صباح الانباري
اشتغل بعض الشعراء على فكرة الانفتاح على الأجناس الأدبية والفنية ـ بعد أن ضاقت بهم فسحة الشعر ـ لمد فضاء القصائد بما يتيح للشاعر التحرر من قيود، ومركزية الشعر، وانغلاقه على فضاء الشاعرية.
إن هذه الفكرة الجامحة لم تكن وليدة رغبة التجديد أو المغامرة حسب، بل جاءت كضرورة ملحة من ضرورات استيعاب كامل هموم الإنسان المعاصر ومعاناته ـ التي لا تقتصر على ما هو روحي فقط، أو على ما يستطيع الشعر تضمينه باقتضاب فقط ـ خاصة فيما يتعلق بالقصائد الطويلة الملحمية أو شبه الملحمية. وكان من ابرز أولئك الشعراء شيركو بيكس الذي كتب عددا من المطولات الشعرية تحت يافطات وان اختلفت محدداتها إلا أنها تندرج تحت عملية الانفتاح على الأجناس السردية/ الأدبية/ الفنية. ورأينا في تجربة هذا الشاعر تأسيساً متينا لتوجه جديد أخذ بزمام تثبيت نفسه كجنس أدبي وتأسيسي مركب.
ولم يكن شيركو منفردا في رغبته الجامحة هذه على الرغم من رياديته فيها بل أن شعراءَ آخرين نهضوا بمهمة اجتراح ما يدعم هذه التجربة، ويعزز دورها الريادي في حلحلة التركيبة الشعرية للقصيدة المحدثة. وكان من بين أولئك المبدعين الشاعر بولص آدم الذي طلع علينا مؤخرا بديوانه الجديد (ضراوة الحياة اللامتوقعة) الصادر عن دار الحضارة للنشر.
وقبل الدخول إلى عالم بولص، والغور، والبحث فيما قدمه لهذا النص المفتوح كما يحلو للبعض تسميته، لنا أن نتساءل عما يمكن أن نطلق على خالق هذا النص وما إذا كانت تسمية شاعر ستظل سارية عليه بعد انفتاحه شعرياً على فنون السرد، أو أنها ستأخذ منحى مختلفا باختلافه اجناسيا مع الشعر؟ إذا اتفقنا على التسمية الحالية (النص المفتوح) فهذا يعني أننا بإزاء نص جديد، مختلف عن النص المألوف. ليس بالضرورة أن يكون شعرا منفتحاً على السرد لأنه بات من الممكن أن يكون نثراً منفتحاً على النثر أو دراما منفتحة على السرد. ولنا في (قصرحية) الراحل المبدع محي الدين زنكنه مثال على هذه التركيبة الجديدة، والمبهرة إجناسياً، وفنياً إذ جعل القصة القصيرة فيها مدخلة في المسرحية دون أن يترك بينهما فراغاً يلغي واحدية النص، أو انشطاره على نفسه، أو استقلالية تركيبتيه الأساسيتين. عليه يتوجب اشتقاق تسمية خالق هذا النص من كلمة (مفتوح) فيكون الخالق تحديداً هو (الفتّاح) والفتّاح لغة هو الحاكم، والقاضي لأنه يفتح مواضع الحق. وقد يكون للمشتغلين في المجال الاصطلاحي رأيهم الذي قد يتفق أو يتعارض مع ما ذهبنا إليه.
لنعد إلى معاينة النص المفتوح عند الشاعر بولص آدم.
بدءًا لا بد أن نشير إلى أن اختيار الشاعر لوحة تشكيلية ـ زيَّن بها غلاف ديوانه لا على أساس قرابته من مبتكرها (لوثر اشو آدم) ولكن على أساس نوع القرابة التي تخدم توجه ديوانه نحو الانفتاح على الفنون الأخرى ـ كانت استباقية في بيان جوهر العلاقة، وحميميَّتها بين الشعر من جهة، وبقية الفنون من جهة أخرى. اللوحة كانت تمهيداً أولياً لدخولنا إلى حياة بولص، وضراوتها اللامتوقعة، وتوضيحا فنياً لغير المتوقع فيها. الشاعر أو العازف أو المغني المحاط برموز شعبية محلية يحاور الحياة بالصوت، والنغمة دون أن يلقي بالاً لما سيحدث له حين يفك الآخر ـ الوحش الرابض خلفه بعينيه المحمرتين، والمستشاطتين غضباً ـ رمزية تلك النغمة. الفنان هنا (في اللوحة) هو البديل المرئي للشاعر الذي راح يدبج قصائده دون أن يلقي بالاً هو الآخر للوحش. ويظل اللامتوقع رهن بردود أفعال الوحش اللامتوقعة. وبقدر تعلق الأمر بهيمنة الوحش على خلفية اللوحة بشكل دائم، ومهاجمة العازف من الخلف في أية لحظة يراها الوحش ملائمة ـ على وفق الرؤية المتشكلة صوريا داخل اللوحة ـ نستطيع كمشاهدين(من خارج اللوحة) توقع ما سيلحقه بحياة العازف من ضراوة غير متوقعة داخل اللوحة. ولبيان هول تلك الضراوة اشتغل التصميم (تصميم الغلاف) على أن تكون اللوحة متقدمة على خلفية كبيرة مستنسخة عنها في إشارة إلى انغلاق خلفية الحياة على تلك الضراوة.
الانفتاح على القصة والحكاية
في قصيدة (شاعر) ثمة قصة قصيرة ـ يرويها بولص بأسلوب شعري لا يؤهلنا للحكم عليها كقصيدة، أو كقصة قصيرة لأنها الاثنان معاً في آن واحد ـ تبدأ بالفعل (دفن) في إشارة إلى أن الحدث قد وقع في الزمن الماضي وعليه ترتبت الأحداث الأخرى، وان فاعل الدفن هو (شاعر) ما داخل النص ولهذا وضع بولص عنونته من دون أن يلحق بها (أل) التعريف ليضع أمامنا حقيقة انه يروي عن شاعر لا علاقة له بالشاعر الذي يروي عنه من خارج النص.وكأي فاعل لا بد له من مفعول وهي هنا القصائد: دَفَنَ الشاعرُ القصائدَ
ولا تغير أل التعريف هنا شيئا من مجهولية الفاعل لأنها تعود على (شاعر) العنونة. أما التوصيفات الأخرى فهي مجرد رسم لملامح فعلته القاسية، ومسببات تلك الفعلة المؤلمة التي تدل على أن الظرف المحيط في بلاده لا يقل قسوة عن دفن القصائد أو وئدها وهي ابنة ليلة واحدة حسب. وفي اثر فعل (الدفن) يأتي فعل (المسح) لفاعل هو الشاعر نفسه ولمفعول يختلف عنه وظيفياً (روائح) وهي غير قابلة للمسح ولكن بارتباطها بالنوافذ المتفحمة لبلاده تصبح كذلك نظراً لارتباط الروائح بشواء بلادة المتفحمة. ثم يأتي الصمت الاختياري ليدخل في منافسة خاسرها يخضع بشكل ما إلى ما سنه (شالوك) في (تاجر البندقية) بخبثه المبين من مطالب في منتهى القسوة البشرية. بولص هنا يبتكر أحداث نصه من غرائبية الواقع الذي يحياه يوميا، وتفصيلياً لبلاد شديدة الوطأة، فنتازية المسار، وغرائبية السلوك. ومن مقدمة النص ينتقل إلى وسطه ليقدم وصفاً تتداخل عنده وضيفتا الشعر والقصة. الشعر بتكثيف توصيفاته الفنتازية، والقصة بتوصيفاتها الاستطرادية لخلق صور واقعية الحدث، وفنتازية المسار في آن واحد. لنتأمل في جوهر الصورة الآتية: "طفل على وسادته وهو يحلم بابيه الذي بلعه الحوت المحلي، لا ذاك الذي يبلع الأقمار"
في هذه الصورة ثمة مفردات مهمة جدا هي الطفل الحالم بأبيه، والحوت الذي ابتلع أباه، والحوت الآخر الذي يبتلع الأقمار. وهذا يعني ارتباط المفردات الثلاث مع بعضها بصلة وصل واحدة هي الطفل (مركز البراءة). فالطفل هنا يرتبط أولا بصلة الرحم مع أبيه ـ الذي يرتبط هو الآخر بالحوت المحلي الذي ابتلع البلاد والعباد ـ ويرتبط ثانياً بالحوت المحلي الذي يبتلع الأقمار، وهذا الحوت بريء من دم الأب براءة الذئب من دم يوسف، وفي واقع الحال يرتبط حوت الأقمار برؤية جمعية شعبية فولكلورية تبرئ ساحته من هضم الرجال والأموال قدمه لنا الشاعر لارتباطه ببراءة الطفولة التي انتهكها الحوت المحلي بقتل الأبوة، أو ابتلاعها، أو تشويهها، أو تشييئها على وفق إرادته ورغبته المحض.ضمن هذه الصورة نجد قصتين متداخلتينلحوتين مختلفين، ومرتبط بعضهما ببعض عن طريق الطفل. يكتفي الشعر بالتلميح إليهما باعتبارها طاقة مخزونة في ضميرنا الجمعي بشكل فعل جماعي ذاكراتي يرتبط بما آل إليه وضع البلاد إبان هيمنة وسطوة الوحش الذي بدَّد حلم الطفولة، وقتل البراءة، وحرَّم عليها دوام الدفاع عن قمرها المنير المهدد بكسوفات، وابتلاءات، وابتلاعات جديدة، وما إلى تلك القصة من مكملات تراثية، وحركية، وصوتية، وطقوسية. ومن خلال القصتين نعرف مدى كابوسيَّة الوحش الذي طال فعله التدميري الأبوة، والطفولة على حد سواء. وفضلا عن هذا كله قدم لنا النص لقطة صامتة لشجرة تميل على النهر، وتكاد تسقط فيه بينما يظل الشاعر موغلا في صمته لان الكلام يكلفه أرطال لحم تقطع من جسده على وفق اشتراطات شايلوكية خبيثة وملزمة؛ جعلته ليس كممتنع عن الكلام حسب بل كمساهم في إسقاط الشجرة لتدفن في مقبرة النهر بكل أغصانها الخضر، وعصافيرها الصغار. الوحش إذن يحيِّد الشاعر إذ لا يستطع القضاء عليه كلياً ليبلوَهُ في جرم غير مغفور، ولتبدأ من هنا (قصة جريمة شاعر) كاستنتاج أخير للقصتين السابقتين، ولتشكل القصة الجديدة رؤية الشاعر للواقع المعيش من خلال صورة الشجرة وهي تغرق مع من عليها من العصافير الصغيرة ليصل الموقف إلى ذروة أزمته عندما يراقب العصفور (الأب) كما يراقب الشاعر غرق أبنائه أمام عينيه دون أن يفعل أي شيء. "ببساطة، فكر الشاعر بان العصفور جن جنونه لأن صغارا له رافقوا الشجرة في غرقها تنفيذا لتخيل الشاعر وكيمياء تراكيبه!"
وبهذا تقفل الفاجعة نفسها على البراءة فلا يبقى من الشجرة غير غصن واحد، وعصفور واحد يتحركان فوق مدفن الشجرة. وبهذا يكون النص قد استكمل قصوى غاياته مشيدا بناءه على لبنات رصفت في أساس القصة مثل: الدفن، النوافذ المتفحمة، الدم، الامتناع عن الكلام، البلع، الحوت المحلي، الخوف، خنق الأطفال، النفس الحزينة، الألم، الغرق، سفك الدم، رخام القبر، الجنون، الجريمة.
وفي النص الموسوم (البغل) يطوِّع بولص فن الحكاية لتنفتح على الشعر تطويعا لحكمتها في خدمة غاية النص الذي يبدأ بعبارة قص تقليدية: في سالف الأيام والأزمان
يستكملها الشاعر تقفيةً، وسجعاً بالنون، ويبدأها بالفعل الناقص الذي يفيد بث كينونته الشرطية، ثم يدعمها بفعل الحكي:
حين يكون الفلفل مرجان والحظ فنجان يحكى أن ملكاً غريب الأطوار حكم مملكة واهنة
لا نجافي الحقيقة إن نحن قلنا أن (الملك) في هذه الحكاية هو (الوحش) نفسه في النص السابق، وهو نفسه في النص اللاحق وفي النصوص الأخرى. وهو هنا مطبوع على أطواره الغريبة:
عاقب قائد جيوشه بالوقوف على رأسه مدى الحياة لهزيمته في إحدى المعارك.
عاقب الترعة بتجفيف مائها نظرا لظهور أفعى حمراء فيها.
عاقب البستاني بالبقاء أسبوعا على شجرة التفاح لأنه ذكر في جرده أن شجرة الانتصار قد اختفت.
عاقب طباخة القصر (زوجة الحطاب) بالنوم تحته ليلة كاملة.
عاقب الحطاب (زوجها) بجعله بغلا له يحمله على رقبته من مكان إلى آخر كأي دابة على وجه الأرض.
في هذه العقوبة (الأخيرة) بلغ النص المفتوح مفترق الطرق بين محتواه، وبين عنونته التي أعطت انطباعا أوليا أن المقصود من ورائها هي الدابة/البغل، وليس الإنسان/الدابة. لقد استخدم الملك بغله البشري في حله وترحاله، وحدث ذا يوم إن طرق رجلا الملك باب البغل فخرج إليهما متسائلاً: -عجباً! ما الداعي لحضور حضرتكما، فأنا أعرف وجهتي اليومية إلى القصر كبغل؟ -اليوم شيء آخر عليك أن تحمل جلالة مليكنا إلى القبر.
إن الجملة الأخيرة الوامضة ألقت بمعناها ومغزاها التنويري بسرعة خاطفة هي سرعة زوال الظالم واندحاره بالموت المحتوم على الرغم من كل جبروته، وطغيانه، وسطوته، وهيمنته على أحوال البلاد والعباد.
الانفتاح على المسرحية الصامتة
على الرغم من أن المسرحية الصامتة لم تحاول أن تجنس نفسها بعد ـ كنوع فني، وأدبي قابل للمشاهدة من على خشبة المسرح، وللقراءة من على الورق، وللاستماع من على المنبر إلا منذ وقت قصير جدا حين أصدرنا مجموعة مسرحيات صوامت تحت عنوان (ارتحالات في ملكوت الصمت) عام 2004 فضلاً عن بعض المحاولات المفردة السابقة أو اللاحقة لكتابنا هذا، والمنشورة ورقياً أو الكترونياً ـ إلا أن الشاعر بولص آدم طوّعها لخدمة نصه المفتوح (أصوات جديدة لمطحنة قديمة)مستخدما أفعالها الحركية التي تمنح الجسد لغة خاصة تحوله إلى أداة طيعة لإيصال الأفكار المختلفة بالإشارة، والإيماءة، وحركة الأطراف، والجسد على الخشبة؛ وأداة حركية مرنة في رسم المواقف الدرامية على الورق. وقد استخدم الحوار المنطوق أكثر من مرة واحدة كان بمقدوره الاستغناء عنه لو شاء ذلك ليظل النص مشكلا من الصمت حسب.
لنستعرض الأفعال الوصفية المشكلة للنص:
أولا .الأفعال ذوات التوصيف الأنثوي
تطلق، تصم، تحمي، تشد، تترقب، تتسع، تنفث، تلتف، تنهمر، تتصاعد، تتقدم، تدخل، تساق، تلاشي، تقف، تنفض، تنقل، تعوي، تنظر، تطرد.
ثانياً.الأفعال ذوات التوصيف الذكوري
يتصبب، يقتنص، يقف، يشعر، يتصاعد، يتغير، يلمح، يتأخر، يتناهى، يحترق، يستمر، يفتح، يواجه، يرفع، يتثاقل، يبدو، يتأمل.
من هذه الأفعال نستنتج هيمنة الجملة الفعلية على النص بكليته فضلا عن هيمنة الفعل المضارع على مسار الحركة الآنية للحدث درامياً مع بعض الاستثناءات القليلة جدا والتي استخدم فيها بولص الأفعال الماضية الآتية: قال، وقع، سأل، نظر، بدأ.
إن هذه الهيمنة المضارعة شبه التامة تنبئ بحاضر الفعل الذي يدل على حاضر الحدث، ولحظية وقوعه؛ وهذا مرتبط بطبيعة حياة الدراما التي تحدث آنياً على خشبة المسرح ـ فهي تختلف عن الرواية التي تسرد ما حدث، والقصة التي تخبرنا بما حدث، وكلتاهما تعتمدان الفعل الماضي كفعل رئيس للنص ـ فضلاً عن اعتماد النص المؤثرات الصوتية (طقات المطحنة، تكات الساعة، ناقوس الكاتدرائية، دربكة سرير المضاجعة) والتي تركت تأثيراً درامياً واضحاً في انتقاله من مشهد إلى آخر، وانطباعا سردياً باستخدامه لهذه المؤثرات كهمزات للوصل بين فقراته المسرودة. ولكي لا ينحو النص منحى دراميا خالصا اشتغل النص على الأفعال التي تصف الحركة أكثر من الأفعال الحركية نفسها. يقول بولص آدم في مفتتح النص على سبيل المثال لا الحصر: تطلق صرخات تصم الآذان
الفعل في هذه الجملة يصف حال الصرخات بدلاً من أن يتركها لتعبر عن حالها بشكل مباشر. فلو جاء النص بالفعل (تصرخ) فانه يكون في غنى عن الوصف نظرا لوقوع الفعل الذي يلغي الوصف. وعلى الأغلب أن بولص تعمد الاشتغال على الأفعال الوصفية ليكون لنصه استقلالية واضحة عن الدراما، ولكي يكون مفتوحاً على الشعر، والقصة على حد سواء.
الانفتاح على السينما
ليس غريبا على من عرف بولص آدم كواحد من المهتمين بل والعاملين في الحقل السينمائي اهتمامَه بالسيناريو أيضاً. في نص قصيدته الموسومة (حجر الأساس) أسس لانفتاح الشعر على العمل السينمائي فبدأ بـ(النسخة الأولى) للفيلم ـ مزينا ثرياها بما قاله السينمائي الفرنسي روبير بريسون: "قد لا يرى الناس في هيامك بالحقيقة سوى الجنون"ـ
ومنطلقا من (المهمة) الأولى أو اللقطة الأولى لسيناريو القصيدة/الفيلم التي حددت زمن اللقطة ونوع الحدث: " الصباح الأول له بعد العاصفة"
الحدث الاستباقي الأول إذن هو ظهور العاصفة التي استمرت طوال الليل السابق للصباح الأول وفيه (تمنت) الشخصية فظهرت أمنيتها كرؤية داخلية (مونولوج داخلي)، أو كاسترجاع لما تمنته (فلاش باك). ثم تأتي المهمة الثانية أو اللقطة الثانية التي تصور المكان ما بعد العاصفة، ومغادرة الشخصية للمكان المدمَّر إلى مكان آخر تحت الأرض. فلسفة اللقطة تشير إلى أن العاصفة كانت الحد الفاصل بين مميزات الشخصية أو مجموعة الشخوص المتواجدين فوق الأرض والتي فقدوها تحت الأرض فتأقلموا على حياة العماء. وفي حياة العماء تلك يهتدي عالم الآثار (اندراوس هرمز) عن طريق الحلم إلى الطريق المؤدية إلى (حجر الأساس) الذي احتفظ بداخله بأنبوبة تحتوي على هيكل عظمي لملك عوقب بالحشر داخل الأنبوبة حياً (للتدليل على معالم عصر بناء المبنى) قبل أن يوضع في الحجر الأساس.
في لقطة لاحقة تضمنها سيناريو القصيدة هي: "كشف ذلك اللغز"
وعملية الكشف تصور من قبلنا ـ كقراء للنص ـ على وفق مخيالنا وقدراته التصويرية، أو عن طريق ما توفره السينما من لقطات توضيحية وتفسيرية أثناء العرض.
هذه الأمثلة، وأخرى غيرها يحفل بها النص ـ من أوله إلى آخره ـ توضح الكيفية التي على وفقها استطاع بولص آدم جعل السيناريو مدخلا في الشعر ومنصهرا معه في تلاحم قوي يفضي إلى استكمال مشروع النص المفتوح ـ المستوعب للحالة والحدث ـ بطريقة سهلة تيسر فهمه، واستبطان جوانياته.
من هذا كله نستنتج الآتي:
1. اشتغال بولص آدم على اجتراح نص مفتوح على الأجناس السردية، والفنية كمهمة رئيسة من مهامه الشعرية التجديدية والتجريبية في آن.
2. جاءت عملية اجتراح النص المفتوح على وفق الضرورة الملحة لاستيعاب النص الجديد لكامل هموم إنساننا المعاصر.
3. عمل بولص آدم على تطويع القصة، والحكاية، والمسرحية الصامتة، والسيناريو السينمي لخدمة نصه الجديد.
4. اعتمد التداخل، والتماهي، والمصاهرة، كأسس رئيسة من أسس بناء النص الجديد (المفتوح).
5. انتقائه الدقيق للوحة الغلاف والتي تصب في مصب الانفتاح على الفنون الجميلة فضلا عن تعبيرها الدقيق عن المحتوى العام الذي أراده الشاعر، وتوصل إليه من خلال النص.
نأمل أن نكون في هذا المقال المقتضب قد القينا ضوءًا على جانب من جوانب تجربة الشاعر بولص آدم، وعلى كيفيات الانفتاح على الأجناس الأدبية والفنية كما تضمنتها مجموعته (ضراوة الحياة اللامتوقعة).