حسن مدن
الأثنين 11/10/2010
ألا تضاهي ملحمة عبدالرحمن منيف “مدن الملح” بأجزائها المختلفة عشرات، لا بل مئات الدراسات، التي كتبت عن النفط وآثاره والنتائج العميقة التي ترتبت عليه في البلدان المنتجة له، وبشكل خاص في بلدان الخليج والجزيرة العربية؟
الأغلب أن هذه الملحمة الروائية تتفوق على العديد من هذه الدراسات، أو قل إن واضعي هذه الدراسات في حاجة إلى الاتكاء على تفاصيل أجزاء الرواية لرؤية الأبعاد الاجتماعية والسلوكية والنفسية، وتحولات البشر أنفسهم، كي يعززوا من نتائج دراساتهم، مثلما على دارسي الصحراء العربية من حيث هي عالم معقد محاط بالأسرار والغموض، أن يقرأوا روايات الليبي إبراهيم الكوني، ليروا كيف أمكن له ببصره الثاقب ومخيلته الثرية أن يلج عوالم هذه الصحراء.
وما يصح على المجتمع العربي يصح على المجتمعات الأخرى، إن تاريخ أمريكا اللاتينية الغريب والساحر يفهم بشكل أدق عبر روايات ماركيز وجورج أمادو، ونحن نتعرف إلى أوروبا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بشكل أفضل عبر روايات فيكتور هيجو وتشارلز ديكنز، ونعرف أمريكا عبر همنغواي، وروسيا من خلال تولستوي وديستوفسكي وغوغول أكثر مما نعرفها عبر الوقائع التاريخية المجردة حين تسرد سرداً بارداً محايداً.
يفعل الأدب ذلك لأنه يقيم بينه وبين الحدث مسافة، ولا نعني بالمسافة المدى الزمني بين لحظة وقوع الأحداث التي يرويها الأديب مختاراً مقطعاً زمنياً معيناً من التاريخ وبين لحظة الكتابة، وإنما نعني تلك التفاصيل المرهفة التي تتصل بالعملية الإبداعية حين يستعين المبدع بأدوات أخرى كالمخيلة والتحليل النفسي ودراسة نشاط العقل الباطن، فتأتي الشهادة ثرية، حارة، متدفقة.
كي تقيم السينما أعمالها التي تقدم التاريخ، فإنها تلجأ إلى الأدب مستعيرة منه تلك الحيثيات والدقائق في وصف الأمكنة، لأنه ما يحفظ تلك الدقائق بأمانة، ونظن أن الصورة التقليدية للمدينة العربية التي تتلاشى وتتبدد في حاجة إلى إعادة رسم من خلال أعمال كبار الروائيين والقصاصين العرب الذين حفظوا ذاكرة مدن عريقة جميلة تتسرب من بين اليدين، وتغرب عن النظر.
لا نستخف بالأبحاث التي كتبت عن التحولات التي شهدتها المدينة العربية على مدار عقود، وبنتيجة تحولات المجتمع العربي نفسه، فبين هذه الأبحاث عدد من الإسهامات التي قدمت إضاءات مهمة عن هذه التحولات، لكن نطرحه من زاوية محددة هي الإحاطة التي يقدمها الأدب، الرواية بشكل خاص، ببانوراما هذه التحولات بالصورة التي يعجز العديد من الدراسات عن فعله
التوقيع
لايكفي أن تطرق باب الإنسانية لتحس بمجيئها نحوك , عليك أن تخطو تجاهها و التوقف عن الاختباء خلف الزمن,