لا ريبَ أنَّ الشعر الذي يندلقُ من شغاف القلب ممتزجاً بالدماءِ تارةً، وبدموع العين تارة أخرى
يصل بطاقةٍ نافذةٍ جوارح المتلقي! ويعبر فضاءاتٍ متموسقةٍ تحلقها الأرواحُ وتركنُ جانبها بقريرةٍ وسرور عميم...
كما لا ريب أيضاً، أنَّ موضوع القصيد ومضامينهُ يؤثر جداً في ذات الشاعر الأديب، مولِّداً إيحاءاتٍ بديعةٍ،
برتمٍ تصاعديٍّ يمخر الذوائقَ، ويحضُّها على الاستجابةِ تماهياً في مراداتِ الكاتب الفذ.
*
في هذه المعلقة الفريدة، والتي أراها تُكتب بماء الذَّهب حقاً، وتعانق بجزالتها وأسلوبها وفحوها قصائد الفحول
من العصر الجاهلي، مطلعاً ورصانة وفحوًى بأصالة نادرة قل نظيرها هذه الأيام.
ناهيك عن مقصودها ومكانته العظمى من رب الأكوان، كنه الوجود محمد وآله الخضارم الطاهرين عليهم أفضل الصلوات والتسليم أبدا ما حييت..
ما جعل للقصيد الفريد هذا وطأة مدوية في مشاعر القارئ.. وكيف لا!!
وأنت تتحدث عن أحوال آل بيت رسول الله وما جرى عليهم من الخلق.. وهم علة الخلق أجمع! ولله الأمر...
**
المطلع الفاره الذي أغرقنا شاعرنا القدير في ملكوت جماله ، أخذني مني إلى عصور بعيدة سحيقة تسكنني..
بجزالتها وأدبها الكامن جمالاً والمتلألئ بريقاً أخَّاذاً..
حيث يقول:
لكِ يا بثينةُ في الربوعِ دلائلُ = في كلِّ ناحيةٍ مقامٌ هائلُ
وكأني بشاعرنا اللَّماح قد عانق معلقة عنترة ذات المطلع:
يا دارَ عَبلَةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمي وَعَمي صَباحاً دارَ عَبلَةَ وَاِسلَمي
والمطلع هنا بذكر الحبيب والدار التي أحيلت أطلالاً والحنين والشوق ولواعج النفس الكامنة
لم يأت عن عبث اتصالاً بالمضمون، وهو الحزن على ما آلت إليه أحوال آل البيت صلوات الله وسلامه عليهم
في توطئة عالية الجودة!
كنَّى بها الشاعر الكبير ببثينة وأطلال دورها الدَّارسة، عن الحال المعنوي الذي انتابه من جراء تصعرات الدهر
وخيانات البشر وسفاف الذمم...
إذ أنَّ مقامات آل البيت لا تدرس أبداً من الناحية الوجودية.. ولكن التَّأسف والحزن على ما نابهم وألمَّ بهم جزيل،
وأجدر تعبير يمكن للشاعر أن يلجأ إليه هو ذكر الأطلال والبكاء عليها وذكريات الأحبة وما هنالك من بديع شعري
ورثناه من العصر الجاهلي.. وهنا تكمن روعة القصيدة الجميلة حقا!
ثمَّ أنَّ مراقدهم المقدسة مازالت وستبقى محجة لكل من تشرب قلبه حبهم ومودتهم، ولو خلت من أصداء عظاتهم
وتوجيهاتهم الحسيَّة.. إلا أنها تجالس أرواح المحبين ولا تنفك إثر التواجد في حضرتهم تمدهم بالسكينة والقريرة.
ولعل البعض ظنَّ أن ذكر الأطلال باد وراح مع من راحوا.. وهذا في رأيي خطأ فادح جدا
وقصيد السِّراج، أكبر دليلٍ على بُطلان من تأوَّل الحداثة بمفهومها الالكتروني المعولم الجاف،
وإنما الحداثة الحقيقية في تمتين لكنة الابتكار ومزج القديم بالحديث بأسلوبٍ بارع يُشار إليه بالبنان...
ويتابع شاعرنا الكبير في ما تلا المقدمة الحسناء من أبيات، شرحَ حالهِ الحَزنى إثر المرور بالدِّيار
بقريضٍ متين وأسلوب شيِّق يحتاج مني توقفات مطوَّلة آليت الإشارة إليها فقط اختصاراً للإطالة..
إلى أن يتحول في سياق القصيد إلى تعمق ذاتي آخر، نبَّه فيه القارئ المتعطش إلى سبل الاتباع الحقَّة
وأصول المودة الخالصة بقلب صادق منزَّهٍ عن الآثام والجلائل العظام حيث قال:
لو لمْ يكن قلبُ الفتى متنوّراً = لمضى إليها في الحرامِ الشاكلُ
فأنا الذي يتلو الكتابَ بسجدةٍ = وأنا الذي في الباقياتِ الباذلُ
فهو هنا يدعو المرء لتقوى الله في السر كما العلن وعدم الرياء والأهم من هذا كله، التنوُّر!
وأظنه قصد ما شعرت به، من وسيع الفهم وسعة الأفق والاطلاع والدأب لمحو ظلمة الجهل بما كان من أحداث تاريخية
تلقتها الأجيال جيلا بعد جيل وراثةً، مع ما أصابها من عَمه وتورية، دون البحث في مضمونها والاستدلال على السمين فيها من الغث!
وهذا أمر هام جداً فيما يخص موضوع القصيد والغاية منه وهو "الأحداث التاريخية"
ولعله قصد بالتقوى والتمسك بها، الفتح الرباني نحو قوله تعالى:
من يهد الله فهو المهتد
وقوله:
وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم
وهي الهداية للحق قولا واحداً!
وأي شيء أحق من معرفة ما جرى على آل بيت الرسول الكريم عليه وعليهم الصلاة والسلام؟؟!
إلى أن يبدأ بالولوج من حيث لا يشعر القارئ المهتم، إلى الموضوع الأساس بحرفنة ولباقة أدبية وشعرية فذة!
تحسب للسِّراجِ الشاعر الشاعر الموالي والمحب.. وكأني به يكتب بدموع عينيه القادم من الأبيات.. ولعلِّي تقمَّصته فيها ولمحتُ ما لمحت..!
للهِ كيفَ تغيّرت أحوالُها = ولها على طول المسيرِ ثواكلُ
معيداً ذكر الأطلال والدور والسرور البائد.. وقد حملني إلى رائعة دعبل الخزاعي الأبدية التي تقول:
وما يليها من أبيات تلك الخريدة العتيدة..
وبالعود إلى شاعرنا الأصيل وقصيدته المعلقة، رأيتني وقد وقفت هنا طويلا...أتأمل هذا الشعر وهذا الشاعر وهذا الإحساس
وأتساءل يا سراجنا: أيُّ حبٍّ هذا الذي يأتي بهذه المعاني المنتجبة؟!
كيف اصطباري والأسى قد ضمّني = والخدُّ خدّدهُ المسيلُ النازلُ
في سرد تاريخي متقن للأحداث، بلغة الشعر هذه المرة:
فلقد مضى في ظلمِ أطهر ِ صفوةٍ = وعوى على الأطهارِ رجسٌ باطلُ
وَنَزا على الأعوادِ ذيلٌ أعوجٌ = وعلا على الأكتاف ِ وغدٌ جاهلُ
وتكالبَ الحسُّادُ نحو تراثِهِمْ = ومضت اليهم بالطفوفِ عواسلُ
ملمِّحاً إلى فجيعة الكون الكبرى وهي معركة الطفِّ في كربلاء المقدسة.. العنوان المدوي الذي من أجله كنا هنا
نتذوق ونتماهى ونسلم الروح محلقة في هذا الفضاء الباذخ قربة لله تعالى وآله بيت الرسول الميامين..
في حضورٍ لمقاماتهم الجليلة، تناولها شاعرنا بأبياته الآتية أيَّما تناول!!
فسلمت حواسه حيث قال:
آلُ الرسولِ بنو الوليِّ ومعدنُ الـ = العلمِ الغزيرِ وللعِبادِ حبائلُ
هو أولُ الأطهارِ بل هو خيرةُ الـ = خلاّق والربُّ العظيمُ الجاعلُ
لولاهُ ماخُلقَ الوجودُ ولا بدتْ = للناظرينَ كواكبٌ وفصائلُ
يا آية الرحمن ياخير الورى = يامنقذَ الأرواح ِ وهي عواطلُ
ومن هنا بدأ التوجه لمهول الحدث وفداحة المصاب معزيَّا قلب الرسول عليه وآله الصلاة والسلام
وعينه على أرض الطفوف وما حدث فيها، في انتقال بديع جداً!
لا يشعره القارء الغارق في ملكوت القصيد...
يا آية الرحمن ياخير الورى = يامنقذَ الأرواح ِ وهي عواطلُ
ياليت عينَكَ والحسينُ لوحدهِ = عند الطفوفِ عن الكتابِ يقاتلُ
رضّتْ صواهلُ خيلهِمْ أضلاعَهُ = وَجَرَتْ دماءٌ في الطفوف ِجداولُ
وبالمرور عوداً على قامة سيِّد الشهداء مولاي أبي عبد الله الحسين، ومقامه الرفيع عند الله
يتوغل بنا شاعرنا مكرُمات الإمام المظلوم ومكانته المقدسة، في شعورٍ وجدانيٍّ عميق
لمستهُ عن نفسي شخصياً.. كأنَّ الحروف نطقت واقع الحال وأدلت بلواعج الأعماق..
متحدثةً عن هذا الحبِّ الكبير .. ولا ريب.. كيف لا وأنت تتحدث عن قتيل العبرات وأسير الكربات.. سلام الله عليه..
صلوات الله وسلامه على محمد وآل الطاهرين الأكارم
وجعلها في ميزان حسنات الشاعر الكبير والموالي المحب الصادق وأنالنا من كراماتها بحق من نظمت فيهم..
وآمل أنني وفقت بقراءتي المتواضعة هذه وألممت قدر المستطاع بجوانب هذا البديع
أرجو من الله القبول، ومن شاعرنا السِّراج العذر على التقصير..
وأشكره أن حرك فيَّ حبَّ الاستقراء بعد خمول.. راجياً بهذا رضوان آل الرسول
دمتم بألق ومحبة وعافية
تقديري والاحترام
أخوكم المحب في الله