لئن كان الشعر فنا فهو أعقد الفنون على الإطلاق من حيث طرائق التشكيل وماهياتها،فكل الفنون الأخرى تعتمد على تشكيل مادة معينة في وسط محدد، فالرسم هو تشكيل المساحات اللونية في المكان، والنحت تشكيل الكتلة في الفراغ، والموسيقى تشكيل الدرجات الصوتية في الزمان، أما فيما يتعلق بالشعر فليس لدينا تعبير يمكن أن بصف التشكيل فيه بهذه البساطة التي نجدها في الفنون الأخرى، فاللغة هي المادة الأولية للتشكيل الشعري، لكن هذه المادة من التعقيد بحيث لا يمكننا تحديد وسط بعينه تتشكل فيه، بل إن اللغة ذاتها تنطوي على جوانب متعددة كل منها يصلح وحده أن يكون عنصرا تشكيليا من مثل الصوت والكلمة والمعنى والدلالة والوزن والإيقاع والقافية وغير ذلك، فالشاعر يمتلك- بخلاف غيره من الفنانين- مواد ووسائل كثيرة يمكن أن بستخدمها في تشكيل القصيدة، ومن هنا تبدأ صعوبة تحليل التشكيل الشعري.
لعلّ من أبرز مقومات موهبة الشاعر ما يمتلك من حسّ مرهف باللغة، فهو يمتلك القدرة على تشكيلها بطرائق تجعلها ذات أثر جمالي فعال في المتلقي، من غير أن يدرك هذا الأخير –غالبا- السر وراء تأثره، فمثلما دلت الموهبة الفطرية الشاعر على طريقة التشكيل تعمل الذائقة الفطرية لدى القارئ ليشعر بالأثر الجمالي.
ومنذ أقدم العصور جاء الشعراء بما لا يمكن حصره من التكنيكات التشكيلية التي ظلّ أكثرها سرّا لم يستطع النقد الكشف عنه بسبب تقيده بمناهج تهتم بمظاهر بعينها وتهمل ما عداها.
لنقرأ مثلا هذه الأبيات الثلاثة الأولى من مرثية (مالك بن الريب) الشهيرة:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة
بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه
وليت الغضا ماشا الركاب لياليا
لقد كان من أهل الغضا لو دنا الغضا
مزار ولكن الغضا ليس دانيا
إن المعنى المباشر للأبيات لا يعدو الحنين إلى الوطن (الغضا)، وتمني العودة إليه، غير أن الأثر الذي تتركه الأبيات في المتلقي أكثر عمقا وأشدّ تأثيرا، فهناك شيء ما في الشعر غير المعنى يمكن أن نسميه (الدلالة الشعرية) الناتجة عن التشكيل الشعري للغة.
أول مظاهر التشكيل – في الأبيات السابقة- المظاهر الخارجية؛ الوزن والقافية، فاختيار (الطويل) وزنا جعل الجملة الشعرية تمتاز بالطول الكافي لإعطاء فرصة للتأمل، واختيار الياء الموصولة بألف مطلقة، أكسب الأبيات صفة نغمٍ دالٍّ على التحسّر والأسف.
غير أن الإيقاع لا ينحصر بهذين المظهرين الخارجيين، فالتشكيل الشعري يعطي الشاعر إمكانية بناء أنظمة إيقاعية داخلية، يمتلك هو الحرية في تشكيلها، وبإمكاننا هنا رصد كثرة صوت (اللام) في الأبيات:
الصدر العجز
البيت الأول 5 2
البيت الثاني 3 4
البيت الثالث 3 2
صوت (اللام) الذي تكرر (15) مرة في ثلاثة أبيات يرتبط بأدوات النفي (لا،لم،لن) ويرتبط بحرف الشرط (لو) الذي جاء في البيت الثالث، ومن المعروف أن هذا الحرف يدلّ على امتناع تحقق جواب الشرط (لقد كان من أهل الغضا مزار) لامتناع تحقق الشرط (لو دنا الغضا)، ويسميه النحاة (حرف امتناع لامتناع).
وكرر الشاعر كلمة (الغضا) وهو وطنه ست مرات بشكل منتظم لافت، فهي مرة واحدة في البيت الأول، ومرتان في البيت الثاني، وثلاث في الثالث، إنه الشعور بتزايد الحنين إلى الوطن بشكل تصاعدي، أو هي تشبه التعويذة التي بتكرارها عددا محددا من المرات تحدث أثرها السحري، فكأنه يريد استحضار وطنه بها ما دام لا يستطيع العودة إليه.
والظاهرة التشكيلية الأخرى اللافتة هي ورود صوت (القاف) في كل بيت مرة واحدة، في كلمات (القلاص) وهي (النوق) في البيت الأول، و(يقطع) في البيت الثاني، و(لقد) في البيت الثالث، والكلمات الثلاث تدل على شعور الشاعر في تلك اللحظة فـ(لقد) حرف التحقيق المرتبط بلام القسم تدل على الرغبة العارمة في تمني العودة إلى أحضان (الغضا)، بركوب (القلاص)، غير أن وقوع (لقد) في جواب الشرط الممتنع التحقق جعل تلك الأمنية (تنقطع)، وهكذا جاء الفعل (يقطع) متوسطا بين الرغبة (لقد)، والوسيلة (القلاص).
ولو تنبهنا إلى صوت (النون) لوجدنا ظاهرة تشكيلية مذهلة، فهذا الصوت يتكرر في البيت الأول مرتين في الصدر ومرتين في العجز (مع حساب النون في التنوين على (ليلةً) في الصدر)، وفي البيت الثالث يرد ثلاث مرات في الصدر وثلاث مرات في العجز (مع حساب التنوين على (مزارٌ) في الصدر)، بينما لا يرد هذا الصوت على الإطلاق في البيت الثاني، فكأنّ الشاعر يترنم بهذا الصوت وهو يعبر عن رغبته بالموت في وطنه، لكنه هذا الترنم يتوقف في البيت الثاني الذي ترد فيه كلمة (يقطع) لتقطع الترنم كما قطعت الأمل في العودة، أما البيت الثالث الذي تضمن البوح بالأمنية فصوت الترنم يعلو على كل صوت.
وبإمكاننا الإشارة إلى ظواهر أخرى في هذه الأبيات الثلاثة، غير أننا نكتفي بهذا القدر الذي نظن أنه كاف لتوضيح ما نريد قوله، فالكلمات في الشعر تكتسب شحنة شعورية كثيفة تنتج من تشكيلها بنظام معين يختلف عن شكلها في النثر، وهي بذلك تضيف إلى المعنى دلالات غير متوفرة في معانيها المعجمية.
كيف استطاع الشاعر المخضرم (مالك بن الريب) أن يتوصل إلى هذا التشكيل؟ وهل كان يمتلك من الثقافة الفنية ما أوصله إلى ذلك؟
هذا بالضبط ما أردنا قوله وما ابتدأنا به، فالشاعر يختلف عن غيره بهذ الحس اللغوي المرهف الذييدفه الاختيار كلمات دون غيرها وأشكال حوية دونغيرها، من غير أن يفكر أو يصمم أو يخطط، إنها الموهبة الشعرية التي جعلته شعرا وجعلت شعره خالدا.
أختي الغالية رائدة
شكرأً جزيلاً لك وللناقد د.ثائر العذاري
وأضيف :
يقال أن الشاعر وليد بيئته والدليل مقارنة بسيطة بين شاعر مثل نزار قباني ، قضى الكثير من وقته في شارع الحمراء ببيروت...وآخر قضى الكثير من عمره بين السجون والمنافي مثل محمود درويش
الأول أضاف جماليات تتعلق معظمها بالمرأة وأدوات زينتها
والثاني أضاف جماليات تتعلق بالوطن والمقاومة والثورة
................
موضوع يستحق التثبيت
تحياتي العطرة