صناعة .........الإنسان
هي ليست مجرد نطفة يضعها الزوج في رحم زوجته , ولا أموالا ينفقها رب الأسرة على عياله في سبيل تأمين حياة
كريمة , تقيهم ذلّ الحاجة والفاقة, والشعور بالدونية عند مّد اليد إلى الآخر مهما كانت مرتبته في مشاعر تلك الأسرة
ولا طريقا يسلكه الأطفال إلى المدارس , لنفض الغبار عن أمية الألفاظ والمعاني , ولا حرفة ينتقيها الأب لأبنه لتكون
عونا له في مواجهة تقلبات الزمان , وحركة الحياة فحسب , بل هي صناعة الإنسان في حقيقة معانيها , فما النطفة
والأموال , والمدرسة والحرفة في منزلتها من صناعة الإنسان إلا كمنزلة الشمس الدافئة من الشجرة المثمرة إذا كانت
هي الأساس وحده فحسب , فكلاهما لا يقدر بمفرده على صنع ما يرمي العقل الوصول إليه من أهداف تقترب كثيرا
من مفاهيم الإتقان والإنجاز , فالشجرة حتى تعطي ثمارها لابد من غرسها في تربة خصبة صالحة
للنّماء والعطّاء , وماء لا تعتريه السموم والأوساخ , وبذار هي من رحم تلك الشجرة المثمرة , وكذلك هي صناعة
الإنسان لا تكفي المفاهيم المادية وحدها لبناء الشخصية الإنسانية السوية في أقوالها وتصرفاتها ومواقفها وردات
أفعالها أمام ما تواجهه من مواقف وظروف بالغة في التعقيد والصعوبة قدر المستطاع .
وعندي إن عميلة صنع الإنسان لتبدأ قبل ولادته , هذا إذا ما تأملنا في نظرة الرجل إلى معشر النساء , في معرض
بحثه عن الزوجة والحبيبة القادرة على تنشئة أبنه تنشئة يعتّز ويفاخر بها أمام الأقران , و تجعله يشعر بالرضا عن
النفس الحاضنة في طياتها لمشاعر أبوة صادقة , وتولد لديه مشاعر الأمل والرجاء في احتسابه شفيعا له عند عرض
الحسنات والسيئات والحقائق والأوهام , وعونا له عند هبوب رياح الشيخوخة , ودبيب الضعف في الجسد والعقل
والذاكرة , فإذا ما وقع الاختيار على هذا النوع من النساء , كانت قاعدة البناء متينة صلبة , ما دامت تقوم على
العقلانية إلى جانب العاطفة , وأما إذا ما وقع الاختيار على امرأة ترى تربية أبنها من مرآة قاصرة
على العناية بصحته وثيابه , ومأكله ومشربه فحسب , كان ذلك البناء هشا ضعيفا, يسهل هدمه , وتسييره بما يتوافق
مع الأهواء والرغبات الطائشة والمنحرفة , وبعد أن يحسن الزوج اختيار الأم الواعية الراشدة لأبنه الصغير , تبدأ
مرحلة أخرى من مراحل صنع الإنسان التي تشبه في هيئتها المعنوية لوحة ناصعة البياض , يخط عليها الرسام ألوان
الطبيعة ليعبّر من خلالها على ما يتنباه من أفكار ورؤى , وهواجس ومشاعر هي مزيج من إجماع العقل و الشعور
عليها , والتي تصرح بها أنامله المبدعة عندما تحرك الريشة لتبدع فن الصورة , وكذلك هو الإنسان في صغره لا
تكون ملكاته العقلية والإبداعية, ومدارك فهمه لما يجري من حوله , إلا كاللوحة البيضاء التي تنتظر من يرسم عليها
فضائل الإنسانية أو رذائلها , و في هذه المرحلة تبدو مسؤولية الأب جليّة واضحة في تجسيد القيم الأخلاقية
من صدق , وأمانة , وإحسان وغيرها من القيم النبيلة في أقواله , وأفعاله , وتعاملاته مع الزوجة والجيران
والأقارب والعوام , لتكون مرآة يرى فيها الإبن مثالا يحتذى به , وإلا وقع الإلتباس والخلل في ذهن الأبن الصغير في
حال محاسبة أبيه له على تقصيره في الأخذ بتلك القيم في تعاملاته مع أفراد أسرته وأصدقائه , و الوسط الذي يعيش
في كنفه , ما دام الإبن بفطرته لا يرضى بالتنظير حتى لو كان المنظر هو ما يفترض أن يكون القدوة التي يحتذى بها
و كلما بدأت عملية البناء الصحيح باكرا, كلما كان الحصاد وفيرا , فمن يربي إبنه ومنذ نعومة أظفاره على عشق
تراب الوطن , يسقي إبنه ماء الوطنية التي ستجري في دمائه وعروقه طيلة حياته ليكون بذلك أبن الوطنية البار
ليمثلها خير تمثيل في كل أرجاء المعمورة , ومن يعلم إبنه الصغير أحكام الشريعة السمحاء بما يتناسب مع تدرجه في
العمر والقدرات والملكات العقلية والجسدية , يصنع منه رجلا مؤمنا مخلصا لعقيدته ودينه , ليزود عنه بكل ما تجود
به النفس المؤمنة الراضية بأقدار السماء , وإن مثل الأب القادر على توجيه القدرات والرغبات , والأهواء والميول
الكامنة في صدر إبنه الصغير وخياله وعقله إلى الخوض في بحور العلم والمعرفة بما يحقق الإنجاز لذاته , والخير
والعطّاء والبناء لمجتمعه , كمثل الفارس الذي يعد أميرته الحسناء بتحويل خاتمها الصغير إلى جوهرة ثمينة ستكون
محط إعجاب وحسد كل أميرات القصر في بضع سنين , و كذلك هي عميلة صنع الإنسان لا تكون متقنة إلا إذا
تكاملت كل مراحلها , وتماسكت كل حلقاتها لتشكل عقد فريدا يصعب إنحلالها , وهي مهمة تبدأ من
الرجل القادر على إختيار امرأة تكون مربية فاضلة تعينه على وهب الإنسانية رجلا لا تعرف روحه العطش ما دامت
تستقي من ينابيع الإيمان الطاهرة النّقية , ولا يعتري عقله شوائب الخمول , التي تشوش قدرته على التأمل والتفكر في
هذا الكون ما دام يتغذى من موائد العلم والمعرفة , لتمضي به سفينة العمر بأمان , تاركة في ذاكرة الوطن والمجتمع
والدين , فضائل..........إنسان
هذا وما الفضل إلا من الرحمن
بقلم.................ياسر ميمو