( فيا أيها الغريب النازح من فرح التاريخ ، قدر هذه المرحلة أن تسكت البلابل و تحوم الغربان في فناء الدار ، و لكن الأمة التي أحببتها و أفنيت حياتك في خدمة لغتها و ثقافتها ما تزال جذورها تضرب في الأرض ، و ما تزال شمسها تسطع في الأفق ، فنم مطمئناً ، فإن التاريخ لا ينقطع .
رحمك الله قدر ما علمت و علَّمت ، رحمك الله قدر ما أحببت ، رحمك الله قدر ما عانيت ، لم يقدَّر لك أن تعرف السكينة بيننا ، فلعلك تعرفها بعيداً عنا ، على أن مثلك لا يموت و إن انتزعه الموت من القلوب )
أتذكر هذه الكلمات يا عماه ؟
تلك كلماتك التي رثيت بها زميلك و صديقك ، والدي أحمد راتب النفاخ قبل عشرين عاما .
أهناك مثلها لهذا الموقف ؟ و أنت و رفيقك رصيفا دهر و فكر .
أأرثيك أنا ؟ حقاً لا أصدق هذا .
أيها الكبير .. لا أدري ما أقول و قد حلقت بعيداً في سموات الغياب ، حيث استقر كثير ممن أحببت و صادقت و عاشرت .
لا أدري ما أقول .. و قد لا تعلم من كنت لي .
كنت أستاذي الذي لم أقرأ عليه ، و معلمي الذي اقتبست من روحه ، و الأديب الذي تلقيت عن نفسه .
ودعتك آخر مرة ، و لم أحسب أنه الوداع الأخير .
و رغبت بالبقاء معك ، و لم أشعر أنه اللقاء الأخير .
و خجلت في أزمتك الأخيرة أن أكلمك ، فما وجدت كلماتي إلا عهناً منفوشاً أمام جبروت الألم الذي حل بك .
لكنني ما حسبت أبداً .. أنني سأفقدك هذه الأيام .
أيها المعلم القدير ... عرفت بسمتك ، فرأيت وراءها دنيا من الآلام ، و عرفت مرحك ، لكنني استشعرت وراءه كبداً متصدعة ، و عرفت إخلاصك ، فرأيت وراءه نفساً طيبة صادقة ، بل ينبوعاً رقراقاً فراتاً من ينابيع القلوب المرهفة .
لم تكن لدي صديق والدي الذي عرفت فحسب .
كنت أكبر كثيراً
لا أصدق أني فقدتك ، و أن غشاوة الموت حلت بيننا و بينك ، و أن ابتسامتك التي طالما فتكت بالهموم قد باتت من مآثر الماضي .
لا أصدق ..
لا أصدق أنك أيها الحبيب غادرتنا ، قد كنت بيننا نوراً يضيء ، فحللت غصة في القلب لا تبرحه .
أستاذي ... و ربما لم تعلم أنك كنت لي ذلك .
إن كان فقدك حقاً ، فإن للموت يداً عند كل بر و فاجر ، و لكلٍ منا يوم هو لا بد ملاقيه ، و لئن حرمنا منك اليوم فإن حاجتنا إليك لا تبلى ، و اسمك باقٍ بيننا حجة كبرى ، و أنت دوماً بيننا أستاذنا و معلمنا الكبير القدير الذي لا تذهب بذكراه عاديات السنين .
رحمك الله ..
رحمك الله قدر ما علمت و علَّمت ، رحمك الله قدر ما أحببت ، رحمك الله قدر ما عانيت .
يا من يعز علينا أن نفارقهم
وجداننا كل شيء بعدكم عدم
التوقيع
الأديب هو من كان لأمته و للغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ
الله الله يا بن النفاخ
أوجعتني عباراتك
وذكرتني بأساتذتي الكبار أحمد راتب النفاخ الذي علمني الآ أغلط في النحو
فخطا النحو خطيئة
والأستاذ الكبير عبد الكريم الأشتر الذي زرع في نفسي روح القراءة الواعية
ورغم أنني لم أره في حياتي
ولكنه كان معلمي
رحم الله العلماء