أبو العلاء المعري
363-449 ه
أنا أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان. ولدتُ في معرّة النعمان في شمال سوريا سنة ثلاث وستين وثلاثمائة هجرية (973 ميلادية), وفي الرابعة من عمري أصبت بالجدري وفقدتُ بصري. درستُ على أبي الذي مات وأنا في الرابعة عشرة من عمري، فرحلت إلى حلب حيث كانت الحركة الثقافية التي ازدهرت في ظل سيف الدولة لاتزال نشيطة، ومن حلب إلى أنطاكية، وكانت لاتزال تدافع عما بقي لها من تراثها البيزنطي، ومن أنطاكية توجّهتُ إلى طرابلس الشام، ومررتُ باللاذقية فأخذتُ عن بعض الرهبان ما وجدته عندهم من علوم اليونان وآرائهم الفلسفية.
في عام 398 هجرية رحلتُ إلى بغداد حيث مكثت عامين عدت بعدهما إلى معرّه النعمان لأجد أمي قد لحقت بأبي فاعتزلت الناس إلاّ خاصة طلاّبي وخادمي الذي كان يتقاسم معي دخلي السنوي وهو ثلاثون دينارًا كنت أستحقها من وقف. ورحلت سنة تسع وأربعين وأربعمائة هجرية .
نشأت في أسرة مرموقة تنتمي إلى قبيلة "تنوخ" العربية، التي يصل نسبها إلى "يَعرُب بن قحطان" جدّ العرب العاربة وهي من أكثر قبائل العرب مناقب وحسبًا، وقد كان لهم دور كبير في حروب المسلمين، وكان أبناؤها من أكثر جند الفتوحات الإسلامية عددًا، وأشدهم بلاءً في قتال الفرس.
وكان جدي "سليمان بن أحمد" قاضي "المعرَّة"، وولي قضاء "حمص"، ووالدي "عبد الله" كان شاعرًا، وقد تولى قضاء المعرَّة وحمص خلفًا لأبيه بعد موته، أمَّا أخي الأكبر محمد بن عبد الله (430 – 355)ه = 966 – 1039م) فقد كان شاعرًا مُجيدًا، وأخي الأصغر "عبد الواحد بن عبد الله" (371 – 405ه = 981 - 1014م) كان شاعرًا أيضًا.
ولم تمنعني إعاقتي عن طلب العلم، وتحدي تلك الظروف الصعبة التي مررت بها، فصرفت نفسي وهمتي إلى طلب العلم ودراسة فنون اللغة والأدب والقراءة والحديث.فقرأت القرآن الكريم على جماعة من الشيوخ، وسمعت الحديث عن أبي وجدِّي وأخي الأكبر وجدَّتِي "أم سلمة بنت الحسن بن إسحاق"، وعدد من الشيوخ، مثل: "أبي زكريا يحيى بن مسعر المعري"، و"أبي الفرج عبد الصمد الضرير الحمصي"، و"أبي عمرو عثمان الطرسوسي".وتلقَّيت علوم اللغة والنحو على يد أبي وعلى جماعة من اللغويين والنحاة بمعرَّة النعمان، مثل: "أبي بكر بن مسعود النحوي"، وبعض أصحاب "ابن خالوية".وكان لذكائي ونبوغي أكبر الأثر في تشجيع أبي على إرسالي إلى "حلب" – حيث يعيش أخوالي – لأتلقى العلم على عدد من علمائها، وهناك التقيت بالنحوي "محمد بن عبد الله بن سعد" الذي كان راوية لشعر "المتنبي"، ومن خلاله تعرَّفت على شعر "المتنبي" وتوثقت علاقتي به.ولكن نَهَمي إلى العلم والمعرفة لم أقف به عند "حلب"، فانطلقت إلى "طرابلس" الشام؛ لأرتوي من العلم في خزائن الكتب الموقوفة بها، كما وصلت إلى "أنطاكية"، وترددت على خزائن كتبها أنهل منها وأحفظ ما فيها.وقد حباني الله تعالى حافظة قوية؛ فكانت آية في الذكاء المفرط وقوة الحافظة، حتى إنني كنت أحفظ ما يُقرأ عليَّ مرّة واحدة، وأتلوه كأنني أحفظه من قبل، ويُروى أن بعض أهل حلب سمعوا بي وبذكائي وحفظي – على صغر سني – فأرادوا أن يمتحنوني، فأخذ كل واحد منهم ينشدني بيتًا، وأنا أرد عليه ببيت من حفظي على قافيته، حتى نفد كل ما يحفظونه من أشعار، فاقترحت عليهم أن ينشدوني أبياتًا وأجيبهم بأبيات من نظمي على قافيتها، فظل كل واحد منهم ينشدي، وأنا أجيب حتى قطعتهم جميعاً.
عدت إلى "معرة النعمان" بعد أن قضيت شطرًا من حياتي في "الشام" أطلب العلم على أعلامها، وأرتاد مكتباتها.وما لبث أبي أن تُوفي، فامتحنت باليُتم، وأنا ما أزال غلامًا في الرابعة عشرة من عمري، فقلت أرثي أبي:
أبي حكمت فيه الليالي ولم تزل =رماحُ المنايا قادراتٍ على الطعْنِ
مضى طاهرَ الجثمانِ والنفسِ والكرى =وسُهد المنى والجيب والذيل والرُّدْنِ
وبعد وفاة أبي عاودني الحنين إلى الرحلة في طلب العلم، ودفعني طموحي إلى التفكير في الارتحال إلى بغداد، فاستأذنت أمي في السفر، فأذنت لي بعد أن شعرت بصدق عزمي على السفر، فشددتُ رحالي إليها عام (398ه = 1007م).
واتصلتُ في بغداد بخازن دار الكتب هناك "عبد السلام البصري"، وبدأ نجمي يلمع فيها، حتى أضحيتُ من شعرائها المعدودين وعلمائها المبرزين؛ مما أثار عليَّ موجدة بعض أقراني ونقمة حسادي، فأطلقوا ألسنتهم عليّ بالأقاويل، وأثاروا حولي زوابع من الفتن والاتهامات بالكفر والزندقة، وحرّضوا عليَّ الفقهاء والحكام، ولكن ذلك لم يدفعني إلى اليأس أو الانزواء، وإنما كنت أتصدى لتلك الدعاوى بقوة وحزم، ساخرًا من جهل حسادي، مؤكدًا إيماني بالله تعالى ورضاي بقضائه، فأقول تارة:
غَرِيَتْ بذمِّي أمةٌ =وبحمدِ خالقِها غريتُ
وعبدتُ ربِّي ما استطع =تُ، ومن بريته برِيتُ
وأقول تارة أخرى:
خُلِقَ الناسُ للبقاء فضلَّت =أمةٌ يحسبونهم للنفادِ
إنما ينقلون من دار أعما =لٍ إلى دار شقوة أو رشادِ
ولم أكن بمعزل عن المشاركة في الحياة الاجتماعية والفكرية في عصري فقد كنت أشارك بقصائدي الحماسية في تسجيل المعارك بين العرب والروم، كما كنت أعبر عن ضيقي وتبرمي بفساد عصري واختلال القيم والموازين فيه، وكنت أكشف عن كثير مما ظهر في عصري من صراعات فكرية ومذهبية، كما سجلت ظهور بعض الطوائف والمذاهب والأفكار الدينية والسياسية.
وقد عرف لي أهل بغداد فضلي ومكانتي فكانوا يعرضون عليَّ أموالهم، ويلحُّون علي في قبولها، ولكنني كنت أرفضها تعففاً، وأردها متأنفاً، بالرغم من رقة حالتي، وحاجتي الشديدة إلى المال، وقد قلتُ في ذلك:
لا أطلبُ الأرزاقَ والمو =لى يفيضُ عليَّ رزقي
إن أُعطَ بعضَ القوتِ أع =لم أنَّ ذلك فوق حقي
وكنت برغم ذلك راضياً قانعاً، أحمد الله على السراء والضراء، وقد رأيت في البلاء نعمة تستحق حمد الخالق عليها فقلت:
"أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر".
لم يطل المقام بي في بغداد طويلاً؛ إذ دخلت في خصومة مع "المرتضي العلوي" أخي "الشريف الرضي"، بسبب تعصبي للمتنبي وتحامل المرتضي علي، فقد كنت في مجلس المرتضي ذات يوم، وجاء ذكر المتنبي، فتنقصه المرتضي وأخذ يتتبع عيوبه ويذكر سرقاته الشعرية، فقلت: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قصيدته( لك يا منازل في القلوب منازل) لكفاه فضلاً.
فغضب المرتضي، وأمر بي فسُحبت من رجليّ حتى أُخرجت مهاناً من مجلسه، والتفت لجلسائه قائلاً: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر تلك القصيدة؟ فإن للمتنبي ما هو أجود منها لم يذكره. قالوا: النقيب السيد أعرف! فقال: إنما أراد قوله:
وإذا أتتك مذمَّتي من ناقص =فهي الشهادة لي بأنِّي كامل
وفي تلك الأثناء جاءت الأخبار إلي بمرض أمي، فسارعت بالرجوع إلى موطني بعد نحو عام ونصف العام من إقامتي في بغداد.
غادرت بغداد في (24 من رمضان 400 ه = 11 من مايو 1010م)، وكانت رحلة العودة شاقة مضنية، جمعت إلى أخطار الطريق وعناء السفر أثقال انكسار نفسي، ووطأة همومي وأحزاني، وعندما وصلت إلى بلدتي كانت هناك مفاجأة قاسية في انتظاري.. فقد تُوفِّيت أمي وأنا في طريق عودتي إليها. ورثيتها بقصيدة تقطُر لوعة وحزنًا، وتفيض بالوجد والأسى. أقول فيها:
لا بارك الله في الدنيا إذا انقطعت =أسباب دنياكِ من أسباب دنيانا
ولزمت داري معتزلاً الناس، وأطلقت على نفسي لقب (رهين المحبسين)، وبقيتُ على ذلك نحو أربعين عاماً، لم أغادر خلالها داري إلا مرة واحدة، عندما دعاني قومي لأشفع لهم عند( أسد الدولة بن صالح بن مرداس) - صاحب حلب - وكان قد خرج بجيشه إلى "المعرة" بين عامي (418،417ه = 1026،1027م)؛ ليخمد حركة عصيان أهلها، فخرجت متوكئا على رجُلٍ من قومي، فلما علم صالح بقدومي إليه أمر بوقف القتال، وأحسن استقبالي وأكرمني، ثم سألني حاجتي، فقلت:
قضيت في منزلي برهةً =سَتِيرَ العيوبِ فقيدَ الحسدْ
فلما مضى العمر إلا الأقل =وهمَّ لروحي فراق الجسدْ
بُعثت شفيعًا إلى صالح =وذاك من القوم رأي فسدْ
فيسمع منِّي سجع الحمام =وأسمع منه زئير الأسدْ
فقال صالح: بل نحن الذين تسمع منَّا سجع الحمام، وأنت الذي نسمع منه زئير الأسد. ثم أمر بخيامه فوضعت، ورحل عن "المعرة".
وكنت آخذ نفسي بالشدة، فلم أسعَ في طلب المال بقدر ما شغلت نفسي بطلب العلم، وكنت أقول في ذلك:
(وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب، ولا أتكثر بلقاء الرجال، ولكن آثرت الإقامة بدار العلم، فشاهدت أنفس مكان لم يسعف الزمن بإقامتي فيه).
وأعتبَرُ من أشهر النباتيين عبر التاريخ، فقد امتنعت عن أكل اللحم والبيض واللبن، واكتفيت بتناول الفاكهة والبقول وغيرها مما تنبت الأرض.وقد اتخذ بعض أعدائي من ذلك المسلك مدخلاً للطعن علي وتجريحي وتسديد التهم إلي، ومحاولة تأويل ذلك بما يشكك في ديني ويطعن في عقيدتي.وأنا بررت ذلك برقة حالي وضيق ذات يدي، وملاءمته لصحتي فأقول:
(ومما حثني على ترك أكل الحيوان أن الذي لي في السنة نيِّفٌ وعشرون دينارًا، فإذا أخذ خادمي بعض ما يجب بقي لي ما لا يعجب، فاقتصرت على فول وبلسن، وما لا يعذب على الألسن.. ولست أريد في رزقي زيادة ولا لسقمي عيادة)
وعندما كثر إلحاح أهل الفضل والعلم علي في استزارتي، وأبت به مروءتي أن أرد طلبهم أو أقطع رجاءهم، وهم المحبون لي، العارفون لقدري ومنزلتي، المعترفون بفضلي ومكانتي، فتحت باب داري لا أخرج منه إلى الناس، وإنما ليدخل إليه هؤلاء المريدون.فأصبحت داري منارة للعلم يؤمها الأدباء والعلماء، وطلاب العلم من كافة الأنحاء، فكنت أقضي يومي بين التدريس والإملاء، فإذا خلوتُ بنفسي فللعبادة والتأمل والدعاء.
وكما لم تلن الحياة لي يومًا في حياتي، فإنها أيضًا كانت قاسية عند النهاية؛ فقد اعتللتُ أيامًا ثلاثة، لم تبق من جسدي الواهن النحيل إلا شبحًا يحتضر في خشوع وسكون، حتى أسلمتُ الروح في (3 من ربيع الأول 449ه = 10 من مايو 1057م) عن عمر بلغ 86 عاماً.
وقد تركت تراثاً عظيماً من الشعر والأدب والفلسفة، ظل موردًا لا ينضب للدارسين والباحثين على مر العصور، وكان لي أكبر الأثر في فكر وعقل كثير من المفكرين والعلماء والأدباء في شتى الأنحاء، ومن أهم تلك الآثار:
- رسالة الغفران: التي ألهبت خيال كثير من الأدباء والشعراء على مَرِّ الزمان، والتي تأثر بها "دانتي" في ثُلاثيته الشهيرة "الكوميديا الإلهية".
- سقط الزند: وهو يجمع شعري في شبابي، والذي استحقيت به أن أوصف بحق أنني خليفة المتنبي.
- لزوم ما لا يلزم (اللزوميات)، وهو شعري الذي قلته في كهولتي، وقد أجدت فيه بشكل لم يبلغه أحد بعدي، حتى بلغ نحو (13) ألف بيت.