ارتسمت معالم الدهشة على وجه تلك السيدة وهي ترى شنط السفر وهي تنزل من على سطح سيارة الجسر التي وقفت أمام باب المنزل، ولم تصدق عينيها حين رأت ابنها الدكتور "جعفر" يدفع للسائق الأجرة وهو يغلق باب السيارة الأمامي حيث كان جالسا . ولم يكد ينهي حديثه مع السائق حتى اندفع الى أمه التي احتضنته بشدة ومعالم الحيرة على وجهها . دخلت ورائه داخل حجرة الجلوس وهي تقول :
.. خير ان شاء الله
تمدد على الكنبة دون أن يخلع حذائه وتطلع الى وجه أمه المندهش فابتسم لها قائلا :
.. اشتقت لكم كثيرا
لم يكن طبيبا بمعنى الكلمة بل كان يدرس الطب في الأردن وبقي له سنة واحدة فقط على التخرج، ولم يكن قد مضى على سفره عدة أيام ، وكان عليه ان يرتب نفسه ليحصل على أعلى المعدلات ، أموال باهظة صرفها أبوه على تعليمه .. لأنه الوحيد من بين إخوته الأربعة الذي أكمل دراسته ، ولطالما تمنى أبوه أن يكون احد أولاده طبيبا كي يفخر به ويعالج الناس بأسعار زهيدة لان تكلفة الطب عالية في هذه المناطق من العالم التي تعاني من الإهمال والتهميش .
... أنا مرهق ، دعيني أنام على الأقل ساعة وبعد ذلك نتحدث.
لاحظت أمه إمارات قلق على وجهه يحاول جاهدا ان يخفيها الا أنها لم تلق بالا لذلك وفضلت الانتظار حتى يستيقظ .
.... حاضر . سوف أجهز طعام الغداء الى ان تستيقظ . اذهب الى غرفتك كي تنعم بالهدوء .
اقترب المساء وضاقت مساحة الضياء وجلس ابو طارق على مائدة الطعام بعد ان عاد من دكانه ومعه ابنته المتزوجة والتي حضرت لتسلم على أخيها وصاح على زوجته قائلا :
..هيا أيقظيه نكاد نموت من الجوع.
ابتسمت زوجته بعد ان وضعت آخر طبق على الطاولة أمامه ثم دخلت غرفة ابنها وارتفع صوتها وهي تحاول إيقاظه ، ثم فجأة صرخت صوتا زلزل أركان البيت فاندفع ابو طارق إلى الغرفة وتزاحم مع ابنته على الباب، حيث لمح بطرف عينه يد مالك وهي تتدلى من طرف السرير ثم لمح عينيه شاخصة إلى الأعلى ويسيل زبد من طرف فمه .
مات جعفر ، هكذا فجأة دون ميعاد ، وهكذا هي حال موت الفجأة هذه الأيام التي امتلأت بالأمراض والضغط النفسي والأطعمة المسممة والجو الذي يأتي بالغازات والانبعاثات الضارة .
جلس الوالد ابو طارق في بيت العزاء يستقبل المعزين مع أولاده وإخوته وأبناء عمومته وحامت حوله ذكريات الماضي وتذكر يوم استشهاد ابنه مجيد الذي قتله جندي إسرائيلي يوم اجتاحت الدبابات القرية كي تقمع احتجاجات الأهالي في انتفاضة الحجارة. يومها كان قرص الشمس يتلون بلون الدم القاني ونزل المطر ليلتها مع أن منتصف الشهر السابع كان حاضرا بصيف شديد الحرارة ، وحضر أمامه طيف ابنه جعفر وهو يغادر القرية مع الكثيرين من شبابها بعد أن اقتحمها مئات من جنود الاحتلال ومنعوا التجول وشاركوا انقطاع الكهرباء وأسلحتهم وشراستهم في نشر الخوف والرعب. وبعد عدة أيام بعد انتهاء منع التجول اقتحموا المنزل الساعة الثالثة صباحا واعتقلوه وحكم عليه سنتان قضاها في سجن مجدو ثم سجن النقب بتهمة إصابة جندي بقنبلة مولوتوف انتقاما لاستشهاد أخيه . وبعد خروجه بعدة أشهر جاء عليه اعتراف من احد رفاقه فأصبح مطلوبا للاحتلال بعد أن رفض تسليم نفسه.وفي إحدى الليالي جاء إلى البيت كي يستحم ويغير ملابسه إلا أن كمينا كان قد اعد له فاعتقل مرة أخرى من البيت وحكم عليه 7 أشهر لانتمائه لتنظيم معادي حسبما ذكروا، والآن مات ، كيف ولماذا لم يمت أيام الانتفاضة واحتسب مع الشهداء ؟ وما هي حكمة الله في موته في بيته وليس في الغربة ؟ هز رأسه ونزلت دمعة من طرف عينه .
في ثالث أيام العزاء وقبل أن ينفض بدقائق فوجئ الحاج باندفاع عدة شبان وهم يلهثون ،وقال احدهم بعد أن التقط أنفاسه بصعوبة : الجيش ورانا . حدث ارتباك بسيط إلا أن الحاج صرخ :
- يعني أول مرة ؟ اهدوا
في هذه اللحظة وصلت ثلاثة جيبات عسكرية إسرائيلية ترجل منها عدة جنود مشهرين أسلحتهم وتقدم احدهم يرتدي الملابس المدنية حيث توجه إلى الحاج مباشرة وبدت على وجهه الشراسة وهو يسأله :
- وين جعفر ؟
سحب الحاج نفسا بعمق وتطلع مباشرة إلى عيني الضابط وقال : مات
أحس الحاج أن ارتعاشه خفيفة قد مرت على وجه الضابط الذي سأل : كيف مات ... وليش ؟
تراجع الحاج برأسه قليلا ودار بوجهه اتجاه الشباب والجنود المحيطين بهم وهو يقول بخشونة :
- مات . يعني حكمة ربنا . وأنت شو بدك منا ؟ يا خي حرام عليك .
كرر الضابط سؤاله : يعني مات هيك . أكيد ؟
والله مات . الله يرحمه ويسامحه.
.. الله لا يرحمه
ارتسمت دهشة على وجه الحاج على هذه الإجابة وفتح فمه كي يقول شيئا إلا أن فمه بقي مفتوحا وزادت دهشته وبدا كالمعتوه حين رأى دمعة سالت سريعا من عين الضابط الإسرائيلي ووصلت إلى ذقنه قبل ان يمسحها بكفه ثم استدار بحركة حادة وركب في إحدى السيارات وتبعه جنوده وانطلقوا مبتعدين .
ساد الصمت وبدا الوجوم على كافة الوجوه والحاج بدا كأنه صنم يتدلى فكه الأسفل وتعتريه دهشة لم يشهد هو لها مثيل قبل ذلك . وفجأة انهار وسقط على الكرسي وكأنه أعطى إشارة آمرة صامته فاستيقظ الجميع مرة واحدة وبدئوا يتكلمون مع بعضهم ثم قال احدهم بصوت عال :
..أنا مش مصدق ، ضابط مخابرات يهودي يبكي على شاب عربي مات ؟ أكيد هاي الكاميرا الخفية . اسكت .. صرخ به الحاج
..كل واحد على داره . كل اشي انتهى .
في اليوم التالي جلس الحاج داخل بيته وحوله أولاده وزوجته وتطلع إلى صورة ابنه وقال كأنه يحدث نفسه :
معقول اللي شفته ؟ ليش ضابط المخابرات بكى ؟ مجنون وإلا ... ؟
بكت الوالدة وبدت نظراتها ساهمة وتمتمت وهي تنشج "مش معقول" .
سمع الجميع أصوات أقدام تتدافع أمام باب البيت الذي فتح فجأة واندفع منه الضابط الإسرائيلي بلباسه العسكري وهو يحمل مسدسا ويتبعه عدة جنود وبدا على وجهه الشر ... وقف الجميع وتوجه إلى الوالدة وتطلع في عينيها وهو يصرخ .. يعني ما قدر يستنى كم يوم بعدين يموت ؟
تطلع الجميع إلى بعضهم البعض وشعر الحاج ببعض الخوف يتسرب إلى قلبه واستمع إلى الضابط وهو يكمل .. أنا الضابط آريا فشلت أول مرة في حياتي بسبب واحد تافه.
استجمع الحاج شجاعته وتلعثم قائلا : إحنا ما عملنا اشي .. وابني كان بره البلد وهو ...
قاطعه الضابط وهو يصرخ بحدة : ابنك حقير.
... كل مين في البيت يخرج .. بدنا نفتش وأنت يا حجة بظلي معنا عشان ما تقولو انه الجيش سرقكم .
خرج الجميع دون أي اعتراض ثم أعطى الضابط إشارة للجنود الذين دخلوا غرف المنزل واحدة تلو الأخرى وفتشوها بدقة والحاجة تراقبهم وعيناها لا تكفان عن البكاء . وفي نفس الوقت تقريبا كان الجنود يفتشون الجميع في الخارج بعد ان اخذوا هوياتهم وأوقفوهم على جدار المنزل .عندما انتهى التفتيش أمر الضابط بإعادة الهويات باستثناء هويات أبناء الحاج طارق ونبيه ثم أعطى الإشارة للجميع بالدخول الى البيت . حاول الحاج الاعتراض الا ان الضابط أشار له بالركوب في إحدى الدوريات . حدث ارتباك وململة وارتسمت مشاعر مختلفة على الوجوه عندما دفعه الضابط داخل الدورية التي انطلقت في اتجاه في حين انطلقت الدورية التي تحمل ولديه في اتجاه آخر. شعر الحاج بدوار وأمام عينيه بدت كأنها شاشة سينمائية كبيرة تعرض فيلما يمثل فيه ابنه الميت وهو يدير اجتماعا تنظيميا داخل البيت ويحرض المجتمعين على الثورة والانتفاضة من اجل استعادة الحقوق الفلسطينية في الأرض والحرية والاستقلال ...ويخطط للعمليات القادمة ويصنع الكمائن لدوريات الاحتلال . ثم حدث تشويش وطغى صوت ضابط فرقة جولاني سيئة السمعة وهو يهدده حين اقتحم المنزل أن ابنه مطلوب للتحقيق معه ، وان لم يسلم نفسه حالا فسوف تتغير الأوامر ليصبح مطلوبا ....للقتل .
انتقلت عدة دوريات الى مقبرة القرية التي حاصرها الجنود فانزلوا طارق ونبيه بجانب قبر أخيهم ثم انزلوا معدات للحفر من إحدى الدوريات وأعطوها لطارق وأمروه بان يبدأ الحفر هو وأخيه على جثة أخيهم . لم يعترض احدهم وبدأوا الحفر حتى أزالوا التراب وبدت من تحته البلاطة التي تغطي الجثمان . في هذه اللحظة أخرجهم الجنود من القبر وعصبوا أعينهم بقطع من القماش الأسود . وبعد حوالي الساعة حلوا عنهم العصابات وأمروهم ان يهيلوا التراب ليعود القبر كما كان . بعد ان انتهوا اخلوا سبيلهم فعادوا الى البيت دون ان يعرفوا ما الذي حصل لجثة أخيهم.
لم يعرف الحاج ما الذي حصل وكيف وصل إلى داخل غرفة جلس أمامه الضابط آريا ويحيط به عدة أشخاص ميزهم الحاج من النجوم على أكتافهم .. كلهم ضباط كبار
أشار إليه احدهم ووجه له سؤالا بلهجة عربية ثقيلة نوعا ما :
شو حكى ابنك قبل ما يموت ؟
ما حكى اشي ، وأنا ما شفته إلا ميت .
- طيب شو قال لامه ؟
- ما قالها اشي لأنو كان تعبان ونام على طول.
- يا حاج ما تكزب.
- أنا مش كذاب وأنا بشرفي ما بعرف اشي ؟ .
دار الضبط حول الطاولة وانحنى أمام ابو طارق وركز نظراته على عينيه قائلا :
... طيب شو كان معو في الشنطة ؟
انفرجت شفتا ابو طارق ليقول شيء ما الا ان الضابط قاطعه قائلا :
... بعرف انك ما بتعرف . ولا إمّو بتعرف ولا حد منكم بعرف، وغمز آريا الذي هز رأسه واقترب من ابو طارق وقال :
... اسمع ابو طارق انت لازم تعرف .. ابنك كان يشتغل معنا .
بهت الحاج وشعر بالدم يكاد يفجر عروق وجهه من الغضب إلا أن الكلمات خرجت من فمه باهتة وهو يقول : كذب ، ابني اشرف من ...
قاطعه آريا مكملا بهدوء : وكان في الأردن في مهمة عشان يساعدنا في اغتيال واحد إرهابي اسمه الحركي "ابو ربيع". اليوم جعفر رجع ومعاه كل التفاصيل اللازمة ولكن الموت ... كان أسرع
بهت الحاج عند سماعه اسم ابو ربيع ومادت الأرض تحت أقدامه وشعر بدوار خفيف وبأنه سيقع الا انه تماسك بعد ان امسك حافة الطاولة وانطلقت الكلمات من فمه كالرصاص يتناثر من مدفع رشاش ... هذا الكلام مش صحيح وأنا بتحدى ... وأبو ربيع ....
... ابو ربيع يا حاج إرهابي خطير جدا وهو المطلوب رقم واحد لنا حيا او ميتا .. كانت مهمة ابنك فقط البحث عنه والمساعدة في اغتياله وفعلا استطاع أخيرا بموهبته الفذة وقدراته العجيبة في التجسس ان يعرف انه كان في زيارة سرية للأردن وان يلتقي معه .. خلص كان كل اشي منتهي . 5 مليون دولار كان نصيبي لو نجحت العملية .
أعرفت قيمة ابنك الدكتور يا .. ابو الدكتور ؟ أنا خسرت المال و فشلت وراح اتحاكم ،وأكيد راح انحبس وتنزل رتبتي العسكرية .. اقل من ساعة كانت بيني وبين مقابلة ابنك واحنا أخطأنا لما تركناه يوصل عندكم قبل عنا، كان لازم أخذناه عن الجسر.
ثم طأطأ رأسه وتمتم بكلمات غير مفهومة ثم رفع صوته وهو يقول :
لو ما مات ابنك ولو ... كان السر ما مات معه .
لم يسمع الحاج بقية الحديث وعندما وجد نفسه في الخارج متجها الى بيته أغمي عليه واستيقظ في اليوم التالي ليجد نفسه في مستشفى المدينة وحوله أهله . تطلع في أعينهم ثم هز رأسه وأغمض عينيه مستغربا ومحتارا وحزينا ومصمما في نفس الوقت على أن يحتفظ بالسر إلى الأبد سر ابنه وسر ابو ربيع .. وسر أسراره الذي لا يعرفه احد أبدا هو ان ابو ربيع احد مناضلي الثورة الفلسطينية في لبنان الذي بقي حيا بعد وقوع مجموعته في كمين قبل عدة سنوات أثناء تنفيذها لإحدى عمليات المقاومة على الحدود ،ونجحت قيادته في التمويه وإخفاء خبر بقائه على قيد الحياة هو في الحقيقة ... أخيه غير الشقيق الذي لم يكن أبدا على وفاق معه . لا احد يعلم ذلك حتى ابنه جعفر .كيف وصل جعفر الى الضد .. الى .. الخيانة، سؤال يمكن الإجابة عليه ولكن السؤال الذي لن يستطيع الإجابة عليه أبدا هو .... لماذا ؟
القاص سمير الأسعد
أهلا و مرحبا بك
ها أنا أقرأ لك للمرة الأولى وحتما لن تكون الأخيرة
لديك نفس طويل في القص هذا واضح لكن من وجهة نظري على القاص أن يتخذ خيار التكثيف حتى لا يشعر القارئ بالملل
أسلوبك جميل يجبر القارئ على المتابعة والملاحقة
ننتظر المزيد مع الشكر والتقدير
اشكرك جدا سيدة سولاف واتمنى لك الخير والسعادة.
انا ممتن لك واتقبل اقتراحاتك بصدر رحب .ان آرائك وآراء كل من يشاركنا هذا المنتدى الرائع تعمل لي مرشدا ودليلا اصل به الى النجاح واتقدم الى الامام يحيطني تشجيعكم ودعمكم .
كل الاحترام والتقدير لك واتمنى ان تبقي معي نبراسا ونورا يضيء لي الطريق نحو الابداع والتطور.
اشكرك جدا سيدة سولاف واتمنى لك الخير والسعادة.
انا ممتن لك واتقبل اقتراحاتك بصدر رحب .ان آرائك وآراء كل من يشاركنا هذا المنتدى الرائع تعمل لي مرشدا ودليلا اصل به الى النجاح واتقدم الى الامام يحيطني تشجيعكم ودعمكم .
كل الاحترام والتقدير لك واتمنى ان تبقي معي نبراسا ونورا يضيء لي الطريق نحو الابداع والتطور.
الأستاذ الكريم سمير الأسعد
شكرا لسعة الصدر والذوق الرفيع
معا في طريق الإبداع ويدا بيد
كلنا واحد في بيت النبع الكبير
باركك الله ووفقك
تحياتي وتقديري الكبير
سيدة سولاف .. اتمنى ان ارى ابداعاتك التي لا اعرف عنها شيئا . اذا كان من الممكن ان ترسلي لي شيئا منها على ايميلي الخاص .
وعذا على التطاول والازعاج. abram3000@yahoo.com.
ودمت
سيدة سولاف .. اتمنى ان ارى ابداعاتك التي لا اعرف عنها شيئا . اذا كان من الممكن ان ترسلي لي شيئا منها على ايميلي الخاص .
وعذا على التطاول والازعاج. abram3000@yahoo.com.
ودمت
مساء الخير أستاذ سمير
عن أي ازعاج تتحدث .. نحن هنا أخوة ولا حرج فيما بيننا
أما عن نصوصي فأغلبها منشور هنا ويمكنني أن أرشح لك بعضها
نضال ( أبو نضال).. طرفا خيط مجنون .. إلى الوراء دُر.. شربات .. جبل الدخان.
قرأت القصة بتأن وتتبعت أحداثها بروية
قصة اشتملت على مقومات القصة الناجحة وخاصة عنصر التشويق
هذا العنصر الذي يتركنا نقرأ دون ملل ولا كلل رغم كثافة الاحداث
والجميل في قصتك تقمص الشخصيات لادوارهم حتى خلناهم فلما مصورا تتبعنا أحداثه أمام أعيننا
عشت الحدث و أصبت بالدهشة نفسها التي أصيب بها شخصيات القصة
وسألت نفسي مثلهم لم جعفر يفعل هذا؟ وهل فعلا كان خائنا؟
تقديري لحرفك