"ملكة نيفا" و"روح العصر الفضي" آنا أخماتوفا شاعرة الحب والحرب
تعدُّ آنا أخماتوفا شاعرة من أفضل ممثلي ما يعرف بالعصر الفضي للشعر الروسي، الذي امتدَّ بين أعوام 1894- 1922، وهي سنوات صعبة في التاريخ الروسي، توصف بالتجربة المجنونة التي حفلت بالشعر والتاريخ وبالمنفى والانتصار والخوف
12:53 | 2011 / 03 / 18
كريم راشد - "أنباء موسكو"
وجاء شعر أخماتوفا استجابةً لتلك التجربة المجنونة، إذ إنّها شهدت تجربة ما قبل وما بعد ثورة أكتوبر، فامتلأ شعرها بالخوف الذي حمله القرن العشرون، وكان ثيمةً أساسيةً لشعرها.
اسمها الحقيقي آنا غورنغو، وهي سليلة أسرة من الطبقة الراقية في أوديسا الأوكرانية، ويوحي اسمها بأنّها تنحدر من سلالة جنكيز خان، التي كانت تحكم مناطق واسعة من الأرض الروسية. وُلدت في العام 1889، وتوفيت في الخامس من آذار/ مارس 1966. بدأ اهتمامها بالشعر في سني شبابها الأولى، وكتبت أولى قصائدها وهي لا تزال في الحادية عشرة من عمرها، ونشرت بعض بواكيرها في نهاية مراهقتها، وكانت مفعمة بحبِّ قصائد: نيقولاي نيكراسوف، راسين، بوشكين، وكذلك بالشعراء الرمزيين، ومع الأسف ضاعت وأتلفت معظم بواكيرها الشعرية. وعندما علم أبوها بميولها الشعرية طلب منها أن لا تلطِّخ سمعة واسم عائلتها، وأن لا تصبح (منحطَّة شاعرة).. بل أجبرها على أن تتخذ لنفسها اسما وهمياً توقع به قصائدها، وهكذا اختارت الاسم الأول لها والاسم الثالث لجدة أمها. وعن بذور الشعر في عائلتها تقول: "لا أحد من أسرتي نظم الشعر ولكن آنا بونينا، أول امرأة شاعرة في روسيا، كانت عمة جدتي".. وبسبب حبها للشعر تركت دراسة الحقوق كي تدرس الأدب في سانت بطرسبرغ.
نشرت مجموعتها الشعرية الأولى (مساء) في العام 1912، أي عندما كانت في الثالثة والعشرين من عمرها، وهي السنة التي أنجبت فيه ابنها ليف من زوجها الشاعر والناقد نيقولاي غوميليف، الذي سرعان ما هجرها .. وعن الأمومة كتبت تقول: "الأمومة عذاب جميل لم أكن جديرة بها". ومن خلال مجموعتها الأولى أصبحت أخماتوفا موضع إعجاب من النخبة، ومن جزء من المشهد الثقافي في سانت بطرسبرغ. وجاء ديوانها الثاني (فقاعات) 1914، ليصنع شهرتها كونه يعاكس تيار الرمزية الذي كان سائداً في المشهد الأدبي الروسي في ذلك الزمان.. تطلَّقت في العام 1918 لتتزوج مرَّةً ثانيةً من فلاديمير شيلينكو الذي طلَّقها في العام 1928. وبعد مجموعتها الثانية (فقاعات)، صارت أشهر شعراء عصرها، ونظمت آلاف النساء قصائداً تمجِّدها، مقلِّدات أسلوبها، ما أجبر أخماتوفا على القول: "علَّمتُ نساءنا كيف يتكلمن، لكنني لا أعرف كيف يمكن تعليمهن الصمت". وبسبب سلوكياتها الأرستقراطية، وإنجازها الأدبي، سُميت بـ "ملكة نيفا" و"روح العصر الفضي".
وتقول الناقدة روبيرتا ريدر: "إنّ القصائد الأولى تجذب عدداً أكبر من المعجبين،وبالنسبة لأخماتوفا فقد كانت قادرةً على أن تصل وتعبِّر عن طيف واسع من المشاعر التي تعنى بتجربة العشق. من لحظة اللقاء المملوءة بالحذر والخجل، إلى الحب العنيف الذي قد يترافق مع الكراهية، وعلى نحوٍّ ما عبَّرت عن الحب العنيف المدمِّر، أو الانفصال الكلِّي. ومع هذا فإن شعرها يحدِّد علامةً واضحةً لصحوة شعرية لا حدود لها، بأسلوب ملون، ومليء بالسحر والظلال.. قصائدها الغنائية نظمت بعبارات قصيرة تعتمد على الكلام اليومي العادي، دون أن تأتي في سياقات منطقية ومتماسكة. وبدلاً من ذلك فهي تجيء وفق الطريقة التي نتحدث بها، حيث تصل بين الصور والعواطف، والأشياء اليومية التي تصادفها لتتداخل مع تداعيات النفس الداخلية الجيَّاشة، تماماً كما كان يفعل ملهمها بوشكين. كانت أخماتوفا تريد عبر شعرها أن تنقل عوالم المعنى الهامشية من خلال التفاصيل الصغيرة".
وبسبب نفي زوجها الأول صار شعرها محظوراً بشكل غير رسمي من عام 1925 ولغاية 1940. وعانت من القمع لسنوات طويلة، لكنّها رفضت الذهاب إلى المنفى كما فعل كثير من الكتاب الروس.. وخلال تلك الفترة شغلت أخماتوفا نفسها بالنقد الأدبي، لاسيما بأدب بوشكين، وأيضاً بترجمة أعمال فيكتور هيغو، رابندرانت طاغور، جياكومو ليوباردي، ولشعراء كوريين وأرمن مختلفين، وكتبت سيرة ذاتية للشاعر الرمزي ألكسندر بلوك. وفي نهاية ثلاثينات القرن العشرين كتبت قصيدة طويلة بعنوان "مرثاة" مهداة لذكرى ضحايا ستالين.. أمّا أفضل قصائدها فهي قصيدتها الملحمية "قصيدة من دون بطل"، التي عكفت على كتابتها لمدة عشرين عاماً، وهي تتحدث عن حصار لينينغراد الذي عاشته شاعرتنا لحظة ـ لحظة لمدة تسعمئة يوم، وعن الأهوال التي تسبِّبها الحروب للإنسان.
وسمحت التغيرات السياسية أخيراً بقبولها في اتحاد الكتاب، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية حُظر نشر شعرها وقام سكرتير اللجنة المركزية وقتها، أندريه زادانوف، بطردها من اتحاد الكتاب، ووصفها بـ "نصف راهبة.. نصف بائعة هوى".. وفي الفترة نفسها تمَّ اعتقال ابنها ليف سنة 1949، وظلَّ في السجن حتى العام 1956، وكي تساعد في إطلاق سراحه كتبت أخماتوفا قصائد مديح لستالين وللسلطات الحاكمة، ولكنَّ ذلك كلَّه ذهب هباءً. ولذلك لم تنشر تلك القصائد في أيٍّ من مجموعاتها الشعرية. بدأت بالكتابة والنشر من جديد سنة 1958، ولكنّها عانت من الرقابة المشددة. وصار الشعراء الشبان حينها يحجُّون إليها، فهي تمثل النسبة لهم صلة وصل لمجتمع وثقافة ما قبل ثورة أكتوبر الروسية، وما بعدها. وبعد نهاية الحقبة الستالينية عادت إلى نشاطها الأدبي الطبيعي، فكتبت عشرات القصائد التي تمجِّد الحب والإنسان، وقبل وفاتها بعامين اختيرت رئيسة لاتحاد الكتاب. وماتت عن ستة وسبعين عاماً في لينينغراد.
هذه هي آنا أخماتوفا شاعرة الحب والحرب، والتي أعلت من شأن فكرة الصنعة في الكتابة كمفتاح لبوابة الشعر أكثر من الإلهام والموهبة، واستمدت مواضيع قصائدها الحياة حولها، والتي تحمل معها على الدوام ما يفوق مرات كثيرة ما قد تحمله أجنحة الخيال.