لوهلة، أن صاحبة هذا البوح تغرف معانيها من الشعور غرفاً.. بسلاسة ونقاء مفرط!
في ابتعادها عن التصنع والتزيين اللفظي، وامتثالها لغة خواطرها الأعمق أحفورية في وجدانيتها المترعةِ بالأحاسيس..
وإن القارئ المتوغل في أدب الحنان عموماً، وفي ناي الحنين خصوصاً، يلمح عاطفتها الجيَّاشة، كأنها تندلق من أتونٍ
ملتهبٍ بالمشاعر..تأخذنا كاتبتنا عبره إلى آفاقٍ مليئة بالصور المعبرة بأسلوب خاص جدا ومتفرد..
نجدها فيه تلبس المعاني زيَّ الشخصنة!
-ليست الشخصنة البشرية حصراً، وإنما شخصنة التخصيص المعنوي ليصبح كل شيء في عرف الحنان كائنا بحد ذاته-
وتحفِّزها بطريقتها البارعة على الكلام والشعور والنطق والصمت!
حتى لكأننا نلمحها في كثير من الأحيان، تركن على زاوية مسرحيةٍ معنوية، وتخطُّ لمعانيها الأوفى دورباً في النص!
النصِّ الذي ماكان إلا إسقاطاً على واقع تحياه بمنتهى الاحتاك والتأثر..
كم أعشق وجعي المصاب بك
وأعشق حمّى اللهفة القابعة بين حنايا أضلعي
حين أبادلك الأشواق
تنهال مدائن البعد.. وأبنية الكآبة المنتحبة على أكتاف المسافات
ومئات الزنازين المجهولة في قفصي الصبري
بزلزال وجهك الموشوم على مرايا أحداقي
ففي هذا الرسم الفاتن بالكلمات، تعرض علينا أديبتنا الحنان، أسلوبها الفريد، في شخصنة المعاني كما قلنا،
تجعل فيه الحبيب تارة مرضا..والبعد مدناً قائمة بحد ذاتها، والمسافات أزلاماً تبكي عليها أزلام أخرى من الكآبة..
ويصبح قفصها الصدري حبساً واسع المجهولية.. لتعود على وجه الحبيب الزلزال!
وليس المزلزل كما يستخدم اللفظة جل الكتَّاب الأكارم!
وكلما تعمَّقنا أكثر... كلما انتابنا ذهول وخدر! وتساءلنا بانشداه أخَّاذ، حول ماهية المشاعر الفذة المهراقة، التي تسكن
أديبتنا، وتستفزُّ جوارحها ومَلكَاتِها لتأتنا بهذا الألق الذي يستحق التوقف عليه مليا..
لنلاحظ متدارسين متغلغلينَ إيقاعاتها الخاصة جداً على المعاني، لتنتجَ التراكيبُ بنسجها المتين رؤيتها المعبِّرة أيَّما تعبير..!
كيف تتقن الأديبة الشاعرة مزج الواقع والوقائع في قوالب نصية حرفية غاية في الرقي والتأثير!
وكيف تتسلحُّ باتساع مكنونها اللفظي وثقافتها اللدينة الغنية، لتبدو الجملُ لوحات حقيقية رسمت بريشة فنان ماهر!
تطاوعه ألوانه على أهبة المرادات، وتساوره ريشته بأرقى الخطوط رقصاً على الورق.. ولا ورق!
بل مساحات هائلة من المدلولات بأدق الملامح والتلميحات..
حين أتذكّرك.. يلوح في أفقي ضوء آخر
يشبه دهشة الموت
يشبه الخشوع الطافح من سجدة أمي
يشبه شهقة طفل.. بعد طول اختناق
يشبه نشوة الشمبانيا الأولى على طاولة القهر
يشبه لحظة ارتحال الروح في غفوة سرمدية
حزينة بلقائك
بعد آلاف السنين النبضية وبعد كل هذا العمر التائه عنك
حبنا العاجز.. بطولة لم يدونها تأريخ سابق
أيها الغجري الأنيق الذي يغمرني بنأيه
لا تمعن طويلا في الهروب.. فأنا ابنة نيوتن
وأنت سرّ الجاذبية
طبعا، تعمد أديبتنا إلى استخدام كل شيء يشعره ويمر به الإنسان في أدبها!
ربما صدمتنا للوهلة الأولى بانتقائياتها الغريبة نوعا ما، وهذا حقيقة سر الروعة والتمايز في لكنتها!
أعط الحنان فكرة ما عن موضوع يشغلك.. وستراها تشخصن الخيالَ بفنية عالية بمعانيه التي لا تحصر..
وتمدك بنص تقف عليه طويلا.. متأملاً حتماً.. مدهوشاً طبعا.. إلا أنك بعد وقوفك الطويل ذاك..
ستذهل لا محالة من أفكارها المحلقة أبداً في سماوات قد يجهل ماهيتها جل العابرين..
تنتابني جلطة عشقية
تتخثر أوجاعها في عروق القلب
أبكي علينا
فيبكي معي الليل الملتحف بسواد حظي
أيمّم الروح شطر الغياب وأمضي
ومن أقصى الفراق أناديك
يغمى على فرحي
وتموت الحكاية
*
واغتسلت بأمطار البأس العذبة
وتطهرت مليا
من شوائب التعذيل والتعزير والمهانة
وبفضلك أصبحت روحي رياضية
وفزت بمباراة كرة الثلج
وحصلت على بطولة كأس البرود
واكتشفت مدى قدرتي
على الرحيل
لن نعط الحنان قدرها والحفاوة المستحقة لأثرها اللامع في عالم الأدب، ولو أطلقنا لفظة العولمة المعنوية على أسلوبها
نحو إلباس كل شيء يمر في الخاطر زيَّاً يصلح للمناسبة الوجدانية التي أنتجت النص حبراً على الورق، ليتلقاهُ القارئ!
لاقتربنا -ربما- من الغاية التي اقترفنا بسببها متعة الغوص في حرفها العميق المؤثر!
ولخلُصنا لنتيجةٍ فحواها الجزم بإبداعها اللافت وامتلاكها الأدوات المثلى لصناعة نص أدبي فاخر بعيد عن التصنع
والابتذال ورصف الحروف، إلا مطبوعيَّتها وموهبتها الفذة التي نرصدها بعين التذوق للإمتاع،
وقفاً على قريحتها الغنية حقاً بكل جميل.