منذ صغري تتكرر على مسامعي كلمة : بيك ، وكانت تترافق مع اضطراب أهل القرية وتسارعهم لإبداء النشاط والعمل ، بل وتسري بينهم شائعات عن معاقبته لفلان أو فلان ، والجميع يبدون متجهمين لا تنفرج أساريرهم حتى يرووا سيارته اللامعة تعود أدراجها ، وبعدها يتجول المختار وهو يقوم بمتابعة أعمال الفلاحين ويسمى : وكيل البيك كذلك ، ويلقي ببعض التعليمات التي أمر بها البيك وربما تكون من اختراعه ويلصقها بالبيك ليعطيها قوة التنفيذ
كان وكيل البيك ( أبوعناد ) صلفا متكبرا يمتاز بالخشونة وبخاصة عندما يحاول أن يبدو مسؤولا ، يتصرف بفظاظة وغلاظة ، ويتحدث عن ثقة البيك به , لو قال له كذا عن فلان لعاقبه البيك المحترم ، ويردد دائما : عند قسمة الغلال سأحاسب بعدد حبات القمح مشككا في أمانة الفلاحين
وكثيرا ما سمعت جارنا أبو عسيى وهو سهران مع والدي على البيدر يقول إذا وردت سيرة المختار : كلب البيك بيك
كثيرا ما كان البيك يتجول بين البيادر وأكوام القمح تنتظر مروره الكريم مع المختار لأخذ نصيبه منها لأنه هو صاحب الزرع والضرع ومرة سأل أبوعناد والدي:
ــ أية جهة من القسمة نأخذ يا أبا توفيق
ـــ الشرقية
قال : ـــ لا الغربية
رد والدي : ـــ عد حبات كل كومة وخد الأكثر وتمتم : إن كنت تعرف العدّ
، رآني البيك مع وكيله أساعد أبي فسألني :
ما اسمك ؟
ــ وسام
رد أبي : ـــ هو طالب في الجامعة وسوف يتخرج بعد شهر, برم وجهه إلى الجهة الأخرى :
ـــ علمه الفلاحة يا أبا توفيق
ولم ينتظر جواب والدي فقال لي :
ـــ يا ولد أذهب وأوصل الأشياء الموجودة في صندوق السيارة إلى القصر وأعطيك خمس ليرات
نظرت باتجاه والديلا وقلت له :
ـــ اطلب ذلك هذا من والدي ، فرد أبي على الفور :
ـــ يا بيك نحن مثل الأرض لا نخدم إلا من يخدمنا ودع فلوسك في جيبك
رد المختار منافقا البيك وقال :
ـــ يا أبا توفيق لا ضرر في أن يذهب الولد لخدمة البيك فجميعنا في خدمته
ــــ وسام ليس ولدا بل هو رجل ذو شنب ,يا مختار أنا أتحدث إلى البيك فلا تحشر نفسك فيما لا يعنيك ، وإذا أنت في خدمته فنحن في خدمة الأرض
شعرت بالاعتزاز الشديد بوالدي
استغربت مرة أن البيك جاء بمفرده إلى والدي وبدأ يتحدث بصوت منخفض ، كنت أسمع بعض الكلمات : رانية ... صعب.. وسام .. ثانوية
بعد أن غادرنا ضحك والدي كعادته مناديا لي ، وتحدث عن ابنة البيك وأنها تحتاج لدروس تقوية في اللغة العربية و سألني :
ـــ ما رايك ؟
لا أستطيع أن أصف شعوري ساعتها كانت مشاعر متناقضة متنوعة يجتاحها الإعجاب بالنفس ، وذهبت فرأيت فتاة بمنتهى الهدوء والجمال وسكينة النفس بعكس والدها ، صوتها رقيق ، وكلامها همس أنثوي عذب ونظرتها تخترق أعماق الفؤاد او هكذا أنا شعرت
كنت أنتظر عطلة نصف العام وعطلة الصيف بشغف كبير لأنها تستغل العطل لأعطيها الدروس ، وتمضي بقية العام الدراسي في مدينتهم وبخاصة هي في الشهادة الثانوية ,وأنا كنت قد أكملت دراستي الجامعية وعينت مدرسا للغة العربية في القرية نفسها
كان يدخل والدها ولا يسلم وإنما يقول بشيء من السخرية تنم عن ثقل الدم :
كيف رانية باللغة العربية يا أستاذ ؟
فاجيبه بشيء من الاشمئزاز : أحسن
أما والدتها فكانت مسحة من الجمال الخلقي واللسان الطيب والكلام اللطيف ، فلم تنادني مرة إلا يا بني
ومرة سألني بسخرية واستصغار : كم راتبك الشهري ؟ فأجبته ...... ليرة فرد قائلا :
ــ هذا المبلغ يصلني من زراعة الفجل فقط
فرددت على الفور : يمكنني أن اصبح مثلك وأزرع الفجل ولكنك أنت لا تقدر أن تصبح مثلي
كان الحب ينمو بيننا كزنبقة نعتني بها ، وكنت أرى الحب مرسوما في حمرة خدودها عندما تقع في غلط ما ، كنت ألقاها منتظرة وإن تاخرت ولو لدقائق تفلت منها كلمة : تأخرت يا .... وسام؟
رسمنا الخطة بعد تخرجها من قسم اللغة العربية وكانت والدتها توافق وتعدنا بعمل كل جهد وخاصة أنه لم يبق عندهما غيرها فأخوها هرب من البيت ورحل إلى لبنان عاملا ، وكلفنا عمها في الكلام مع والدها ، فثارت ثائرته وانفجر في صراخ يشبه العويل وأنا في الغرفة الثانية أحضر برنامج نهاية العام مع رانية التي أصبحت مدرسة في نفس مدرستي التي أختارت العمل بها رغم اعتراض والدها على عملها في القرية بين الفلاحين كما قال
قال له أخوه :
ـــ يا أخي لا تصرخ فهو هنا وقد يسمعك
ـــ دعه يسمع لا أزوج ابنتي من فلاحنا
وبينما كنت أخرج مررت بالصالة فقلت له :
ـــ يا أبا محمد ليس من فلاحكم بل من فلاح : وأنا افخر بأنني فلاح وابن فلاح
تابعنا خطتنا بإحكام وأمسكنا جميع الخيوط بيدينا أنا ورانية واستخدمنا العقل الرزين الهادئ ، وتم كل شيء ، وضمنا سقف واحد وفي أحد الأيام ونحن في بيتنا المتواضع بعد العشاء دخلت امرأة عمي ( زوجة البيك ) تصرخ وسام ... وسام ... وساااااااام
خرجت ملهوفا متسائلا فقالت:
ـــ عمك سقط على الأرض لا يتكلم
ذهبت مسرعا ونقلته إلى المستشفى التي أمضى فيها فترة وخرج مشلول الجهة اليمنى ويتلعثم في كلامه ، وانحرف فكه على الجهة الأخرى
حان موعد الولادة الأولى لرانية وولدت صبيا رائع الطلعة لا يشبه أباها أبدا
وكانت المفاجأة مع أنه لم يزر دار ابنته طوال سنتين طرق الباب ودخل متوكئا على عكازه فاستقبلناه بحب وتقدير
حملت الولد من حضن أمه وناولته إياه قائلا :
ـــ هذا ولدك يا عمي
ضمه بحنان لم أره منه في حياتي ، ,اخذ يشمشم رائحته ثم نظر إلينا بعينين مغرورقتين بالدموع وقال بصوت متلجلج :
ـــ سمه ( إبراهيم ) فقد كان أبوك رجلا عاقلا
رمزت إبراهيم عليا
آخر تعديل رمزت ابراهيم عليا يوم 06-19-2011 في 07:11 AM.
لكل قصة فعل وردة فعل حسب قراءة الشخص لها
أنا من عايش أجواء القرية التي ترعرت بها وكبرت ،
كنت اسمع هذه القصص وأذكر منها فقط عندما تجمع أهل القرية يسألون البيك عن بناء مدرسة لأولادهم .. كان جوابه : لا حاجة لكم للمدرسة فانا أعلم لكم ابني وهذا يكفي .
إنه عهد الاقطاع والبيكوية الذي تخلصنا منه ولكن عدنا من حكم البيك إلى ظلم الريس .
أهنئك على هذه القصة لانها تعلمنا كيف نحافظ على كل حبة تراب..
وكيف نفتخر بتربية الفلاح
وكيف نكسرقيود الاقطاع بالعلم والمعرفة .
الشاعر رمزت
كل شيء يذكرني بالأرض أحبه
وكل من يواجه الظلم والفساد أحترمه
لك كل الودّ
وكل الاحترام
لقلمك الشامخ عزة وكرامة
رحم الله والدك الذي زرع بك حب الأرض .
هيام
التوقيع
وما من كــاتب إلا سيفنى … ويبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شي... يسرك في القيامة أن تراه
آخر تعديل رمزت ابراهيم عليا يوم 06-20-2011 في 05:37 AM.
الأخت هيام صبحي نجار الغالية
ترافق الظلم مع ذرات ترابك يا وطني
وامتزج بحبات عرق فلاح يلهث وراء لقمة خبز وقلم لابنه فمُنع عنه القلم
وقل عنده الجبز
وكانت النتيجة الجهل والمرض
ولا تزال يا وطني تحت ربقة الإقطاع من نوع جديد وبمسميات جديدة
مررت يا أخت هيام مرور ابنة الفلاح الذي يشعر ويفتخر أنه فلاح
فتقبلي مني الشكر الجزيل
وعلى المودة نلتقي